الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٢٠
الفلسطيني في رواية

«الإسكندرية 2050» لصبحي فحماوي

د. محمد حسن عبد الله

(واجب العودة) وليس (حق العودة).

نمهد لعرض وتحليل ما طرحته رواية "الإسكندرية 2050" لصبحي فحماوي (التي صدرت 2009) من تصورات بثلاث مقدمات:

أن رواية "الإسكندرية 2050" تنتمي إلى نوع رواية (الخيال العلمي) وهذا النوع من الروايات له تجليات عديدة قد نشير إلى أهمها. وروايات الخيال العلمي ارتبطت بتقدم العلم التجريبي، وما هو ماثل من تجارب العلماء في مجالات عدة، من أهمها: علم الفيزياء، وعلم الوراثة.

أن هذه الرواية انفردت من بين روايات فحماوي بصدور كتاب عن: "الخيال العلمي" فيها، قامت مادته على جمع إحدى عشرة دراسة نقدية عرضت لها من مستويات مختلفة(13) وأهم هذه الدراسات وأقواها صلة بالأساس العلمي لفن هذا النوع من الروايات، دراسة بعنوان: "رواية المستقبل والخيال العلمي: الإسكندرية 2050 نموذجاً " شارك بها المؤلف نفسه في مؤتمر للرواية العربية بالقاهرة – عام 2010. غير أنه - على الرغم من أنه المؤلف العالم ببواطن الأمور، وما تعنيه ظلال الكلمات، والإشارات – لم يعط أهمية للقضية التي نبرزها في هذا الفصل، وهي أن هذه الرواية – على الرغم من جوها الواقعي التسجيلي المرح – قد انطوت على أمنية غامضة متسربة في أن يحمل مستقبل التطور العلمي العالمي حلا ممكنا (يرضي جميع الأطراف، ويقضي على جميع المشكلات الراهنة المعقدة، على المستوى القطري والعالمي).

أنه سبق لي أن عرضت لهذه الرواية في دراسة تحليلية تقدمت بها إلى "الملتقى الدولي السابع للإبداع الروائي العربي"، المقام بالقاهرة (أبريل 2019) تحت عنوان: "الرواية في عصر المعلومات" وكانت مشاركتي تحت عنوان: "الإسكندرية 2050: سبيكة مموهة من البينيات". وكانت الفقرة الأولى من هذه البينيات عن: أحداث الرواية بين التسجيل الوثائقي، والخيال العلمي. وهو ما يعنينا في هذه الدراسة، ونتوسع فيه للكشف عن وجه من أوجه القلق في البحث عن الهوية، وتلمسها فيما يقدم العلم من تحولات واختراعات يحاول بها أن يتغلب على مشكلات لا حل لها على مستوى الواقع الراهن.

إن الطابع العام لمسار هذه الرواية عن مستقبل الإسكندرية، يغلب عليه: طابع المذكرات والذكريات (زمن ستينيات القرن الماضي)، وفي مساحته الغالبة يرصد وقائع حياة الشاب الفلسطيني (مشهور شاهر الشهري) الذي غادر المخيم الفلسطيني على مشارف طولكرم (إحدى المدن التي بقيت بحوزة الفلسطينيين، فيما يطلق عليه الضفة الغربية من أرض فلسطين التاريخية) ليدرس بجامعة الإسكندرية، ويصف الشاب "مشهور" حياته وممارساته فيها، ويصور من طبائع أهلها ما يؤكد أصالة موهبته في رسم الأشخاص وتمييز الطبائع والتقاط زوايا الرؤية الدالة، والتفطن للفروق وما وراءها... إلخ. غير أنه – في عتبات النص، وفي أثنائه – يؤصل لقانون من قوانين الحياة الطبيعية والوجود الإنساني، وهو "التحول" - فلا شيء يبقى على حاله، مادام الزمن يتحرك، والأجيال تتعاقب، والبشر تفنى وتتكاثر، والأرض – بمساحتها الثابتة – تضيق! فبدءاً من عنوان الرواية نستشعر هذا التحول الذي يأخذ صيغة التوقع بما ستكون عليه المدينة الجميلة بعد أربعين عاماً من تاريخ صدور الرواية. كما يتأكد التحول في العتبة الثانية التي تقوم على اقتباسات من مصادر مختلفة أسطورية وشعرية، إذ تحولت الجميلة مورا إلى شجرة وارفة الظلال، خرج الوليد أدونيس من جذعها (أوفيد). كما يعبر جبران خليل جبران عن حلم مستحيل، يستطيع الإنسان أن يعيش فيه على عبير الأرض، فيكتفي بالنور كالنبات، ويشعر الاقتباس عن النيل بسلبية التحول، وتتأكد هذه السلبية بالإعلان – بعبارة هسّه: إن العالم يريد أن يجدد نفسه!

كل هذه الاقتباسات السابقة، التي سنجد لها ما يتراسل معها في سياق فصول الرواية، تؤكد على أن "التحول"، و"التجدد" أمل إنساني مستقر في الوجدان الجمعي للبشرية، يسكن عقول العلماء، ويشكل مناهج بحوثهم، بعد أن استقر – عبر عصور متمادية- في الأساطير، وفي المدن الفاضلة.. وغيرها(14).

هذه إذاً سوابق الخيال الإنساني، ولعبه بصور الكائنات، وفي السياق سيضيف إليها بعض ما سجلته ليالي ألف ليلة، عن طاقية الإخفاء، وعن بساط الريح، غير أن الكاتب لا يبرز هذه الشطحات التي لعب بها الخيال، بقدر ما يبرز ما يمكن أن يُعد من الحقائق العلمية، والنظريات التي تجري تجاربها في المعامل، كما تكشف عنها عدسات المجهر، ويستحيل إدراكها بالعين المجردة. وهكذا نكون على أعتاب تجربة الابن "برهان" الذي أنجبه "مشهور" فتمكن من تحسين ظروف عمله، بعد تخرجه في جامعة الإسكندرية، بأن أرسل ابنه للدراسة بألمانيا، وقد تزوج "برهان" الذي يعمل في مراكز أبحاث الوراثة، وبجهده والفريق المشارك له من العلماء، يصل إلى دمج الخلية الحيوانية/البشرية بالخلية النباتية، فيكون الناتج كائناً بشرياً/نباتياً، أطلق عليه: (الإنسان الأخضر) الذي يجمع بين قامة الإنسان وشكله وعقله، وبين التحرر من سطوة الطعام، اكتفاءً بالبديل الماثل في: الضوء، والماء، والهواء.

يذكر "برهان" في الثلث الأخير من الرواية، أن الأديان لم تفلح، ولا الأمم غير المتحدة أفلحت في زراعة المحبة بين الناس، وفي تقليم أظافر النهش والقتل والتدمير، والاستيلاء على الآخرين. ثم يقرر: نحن نقوم بالمهمة. الوراثة تقوم الآن بتحويل جينات الإنسان والحيوان القائمة على الاعتداء على الآخر، إلى جينات محبة للآخر، وتقوم بإطالة عمر الإنسان وكل الكائنات الحية لتغيير فلسفة الحياة، وتحويل الصراع إلى التناغم والتكامل. نحن نسعى لخلق الجنة على الأرض. الآن تختفي أمامنا مقولة: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. ونستبدل بعبارة: "الإنسان مفكر مبدع جميل، وفنان محب، ورفيق إخوانه: الإنسان والحيوان والنبات" !! (الرواية/ 224، 225).

ويبذل صبحي فحماوي جهداً في تمكين فكرة اتحاد الخلية الحيوانية/الإنسانية، بالخلية النباتية، مستفيداً من خبرته العلمية المعملية، في دراسته بكلية الزراعة، وفي علاقته العلمية العملية بالنبات في الحدائق التي يحترف تخطيطها وتنسيقها. ويطيل التمهل عند هذه الفكرة المؤسسة لمفهوم تحول الكون إلى خضرة (الرواية/ ص41). وكشأن الباحث العلمي التجريبي يردد أثناء عملية التحضير: هل تنجح عملية التخضير هذه فيسيطر الحيوان الأخضر على هذا الكون الحيواني المتوحش؟، هل نشاهد مرحلة انتقالية جديدة، بعد الإنسان الأول الذي تحضر، فانتقل إلى مرحلة الإنسان الثاني، وها هو بعد أن توحشت حضارته، ودمرت الأرض، نراه يتشكل بتكوينه الأخضر، فنشهد مرحلة (الإنسان الثالث الأخضر) كما نشهد هذا الكون المتحول إلى الخضرة (الرواية/ص40، 41). وفي سياق هذا الطرح التمهيدي لتقبل نظريته في التحول، ينسب ما حدث في أرض فلسطين إلى "التحول"! إذ استُبدل بالفلسطينيين العرب غرباء اقتحموها من بقاع الأرض كافة، ويرى "مشهور" أن هذا الاستبدال نوع من "التعديل الوراثي" (الرواية/ص43) حتى وإن زعم الغاصبون أن الرب هو الذي وعد بإعطائهم أرضا كنعانية ليست لهم، ولغة كنعانية ليست لهم، وهيكلاً كنعانيا ليس لهم،ونجمة كنعانية ليست لهم(15).

والآن نصل إلى "برهان" وهو يشرح بحثه المتطور بقلم الكاتب: يقول برهان محدثا والده مشهور، ممهداً لموضوعه:" لقد تطورت أبحاثنا الوراثية يا أبي، فبعد أن نجح العلماء الأوائل في دمج خلية نباتية مع خلية حيوانية، وأنتجوا منهما أول خلية لحيوان أخضر، تابعنا بعده تطوير أبحاث الحيوان الأخضر" (الرواية/ ص54).

وفي مكان آخر سنرى الحفيد الأخضر "كنعان" يحتضن كلباً أخضر، صغير الحجم، ويلبس ملابس شفافة، مصممة بلباقة لاستقبال أشعة الشمس لإجراء عملية التمثيل الكلوروفيلي (الرواية/ ص84).

ويكون رد فعل الجدّ (مشهور) على رؤية حفيده كنعان، الرضا عن تحوله، وقده الأخضر الممشوق، وشعره الذي يبدو كعشب نجيل أخضر، وفي وجهه وجسده لمعة وطراوة أوراق البرتقال وخضرتها. وهنا يأتي ذكر فلسطين (وطن البرتقال) التي احتفظ بها كنعان، كما يمكن إضفاء روائح أخرى فلسطينية كذلك، مثل:الزيتون، والسنديان. وفي هذا السياق يتكلم الحفيد كنعان مع جده باللغة العربية، وتظهر جوانب معرفته بوطنه الأصلي، ليؤكد الكاتب من خلال هذا المشهد أن هذا التحول لم يقطع الهوية التي ظلت متصلة، وإن تجسدت في رائحة البرتقال، وفي اتجاه المعرفة العامة.

سيحرص فحماوي على تسجيل خصوصية الأخضر وسلوكياته (الرواية/ ص88)، ووصف صديقته أو فتاته النباتية مثله (الرواية/ ص290)، مع الحرص على تسجيل الشكل والإمكانات وتجميل هذا التحول، بحيث يبدو موضع الرضا والاقتناع بالجدوى، وأملا لمن يتوق إلى الخلاص من عالم الصراع والفتك.

وهنا نصل إلى جوهر ما يمكن أن نعدّه رسالة فحماوي، أو أمنيته المتخيلة، المعلقة بضمير العلم والعلماء في اتجاه تخليص أرض فلسطين وشعبها من تلك الكبوة اللعينة التي تعجز عن حلها قدرات البشر عبر قرن كامل.

يجري حوار بين الأب (مشهور) وولده (برهان) فيقول الأب: "نحن الفلسطينيين الذين كنا محرومين من الوطن، نحاول تفسير عقدنا الوطنية بالعمل الدؤوب والإبداع يعوضنا جزئياً عن مرارة التهجير. فمن المخيم خرجت إلى القاهرة، ومن دبي أرسلتك إلى ألمانيا، وها أنت تصنع المعجزات، وتساهم في تغيير الحياة على الأرض، وها هو كنعان يفكر بأنسنة – وليس غزو- الفضاء، كما يقول. هذه الإبداعات الطموحة تعوضنا قليلاً عن الحرمان. فيقول برهان بتفاؤل: " ها قد انتهى عصر التمييز العنصري في عكا، وحيفا، ويافا بعد تنفيذ حق العودة المطلق للفلسطينيين، وانتهت معاداة السامية بالاعتراف بأن العرب المسلمين والمسيحيين وقدامى اليهود هم ساميون، ومتساوون في الحقوق والواجبات دون تمييز عرقي أو ديني، وتم قبول ولايتنا على أنها جزء لا يتجزأ من اتحاد الولايات العربية. وصارت ولايتنا بعد هذا الاتحاد واحة أمان حرة لكل الأديان السماوية بلا تمييز، الذي يعتبر إنجازاً تاريخيا يحسب لهؤلاء العربان، الذين كانوا في القرون الأخيرة لا في العير ولا في النفير " (الرواية/ص124، 125).

هذه هي النتيجة الافتراضية (الإيجابية) التي سجلها (مشهور) كثمرة متوقعة لسيادة الإنسان الأخضر على العالم، أما تطلعه إلى تكوين (اتحاد الولايات العربية) الذي يضم ولاية فلسطين، بجملة سكانها العرب واليهود من أصل يمني، بصفتهم ساميين.
وخلاصة هذه الرؤية الاستشرافية أنها ستصل بالبشرية – حين يسود الإنسان الثالث: الأخضر - إلى عالم هو جنة على الأرض، طعامه في شمسه وهوائه ومائه، فهو عالم بلا تحديات، بلا مشكلات، بلا أزمات، وإذا كان ثمة مشكلة عند كنعان – كنموذج للإنسان الأخضر، أنه لا يستخدم كثيراً أجهزته التقليدية كالجهاز الهضمي، ولا يستخدم رئتيه للتنفس. أما جسده فيقوم بالتمثيل الكلوروفيلي؛ إذا يستهلك ثاني أكسيد الكربون، ويفرز الأكسجين الذي يستهلكه جسده، ومن ثم يستطيع الإنسان الأخضر أن يبني بيوته تحت الماء، فيحصل على النقاء والاتساع والسلام في ذات الوقت.

هذه رؤية استكشافية، تجمع بين مبادئ علمية مقررة ومجربة، وأمنيات حالمة، وشطحات تبدو مستحيلة، غير أنها تحاول أن تبني من هذا المزيج الملون بالمقولات العلمية والنظريات المقررة، عالماً جديداً، أو جنة دنيوية خالية من الصراع والتنافس والاستعلاء، بسقوط الأسباب المؤدية إلى هذه الآفات القاتلة. وفي ظلالها سيحصل الفلسطينيون في المنافي على (واجب العودة) وليس (حق العودة).

د. محمد حسن عبد الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى