الأربعاء ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٨
شعريَّة الكُرسي:
بقلم عز الدين المناصرة

أنا شاعر، وهو مُجَّرد كرسي!!

منذ القدم، ينظر الناسُ إلى الكرسي، نظراتٍ متنوعة ومختلفة ومنتاقضة، وبما أن التعدديّة، هي أحد عناصر النظام الديمقراطي، فالاختلاف، صفةٌ موضوعية عقلانية، ملازمةٌ للتعدديّة.

وحين تتجاور الاختلافات، تخلق نسقاً منسجماً، على عكس ما تتصوره العقلية الأحادية التي تريد توحيد العالم بعسكرة العولمة، بوساطة القهر والفساد والاحتلال. فالتباين وتعدد الأنساق، ومسافات الفراغ بين الأشياء المتناقضة، أي تجليات الاختلاف، قد تخلق الوحدة، إذا ما كان التنوع نوعياً. أما ما يفسد الاختلاف، فهو تحويل العناصر المختلفة إلى عناصر غرائزية عنصرية.

فالتنوع الديني والعرقي والجغرافي، عامل إثراء، أمّا في حالة [العقل الحاراثي]، فهي تصبح ألغاماً قابلة للانفجار. نقول ذلك، لأن [الكرسي]، منذ الأزل، ظلّ سجيناً بين منطقتين حادّتين، هما: مديح الكرسي – هجاء الكرسي. ففي مديح المُطْلق [الله]، قال القرآن الكريم: [الله لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]- [سورة البقرة، آية الكرسي، 255]. فالمديح هنا مرتبط بالرعاية والمسؤولية عن الكون، لذا استحق [الكرسي] هذا المديح، لأنّه مفتوحٌ أيضاً على المعرفة. أما في الفلسفة اليونانية، فإنّ أفلاطون، [إذا استبدَلْنا السرير بكرسي] - يرى أنَّ هناك ثلاثة أنواع من الكراسي: أحدهما يوجد في طبيعة الأشياء، وهو لا يوصف إلاّ بأنه من صنع الله، وهناك كرسيٌّ آخر هو من صنع النجّار، أما النوع الثالث فهو من صنع الرسّام، ويضيف أفلاطون بأن الله، لم يخلق في طبيعة الأشياء إلاّ كُرسياً واحداً. وهذا هو جوهر نظرية المحاكاة عند أفلاطون. وهنا ولدت فكرة [السلطة المطلقة]، لأن بعض الأنظمة عبر التاريخ وحتى الآن، تحاول أن تربط نفسها بفكرة [الكرسي الأول]، أي التشبُّه بسلطة المطلق، تاركة [الكرسي الثاني] للطبقة العاملة، و[الكرسي الثالث] للمبدعين، وبالتالي، ولّدتْ الفكرة الأفلاطونية – الصراع بين الطبقات، وهذا ما ينسجم مع [الدولة الأفلاطونية] التي طردتْ الشعراء من سلطتها، إلاّ إذا أصبحوا تابعين للكرسي الأول، بل هم مواطنون من الدرجة الثالثة، وقد قدّم أفلاطون آليات جاهزة للرقابة على الشعراء، فقد اشترط مجموعة شروط رقابية، ما تزال حتى في العصر الحديث [الثالوث المحرّم في الرقابة العربية الحديثة، يتعلق بالدين والجنس والسياسة]، هذه الشروط تجعل المبدع تابعاً للكرسي الأول، ويتصارع طبقياً مع الكرسي الثاني، لأن المبدع من وجهة نظر الدولة، يجب أن يكون منسجماً مع ثقافتها المطلقة. والمعروف أن أفلاطون [عدوُّ الشعراء]، كان يؤمن بدكتاتورية النظام الأُليجاركي، وكان معادياً للنظام الديمقراطي الأثيني، فقد وقف مع الطغاة، باعتبارهم مصدر القوة. وكان يؤمن بنظام الرقّ العبودي، وبأنَّ بعض الناس ولدوا عبيداً، ولا يجوز لهم تجاوز طبقتهم، لكنَّ عمر بن الخطاب في الإسلام، جاء ليقول: [متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أُمهاتُهم أحراراً !!]. هذا هو الفارق بين ثقافتين: إحداهما أسست لتبعية الناس المطلقة للكرسي الأول، وبالتالي، ولّدتْ النظام الشمولي المقدّس، والأُخرى، تركت الحريّة الكاملة للنظام التعددي الحُرّ المفتوح. هذا من حيث المبدأ، أمّا في التطبيق البشري، فقد ولد الاختلاف، والتعددية، وصراع الطبقات على الكرسي، أي أن الكرسي باعتباره السلطة المطلقة، هو النموذج أمام المتصارعين عليه، ولكنَّ الكرسي قد يكون وهماً، حين لا يكون حقيقياً، فإذا قلنا: إنّ الكرسي هو النموذج الذي يخضع له الناس، ويصفونه بأجمل الأوصاف، لأنه تعبير عن مفهوم القوة، فإنَّ طرفاً ثالثاً، هو الذي يقرر لمن يمنح الكرسي، هو الشعب. لهذا تجري الانتخابات من أجل الوصول إلى الكرسي، وتحدث الانقلابات والمؤامرات من أجل الكرسي، عندما يصبح الكرسي غايةً في فلسفة الغائية، وعندما يصارع النفعيون غير المؤهلين لخدمة الشعب من أجل الوصول إلى الكرسي، عندئذٍ ترفع السلطة، شعار [الكفاءة]، لكنها في النهاية، تختار من [المسُتوزرين]، ما يتناسب مع النموذج الثقافي الذي تريده هي. كثيرون يأتون من قراهم ومدنهم الشقيّة، تحت شعار خدمة أهلهم، وما إنْ يدخل هؤلاء في قلب النظام، خطوةً، خطوة، حتى يصبح الكرسي غاية في حدّ ذاته، وتجيب الخادمة السيرالانكيّة:

[الباشا نائم ومتعب، ولا يستطيع استقبالكم]. هذا يذكرني بقصة [الكرز المنسي] لزكريا تامر... آه، إنه الكرسي. وفي الثقافة الشعبية، يقولون: [الكرسي يُزَغْوِلُ العيون]، أي لا نستطيع اختبار الشخص إلاّ إذا استلم سلطة ما. ويقولون: [فلان رِجْل كرسي]، أي أنه مجرد ملحق تابع، لا يملك قراراً. وقديماً نفى الإمبراطور الروماني- الشاعر أوفيد، ولأنّه شاعر، أي من مبدعي [الكرسي الثالث]، حسب أفلاطون، فقد أراد أوفيد في منفاه، أن ينتقم من الإمبراطور بوساطة اللغة الشعرية، فقال جملته الشهيرة: [أنا شاعر، وهو مجرّد إمبراطور]!! صحيحٌ أنَّ الإمبراطور لم يحرّك ساكناً، ولم يكترث لمقولة اوفيد، لكننا في العصر الحديث، نحفظ جملة أوفيد، ولا نتذكر اسم الإمبراطور الذي نفى أوفيد: بقي الشاعر، وسقط الكرسي. لقد أراد أفلاطون أن يحكم [الفلاسفة]، جمهوريته الفاضلة، لكنَّ فلاسفته وقفوا مع الطغاة، وظلّ الشعراء حتى في العصر الحديث، يتصارعون مع الفلسفة. أذكر بأن الشاعر اللبناني الصديق حسن عبد الله، روى لي أن صديقاً له، كان يتباهى بأنه يحمل شهادة في الفلسفة، وبعد أن مرّ عام دون أن يجد عملاً، جاء يشكو للشاعر، فقال له الشاعر:

ماذا أَفادكَ زينونٌ وطاليسُ
يا مَنْ يُعشّشُ في [ليسانْسِهِ] السوسُ
عُد للزراعة، لن تحميكَ فلسفةٌ
تتوقُ شوقاً لرؤياكَ العرانيسُ.

أعني لو وقف صديقُهُ مع فلسفة الطغيان، لوجد عملاً، ولكنّه اختار الوقوف ضدّ فلسفة الكرسي، وضدّ التماثل معها، فكان أن طرده الكرسي. وروى اللبناني سلام الراسي أنَّ خادماً كان يتأفف من العمل في أحد المنازل، فكان يقول متأفّفاً: [كلّ يوم كراسي ومراسي، وطاولات وماولات]، أي أنه مطلوبٌ منه أن ينظف يومياً الكراسي والطاولات، فقال له ربّ المنزل: [عليك بتنظيف الكراسي والطاولات، أمّا- المراسي والماولات، فاتركها لي!]. وفي [فلسطين]، يصفون [السلطة] بالكعكة: فيقولون: فلان عارض اتفاقيات أوسلو، لأنه لم يحصل على شيء من الكعكة!!. وفلان غارقٌ في [ثقافة التأسرُل]، لأنه يعتقد أن موقفه هذا، يضمن حصّته في الكعكة. وأحياناً يشبهّون الكعكة بالكرسي، فنجد أن مواصفات الكعكة، تنطبق على الكرسي.

وفجأة، تبيّن أنه لا يوجد [كرسي]، ولا [كعكة]، بل: احتلال واغتيال وفساد وحصار وجوع!!، وقد سبق لي أن قلتُ قبل أحد عشر عاماً: [قصيدة- شكوى أمام دالية الأرجوان]:

بكى صاحبي، حين عزَّ الصديقْ
عندما شاف [كُرسيَّهُ] شِبْهَ مشروخةٍ،
ثمَّ قال: أموتُ أنا، أو تموتْ
قلتُ: خُذْهُ، لكي لا يموتَ رفاقُ الطريقْ.

 ورغم أنه ليس في فلسطين، سوى الأنواع التالية من الكراسي: [1. الكرسي الوهمي. 2. الكرسي المسموم. 3. الكرسي القاتل]، فإنّ المتصارعين على هذا الكرسي، يبحثون عن غطاء أخلاقي، فيقولون: لن نتقاتل من أجل الكرسي، لأن الدم الفلسطيني، خطّ أحمر، ومحرّم!!، لكنَّ الدم انهمر وتكسّرت الخطوط، ولم يبق سوى خطوط الاحتلال والاغتيال، وخطوط الجوع.

أمّا- الكرسي في [الأردن]، فله طعمُهُ الخاصّ جداً. المشكلة أنّ عشاقه كثر، لا يحصون: قبل تشكيل الوزارات بقليل، ينتظر العشاق عند الهاتف، منتظرين رنّة لا تشبهها رنّة، ويبدأ الكرسي بإطلاق الشائعات، وتعلو [ثقافة المنسف] على أية ثقافة أخرى، وينهمر الكلام عن الإصلاح الإداري، والكلام ضدّ الفساد، والاستشهاد بالآيات القرآنية التي تحضُّ على [ثقافة الوسطية والتسامح]، والوحدة الوطنية أولاً!!. حتى تطابقت النكتة الأردنية، [معالي الشعب الأردني!!]، مع أحلام اليقظة، وما إنْ يتم الأمر، حتى تنهار الأفكار والمُثُل، نحو [معارضة] لا يصدّقها أحد.

ويصبح الأمر كاريكاتورياً إلى حدّ بعيد، وفي هذا المجال، تكثر النوادر والنكت التي يرويها الأردنيون، بدعابة أحياناً، وبتشفٍّ أحياناً أخرى: [إلهي لا يكسرْ لكْ كرسي] - [الله يخليلَكْ ها الكرسي] - [إن شاء الله تظل في خدمة كرسي القبيلة] - [اللهمّ، أكثر من كراسيه ولا ترجعه للجلوس على الجاعدْ]. وقد استمعت مؤخراً لصديقي القديم الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم في إحدى الفضائيات، حين سألته المذيعة عن العجز والصمت الرسمي العربي، تجاه المذابح في فلسطين، قال: [اللهمّ اكسرْ كراسيهم من المحيط إلى الخليج!]. وفي أوروبا الديمقراطية، يتناوبون على الكراسي، حسب قرار الشعب في الانتخابات، وينفّذ الحزب المهزوم، قرار الشعب بحذافيره، ولهذا يذهب رئيس الدولة، رئيس الحزب المهزوم إلى بيته أو مزرعته مطمئن البال، فلا انقلابات، ولا اغتيالات حيث يكتب مذكراته. أمّا عندنا نحن العرب، فالرؤساء الذين سلمّوا الكرسي لمن بعدهم، قلّة، والناس تتذكر حادثة الرئيس السوداني سوار الذهب، كأنّها شيء يتصف بالندرة في البلدان العربية. أمّا الشعراء العرب الذين التصقوا بالكرسي، فقد ماتوا، إمّا قتلى، كالمتنبّي الذي مدح كافور ثمّ هجاه، ثمَّ مات قتيلاً في دير العاقول في العراق.

ولسان الدين بن الخطيب، الذي مات قتيلاً. وإمّا سُجناء، مثل المعتمد بن عبّاد. أمّا امرؤ القيس، فقد مات مسموماً من قبل قيصر الروم، فقد دفعه أهله العرب إلى حتفه.

كان عمري عشرة أعوام، عام 1956، عندما ذهبتُ إلى زيارة دار جدّي لأمّي – الحاج موسى حمد. كان يجلس متربعاّ على الكرسي الخاصّ به، بينما يستمع له الرجال، بطاعة وامتثال. كنتُ مع عدد من الأطفال، يُقبّلون يديه ثم يمضون. لم يكن ينظر إليهم. فعندما جاء دوري لتقبيل يديه، انتبه لي، وقال للرجال: هذا ابن الغالية، فقد كانت أمّي ابنته الوحيدة. أجلسني إلى جانبه على الكرسي. فكان ذلك حدثاً عظيماً، وبدأ الأطفال يرمقونني بنظرة حسد. عندما عدت إلى البيت، رويتُ لأمّي ما حدث. وانصبّ حديثي عن الكرسي، كرسي جدّي، بفخامته، يجلس كالبطريرك على عرشه، قليلاً ما يبتسم، فأنْ أقبّل يديه، أمرٌ طبيعي، أمّا أن يقبّلني من بين كل الأطفال، ويجلسني إلى جانبه على ذلك الكرسي، فذلك امتيازٌ عظيم، لا مثيل له. وانزعجتُ حين جاءت جدّتي لأمي، خديجة، واختطفتني لتطعمني شيئاً من الحلوى، وتسألني عن أحوال أميّ. وظلّ جدّي، يصدر الأوامر والنواهي من على كرسيّه الفخم، حتى توفي، ودفن في الكرم ... ورغم مرور عشرات السنين، إلاّ أن صورته بالنسبة لي، ظلت صورة [البطريرك الذي يجلس على كرسيّ فخم]، ويصدر الأوامر والنواهي، ولا يعارضه أحد. إذن: فالكرسي، هو السلطة والقوة. ثمّ بدأت أتعرّف على مدينة بيت لحم المسيحية، فسمعتُ لأول مرّة، بمصطلح [كرسي الاعتراف]، حيث يعترف المواطن للخوري، بالذنوب التي ارتكبها، فيصبح الكاهن، هو المرجعية في الأمور الدينيّة، يرتجف المؤمن المذنب، وهو يسرد ذنوبه، وقد لا تكون ذنوباً ثقيلة، لكنَّ الجلوس على الكرسي، كما روى لي صديق، يثير الرهبة، ومع هذا، فهو يخلق نوعاً من التطهّر، تتلوه الطمأنينة، وأضاف ما زحاً: لكننا عندما نكبر نرتكب الذنوب الثقيلة، ولا نذهب إلى الكرسي، لنعترف له. كذلك كنت وما زلتُ أعجبُ بالكراسي في الكنيسة، حين أحضر طقوس بعض الأعراس المسيحية، فهي توحي لي بالتنظيم الهندسي، والأناقة والجمال. أمّا- منبر الحرم الإبراهيمي في الخليل، فهو رائع النقوش، جُلب من عسقلان، يتميز بالفخامة والجمال والهيبة الروحية. وبالتالي، فإن كلام الإمام حين يعتلي المنبر، يوحي بسلطة الكلام التي تتحاور وتتجاور مع سلطة المنبر. وهكذا، فإن [شعريّة الكرسي الديني]، تتمثل في تقنيات:

البساطة والجمال والأناقة والرهبة، والحوار، والجمال الهندسي، إضافةً إلى سلطته الروحية المقدّسة،و الخشوع، والانقطاع عن الخارج الزمني. بينما تتمثل [شعريّة الكرسي السياسي]، في بنيان: القوّة، القمع، التوحيد القسري، لدى [الكرسي الدكتاتوري]، أمّا [الكرسي الديمقراطي]، فهو يمثل العدل، والرعاية، والتسامح، والاختلاف، والتعدد، والهيبة. أمّا [شعريّة الكرسي العائلي]، فتتمثل في الخضوع، والخوف، والاحترام، والاستعراضية، وجمالية القوة الواهمة، والانفصال الحاراتي. والحماية، والطمأنينة، ونزعة التميّز.

 كانت في الخمسينات والستينات، عادة يمارسها أهل البلدة- بني نعيم- الخليل، إذْ يهربون من بيوتهم الحجرية الأنيقة، لأن حجر بني نعيم، هو أفضل أنواع الحجارة والرخام في فلسطين كلها، يهربون إلى البرّية في الربيع، أمّا في الصيف، فيتركون بيوتهم إلى الكروم، وتُسمىّ هذه العادة [التَعْزيبْ- من العزبة]، حيث يقيمون في عرائش حجرية في أعالي الكروم، حتى ينتهي موسم العنب. ولهذا كانت والدتي ترسلني بين الحين والآخر لجلب بعض الأشياء من الدار، لكن دارنا بالتحديد، كان يتم التبرع بحوشها، صيفاً، لأحد المدرّسين من أبناء عمومتنا الذي يعطي دروساً للطلبة. آنذاك، كنت أقفز بين الكراسي في الحوش، حيث يجلس الطلبة، لأفتح باب الدار، وآخذ المطلوب، ثمّ أقفز ثانية بين البنوك المهكّعة، وكراسي القش الصغيرة، المتنافرة.

وكان المدرّس، يوقف الدرس، ليسألني عن أحوال أهلي. فارتبطتْ هذه الكراسي المبعثرة في غير نظام بالتعليم، والتصقت بكراسي المدرسة الرسمية التي كنت أدرس بها.و عندما أتذكر كراسي المدرسة الشرقية، أتذكّر فكرة الاختلاط بين الجنسين: كنَّ سبع بنات من عائلتي، يجلسن في الصفّ الأخير، وعندما وجد الأستاذ بنتين، قد جلستا في الكراسي الأمامية، وصفهُنّ بقلّة الحياء، ونهرهُنّ، فهربن مذعوراتٍ نحو الكراسي الخلفية. كان ذلك في المرحلة الابتدائية. ولم أجد علاقة بين التلمذة و الكراسي أو البنوك المدرسية، سوى علاقة النظام الإجباري والخضوع، ولا بأس من محاولات الغِشّ، وحفر أسماء رمزية لفتيات وهميات، على خشب المقعد، كما تذكرنا الكراسي بالصيغة الانضباطية: [قيام، جلوس]: الكراسي للطالب، والعصا الخشبية للأستاذ، بينهما صلة قربى في الماهيّة والوظيفة. ولهما صلة عاطفية بالحكمة التي يقولها الأبُ للأستاذ: [لك اللحم، ولنا العظم]. إذن للكرسي أيضاً شعرية تعليمية، تتميز بالنظام والرهبة والطاعة.

 انتبهتُ لكراسي المقاهي، لأول مرّة في القاهرة، ثمّ في عمّان، ثمّ في بيروت، وفي مقاهي الأرصفة في صوفيا. أتذكر في القاهرة في الستينات، وفي [مقهى ريش] بالذات، حيث كنتُ ألتقي نجيب محفوظ مع عدد من الأدباء يومياً من الساعة السادسة حتى الثامنة مساءً، أتذكر أن الكراسي تتلاشى، أي لا نُعيرها أيَّ انتباه، لأن نجيب محفوظ والدردشة معه، أقوى من أي كرسيّ، ولكن لو غبت سنة كاملة عن المقهى، وعدت، فستجد نفس الأشخاص يجلسون على نفس الكراسي. وحين أبلغنا عمّنا نجيب، أو نجيب بيه، أنَّ حاكماً عربياً [كرسياً]، أصدر قراراً بقطع يد السارق، قهقه نجيب بيه قائلاً: [أَّمَّالْ.. الوُزَرا عندنا، حَيِمضوا ازّايْ!!]. ومن على كراسي مقهى ريش، أنشدنا الصديق الشاعر أحمد فؤاد نجم، قصيدته الشهيرة لأول مرّة:

يعيش المثقّف على مقهى ريشْ
مِحَفْلط، مِزَفلط، كتير الكلامْ
بكام كلمة فاضية
وكام اصطلاحْ
يُفبْرَكْ حُلول المشاكل قَوامْ.

أمّأ في [عمّان]، فقد كانت كراسي مقهى خَبّيني، مقابل البنك العربي في وسط البلد، كانت من القش المجدول. وبالتالي، عليك أن تسند ظهرك للحائط، فقد كنا مجموعة من المثقفين بلا سند. وكان المقهى يعجُّ بالعمّال، فالكراسي هنا تلائم، تحالف العمال والمثقفين الصاعد. أمّا في [العقبة]، فهناك مقهى الفردوس،ولكني أسمّيه [مقهى الشجرة]، لأن شجرة زينة ضخمة تظلّل ساحته الصغيرة. هنا نجد أن الكراسي والطاولات، مثبّتة في الأرض، وبالتالي أفهم أن الثقة معدومة. جمهوره متغير باستمرار، وينطق بكل اللغات. هؤلاء تجّار يتكلمون التركية، جاءوا لشحن أو تخليص بضائعهم، وذاك الذي يجلس إلى جانب طفلته وابنته – إسباني، وثالث من أهل العقبة يجلس وحيداً يقرأ الصحف، ومجموعة تلعب الشدّة. صوت غرابٌ مزعج، إلى جانب تغريد عصفور دوريّ فوق غصن الشجرة. أمّا في مدينة [طنجة] المغربية المنفتحة على أوروبا، فكراسي المقهى تُوضع حول الطاولات في الجزيرة التي تقع وسط الشارع تماماً، حيث الهواء البارد مع اقتراب المساء، فترى النادل يحمل الطلبات من المحلّ ثم يقطع الشارع ليصل إلى الزبائن. وفي (القاهرة)، حضرتُ عرساً أحيته مجموعة من المطربات [العالمات]، المكتنزات، وراقبتُ شروطهنّ لترتيب الكراسي الخاصة بهنّ، وغالباً ما يبدأن موالهنّ الأول الشعبي المعروف: [مِسا التَماسي، مِسا التَماسي.. يا ورد آعِدْ على ا لكراسي]، ثم يغنّين بدون اكتراث بالجمهور. ثمَّ سمعتُ ولداً شقياً ينادي على العالمات، [أيوه.. يا سنيَّة جُنح، أيوه يا حميدة شَخْلَعْ... نريد شَخْلَعَة]، فيضحكن، ويضحك الجمهور. أما – كراسي سُرادق الأفراح، فهي من النوع الفاخر في الصفّ الأول والثاني، أمّا الباقي، فهي كراسي من الخيزران والقش، حيث وقف المطرب الشعبي محمد طه، وغنّى عدداً من مووايله الصعيديّة، ثمَّ فوجئت بأنه قد حيّاني بالاسم، فاستغربت، فوجدت صديقاً، يومئ لي. وتستخدم كراسي تتحول أيضاً للأتراح، لكنها تُصفُّ بشكل دائري. وأحياناً تتحول الكراسي في السُرادقات إلى صلاح للعراك في الطوشات، وقد يحدث الأمر لأتفه الأسباب. أمّا – مقاهي الأرصفة في بيروت والدار البيضاء وباريس، فهي تُغريني أكثر: في الدار البيضاء كنت ذات مرّة مع الروائي الجزائري الطاهر وطّار والشاعر العراقي سعدي يوسف، حيث جلسنا في مقهى رصيفيّ، وجاء عازف غيتار، فأسند قيثارته على الكرسي، وغطّاها بشال على رقبته، وجلس على كرسيّ آخر، وقال لنل مُتحرشاً: الكراسي هنا مثل أُمّ رؤوم تحتضن ابنها، وبعد أن اطمئن إلى أن القيثارة نامت قليلاً في حضن الكرسي، أيقظها، وبدأ يعزف أغنيات [ناس الغيوان].

وهكذا، فإن كراسي المقاهي، تُعبّر عن الحريّة والتعدديّة، والتهجين والفرح والتأمل والحوار والحركة، واختلاط الثقافات، وجوار الطبقات.

 وعندما كنتُ في فرانكفورت عام 1984، زرتُ منزل الشاعر والناقد الألماني الشهير غوته، الذي تحوّل إلى متحف طبيعي، وأكثر ما أعجبني فيه لوحات الرسّامين التي اقتناها غوته، والمكتبة الصغيرة، والكرسي الذي كان يجلس عليه من أجل الكتابة، فمن على هذا الكرسي، كتب أجمل أعماله، كذلك فواتير المونة الشهرية من الطعام. هنا قرّرت عامداً متعمداً أن أجلس على كرسي غوته، لا لكي أحتلّ مكانه، بل لأتبرّك منه، وأتأمل حالة غوته، أثناء الكتابة.
 وفي الخلاصة، نقول: رسم الرسّامون التشكيليون [الكرسي]، بأحواله المتعددة، ولكنّه كان يتوحد دائماً في أنه [رمز]، للقوى الثلاث: السلطة، الدين، الجنس، ولا تعني رموزيته، أنه في الفن التشكيلي – ينتمي للدرجة الثالثة، حسب أفلاطون، بل تعني أنه كرسيّ مُعلّق، أي تحت الشطب، حسب مصطلح جاك دريدا، أي أنه يتّسم بالمحاكاة، لكنّه جديد، وبما أن الفنانين يرسمونه عن أصل، هو فكرة ذهنية معروفة، إلاّ أنهم يقومون بتكسير وتجريد الكرسي، لهذا يصبح كرسي الرسّام، ملكه وحده، وهو يعبر عن منظور ما للحياة. وفي النهاية أقول قياساً على ما قاله أوفيد: [أنا شاعر، وهو مجرد كرسي].


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى