الأحد ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم ياسر عبد الحسيب رضوان

الرؤية العلوية في الشعر العباسي

مدخل:

تنطلق الرؤية العلوية من زاوية النظر التي ينظر الشاعر من خلالها إلى موضوع شعره هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترتبط الرؤية العلوية بالدلالة التي يتم من خلالها توظيف الدوال اللغوية والتراكيب الأسلوبية والصور الفنية، وهذه الرؤية بتلك الكيفية تتحقق في لوحتَيْ المدح والفخر من حيث اللحظة الآنية التي يتكلم فيها الشاعر، حيث اعتبار ما هو كائن وما عليه سوف يكون، ولوحة الرثاء من حيث اللحظة الماضية أو السابقة حيث اعتبار ما كان خاصة

وإذا توقفنا عند لوحة المدح وجدنا أنفسنا أمام جدلية الذات والآخر وهي الجدلية المسيطرة على الشعر العربي جميعه بأغراضه المتعددة، ففي قصيدة المدح تبرز هذه الجدلية في تعبير الشاعر عن الآخر الممدوح الذي يستدعيه خطابًا أو غيابًا، وفي كلا الحالين يعلو به علوّ الشمس والقمر بما يُسبغه عليه من الصفات التي قد تتقبلها الذائقة، أو قد تختلف معها، بيد أنها تعكس رؤية الشاعر ووجهة نظره التي قد تنتجها الحاجة إلى الرفد والعطاء والنوال المجسد للمنفعة الذاتية، وقد ينتجها الشعور بالقيمة وعندها يتجاوز الشاعر المنفعة الذاتية، أو يضم إليها المنفعة الغيرية أو العامة، وقد ينتجها السياق والتجربة التي يمر بها الشاعر على وجه العموم.

وفي كل الأحوال يرتكز المدح كفن من فنون الشعر العربي على الثناء على الآخر ويكون ذلك الثناء برصد ما له من الخلال الحسنة والأخلاق القويمة والأيادي الكثيرة على غيره، إلى جانب ما يمكن أن يتمتع به من الصفات الجسدية كالقوة والشجاعة والطول والضخامة، وكلها تدفع الشاعر إلى رسم ملامح رؤية شعرية عبرنا عنها بأنها رؤية علوية، لعلوِّها بالممدوح عن مساواة الأقران، وهي رؤية تقترب بصورة أو بأخرى من صورة الغزل أو لنقل إن الغزل شأنه شأن الفخر والرثاء والحكمة والوصف يئول في خاتمة المطاف إلى فن المدح، ومن ثمة نجد الرؤية الجمالية تسير جنبًا إلى جنب مع الرؤية العلوية، فإن المتلقي يجد في سياق توظيف الشمس في الشعر المدح القيمة الجمالية الخالصة التي لا يُقال عنها تغزل في الممدوحين، وإنما تُستدعى دلالات سياقية يمكن الوقوف عليها في النماذج المرصودة من الشعر العباسي.

وشأن شعر الاعتذار كشأن شعر المدح ينتمي إليه، ويحقق الرؤية العلوية التي تتعالى بالممدوح المعتذَرِ إليه، عندما يقدم الشاعر المعتذِر بين يديْ اعتذاره الأوصاف والخصال والمناقب التي يُحب الرجال أن يُمدحوا بها، ولعلهم عندها يقبلون اعتذار الشاعر إليهم. كما تتحقق هذه الرؤية العلوية في شعر الرثاء باعتباره مدحًا تم بما كان من الخصال الحميدة.

وهذه الرؤية العلوية نجدها كذلك في لوحة الفخر بتوجهيها الذاتي والجماعي، لأنه يقدم لنفسه في التوجه الذاتي صورة متفردة يعلو بها علوَّ الزهو والفخر على أقرانه، خاصة إذا كانت السياقات الفخرية مستدعية لمن يفخَر عليه ومن ثمة يمكننا من خلال تداعي المعاني، إدراك ما يقوم الفخر الذاتي باستدعائه وهو الهجاء، وذلك في البنية العميقة التي تحتمل في طياتها سلب الآخر ما أثبتته الذات لنفسها، وإذا اتسعت الدائرة قليلاً كان الفخر الجماعي ضامنًا لهذه المناقضة بين ما تنقله إلينا البنية السطحية، وما تُسرُّه البنية العميقة.

وعند اتساع الدائرة على طرفيها في سياق الحكمة ألفينا الرؤية العلوية قد جعلت الدلالات مطلة من علٍ لتشمل ما دونها من الدلالات بعيدًا من استدعاء الدلالات الكامنة خلف البنية العميقة، فالحكمة بدلالتها على العموم لا تحتمل ذلك التخصيص الذي ينقله الفخر الذاتي أو الجماعي،

وفي الوصف نجد الذات الشاعرة قد أطلقت العنان لنفسها، لتهوم في آفاق التجربة الإنسانية راسمة للطبيعة لوحات فنية تنداح معها الحدود بين ما هو علوي وما هو جمالي، لأن وصف الطبيعة لا يكون إلا من حلال المتعة الذاتية التي يشعر بها الشاعر تجاه الطبيعة، وآنئذٍ يجيء الامتنان للطبيعة باللوحات التي يرسمها الشاعر لها.

المدح والاعتذار:

غرض شعري أصيل في مدونة الشعرية العربية، بل لعله من بين الظواهر القارة في البيئة العربية خاصة، والطبيعة الإنسانية عامة، إذ لابد لصاحب الفضل من أن يُشار إليه بالثناء والشكر، ولأن الشعر ديوان العرب وسجل مآثرهم، كان لابد من اشتماله على فن المدح الذي هو أحد أربعة بيوت للشعر ذكرها ابن سلام الجمحي [ت231ه ] على لسان أحد بني أُسيِّد في المفاضلة بين جرير والفرزدق:"بيوت الشعر أربعة: فخر ومديح ونسيب وهجاء"وهو عند أبي العباس ثعلب [ت291ه] أول فن من فنون الشعر المتفرعة عن أصوله وهي"مدح وهجاء، ومراثٍ واعتذار وتشبيب وتشبيه واقتصاص أخبار"وللشعراء عند ابن وهب الكاتب فنون كثيرة تجمعها أربعة أصناف هي"المديح والهجاء والحكمة واللهو"

ويبدو أن تلك المكانة التي تسنمها المدح في الشعرية العربية قد دفعت النقاد إلى تحديد الصفات التي يُمدح بها الإنسان، مما يعني أنه لا يجب مدح الرجل بما ليس فيه، أو بما ليس للرجال، وتلك مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقييمه لزهير بن أبي سلمى وقد ذهب قدامة بن جعفر إلى أن المادح للرجال يكون مصيبًا في مدحه عندما يمدحهم بالعقل والشجاعة والعدل والعفة، وإذا مدحهم بغيرها يكون مخطئًا ومن ذلك ما ذكره القرطاجني وهو"السموُّ بكل طبقة من الممدوحين إلى ما يجب لها من الأوصاف، وإعطاء كلٍّ حقَّه من ذلك" من الأوصاف التي تليق به دون غيره.

ولقد أكثر الشعراء العباسيون من استدعاء دالة الشمس في أسوقة المدح من ذلك قول أبي نواس في مدح الأمين العباسي [ وافر ]:

تَتِيـــهُ الـشَّمْسُ وَالْــقَمَــرُ الْــمُـنِـيـــــرُ
فَــإِنْ يَـــكُ أَشْــبَـهَـــــا مِــنْـــــهُ قَــلِيـــــلاً
لأَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ حِــينَ تُمْسِي
وَنُــــــورُ مُــحُـــــمَّــــــدٍ أَبَـــــدًا تَــمَـــــــــــامٌ
إِذَا قُــــلْـــنَــــــا: كَــأَنّـــَهُــمَــــــا الأَمِـــــيــرُ
فَــقَــــدْ أَخْــطَــــــاهُـــمَـــــا شَبَـــهٌ كَــثِيرُ
وَأَنَّ الْـــبَـــــدْرَ يَــــنْـقُـصُــــــــهُ الْمَسِيرُ
عَــلَى وَضَـــــحِ الــطَّـــرِيقَةِ لاَ يَحُــورُ

وهو هنا يصور الشمس والقمر بشخصين يصيبهما الزهو والتيه والفحار عندما يداعبهما بشبههما للأمير محمد الأمين العباسي، ونلحظ هنا أنه جعل الأمير مشبَّهًا به، والشمس والقمر مشبهين، ثم جاء في البيت الثاني وأكد أن الشبه بينهما والأمير شبه قليل، إذ ينقصهما شبه كثير، وفصَّل هذا الكثير في البيتين الأخيرين، حيث الشمس يصيبها الغروب فتختفي ويختفي معها نورها، والبدر / القمر ينقصه السير والحركة والحرية، في حين أن نور الأمير محمد الأمين لا يغيب أبدًا وطريقه واضح لا يحور ولا يتحول عنه.

والملاحظ كذلك أن الشاعر قد نجح في صياغة القضية من حيث التركيز على التشابه الجزئي، ثم علل للحكم بالتشابه الجزئي بما أثبته في الأبيات التالية، واستعان بالفكر البلاغي عند العرب وذهابه إلى أن وجه الشبه الجامع بينر طرفَيْ الصورة التشبيهية لابد أن يكون في المشبَّه به أقوى وأوضح منه في المشبَّه () ولذلك جعل وجه الشبه في المشبه أقوى من المشبه حيث تمام أبدية نور الأمير محمد الأمين في مقابل غروب الشمس وعدم قدرة البدر على المسير. ويقول علي بن الجهم في مدح الخليفة العباسي المتوكل [ خفيف ] ():

نَــحْــــنُ فِي ظِــــــلِّ أَرْحَــــمِ النَّـاسِ بِالنَّـا
سِ وَأَوْلاَهُـــــــــمُ بِــبَـــــــــــــأْسٍ وَجُــــــــــــودِ
صَفْـــوَةُ اللـــهِ وَابْــنُ عَـــــمِّ نَــبِيِّ اللَّـــــــــــ
ـــــــــهِ وَابْـــنُ الْـــمَـهْــــدِيِّ وَابْـنُ الرَّشِــيدِ
كُــــلَّ يَـــــــوْمٍ نَــــــــرَاهُ فِــــيـهِ مُــعَـــــافًىً
سَـالِـمًـــــا فَــــهْـــــوَ عِـنْـدَنَـــا يَــوْمُ عِــيـــــدِ
هُوَ شَمْسُ الضُّحَى إِذَا أَظْلَمَ الْخَطْـ
ــــبُ وَبَـــدْرُ الــــدُّجَـــى وَسَـعْدُ السُّعُودِ

لقد قدّم ابن الرومي بين يديْ مدحه للمتوكل بعضًا من الأوصاف التي يُثنى عليه بسببها، وقد جاءت هذه الأوصاف متلفعة بشيء كبير من المبالغة التي تنال من الشاعر، فقد جعله أرحم الناس بالناس، وأنه الأولى من بينهم بالبأس والجود، وأنه الصفوة قد اصطفاه الله خليفة على الناس، وهو من بيت النبوة حيث تجمعه بالنبي صلى الله عليه وسلم العمومة، وآباؤه لهم المكانة عند الله تعالى، لأنه سبحانه هو الذي هداهم فمنهم المهديّ ومنهم الرشيد الذي أرشده الله تعالى إلى الصواب في حكمه وفعله.

وهذه المقدمة المدحية كانت تمهيدًا عقليًّا للمتلقي، حتى يتقبل هذه الوصف المدحي في البيت الأخير، إذ يشبه المتوكل بشمس الضحى في الجمال والبهاء والضياء والإشراق، وحدد كل ذلك بما يربطه بالأوصاف السابقة، فضياؤه يكون في وقت الشدة المحدقة بالناس ـ أظلم الخطب ـ وعندها تشرق شمسه لتزيل ظلام الخطب، لأنه أرحم الناس بالناس، وعليه فالصورة المدحية هنا ـ رغم بُعدها الجمالي ـ تعلو بالممدوح فوق المرتبة البشرية، ولعلها مرتبة مستندة إلى مقولة أبي جعفر المنصور:"إنما أنا سلطان الله في أرضه" وقد قال له أبو دلامة [بسيط ]:

لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِـنْ كَرَمٍ
قَــوْمٌ لَـقِيلَ اقْــعُـــدُوا يَـا آلَ عَبَّــــاسِ
ثُمَّ ارْتَقُـــوا فِي شُعَـــاعِ الشَّمْسِ كُلُّكُمُ
إِلَى السَّمَــــاءِ فَـأَنْتُـــمْ أَكْـــرَمُ النَّـاسِ

والبيتان يدلان على هذا العُلوِّ، أو المكانة المرتفعة التي تسمو فوق مكانة الشمس، صحيح أن الشاعر قد بدأهما بأسلوب الشرط الامتناعي بدلالته على انتفاء حدوث الجواب لانتفاء حدوث الشرط، بيد أن الدلالة العامة للبيتين تؤكد على سموه بمكانتهم التي تعلو فوق السماء وذلك بسبب كرمهم الذي فُضِّلوا فيه على الناس كلهم.

ويقول أبو العتاهية في مدح هارون الرشيد [طويل]:

وَزَحْـــفٍ لَــهُ تَــــحْكِي الْــبُـرُوقَ سُيُـوفُــــهُ
وَتَــــحْــكِي الــرُّعُـودَ القَاصِفَاتِ حَوَافِرُهْ
إِذَا حَمِيَتْ شَمْسُ النَّهَـارِ تَضَـاحَـكَتْ
إِلَى الــشَّــمْــسِ فِـيـهِ بَــيْضُـهُ وَمَـغَـافِـــرُهْ
إِذَا نُــكِــبَ الإِسْــــلاَمُ يَـــــوْمًــــــا بــِنَــكْـبَـةٍ
فَـهَــــارُونُ مِـــنْ بَــــيْــنِ الـْــبَــرِيَّـــةِ ثَـــائِـرُهْ

حيث نلحظ الدلالة على عُلُوّ مكانة هارون الرشيد التي يُبديها الشاعر من خلال وصف سيوف جيشه الراحف في لمعانها بالبروق في عُلُوِّها وشدتها وسرعتها، وعُلُو شرفه في ارتفاع محارمه ـ بيضه ـ ودروعه ـ مغافره ـ إلى الشمس في دلالة على السُّمُوِّ والشرف. ويقول ابن الرومي في المعتضد وقائده بدر الكبير [ كامل ]:

قَــــــدِمَ الإِمَــــــامُ يَـــسِيرُ تَحْتَ لِـوَائِـــهِ
سَيْــرَ السَّــكِـــــينَةِ سَــيِّــدُ الأُمَــــــــرَاءِ
شَمْسٌ وَبَدْرٌ يَشْفِيَانِ ذَوِي الْعَمَى
وَهُــــمَـــــا سِــرَاجَـــا أَعْـــــيُنِ الْبُصَرَاءِ
لاَ عَــيْبَ عِــنْــدَ ذَوِي التَّعَنُّتِ فِيهِمَا
إِلاَّ انْـــفِـــــرَادُهُـــمَــــــا مِــــــنَ الـــنُّظَــرَاءِ
كَــمْ قَـــدْ تَـــخَلَّفَ عَنْهُمَــا مِنْ سَابِقٍ
غَـــيْــــــــرَ الْــــوَزِيـــــرِ مُــبَــرِّزِ الْــــــــــوُزَرَاءِ

إن الميزة التي ينفرد بها الإمام الخليفة وقائده الأمير بدر هي عدم وجود نظير أو شبيه لهما، ومن ثمة كان تشبيههما بالشمس والبدر في البيت الثاني، جاعلاً من الخليفة شمسًا ومن القائد بدرًا يشفيان العمي ويضيئان للبصراء، لأنهما سراجا أعين البصراء. ويقول محمد بن وهيب الحميري في الخليفة المعتصم بالله [ كامل ]:

ثَـــلاَثَــــــةٌ تُــشْــرِقُ الـــــدُّنْـــيَـــا بِـبَـهْـجَـتِـهِـمْ
شَـمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَـاقَ وَالْـقَمَرُ
فَالشَّمْسُ تَحْكِيهِ فِي الإِشْرَاقِ طَالِعَةً
إِذَا تَــقَـطَّــــعَ عَــــنْ إِدْرَاكِــهَـــــا الـنَّــظَـــــــرُ
وَالْــبَــــدْرُ يَــحْكِيهِ فِي الظَّلْمَـاءِ مُنْبَلِجًـا
وَالْغَيْثُ وَاللَّيْثُ وَالصَّمْصَــامَــةُ الــذَّكَـرُ

والملاحظ أنه يجمع في مدحه الخليفة العباسي بين الشمس والقمر، ويجعل ممدوحه وسطًا بينهما، والوسطية تشير إلى جمعه بين خصائص كلٍّ منهما إذ يشاركهما في الضياء والإشراق وهو الوجه الجامع بين الثلاثة، على أننا نلحظ في هذه الصورة الجمالية ذات الرؤية العلوية التي تسمو بصاحبها عن مصاف البشر، نلحظ أنه جعل الشمس هي التي تحكيه أو تشبهه في الإشراق عند طلوعها، وكذلك جعل البدر هو الذي يحكيه، والجمع بين الشمس والبدر وتوحد وجه الشبه فيه إشارة إلى ديمومة إشراق وجه الممدوح وضيائه بالنهار أو الليل، وجعله المشبه به لكل من الشمس والقمر دلالة على بلوغه المرحلة التي يكون فيها المقياس الذي يُقاس إليه إشراق النَّيِّرين: الشمس والقمر. ويقول محمد بن وهيب أيضًا [ كامل ]:
مَلِكٌ كَأَنَّ الشَّمْسَ فَوْقَ جَبِينِهِ

فَــإِذَا نَــــــزَلْتَ بِــبَــــابِــــهِ وَرِوَاقِـــــــــهِ
مُــتَـــهَـــلِّلُ الإِمْسَـــاءِ وَالإِصْبَــاحِ
فَــانْــزِلْ بِسَعْدٍ وَارْتَحِلْ بِنَجَاحِ

وهي صورة تجمع إلى جانب الرؤية الجمالية الرؤية العلوية التي تجعل من هذا الملك قريبًا من الشمس في علوها، أو كأنها تُشرق على وجهه، فيكون وضاءً في المساء وفي الصباح، ولذلك فإن النازل ببابه أو المرتحل عنه ـ كما ينصح الشاعر ـ سوف يرتحل مصحوبًا بالسعد المأمول من التهلل الدائم لوجهه، وتلك سيماء الكرم لا يعبس في وجه طالبي الرفد والعطاء. ويقول البحتري في مدح محمد بن حميد الطوسي [ كامل ]:
فَسَمَــا لأَعْــلَى رُتْبَــــةٍ فَـــاحْـتَــلَّهَـــــا

سَبْقًا وَبُرْجُ الشَّمْسِ أَعْلَى الأَبْـرُجِ

حيث نلحظ بروز الرؤية العلوية التي أحلَّها ممدوحه الذي سما وحلق عاليًا حتى وصل مكانة أعلى من برج الشمس رغم أن برج الشمس هو أعلى الأبراج السماوية، ويقول عنه كذلك في خطاب بنيه [كامل]:

أَبَنِي حُــمَـيْــدٍ طَــالَ مَــجْدُ مُحَمَّدٍ
لَمَّـــا تَـــطَــاوَلْــتُــمْ لِــبُــعْـــــدِ مَـــنَــــالِــــــهِ
وَلَـكُــمْ وَلَـسْتُـمْ لاَحِـقِـيـنَ بِشَــأْوِهِ
شَرَفٌ تَظَــلُّ الشَّمْسُ تَحْتَ ظِـلاَلِهِ

لقد كان تطاولهم أو ارتقاؤهم المعالي بسبب بُعد المكانة التي وصل إليها محمد بن حميد الطوسي أبوهم، ولهم بسببه شرف أعلى من الشمس، بل هو شرف تستظل الشمس بظلاله، ورغم ذلك وتلك المكانة التي ولوا إليها بسبب أبيهم، فإنهم لا يستطيعون الالتحاق بمكانته. ويقول أبو تمام في مدح محمد بن يوسف [بسيط]:

لاَ شَمْسُهُ جَمْرَةٌ تُشْوَى الْوُجُوهُ بِهَا
يَـــــوْمًــــــــا وَلاَ ظِـــــلُّــهُ عَـــنَّــــــا بِمُـنْـتَـقِــلِ

فهو يوظف دالة الشمس هنا في إنتاج دلالة القوة والبأس والأذى أو الضر، ثم يقوم بنفي ذلك عن أن يُصيب وجوه أولياء الممدوح الذين لا يتحول عنهم خيره ونفعه ـ ظله ـ ومن خلال المقابلة بين الدلالتين ندرك سمو الممدوح وعلو شأنه وفضله.

ويقول بكر بن النطاح في مدح أبي دلف [وافر]:

إِذَا كَـــانَ الشِّتَــاءُ فَـأَنْتَ شَمْسٌ
وَمَــا تَــدْرِي إِذَا أَعْــطَـــيْـتَ مَــالاً
وَإِنْ حَــضَرَ الْمَصِيفُ فَأَنْتَ ظِــــلُّ
أَتُـــكْـثِـــرُ فِي سَمَــاحِـــــكَ أَمْ تُــقِـــــلُّ

حيث نجد الدلالة على الكرم وما يستدعيه من دلالات العطاء وسماحة النفس، وعدم الانتباه إلى كثرة العطاء وقلته، كلها دلالات تنتجها البنية السطحية للبيتين، بيد أننا مع الصورة التشبيهية التي وردت فيها دالة الشمس مسبَّهًا به نستطيع استدعاء دلالات الوضاءة والإشراق ورحابة الصدر وديمومة العطاء التي تدل عليها المقابلة بين الشتاء والصيف.
ويقول المتنبي في سيف الدولة الحمداني [بسيط]:

تَشْــبِـيــــهُ جُـــــودِكَ بِالأَمْـطَــــارِ غَـادِيَـــــةً
جُـــــودٌ لِــكَــفِّـكَ ثَـانٍ نَـالَــــهُ الْمَطَرُ
تَكَسَّبُ الشَّمْسُ مِنْكَ النُّورَ طَـالِــعَةً
كَمَـــا تَـكَسَّـبَ مِـنْـهَــا نُـــورَهُ الْــقَـمَرُ

حيث يقدم له صورة جمالية تبدأ من تلك المبالغة الجميلة في تشبيه جوده بالأمطار، وجعله ـ سيف الدولة ـ كأنما يتكرم على الأمطار بأن تتشبه بجوده وكرمه، كما هذه الصورة الجمالية إشراق وجهه ووضاءته، وهي في الآن عينه صورة علوية، إذ جعله مصدر النور الذي تنيره الشمس عند طلوعها ويؤكد هذه الدلالة بالصورة التشبيهية.

وعندما ينصح أبو الفتح البستي السلطان يمين الدولة البويهي، نجده يقدم بين يديْ نصحه مدحًا يعلو به عن الشمس، فيقول [طويل]:

أَلاَ أَبْــلِــــغِ السُّلْطَــانَ عَنِّي نَــصِيحَةً
يُــشَــيِّعُــــهَــــا وُدٌّ وَرَأْيٌ مُـــــحَــــنَّـــــكُ
تَجَاوَزْتَ أَوْجَ الشَّمْسِ عِــزًّا وَرِفَعَةً
وَذَلَّلْتَ قَسْرًا كُلَّ مَنْ قَدْ تَمَلَّكُــوا
فَــمَــــا حَـــــرَكَـــــاتٌ مُتْعِبَاتٌ تُدِيمُهَـــا
تَــــأَنَّ فَــــأَوْجُ الــشَّــمْـسِ لاَ يَـــتَحَــرَّكُ

إن خروج النصح من الأدنى منزلة إلى الأعلى مكانة وقدرًا قد يشوبه شيء من الإدلال أو المنِّ من الأدنى، بيد أن الشاعر هنا يسارع إلى نفي مثل هذا الشعور من خلال التأكيد على ما يصحب نصيحته من الود والرأي الخبير بالدنيا، ونلحظ ما في تشييع النصيحة إلى الممدوح من دلالة على رغبة الشاعر في نفي ما قد يرتبط بالنصيحة من استعلاء أو منٍّ أو غير ذلك مما قد يعوق النصيحة عن إيتاء ثمارها، ثم تأتي النصيحة المدحية التي يعلو فيها الشاعر بممدوحه عن الشمس ذلك أنه قد تجاوز بعزه ورفعته عُلُوَّ الشمس ـ أوج الشمس ـ، ومن ثمة كان الأمر النصحي في البيت الأخير بالتأنِّي، مسبوقًا بهذا الاستفهام التوجيهي: فما حركات تديمها، إذا عددنا ما استفهامية، وإذا عددناها نافية، كانت الدلالة فيها عدم قيمية تلك الحركات التي لن تقلل أو تحط من رفعة الممدوح التي تجاوزت أوج الشمس الذي لا يتحرك والأوج كلمة فارسية معربة ومعناها السموّ أو العُلُوّ وهو ضد الهبوط. ويقول أبو الحسن التهامي في مدح الشريف معتمد الدولة بن الزيدي [كامل]:
بَـــثَّ الْـــفَــضَـــــائِــــلَ خَــلْــفَــهُ وَأَمَـــامَـــــهُ
جج
فَـفَـنَـــــاءُ مُــهْـجَــتِــهِ كَــمِـثْــلِ خُــلُــودِهَــــا
كَالشَّمْسِ تُودِعُ فِي الْكَوَاكِبِ نُورَهَا
فَـتَـنُـــوبُ للسَّـارِيــــنَ عَـــــنْ مَــفْــقُــودِهَـا

وهذه الصورة جامعة بين الرؤية الجمالية والرؤية العلوية، فالجمالية تشير إلى ما للشمس من إشراق ووضاءة تُسبغها على الكواكب، فيزداد ضياؤها ولمعانها، وتكون هذه الصورة مشبَّهًا به لصورة الممدوح وهو يبث فضائله وينشرها في كل مكان، وكأنه ينيرها كلها بفضائله، ويقول الصوري [بسيط]:

وَأَنْـتَ مِــنْ مَـعْشَرٍ جَــرَّتْ مَـنَاقِبُهُمْ
شُغْلاً طَــوِيــلاً عَـــلَى الأَقْـلاَمِ وَالطُّرُسِ
تَــعْـــلُـو فَـتَـــدْنُـو كَمَا تَعْلُو خَلاَئِقُهُمْ
مِثْلَ الشُّمُوسِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِالشُّمُسِ

وهو يمدح القاضي ابن حيدرة بحسن السيرة وجمال المناقب لانتمائه إلى معشر تلك مناقبهم التي تعلو علو المكانة والفضل وتدنو من الناس دنو التفضل والتكرم، ولذلك ينفي عنه أن يكون مثل الشُّمُس وهي جمع شَمُوس وهو الذي يشمس للآخر ويُبدي له العداوة. ويقول الخُبز أرزيّ [كامل]:

شَــمْسُ الــنَّهَـــارِ تَغَيَّبَتْ مِــنْ نُـــــورِهِ
وَتَــطَــيَّبَ الْـمِسْـكُ الـــذَّكِـيُّ بِـسُـورِهِ
وَالْــبَــــدْرُ لَــيْسَ ضـِيَــــاؤُهُ كَـضِيَـائِـــــهِ
عِــنْـــدَ الــتَّــمَـــامِ وَلاَ كَـعُـشْـرِ عَـشِــيرِهِ
لَسْنَا نَشُكُّ وَلاَ يَشُكُّ أَخُــو حِجًى
فِي أَنَّ يُــــوسُــفَ لَــــمْ يَــكُـنْ بِـنَـظِيرِهِ

حيث يقدم للممدوح لوحة فنية تجعل نوره أقوى من نور الشمس التي يبدو أنها تغيبت بسبب قوة نوره وشدته، إذ ليس لها مكان أمام نور الممدوح، كما أن البدر ـ كذلك ـ يتقاصر ضياؤه أمام ضياء الممدوح، بل إنه لا يُساوي عُشْر عُشْرِه، ولا يقف الأمر عند هذا الإدراك البصري، وإنما يوظف الإدراك الشمي بالصورة المقلوبة التي يجعل المسك متطيبًا برائحة سور الممدوح الزكية، ولا يقنع الشاعر بمثل تلك الرؤية العلوية للممدوح، وإنما يمازجها بالرؤية الجمالية التي بنى عليها رؤيته العلوية، ويداخلها باستدعاء شخصية نبي الله يوسف عليه السلام الممثل لأيقونة الجمال العليا، أو المثال الذي يتقاصر عن مناظرة الممدوح في جماله. ويقول ابن طباطبا العلوي [منسرح]:

يَا سَيِّدًا قَدْ حَكَى تَثَبُّتُهُ
وَالشَّمْسُ وَالْبَدْرُ وَجْهُهُ وَحَكَا
كِيوَانَ وَالْبَأْسُ مِنْهُ بَهْرَامَا
هُ الْمُشْتَرِي قَائِمًا صَوَّامَا

ولعل ابن طباطبا في هذين البيتين قد حقق الرؤية العلوية التي ينظر بها إلى ممدوحه، لأنه كأنما استدعى الكواكب والنجوم ليجعلها الصور التشبيهية للمدوح، فقد جعله في البيت الأول يشبه كوكب زُحل ـ كيوان ـ، وشبه بأسه وقوته بالملك الفارسي بهرام جور المشهور بدقة رميه وقوته، وفي البيت الثاني يجعل من الشمس والبدر مشبَّهًا به لوجهه في الضياء والإشراق وعلو المكانة، ومن ثمة كانت الرية هنا علوية وجمالية في الآن عينه.

وعندما يمدح الشريف الرضي الخليفة الطائع لله سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة، بهمزيته الأولى التي بلغت عدة أبياتها خمسة وخمسين بيتًا على نعمه التي أنعمها عليه، يقدم له مجموعة من الأوصاف والخصال التي تنم عن مكانة عالية لهذا الممدوح، ومنها قوله [طويل]:

فَــخَــــــارٌ لَـــــــوَ انَّ الــــــــنَّــــجْـــمَ أُعْطِيَ مِثْلَهُ
تَــــرَفَّــــــــــعَ أَنْ يَــــــــــأْوِي أَدِيــــــــــمَ سَــــمَــــــاءِ
وَوَجْـــــــهٌ لَــــــــــوَ انَّ الْـــبَــــدْرَ يَــحْـمِلُ شِبْهَهُ
أَضَــــــــاءَ اللَّــيَـــــــالِي مِــــــــنْ سَنًى وَسَـــــــنَـــــــاءِ
مَغَــارِسُ طَــالَتْ فِي رُبَـــا الْمَجْدِ وَالْتَقَتْ
عَـــــــــــــلَى أَنْــــبِــــيَـــــــاءِ اللهِ وَالْــــخُــــــــلَـــفَــــــــــاءِ
وَكَــــــمْ صَـــــــــارِخٍ نَـــــــادَاكَ لَــــــمَّــــــــا تَلَبَّبَتْ
بِــــــــــهِ الــسُّـــمْـــرُ فِي يَـــــــوْمٍ بَــغَـــيْــــــرِ ذُكَــــــاءِ
رَدَدْتَ عَــلَــيْــهِ النَّفْسَ وَالشَّمْسَ فَانْثَنَى
بِــــأَنـْـــــــعَــــــــــمِ رُوحٍ فِـــــي أَتَـــــــــــمِّ ضِــيَـــــــــــاءِ

إن هذه المكانة العالية التي يُحِل الشاعر فيها ممدوحه تتجلى في مجموعة من الدوال اللغوية المنتجة لها من مثل: النجم. ترفع. سماء. البدر. سنى وسناء. طالت. ذُكاء = الشمس.

الشمس. ضياء، ثم نلحظ مع هذه الدوال العلوية دلالات معضدة لها في التراكيب اللغوية، فالنجم إذا أُعطي مثل ما للمدوح من المفاخر أبى أن يسكن في أي سماء، مما يشير إلى أن الخليفة الطائع لله أرفع وأعلى منزلة من أن يسكن السماء، وله وجه من الجمال والوضاءة والنور أجمل وأضوأ وأنور من البدر.

كما نلمح توظيف الشمس في هذه الأبيات من خلال موضعين من البيتين الأخيرين، أولهما في نهاية البيت الرابع حيث أتى بمرادف من مرادفات الشمس وهي ذُكاء في سياق دل به على نجدة الممدوح لمن يستصرخ به في يوم معركة حامية يحجب غبارها ضياء الشمس، فيبدو اليوم وكأنه بغير شمس/ذُكاء، وثانيهما في البيت الأخير حيث توظيف الشمس في الدلالة على الطريق، وفيه إشارة إلى خلة من خلال الممدوح الطيبة وهي غرسه الطمأنينة في نفوس الخائف بإذهاب خوفه، وإنارة الطريق له برد الشمس المنيرة عليه.

وعندما يهنئ القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني الصاحب بن عباد بخلعة الوزارة يقدم بين يدي التهنئة ما يشير إلى أن كل شيء قد فرح بذلك، بل إن المكارم والعلياء قد افتخرت بذلك، وكذلك الزهر والسعود والآمال والمسرات بهذه الخلعة التي أتت للصاحب بن عباد على فجأة ودون ترقب وانتظار منه، وكان يوم تقليده إياها من البهاء والجمال بحيث بدت مهابة الصاحب بن عباد وكأنها تثني الأبصار عنه، وكأن الشمس كانت تغار منه ومن جماله وإشراق غرته، وفي ذلك يقول القاضي الجرجاني:

مَــــــا زَالَ يَــــــزْدَادُ مِـــــنْ إِشْـــــرَاقِ غُـــــــرَّتِـهِ
زَهْــــرًا وَيُشْـــرِقُ فِــيـهِ الـتِّــيهُ وَالأَشَــرُ
وَالـشَّــمْـسُ تَــحْــسُدُ طِــرْفًــا أَنْتَ رَاكِبُهُ
حَـتَّى تَــكَـــــادَ مِـنَ الأَفْـلاَكِ تَنْحَدِرُ
حَــتَّى لَـقَـدْ خِـلْتُ أَنَّ الشَّمْسَ أَزْعَجَهَا
شَــوْقٌ فَــظَــلَّتْ عَـلَى عِـطْفَيْهِ تَنْتَثِرُ

ولعلنا ندرك سرَّ حسَد الشمس لهذا الطِّرف ـ الكريم من الخيل ـ الذي يركبه الصاحب بن عباد حتى كادت تسقط منحدرة من تلك الأفلاك التي تنتمي إليها، فقد أبى الشاعر إلا أن يقفنا على ذلك السر عندما ظن أن شوق الشمس إلى الممدوح قد أزعجها، ومن ثمة راحت تنتثر ناشرة أشعتها على جانبيْه.

ويقول ابن حَيُّوس الدمشقي [ت 473ه ] في مدح الأمير أبي الحسن علي بن مقلد [بسيط]:

يَـــزِيــــدُنِي كُــــلَّــمَــــــا أُحْـضِـرْتُ مَـجْـلِـسَـهُ
فَــضِــيـــلَــــــةً لَــــمْ يَــــدَعْ لِـي غَيْرَهَــا أَرَبَــــــا
لَــوْ تَــدَّعِي الشَّمْسُ يَوْمًا نُورَهُ كُسِفَتْ
وَلَــــوْ جَــــرَى النَّـجْــمُ يـَبْغِي شَــأْوَهُ لَكَبَـا

وابن حيُّوس يقدم بين يديْ مدحه هنا بعض الأسباب التي دفعته لمدح هذا الأمير، فالشاعر كلما يُدعى إلى مجلس الأمير ازداد فضيلة يُغنيه حصولها عن عدم التفكير في مطلبٍ غيرها، ثم يأتي في البيت الثاني ليمدحه بهذا المدح المشفوع بشيء من المبالغة المقبولة فنيًّا، وهي أنه أنور وأضوأ من الشمس التي يصيبها الكسوف وتفقد نورها إذا ما ادّعتْ أن نوره هو نورها، كما أنه ـ الممدوح ـ أعلى وأشرف وأضوأ من النجم الذي إذا أراد مساولته في علوِّ شأنه لكبا وسقط من عُلُوِّه. ويقول بديع الزمان الهمذاني مادحًا [مجتث]:

لاَ وَالَّـــذِي شَــقَّ خَمْسِي
مَا غَيْرُ وَجْهِكَ شَمْسِي

وهذا القسم دال على صدق إحساس الشاعر فيما يبثه نحو هذا الممدوح ـ السيد أبو الحسن ـ الذي يجعل وجهه الشمس المضيئة التي تضيء له درب حياته، ويقول الشريف المرتضى العلوي في مدح فخر الملك من وزراء الدولة البويهية [كامل]:

وَعَـــــلَـى الأَسِـــــرَّةِ مِــــنْ ضِيَـــائِكَ بَـــــارِقٌ
أَوْ كَـــوْكَــــــبٌ جَـــهَــــــرَ الــنُّــجُومَ فَــرِيــدُ
وَكَأَنَّ وَجْهَكَ قُــــدَّ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى
أَوْ مِـــــنْ سَــنَــــــا قَــمَـــرِ الـدُّجَى مَقْدُودُ

فقد وظف الدوال اللغوية المنتجة لدلالة الإشراق والضياء والجمال، ليرسم بها صورة لا تخلو من دلالة عُلوية لهذا الوزير البويهي الذي يلمع وجهه جمالاً وضياءً وهو جالس على كرسيه ضياء يروع النجوم، وهذا اللمعان شبيه بنور القمر ـ بارق ـ أو نور كوكب دري، أو أنه نور مقدود من شمس الضحى، أو من قمر الليل المظلم. ويقول أبو علي البصير مادحًا [رمل]:
مَــلِكٌ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ عَلَى

مِــثْلِهِ أَوْسَــــــــعَ سَــيْــبًــا وَأَعَـــــــــــمْ

حيث نلحظ علوَّ الشاعر وارتفاعه بممدوحه منذل الكلمة الأولى التي افتتح بها البيت، تلك التي جاءت نكرة وكأنه ليس في حاجة للتعريف به، فهو ملك معروف من غير وسيلة للتعريف، ثم يأتي بالجملة المنفية وصفًا لهذا الملك الذي ليس له مثيل في الكون في سعة عطائه وعمومه الجميع، ويقول الببغاء في سيف الدولة [طويل]:

تُــمَــاشِي بِفِتْيَـانٍ كَــأَنَّ جُسُومَهُمْ
لِخِفَّتِهَــــا فَــــــوْقَ السُّـــــرُوجِ قُــلُـوبُ
وَتَـمْـــلأُ مَـــا بَيْنَ الْفَضَاءَيْنِ عِثْيَرًا
مُثَارًا بِوَجْهِ الشَّمْسِ مِنْهُ شُحُوبُ

والمدح هنا يشمل الأمير الحمداني وجنده الذين يصفهم بالسرعة في ركوب الخيل ـ السروج ـ مما يعني الشجاعة، ويردف ذلك بما يدل على كثرة العَدد إذ يملأ جيشه ما بين السماء والأرض غبارًا ـ عثير ـ تبدو السماء بسببه مأزومة، وكأنما قد أصاب نورها ضعف وشحوب بسبب كثرة هذا الغبار.

ويوظف أبو العلاء المعري ملكته اللغوية البارعة في استدعاء بعض أسماء الشمس في المعجم العربي، ومعرفته بالحديث النبوي، وذلك في سياق المدح من مثل قوله [وافر]:

وَيُوشَعُ رَدَّ يُوحًـــا بَعْضَ يَـــوْمٍ
وَأَنْتَ مَتَى سَفَرْتَ رَدَدْتَ يُوحَا

واسم الشمس الذي أتى به المعري في البيت هو يُوح عند اللغويين والشاعر هنا يصف ممدوحه بوضاءة الوجه، فاستدعى لهذه الوضاءة الشمس ـ يوح ـ ولا يقنع بهذا الاستدعاء اللغوي، وانما يستدعي حافظته الدينية متناصًّا مع قصة نبي الله يوشع بن نون الذي دعا الله تعالى أن يحبس الشمس فلا تغيب حتى يفرغ من قتال أعدائه، وقد استجاب الله تعالى له والمعري بهذا الاستدعاء يشير إلى مكانة الممدوح وجمال وجهه الذي ينير المكان كأنما رد الشمس بعد مغيبها، مثلما رُدت الشمس مجازًا ليوشع بن نون.

ويدخل فن الاعتذار في فن المدح، أو لنقل إن شعر الاعتذار هو صورة من صور فن المديح، فهو ينتمي إليه، لأن الشاعر عندما يقدم اعتذاراته للآخر فإنه يقدّم بين يديها مدحًا يُعلي فيه من شأن مَنْ يخاطبه، يستوي في ذلك اعتذار والاستعطاف والعتاب"وما جرى مجراها، فملاك الأمر فيها التلطف والإثلاج إلى كل معتذر أو معاتب أو مستعطف"ومن ثمة فإن قصائد المدح هي تلك"التي أنشدها الشعراء في المدح والاعتذار" وذاك أمر طبيعي بالنسبة إلى بنية القصيدة العربية القديمة، التي لم تكن قاصرة على غرض واحد، بل مجموعة من الأغراض التي تترابط فيما بينها بصورة أو بأخرى، كالتي أشرنا إليه من قبل من أن كثيرًا من الأغراض الشعرية يئول أو يتجهِ إلى فن المدح، ومن ذلك الاعتذار ما نجده في قول أبي بكر الصنوبري عندما يقدم اعتذاره إلى أبي عبد الرحمن الهاشمي [سريع]:

فَــانْـــظُـــــــرْ إِلَـــيَّ بِــــعَــــــيْــنِ الــــــرِّضَــــا
فَــمَــا انْقِبَـاضِي عَـنْكَ مِــنْ جَــــفْوَةٍ
بَــلْ حَـــارَ فِي جُودِكَ فِكْرِي وَمَنْ
تَــحْــلُلْ بِـعُـــذْرِي عُــقَــــــدَ اللَّبْسِ
تَــعْــــــدِلُ بِــالْـــحُــــــرِّ عَـــنِ الأُنْـسِ
يَـمْــــلَأُ عَـيْـنَـيْــهِ مِـــنَ الـــشَّــمْــسِ؟

فالشاعر في البيتين الأولين يقدّم اعتذاره لهذا الممدوح من خلال الأمر الاستعطافي الذي يستجدي فيه رضاه الذي يحلل به العقد، ويبيم له أن انقباضه وبعده عنه لم يكن من جفاء منه، وإنما الجفوة ناتج الحيرة في وصف جود الممدوح الذي يأخذ من الشمس فضلها وشهرتها وشمولها كلَّ شيء، ومن ثمة كان ختامه الاعتذارية بهذا التساؤل المتضمن معنى النفي، وكأن يشير إلى أنه لا أحد يستطيع أن يملأ عينيه من الشمس، لشدة إشراقها وسطوعها، أو اتساعها الذي لا تحده العين، وكذا جود الممدوح. ويقول معتذرًا [طويل]:

أَأَعْـــرَضَ سُـــؤْلِي حِــيـنَ قِــيــلَ هَـجَوْتُهُ
فَــيَـــا لَــيْــتَـــهُ يَـــرْضَـى وَأَهْــجُــو لَــهُ نَــفْــسِي
فَكَيْفَ أَعِيبُ الْــبَـــدْرَ مِــنْ غَــيْــرِ عِــلَّةٍ
يُعَابُ بِهَا بَلْ كَيْفَ أُزْرِي عَلَى الشَّمْسِ

فهو يقدم بين يدي مدحه أيضًا ما ينفي ما أشيع عنه من هجاءٍ للمخاطَب الذي يتمنى منه الرضا، ويهجو هو نفسه ليدلل على محبته وعدم هجائه، ويؤكد هذا النفي بالاستفهام التعجبي النافي في البيت الثاني الذي يصور فيه ممدوحه بالبدر مرة وبالشمس مرة أخرى.
وعندما يمدح الصاحب بن عباد أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يكشف عن صورة حبه له فيقول [منسرح]:

يَـسْــقِي بِــكَــأْسِ النَّبِيِّ شِــيعَـتَــــهُ
أَفْــدِيــهِ شَـمْـسًــا ضِيَــاؤُهَـــا أَمَـــمٌ
لِي مِــــــــدَحٌ فِــــيــكُـــمْ عَـرَائِسُهَـا
وَفِـــرْقَـــــةُ الــنَّــاصِـــبِيـــنَ مَــكْفُوفَهْ
قَدْ نُزِّهَتْ أَنْ تَكُونَ مَكْسُوفَهْ
إِلَـــــيْـكُـــمْ لاَ تَـــــــزَالُ مَــــزْفُـــوفَـــــــهْ

وصورة الحب هنا هي ارتفاعه بشأن علي ومكانته التي يجعله فيها شبيهًا بالشمس ذات الضياء الذي يؤمه الناس، ضياء منزَّهٌ عن أن يصيبه الكسوف، وهو بهذه الصورة الشمسية، يقدم الشاعر نفسه فداءً له، ويقول في الأمير البويهي فخر الدولة وقد افتصد [بسيط]:

يَا أَيُّهَا الشَّمْسُ إِلاَّ أَنَّ طَلْعَتَهَا
فَوْقَ السَّمَاءِ وَهَذَا حِينَ يُقْتَصَدُ
لَمَّا افْتَصَدْتَ قَضَيْنَا لِلْعُلَى عَجَبًا
وَمَا حَسِبْتُ ذِرَاعَ الشَّمْسِ يُفْتَصَدُ

ففي هذا النداء تعظيم للمدوح الذي لا يناديه باسمه ولا لقبه أو كنيته، وإنما يستدعي له الشمس لقبًا أو مشبَّهًا، ثم يميز بينهما من حيث إن طلوعها يكون فوق السماء، أما هو الشمس، فإنه يطلع كلما قصده القاصدون ليلاً كان القصد أو نهارًا.

الرثاء:

ينتمي فن الرثاء في الشعرية العربية إلى ما ذهبنا إليه في درسنا هذا وهو الرؤية العلوية من حيث كونه ذكرًا للمناقب والخصال الحميدة التي كان المرثيّ يتمتع بها ومن ثمة كان"تأبين الميت ـ رثاؤه ـ إنما هو بمثل ما كان يُمدح به في حياته" وإذا كان الذِّكْرُ للإنسان عمرًا ثانيًا، فإن في رثاء الميت استحضارًا له ومدًّا لحياته في عقول وقلوب الناس بما ترك من المآثر والمخالد والطيبات التي تثير شجون الجميع وأحزانهم لفقد الميت، وقد وسع الشعراء وبالغوا في هذه الدلالة أيما مبالغة، وكان أفول الشمس وكسوفها وإظلامها لوفاة المرثي مظهرًا من مظاهر هذه المبالغة، من ذلك قول أبي الشيص الخزاعي في رثاء الخليفة العباسي هارون الرشيد [مجزوء الرمل]:

غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ الشَّمْـ
مَــــا رَأَيْنَــا قَــــطُّ شَـمْـسًــا
سُ فَقُلْ لِلْعَيْنِ تَدْمَعْ
غَرُبَتْ مِـنْ حَيْثُ تَطْلَعْ

إن صورة كسوف الشمس لموت مرثي من الصور الشعرية التي ظهرت في الشعر الجاهلي، فقد وردت عند أوس بن حجر في قوله [متقارب]:

أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسُ وَالْبَـــدْرُ وَالْــــ
لِـــفَــقْــــدِ فَـــضَــالَةَ لاَ تَـــسْتَــوِي الْــــــ
ــــكَــوَاكِـــبُ لِلْجَبَـــلِ الْــوَاجِـبِ
ــــفُـــقُــــودُ وَلاَ خَــــلَّـــةُ الــذَّاهِبِ

كما وردت عند الخنساء في قولها من إحدى مراثيها في أخيها صخر [مجزوء الكامل]:

أَبـْيَـضُ أَبْــــــلَــــــجٌ وَجْـــــــــهُـــــهُ
وَالـشَّـمْـسُ كَــاسِفَـةٌ لِــمَهْـــــــــ
كَالشَّمْسِ فِي خَـــيْرِ الْبَشَرْ
ــــلَــــكِــهِ وَمَــا اتَّسَــقَ الْــقَــمَــرْ

كما ظهرت في الشعر الأموي وهي بلا شك من المبالغات الشعرية التي كانت موجودة في الإرث الثقافي العربي بدليل ما جاء في السُّنّة النبوية من أن الشمس قد كسفت يوم مات مات إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال:"إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم، فصلُّوا وادعوا" ويبدو أن الشعراء العباسيين نتيجة ابتعادهم عن مهد النبوة الأولى، وانهماكهم في الحياة ومتعها، فضلا عن انفتاح الدنيا أمامهم قد شغلهم ذلك كله عن الانتباه إلى حقائق الأمور التي لا ينكرها المتأمل فيها.

ولسنا نقدم هنا تفسيرًا دينيًّا لمثل تلك الظاهرة، وإنما نقول إنها امتداد طبيعي لموروث الشعر العربي حيث كل حلقة من حلقاته تؤثر فيما يليها حلقات هي في الواقع لا تنفصل عنها، وإنما دائمًا ما يحدث التلاقي، ولولا أن الكلام يُعاد لنفد ـ كما أُثر عن الإمام علي رضي الله عنه ـ ولله در عنترة بن شداد في مقولته من مطلع معلقته [كامل]:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

حيث يقرر فيها أن السابقين لم يتركوا شيئًا للاحقين، ولا يعني ذلك أن اللاحقين كانوا مقلدين التقليد كله للقدامى حيث وضع القدم على القدم لا تعدوها، وإنما لا يعدم المتلقي خصوصية وتفرُّدًا للاحقين في التعبير والصياغة والبنية الفنية والأسلوبية التي تمنحهم الخصوصية، فهذا مروان بن أبي حفصة يقول في رثاء معن بن زائدة [وافر]:

كَأَنَّ الشَّمْسَ يَوْمَ أُصِيبَ مَعْنٌ
مِـــــنَ الإِظْـــــلاَمِ مُـلْــــبَسَـــــةٌ جِلاَلاَ

فقد صور إحساسُه الشمسَ يوم وفاة معن بن زائدة مظلمةً، وكأنها من الإظلام قد ارتدت مثل ذلك الغطاء الذي يوضع على الدابة، صيانة لها، وإظلام الشمس دليل حزن لموت معن، ويقول المتنبي في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي [كامل]:

مَا كُنْتُ آمَلُ قَبْلَ نَعْشِكَ أَنْ أَرَى
رَضْوَى عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ تَسِيرُ
خَــــرَجُـــــوا بِـــــهِ وَلِــــــكُلِّ بَــاكٍ خَـــــلْــفَـــــهُ
صَعَقَـــاتُ مُــوسَى يَــــوْمَ دُكَّ الطُّـــــــورُ
وَالشَّمْسُ فِي كَــبِــــدِ الـسَّمَاءِ مَرِيضَةٌ
وَالأَرْضُ وَاجِـــــــفَــــــــةٌ تَــكَــــــادُ تَمُورُ

وهو يوظف كل شيء للعلوِّ بمكانة المرثي وقيمته بدءًا من هذا الأمل المنفي في رؤية جبل رضوى ذي المكانة والمكان يُنقل على أيدي الرجال، والذي حقق له هذا الأمل هو رؤية النعش محمولاً على أيدي الرجال، ومن ثمة ندرك أنه يشبهه بجبل رضوى، ومرورًا بكثرة المصعوقين الباكين خلف النعش، فقد أصابتهم صعقة كالتي أصابت نبي الله موسى عليه السلام عندما تجلى ربه لجبل الطور فجعله دكًّا، وهو بذلك يتناص مع قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ [الأعراف:143] وانتهاءً بصورة الشمس المريضة في كبد السماء ووجفان الأرض وموْرها، حزنًا على هذا الفقيد.

ويقول علي بن جبلة ـ العكَوّك ـ في رثاء حميد الطوسي [طويل]:

أَلَــمْ تَــرَ أَنَّ الشَّمْسَ حَـالَ ضِيَاؤُهَا
عَـلَيْـهِ وَأَضْــحَى لَــوْنُـهَـا وَهْـــوَ أَسْـفَـــعُ

فإن ما أصاب ضياء الشمس من التحول والتغير وصيرورة لونها أسود أو أسفع، إنما هو بسبب حزنها على الفقيد.

ويقول أبو تمام في رثاء إدريس بن بدر الشامي [طويل]:

دُمُــــــوعٌ أَجَــابَتْ دَاعِـيَ الْــحُـــزْنِ هُـــمَّــــــــعُ
تَــوَصَّـــــــلُ مِـــنَّــــــا عَـــــنْ قُــلُــــوبٍ تَــــقَــطَّــــعُ
عَـفَـــــــاءٌ عَـــــلَى الـــدُّنْــيَـــــــا طَــوِيـلٌ فَـإِنَّـهَـــــــا
تُــــفَــــــرِّقُ مِـــــــنْ حَـــــيْثُ ابْــتَـــدَتْ تَتَجَمَّعُ
تَـــبَــــــدَّلَتِ الأَشْيَـــــــــاءُ حَـــــتَّـى لَــخِــــلْـتُـهَــــــا
سَتَثْنِي غُرُوبَ الشَّمْسِ مِـنْ حَيْثُ تَطْلُعُ
لَــهَـــــا صَيْـحَـــــةٌ فِي كُــــلِّ رُوحٍ وَمُـــهْــجَــــةٍ
وَلَيْسَتْ بِشَيْئٍ مَـــــا خَــــلاَ الْقَلْبَ تُسْمِعُ

إن الأمر ليتجاوز ما يحدث للشمس من تحول وتغير، بسبب وفاة المرثي إلى حدث كوني يُعيد صياغة الثوابت البشرية قبالة الظواهر الطبيعية، فالشمس تشرق من ناحية الشرق، وتغرب من ناحية الغرب، ولكن لأن الدموع الهُمَّع قد أجابت داعي الحزن المقطِّع للقلوب التي توقن ألاّ فائدة من الدنيا فتدعو عليها بالعفاء وهو الهلاك، لأنها لا تكاد تكتمل ـ تتجمع ـ حتى تنقص أو تفرق، وقد تبع موقفه هذا من الدنيا أن النواميس الكونية قد تغيرت لموت الفقيد، أو هكذا خيّل له شعوره وأنبأته أحاسيسه التي خيَّلت له أن الشمس ستطلع من مكان غروبها، ولا يكون ذلك إلا يوم القيامة.

ولم يكن الشعراء العباسيون ذوي منازع واحدة في تصوير موقف الشمس من وفاة المرثي، فهذا ابن الرومي له موقفان من الشمس عند فقد عزيز عليه أو مرثي يرثيه، أولهما: موقف لا تنكسف الشمس فيه لموت ألمرثي وهو محمد بن عبد الله بن طاهر، يقول فيه ابن الرومي [بسيط]:

عَجِبْتُ لِلأَرْضِ لَمْ تَرْجُفْ جَوَانِبُهَا
وَلِلْجِبَالِ الرَّوَاسِي كَيْفَ لَمْ تَمِدِ
عَجِبْتُ لِلشَّمْسِ لَمْ تُكْسَفْ لَمَهْلِكِهِ
وَهْوَ الضِّيَاءُ الَّذِي لَوْلاَهُ لَمْ تَقِدِ
هَلاَّ وَفَتْ كَوَفَاءِ الْبَدْرِ فَادَّرَعَتْ
ثَوْبَ الْكُسُوفِ فَلَمْ تُشْرِقْ عَلَى بَلَدِ

ويبدو أن البدر وحده من بين الظواهر الكونية هو الذي حزن عليه فأصابه الخسوف أو كما يقول في البيت الأخير: ثوب الكسوف، والذي يؤكد تفرد البدر بالحزن عليه تعجبه من عدم ارتجاف الأرض ومَيَدَانِ الجبال في البيت الأول وعدم كسوف الشمس لمهلكه في البيت الثاني، ولولا هذا الفقيد لم تتوقد الشمس، ومن ثمة كان البيت الثالث بما فيه من استفهام تحضيضي للفعل دالاًّ على أثر الفقيد، ومن ثمة أيضًا ندرك ما الصورة هنا من إعلاء لمكانة الفقيد تلك التي تعلو على الشمس، لأنها تسفيد منه هو وِقْدَتها.

وثانيهما موقف مهول للشمس تبدو فيه صورة لظاهرة كونية يجسدها ابن الرومي، ليكشف عن تأثره بموت الجارية بستان يقول [منسرح]:

لاَ يُــنْـكِرُ الـــدَّهْــرُ بَعْدَ مُهْلَكِهَا
كَـوَّرَ شَمْسَ النَّهَـارِ فَانْكَدَرَتْ
هُلْكَ ذَوَاتِ الْجَلاَلِ وَالْخَطَرِ
كَــوَاكِبُ اللَّيْــلِ كُــــلَّ مُـــنْكَدَرِ

والحق أن ليست الشمس وحدها التي تأثرت لموت المغنية بستان، وإنما الدهر كله، وكان من مظاهر ذلك أن كُوِّرَت الشمس وانكدرت الكواكب، وكأننا أمام مشهد من مشاهد يوم القيامة، في تناص واضح مع القرآن الكريم، حيث قول الله عز وجلَّ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾[ التكوير 1-2] وهو تناص كاشف عن عِظَم الحدث وهو موت المغنية ذلك الذي أحدث ـ في رؤيته ـ"خللاً في نواميس الطبيعة كذلك الذي يحدث بقيام الساعة، بمعنى أنه كان في هوله وعظمة الخطب به كعلامة من علامات الساعة التي لا تقوم إلا على أثر خطوب عظيمة".

ويقول السري الرفاء في رثاء أبيه [مجزوء الكامل]:

وَكَـــأَنَّ يَــــوْمَ الـــدَّجْـــنِ مِـنْـــ
ــهُ لِغُرَّةِ الْمَفْقُودِ شَامِسْ

حيث نلحظ أنه لم يأتي بالشمس كاسفة، أو كأنها لم تنكسف، وإنما جعل غُرَّة وجه الفقيد مضيئة بضياء الشمس الذي أحال مثل ذلك اليوم الماطر المظلم مضيئًا، أو كأنه شامس.
وفي المعتقد الشيعي يبرز الحديث عن رد الشمس للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذاك أمر تناوله شعراء الشيعة في مدائحهم للإمام علي رضي الله عنه وقد مر ذلك في الشعر الأموي ونراه كذلك في الشعر العباسي من قول الصاحب بن عباد في الإمام علي [مجزوء الرجز]:

أَنْــــتَ الَّـــــــذِي رُدَّتْ عَــلَــيْــــــــــ
ــــــهِ الشَّمْسُ مِــنْ بَـعْدِ الطَّفَل

ولا شك أن رد الشمس الغاربة للإمام علي بن أبي طالب ـ في الفكر الشيعي ـ يدل دلالة واضحة على مكانته العالية وقد كرر المعنى نفسه في قوله [كامل]:

كَــــانَ الــنَّـبِيُّ مَــــدِينَــةَ الْـــعِــلْـــــمِ الَّتِي
حَــوَتِ الْــكَمَــالَ وَكُنْتَ أَفْضَلَ بَابِ
رُدَّتْ عَلَيْكَ الشَّمْسُ وَهْيَ فَضِيلَةٌ
بَــهَــرَتْ فَــــلَــــمْ تُـسْـتَـتَــرْ بِـلَفِّ نِـقَــابِ

وفي البيتين من مبالغات الشيعة ما فيهما من استدعاء لأحاديث ينسبونها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث مكذوبة، منها ما يقوله البيت الأول من أن النبي صلى الله عليه وسلم مدينة العلم وعلي بابها، وهو حديث كما يقول ابن تيمية:"أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبيَّنَ أنه موضوع من سائر طرقه" وفي البيت الثاني موضوع رد الشمس لعلي بن أبي طالب، حيث يروي الروافض حديث رد الشمس لعلي بن أبي طالب على لسان أسماء بنت عميس، وهو حديث ـ كما يقول ابن الجوزي:"موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه" ففيه أحمد بن داود الذي أجمع المحدثون على ضعفه وكذبه ووضعه للحديث.

ويقول ابن مناذر في رثاء صديقه عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي [مجزوء الكامل]:

عَـجِـــــلَ الْــحِــمَــــــامُ بِـــهِ فَـــوَدَّ
وَأَحَــــثَّــــــهُ يَـــحْـــــــــــدُو بِـــــــــــــــهِ
يَـحْــــــــدُو بِـمُـقْــتَـبَـــلِ الشَّبَـــــــا
كُــسِــفَتْ لِــفَقْــدِكَ شَـمْـسُنَـا
عَــــنَـــــــــا وَآذَنَ بِـالـــرَّحِــــيــــــــــلِ
حَــادِي الْحِمَامِ مَعَ الأَصِيلِ
بِ أَغَــــرَّ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ
جَـــزَعًـــــــا وَهَــــمَّــتْ بِالأُفُــــولِ

فالشمس قد جزعتْ لموت المرثي الذي يبدو أن حاديه قد حث به السير إلى حتفه وقت الأصيل حيث غروب الشمس الموائم غروب الحياة، ومن ثمة فقد كسفت الشمس بسبب الجزع على الفقيد، بل إنها لم تقنع بالكسوف وحده، وإنما همَّتْ بالأفول.

وإذا كانت الشمس كاسفة أو ضعيفة أو متغيرة اللون بسبب وفاة المرثي في النماذج السابقة، فإن بعض الشعراء يوظف الشمس لتكون مشبَّهًا به للمرثي في استدعاء خالص للرؤية الجمالية، وما ينتجه استدعاء الشمس من دلالات، فعندما يقول المتنبي من رثاء لأم سيف الدولة [بسيط]:

فَلَيْتَ طَالِعَةَ الشَّمْسَيْنِ غَائِبَةٌ
وَلَيْتَ غَائِبَةَ الشَّمْسَينِ لَمْ تَغِبِ
وَلَيْتَ عَيْنَ الَّتِي آبَ النَّهارُ بِهَا
فِدَاءُ عَيْنِ الَّتِي زَالَتْ وَلَمْ تَؤُبِ

فإنه يتحدث عن شمسين أولاهما الشمس الطبيعية التي تغيب بالليل وتعود في النهار، وثانيتهما الشمس التي زالت بالموت ولم تعد وهي أم سيف الدولة الحمداني التي يتمنى أن تكون الشمس الأولى فداءها، لأن للناس في حياتها منافع كثيرة، ومن ثمة فالشمس هنا قد تم توظيفها من خلال الرؤية العلوية التي تعلو بالمرثية فوق أقدار البشر.

ولن نعدم في سياق الرثاء تداخل الرؤى في النص الشعري، فإننا نجد ابن الرومي يقول من مرثيته في بستان المغنية [منسرح]:

أحْــمِـيــكِ مِــنْ مَــوْرِدٍ قَــصَــــدْتِ لَــــهُ
يَا شَمْسَ زُهْرِ الشُّمُوسِ يَا قَمَرَ الْـ
أَبَــعْــــدَ مَـــــــا كُــنْــتِ بَـــــــابَ مُــبـْتَهَـــــجٍ
لاَ يــَنــْتــَهِـــي وِرْدُهُ إِلَى صَــــــــــــدَرِ
ـأَقْمَـــــارِ حُــسْنًـــا يَـا زَهْــرَةَ الزَّهَـــرِ
لِلنَّـفْــسِ أَصْـبَـحْــتِ بَابَ مُعْتَبَرِ

ويبدو أن للموت قصته مع ابن الرومي، فقد اخترم أبناءه كما اخترم الأحباب، وها هي بستان الجارية المغنية التي يصورها بأنها شمس زُهر الشموس لتجمع بين دلالات الإشراق والوضاءة والجمال الذي يستدعيه زهر الشموس وقمر الأقمار وزهرة الزهر ودلالة العُلُو التي يرفع فيها مكانة المرأة المرثية التي لا يتوانى عن حمايتها رغم سطوة الموت وقهريته التي لا يقف أمامها أحد، والتي لابد للمرء من الورود عليها. ويرثي عبد الله بن المعتز جاريةً له، فيقول [مجزوء الكامل]:

يَـا دَهْــرُ كَيْــفَ شَـقَـقْـتَ نَـفْسَـــا
وَتَــــرَكْــــتَ نِــصْــفًـــــــــا لِـــلأَسَــــــى
سَـــقْــيًـــــا لِـــــوَجْــــــــهِ حَـــــبِــيبــَـــــــــةٍ
عَــهْــــــــــدِي بِـــــــهِ وَكَــــأَنّـَـــــمَــــــــــــا
ثُــــــــمَّ انْـــطَــــلَـــــــقْــنَـــــــا مُسْــرِعِيـــــ

فَخَلَسْتَ مِنْهَا النِّصْفَ خَلْسَـا
جُــعِــــلَ الْـــــبَـــقَـــاءُ عَلَيْهِ نَحْسَا
أَوْدَعْـــتُـــــــهُ كَــفَـــنًـــــــا وَرَمْــسَـــــــــــــا
ذَرَّ عَــــلَــيْــــــهِ الْـــــحِــمَـــامُ وَرْسَــــــا
ـــــــينَ إِلَى الْــقُــبُـورِ نَزُفُّ شَمْسَا

حيث نلحظ أن الأبيات الأربعة الأولى كانت تمهيدًا، أو فاتحة للصورة الجمالية التي يقدمها للجارية في البيت الأخير، إذ جعل من هذه الجارية الفقيدة شمسًا تزينت بزينتها لتُزَفَّ إلى القبور، وتلك مفارقة صارخة بين ما يبعثه الزفاف من أجواء بهيجة وأفراح تليدة، وما تبوح به القبور من الحزن والكآبة، ولكن الشاعر إنما يرسم هذه الصورة، ليكشف عن جمال المرأة، وأن وفاتها وإن أصابته بالحزن إلا أنها أشاعت البهجة في القبور لمقدمها إليها. وقال ديك الجن في رثاء زوجته ورد [خفيف]:

قُلْ لِمَنْ كَانَ وَجْهُهُ كَضِيَاءِ الشَّمْـــ
ـــــسِ فِي حُـــسْــنِـــــهِ وَبَــــــدْرٍ مُــنِـيـــــــــــرِ
كُنْتَ زَيْــنَ الأَحْيَـاءِ إِذْ كُنْتَ فِيهِـمْ
ثُـــــمَّ قَــدْ صِـرْتَ زَيْــــنَ أَهْــــلِ الْقُبُــورِ

والصورة هنا كذلك تؤكد الرؤية الجمالية التي يبدو الشاعر معها وكأنه يتغزل فيها بعد موتها، وهو قد أكد الرؤية الجمالية بذكر حسن الوجه وهو الجامع المشترك بين وجه المرثية وضياء الشمس.

وعندما يرثي ابن الرومي محمدًا بن نصر، يجيء بما كان يؤمله منه راسمًا صورته الوضيئة قائلاً: [كامل]:

وَذَخَــــرْتُــــهُ لِلــــدَّهْــــــرِ أَعْـــــــلَــــــمُ أَنَّــــــهُ
كَالْحِصْنِ فِــــيــهِ لِــمَــنْ يَؤُولُ مَآلُ
وَتَــمَــتَّـعَــتْ نـَفــْسِي بِـــرَوْحِ رَجَــــائِــهِ
زَمَــــــنًــــا طَــــــوِيـــلاً وَالــتَّــــمَـتُّعُ مَـــالُ
فَــرَأَيْـــتُــهُ كَالشَّمْسِ إِنْ هِيَ لَمْ تُنَلْ
فَضِيَـــاؤُهَـــــا وَالــــرِّفْــــقُ فِــيـــهِ يُنَالُ

فقد كان هذا المرثي بالنسبة لابن الرومي ذُخْرًا ادخره لحوادث الدهر وكوارثه، لعلمه أن حصن لمن يلوذ به من تقلبات الدهر، وكان رجاؤه متعة ومالاً لم يفرط فيهما، ولاشك أن ذلك كله كان دافًا لتلك الصورة الجمالية التي رسمها للمرثي وهي تشبيهه بالشمس ـ رأيته كالشمس ـ ولك أن تعد الرؤية هنا عقلية، فيسد الجارُّ والمجرور ـ كالشمس ـ مسد المفعول الثاني، ولك أن تعدها بصرية، فيكون الجارُّ والمجرور في موضع الحال، وذلك أقرب لبنية التعليل والسببية التي ينتجها المصراع الثاني للبيت الأخير، ومن ثمة تكون الصورة جمالية في الإشراق والوضاءة، وتكون الرؤية علوية عُلُوَّ الشمس وضيائها.

ويقول أبو الحسن التهامي في رثاء ولده أبي الفضل [طويل]:

أَبَا الْفَضْلِ طَالَ اللَّيْلُ أَمْ خَانَنِي صَبْرِي
فَخُيِّلَ لِي أَنْ الْكَوَاكِبَ لاَ تَسْرِي
أَرَى الرَّمْلَةَ الْبَيْضَاءَ بَعْدَكَ أَظْلَمَتْ
فَدَهْرِيَ لَيْلٌ لَيْسَ يُفْضِي إِلَى فَجْرِ
وَمَا ذَاكَ إِلاَّ أَنَّ فِيهَا وَدِيعَةً
أَبَى رَبُّهَا أَنْ تُسْتَرَدَّ إِلَى الْحَشْرِ
رُزِيتُ بِمِلْءِ الْعَيْنِ يُحْسَبُ كَوْكَبًا
تَوَلَّدَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَدْرِ

لقد جمع الشاعر في نظرته لولده الميت بين الرؤية الجمالية التي يرفدها ضياء الوجه الذي كان ينير الرملة البيضاء بوضاءته، فلما مات أظلمت، وكأن ليله قد صار سرمديًّا لا فجر بعده، لأن الضياء الذي كان يؤذن بالفجر قد خفي بالموت خفاءًا أبديًّا بأمر الله تعالى إلى يوم الحشر، ثم نلمح الرية العلوية التي يشبه فيها ولده الفقيد بالكوكب، وليس أي كوكب، وإنما هو كوكب متولد بين هذه الأجرام السماوية: الشمس والقمر والبدر.

وربما كان الجمع بين الشمس والقمر والبدر في البيت الأخير إثقالاً للصورة، وحشوًا استدعاه الوزن وجلبته القافية، وهذا أمر لا مراء فيه، فالصورة بالفعل من الثقل والرتابة بحيث يستشعرها منشد البيت في ذلك البطء الإيقاعي، بيد أنه ثقل دال على عظم الفجيعة ذلك العِظم الذي يناسبه العلوُّ المكاني للكوكب والشمس والقمر، وكأن ابنه الفقيد قد تولد بين هذه الأجرام السماوية الثلاثة كما ورد في البيت الأخير. ويقول البحتري في رثاء محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي [طويل]:

مُصَابٌ كَأَنَّ الْجَوَّ يُعْنَى بِبَعْضِهِ
فَمَا يَنْجَلِي فِي نَاظِرِ الْعَيْنِ قَائِمُهْ
وَثُكْلٌ لَوَ انَّ الشَّمْسَ تُمْنَى بِحَرِّهِ
لأَحرقها فِي جَانِبِ الأُفْقِ جَاحِمُهْ

تتجلى في البيتين الرؤية العلوية التي يقدمها الشاعر للمرثي إذ يعلو بمصابه فيه في الجو، ويوظف أسلوب الشرط، ليكشف عن هول المصاب وعِظَم الثكل الذي لا تتحمله الشمس بقوتها وضخامتها، ومن ثمة تبدو الشمس مأزومة بالضآلة أمام عِظَم المصاب، ومن ثمة جاء استدعاء الشمس في هذا السياق للدلالة على عُلُوِّ مكانة المرثي.

وعندما يرثي الشريف الرضي الإمام الحسين بن علي وأباه عليًّا رضي الله عنهما، يقوم باستدعاء كل ما لهما من الخلال الطيبة والمناقب الكريمة، وكأنما يمدحهما، لأنه يخاطبهما خطاب الأحياء، ثم يقول في ختام القصيدة [كامل]:

أَاَقُــــــولُ: جَـــــــــــادَكُــــــمُ الـــــرَّبِيعُ وَأَنْتُمُ
فِي كُـــــــــلِّ مَـــــنْــــــــــزِلَةٍ رَبِـــيـــــعُ بِلاَدِهَــا
أَمْ أَسْــتَـــــزِيدُ لَــكُمْ عُـــــلاً بِــمَــــدَائِــــحِي
أَيْـــــنَ الْـــجِــبَـــــالُ مِــــنَ الرُّبَى وَوِهَــادِهَا
كَيْفَ الثَّنَاءُ عَــلَى النُّجُومِ إِذَا سَمَتْ
فَـــــوْقَ الْــــعُـــــيُــــــونِ إِلَى مَــدَى أَبْعَادِهَا
أَغـْــــنَـى طُـلُوعُ الشَّمْسِ عَنْ أَوْصَافِهَا
بِـــــجَــــــــلاَلِــــهَـــــــا وَضِــيَـائِــهَـــا وَبـِعَــادِهَـــا

وهو بهذا يقدم رؤيته العلوية التي يسمو بها بالمرثي وأهله الذين هم ربيع البلاد كلها، والربيع ـ المشبَّه به ـ في البيت الأول يستدعي كل معاني الجمال وسعة الرزق والخير والنماء، والشاعر بمدائحه فيهم ـ مراثيه ـ لا يجلب لهم العلا أو يحقق لهم الشرف، لأن الفرق بينهم وبين مدائحه كالفرق بين الجبال والرُّبى والوهاد، مما يعني تشبيههم بالجبال، ثم يشبههم بالنجوم السامية البعيدة التي تتجاوز قدرة الواصفين على الوصف، ثم نجد هذا التشبيه المضمن في البيت الأخير، ذلك أن جلال الشمس وضياءها وبعدها يُغْني عن الغوص وراء أوصافها والمراد أن المرثي وأهله كالشمس يُغني وجودها عن أوصافها.

ويقول ابن الشبل من مرثية له [طويل]:

أَصَـابَـكَ ظُـفْـرُ الـدَّهْــرِ يَـا نُــورَ عَـيْـنِـهْ
فَشُلَّتْ يَـــدٌ بِـالـظُّـفْـرِ لِلْعَيْنِ تُقْلَــعُ
وَمَا كُنْتَ إِلاَّ الشَّمْسَ عَمَّ طُلُوعُهَا
وَفَاجَأَهَا الإِمْسَاءُ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ
فَــمَـــــا أَظْــلَـــمَ الأَيَّــــامَ وَالصُّبْحُ نَيِّرٌ
وَأَكْثَرَ أَهْلَ الأَرْضِ وَالأَرْضُ بَلْقَعُ

فهو يقدم للمرثي صورة جامعة بين دلالتَيْ الجمال والعلوّ وذلك ما يبدو في وصفه بأنه نور عين الدهر، والنور وصف جامع بين الجمال والجلال، ثم يشبهه بالشمس دون واسطة تشبيهية مما يعني أنه كأنه الشمس عينها، ولكن الحسرة تعلوه ـ الشاعر ـ كما تعلو الشمس ذاتها، إذ يفجؤها المساء بظلمته، فيذهب بنورها رغم انتشار طلوعها، وفي ضلك إشارة إلى عِظَم مكانة المرثي وعُلُوِّها الذي برغمه يتخطفه الموت ويسحب نور وجهه مثلما يغطي المساء على نور الشمس.

الفخر:

في هذا الفن الشعري تتحول النظرة الشعرية للشاعر عن الآخر، لتتجه نحو الذات الجماعية والفردية التي تشير إلى النرجسية الخالصة التي تُهمش الآخر، أو على أقل تقدير تساويه أو تحاذيه، ومن ثمة كان الفخر في التراث العربي كالمدح، بيد أن الشاعر يخص به نفسه وقومه، وكل ما حسُن في المدح حسن في الافتخار، وكل ما قبُح فيه قبُح في الافتخار" ومن ثمة كان شعر الفخر شأنه شأن شعر المدح مما ينتمي إلى الرؤية العلوية التي يُحلُّها الشاعر للآخر، فالفخر"جارٍ مجرى المديح ولا يكاد يكون بينهما فرق إلا أن الافتخار مدح يعيده المتكلم على نفسه أو قبيلته، وأن المادح يجوز له أن يصف ممدوحه بالحُسْن والجمال، ولا يسوغ للمفتخر أن يصف نفسه بذلك"() في العرف النقدي أو القيمي المرتبط بالجانب الأخلاقي والقيم التي ينبغي أن يتوفر عليها الشعراء، يقول أبو هلال العسكري عن الفخر: هو"مدحك نفسك بالطهارة والعفاف والحِلم والعلم والحسب وما يجري مجرى ذلك".

بيد أن الشعراء ـ أو كثير منهم ـ تسيطر عليهم النرجسية أو النزعة الذاتية التي تُعلي من شأن ذواتهم، وتُشعرهم بالميزة من أغيارهم، فيبدون في صورة متعالية يجسدها أسلوبيًّا غلبة ضمير الأنا الفردية التي تناظر الممدوحين وتتساوى معهم أو تبزهم بما تظهره من الصفات الخاصة، كالذي نراه من قول ابن الرومي عن نفسه في سياق الفخر الذاتي [بسيط]:

كَـــلِّـــــمْ رَئِــيسِي كَــلاَمًــــا فِي تَعَطُّفِهِ
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَـا اسْتُعْطِفُوا عَطَفُــوا
وَلَــيْــسَ دَهْـــــرِي إِلاَّ أَنْ يُـــتَـــــــارِكَنِي
بِــحَــيْــثُ لاَ جَـــفْــوَةٌ مِــنْــهُ وَلاَ لَــطَـفُ
لاَ رَغْــبَـــةً عَــنْ مُطِيفٍ بِالْمُطِيفِ بِهِ
لَــكِــنَّ نَــفْسِي شَـمُوسٌ حِينَ تُعْتَنَفُ

فإننا نلحظ الغلبة الحضورية للذات المتكلمة / الياء في: رئيسي – دهري – يتاركني – نفسي، وكذلك الضمير الغائب في قوله: تُعتنف، لعودته على الذات المتكلمة، كما نلحظ توظيفه واحدة من الدلالات اللغوية للجذر الثلاثي /شمس وهي دلالة الإباء والامتناع والنفور من الآخر خاصة عندما تتعرض للتعنيف والعتاب منه، وهي دلالة كما نرى بعيدة من تلك الصفات التي رأيناها عند أبي هلال العسكري للمفتخر فخرًا ذاتيًّا. ويقول أيضًا [كامل]:

وَلَـــقَــــدْ أُدِيـــــــرُ عُــيُـــونَــهُــــنَّ كَـأَنَّـــنِي
شَمْسٌ تُدِيرُ ضُحًى عُيُونَ النَّرْجِسِ

فهو يشبه نفسه هنا بالشمس تشبيهًا يجمع بين القيمة الجمالية والقيمة العلوية الماثلة في أثر الشمس على النرجس، وقدرته على إدارة عيونهن، ومنه قول أحمد بن أبي فنن مفتخرًا بقصائده [طويل]:

تَـــذِلُّ إِذَا مَـــا رُضْــتُــهَــا لِي صِعَابُهَا
وَتَأْبَى عَــلَى غَيْرِي إِذَا مَــا يُرِيدُهَـــا
تَسِيرُ مَسِيرَ الشَّمْسِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا
وَيَــحْــلُـو بِـأَفْــوَاهِ الرِّجَــالِ نَشِيدُهَـــا

حيث يقدم بين يدي فخره الذاتي بشهرة أشعاره ما يدل على امتلاكه ناصيتها، فالقوافي الصعبة على غيره ريِّضةٌ ذلول سهلة على لسانه عندما يقولها تبلغ من الشهرة والذيوع مسير الشمس في شرقها وغربها، وليس ذلك فحسب وإنما يستعذب الرجال ترديدها، لأنها تحلو على أفواههم.

وعندما يمدح أبو تمام ابنَ الهيثم، لا ينسى نفسه وإنما يستحضرها في صورة الافتخار بشعره فيقول [طويل]:

وَمِثْــلِكَ قَـــدْ خَــوَّلْــتُــهُ الْـمَـــدْحَ جَـــازِيًــــا
وَإِنْ كُــنْـتَ لاَ مِـــثْـــــلٌ لَــــدَيْــكَ وَلاَ نِـــــــــدُّ
نَظَمْتُ لَهُ عِقْدًا مِنَ الشِّعْرِ تَنْضَبُ الْـ
ــــبِحَــارُ وَمَـــــا دَانَـــــاهُ مِــنْ حَــلْـيِـهَـــا عِـقْـــدُ
تَـسِيــرُ مَـــسِـــيرَ الــشَّـــمْـسِ مُـطَّـــرَفَـاتُـهَـــا
وَمَــا الـسَّيْرُ مِـنْـهَــا لاَ الْعَنِيقُ وَلاَ الْـوَخْــدُ
تَــــرُوحُ وَتَــغْـــــدُو بَـــلْ يُـــرَاحُ وَيُـــغْــتَـــدَى
بِــهَـــا وَهْـــيَ حَــيْــرَى لاَ تَــرُوحُ وَلاَ تَــغْــدُو

إن صورة اعتداد الشاعر وفخره بنفسه وبشعره في هذه الأبيات، وما قبلها إنما هي صورة من الصور الموروثة منذ العصر الجاهلي وأبو تمام في هذه الأبيات يوجه حديثه إلى ممدوحه، ليقف قبالته وقفة الند إلى الند، فإذا كان الممدوح قد كافأه بالمال والعطاء، فإن الشاعر قد كافأه بتخليد ذكره بهذه القصائد التي يُتمثل بها ـ مطرفاتها ـ وتنتشر انتشار الشمس التي تشمل كل شيءٍ، وكل شيء في حاجة إليها، وكذا قصائده الكل في حاجة إليها، لأنها ثابتة في مكانها ويغدو إليها المتلقون ويروحون.

ويقول أبو العتاهية في الفخر بقصائده [بسيط]:

فِي كُــلِّ أَرْضٍ تَــرَى مِـنْ مَنْطِقِي أَثَـــرًا
بَيْنَ الْـمَـشَــاهِـــدِ أَوْ يَـــبْــكِي بِــــهِ وَتَــــــــــرُ
مَـــا ذَرَّتِ الـشَّــمْسُ إِلاَّ جَاءَ يَقْدُمُهَا
وَفِي الْــمَــغَــــارِبِ مِــنْـــهُ خَـلْـفَـهَــا أَثَــــــرُ

فهو يفخر بما يتركه شعره ـ منطقي ـ من أثر في كل مكان وكل مشهد، وكل مجتمع غناء ـ يبكي به وتر ـ وجمعه في البيت الثاني بين: ذرّت الشمس والمغارب مطابقة منتجة للشمول والعموم، والمراد أن منطقه أو شعره يجوب البلاد كلها: شرقها وغربها، فهو يترك في الأماكن كله الأثر الواضح، وفي قوله ذرت الشمس ـ إلى جانب ما سبق ـ ما يستدعي تقدمه على غيره، لأن ذرور الشمس هو أول طلوعها، ومن ثمة فإن استدعاء دالة الشمس هنا إنما هو استدعاء للزمان والمكان معًا، وعليه تكون دلالة الشمول لهما جميعًا.

وعندما يفتخر أبو فراس الحمداني، نراه في رائيته المطولة يستدعي الفخر بقومه وإعلاء شأنهم ومكانتهم التي لا يُدانيها غيرهم، ويختمها بفخر ذاتي يقول فيه [طويل]:

يَـــسُـــرُّ صَـــدِيـــقِـي أَنَّ أَكْــثَـــــرَ وَاصِــــفِـــي
عَدُوِّي وَإِنْ سَاءَتْهُ تِلْكَ الْمَفَـاخِـــــرُ
وَهَـلْ تُجْحَـدُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ ضَـوْءَهَا
وَيُــسْـتَــرُ نُـــورُ الْـبَــدْرِ وَالْـبَـدْرُ زَاهِـــــرُ
نَـــطَـقْـتُ بِـفَضْـلِي وَامْـتَـدَحْــتُ عَشِيرَتِي
وَمَـــا أَنَــــا مَــــدَّاحٌ وَلاَ أَنَــــا شَـــــاعِـــــــرُ

حيث نلحظ غلبة الضمائر الذاتية النامة على تلك النرجسية الواضحة في الاعتداد بالذات وإلقاء اللوم على الآخر ـ الصديق الذي تسوؤه مفاخره ـ والعدو الذي لا يأبه له، وفي البيت الثاني نجد توظيف دالة الشمس في الدلالة على الشهرة والوضاءة والجمال والأثر الواضح في الآخر، والشمس في التحليل الأخير صورة للشاعر المفتخر بذاته.

ومن أجل ما في هذا الفخر من ذاتية الأنا وجماعية الـنحن ارتكز الخطاب فيه على"التغني بالفضائل والمُثُل العُليا والتباهي بالسجايا النفسية، والصفات القومية، والزهو بالفِعال الطيبة" التي قد تكون للجماعة، وقد تكون للفرد الذي إذا لهج بذكرها كان ذلك من باب الذاتية المطلقة التي لا تكون إلا للشاعر وحده دون غيره من الناس.

ويقول ابن الشبل البغدادي مفتخرًا بنفسه [وافر]:

وَذِي بُغْضٍ إِذَا مَا ذَمَّ فَضْلِي
أُقَابِلُ نُطْقَهُ بِالْهَجْرِ صَمْتًا
فَلاَ تَعْجَبْ إِذَا الْخَصْمَانِ حَادَا
فَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الشَّمْسُ تُبْلَى
تُكَذِّبُهُ الْمَسَامِعُ وَالْعُيُونُ
أُعِزُّ بِهِ لَدَى الْوَرَى وَبِهِ يَهُونُ
وَأَشْهَرُهُمْ بِأَرْذَلِهِمْ غَبِينُ
بِكَسْفِ الْبَدْرِ أَقْبَحُ مَا تَكُونُ

إنها رؤية علوية خالصة يقدمها الشاعر المفتخر بنفسه عن التعالي على من يذم فضله ممن لا قيمة له ولا وزن، حيث لا يقبل المتلقون افتراءه عليه وذمه الذي يقابله بالصمت، وكفى بالصمت بلاغة في الرد على المفترين، ثم نراه يختم هذه الفخرية الذاتية بالحكمة التي تشير إلى أن حُسن الشمس يقارن بكسوف البدر وعندها يبرز الضد حُن الضد أو قبحه، وفي البنية العميقة للبيت الأخير نستشف دلالة الشمس على الشاعر الصامت قبالة ذم الذامين الشامتين.

وأبو العلاء شأنه شأن غيره من الشعراء تغنى مفتخرًا غناءً ذاتيًّا خالصًا من مثل قوله مُوَبخًا حاقديه [طويل]:

وَقَدْ سَارَ ذِكْرِي فِي الْبِلاَدِ فَمَنْ لَهُمْ
بِإِخْـفَـــاءِ شَــمْــسٍ ضَـوْؤُهَــــــا مُـتَـكَــامِـــــــلُ

حيث نراه يجمع في بيته بين بنيتيْ الخبر التقريري المؤكد بدالة التوكيد والتحقيق قد، وبنية الاستفهام الحاملة لدلالة النفي والإنكار على هؤلاء الحاقدين أن يُخفوا ضوء الشمس المتكامل، ويمكن أن نلحظ في بنيته العميقة صورة تشبيهية تنصرف إلى تشبيه شهرته الساطعة بضوء الشمس، وكلاهما مما لا يمكن إخفاؤه، ولعله بدلالته تلك يتناصّ مع قول الأحوص [كامل]:

إِنِّي إِذَا خَـــفِيَ اللِّئَـــــامُ رَأَيْتَنِي
كَالشَّمْسِ لاَ تَخْفَى بِكُلِّ مَكَـانِ

ورغم اختلاف دالة اللئام في المصادر القديمة بين الكرام والرجال والجناة إلا أن دلالة المعري على الشهرة والذيوع من جودة الصياغة وجمال التركيب ما يخفف من وطأة تقليده للسابقين، على أنه قد يكون متناصًّا مع قول بشار [بسيط]:

أَنَا الْمُــرَعَّــــثُ لاَ أَخْـــفَى عَـــلَى أَحَـــــدٍ
ذَرَّتْ بِـيَ الشَّـمْسُ لِلْقَـاصِي وَلِلدَّانِي

وفي الدلالة نفسها يقول المعري [وافر]:

وَكَــمْ مِــنْ طَـالِبٍ أَمَدِي سَيَلْقَى
دُوَيْنَ مَــكَانِيَ السَّبْعَ الشِّـــــدَادَا
يُؤَجِّجُ فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ نَــــارًا
وَيَقْــــــــدَحُ فِي تَـــــلَهُّبِـــهَـــا زِنَــــادَا

حيث يبدي الذاتية أو النرجسية المانعة من دخول الغير في مجال الدلالة، يصف الحاقد عليه بالحمق من خلال الصورة التشبيهية التي يعمد فيها إلى انتفاء أي ذِكْرٍ مع ذكره، أو فضلٍ مع فضله، وأن الذي يقدح في ذكره وفضله كالذي يوقد نارًا في شعاع الشمس، فالنار لا ضوء لها مع وجود الشمس، ومن يفعل ذلك يكون من الحمق بحيث يناسبه ما جاء في المثل:"أضيع من سراج في شمس" وبذلك لا يفخر المعري بشهرته وفضله فحسب، وإنما يجعل الحاقدين دونه فضلًا ومكانةً وعقلًا.

ويقول ابن الرومي في المدح والفخر [كامل]:

يَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى عَدُوِّهِمْ
مَنْ لاَ يَرَى شَمْسِي إِذَا طَلَعَتْ
مَا أَنْتَ مِنْ جِدِّ وَلا هَزْلِي
فَقَدْ اسْتَقَادَ عَمَاهُ لِي تُبْلِي

وهو هنا يجعل من نفسه ندًّا لهذا الذي يميل إلى عداوة ممدوحيه وهم بنو العباس ـ كما قال في صدر القصيدة ـ والندية هنا ماثلة في السخر والهزء به، بل إنه لا يأبه به، فليس من جِدِّه ولا هزله، ويعمم الندية ويجعلها لكل من لا يرى شمسه، والشمس هنا قد نأخذها على معنى القوة والشراسة من الشِّماس على نحو ما مر من الدلالة اللغوية، وقد تنصرف إلى الشهرة والذيوع، بحيث يكون من لا يعرفه أو لا ينتبه إليه كالأعمى الذي استحق عداوته ـ تبلي ـ وفي كل فإن الفخر هنا ذاتي يبرز من نبرة الخطاب السائدة في البيتين، وكذلك في بروز ياء التكلم أربع مراتٍ في البيتين.

ويقول الشريف المرتضى مفتخرًا بأفعاله وأشعاره [كامل]:

فَلَئِنْ فُقِدْتُ فَإِنَّ لِي كَلِمًا
تَفْرِي الْبِلاَدَ وَمَا يُحَسُّ بِهَا
مِنْ كُلِّ قَافِيَةٍ مُرَقِّصَةٍ
وَإِذَا تَضَوَّعَ نَشْرُ نَفْحَتِهَا
طَلَعَتْ كَشَمْسِ ضُحًى عَلَى أُفُقٍ
حَتْمًا خَوَالِدَ مَا لَهَا فَقْدُ
عَنَقٌ عَلَى دَوٍّ وَلاَ وَخْدُ
يَشْدُو بِهَا الْغِرِّيدُ إِنْ يَشْدُو
قَالَ الْعَرَارُ: تَضَوَّعَ الرَّنْدُ
بَيْضَاءَ لاَ يَسْطِيعُهَا الْجَحْدُ

إن المرء يفنى وتبقى أفعاله دالة عليه، وتلك كلماته تبقى خالدة جائبة الأرجاء دون أن يحثها أحد على السير والانتقال، ويفخر بأشعاره ـ كل قافية ـ المرقصة تشدو بها الطيور حينما تشدو ويفوح بشدوها عبير تلك القصائد مع فوحان رائحة العرار والرند، لأن أشعاره تظهر كشمس الضحى بيضاء غضة لم يستطعها لسان، ولا يصلها الجحود والإنكار.

وفي استدعاء شمس الضحى مشبَّهًا به للقوافي إشارة إلى عُلُو مكانة هذه القصائد، وجمالها الذي يحلق في الآفاق العُلى من الإبداع، ووصفها بالبياض يستدعي البكارة والجدة، وأن أحدًا لم يستطع مجاراتها أو مشابهتها، وعدم الجحد فيه إشارة إلى شهرتها التي لا تخفى على أحد.

وعندما تتراجع ذاتية الأنا أمام جماعية النحن، تتسع مساحة التغني بالمكارم والمآثر والأخلاق والقيم الإنسانية والفضائل والأمجاد القبلية أو القومية تلك التي يبرز من بينها الفخر بالأنساب والأحساب كالذي نجده في قول البحتري [طويل]:

لَنَا حَسَبٌ لَوْ كَانَ لِلشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ
وَلِلْبَدْرِ مَا اسْتَوْلَى الْمُحَاقُ عَلَى الْبَدْرِ
فَأَبْخَلُنَا بِالْمَالِ نِدٌّ لِحَاتِمٍ
وَأَجْبَنُنَا فِي الرَّوْعِ أَشْجَعُ مِنْ عَمْرِو

فإننا نلحظ النزعة الجمعية التي تشير إلى اختفاء الذات الفردية وبروز الذات الجمعية ـ نحن ـ في: لنا – أبخلنا – أجبننا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى مواءمة المبالغة الأسلوبية لضخامة الذات الجمعية التي يلازمها الحسب الرفيع، فلا يغيب عنها، وتحسدهم الشمس عليه، إذ تتمنى ألاَّ تغيب، ولو كان لها مثل حسبهم لم تغب، وكذلك لم يغب ضوء القمر ـ المحاق ـ ومن ثمة فقد بلغ حسبهم مرتبة أعلى وأنور من الشمس والقمر، وفضلهما في كونه لا يصيبه الغياب الذي يلحق الشمس والقمر.

ويقول ابن الرومي في الفخر بآبائه وقومه [طويل]:

نَزَعْنَا إِلَى آبَائِنَا فِي إِبَائِهِمْ
وَهَلْ تُشْبِهُ الْعِيدَانُ إِلاَّ عُرُوقَهَا
سَنَتْرُكُ مَا سَاءَ الْعِدَا مِنْ فِعَالِنَا
إِذَا تَرَكَتْ شَمْسُ النَّهَارِ شُرُوقَهَا

إن النزوع إلى الآباء يعني الفخر بهم وحب الانتماء إليهم، وهي حقيقة يعطيها الشاعر العموم والشمول عندما يشفعها بالحكمة المؤدية معناها نفسه من خلال الاستفهام التقريري الذي ذيّل به البيت الأول: إن العيدان لا تشبه إلا عروقها التي انطلقت منها أو خرجت منها، وهكذا الأبناء يشبهون آباءهم، لأنهم العروق التي خرجوا منها، ويأتي البيت الثاني ليجسد نبرة الفخر المشفوعة بالتمسك بالفعال التي تسوء أعداءهم، إنهم لن يتركوا تلك الفعال مثلما أن الشمس لا تترك شروقَها.

ومن الفخر الذي يتداخل فيه الفردي الذاتي والجماعي قول الشريف الرضي [متقارب]:

وَخَرْقٍ تَدَافَعُهُ الْمُقْرَبَا
تَجَلَّلْتُ فِيهِ رِدَاءَ الظَّلاَمِ
عَلَى كُلِّ خَطَّارَةٍ لَمْ تَزَلْ
خَرَقْنَا مَعَ الشَّمْسِ تِلْكَ الْفَلاَةَ
تُ خَوْفًا وَتَنْفِرُ مِنْهُ الرُّسُمْ
وَسِرْتُ وَحَاشِيَتَاهُ الْهِمَمْ
تُجَاذِبُنَا السَّيْرَ حَتَّى انْفَصَمْ
وَجُبْنَا مَعَ اللَّيْلِ تِلْكَ الأُكَمْ

وتتجلى ذاتية الفخر أو فرديته في بروز ضمير الذات المتكلمة الناسبة الحدث إليها وحدها دون غيرها، وذلك في: تجللتُ، سرتُ، وكلاهما يشير إلى الشجاعة المطلقة في التجلل برداء الظلام المتبوع بالسير فيه مصحوبًا بالخفة والنشاط الدال على شجاعة مصحوبة بوسيلة نقل معينة على الشجاعة والقوة والنشاط، وهي تلك الناقة النشيطة ـ الخطارة ـ التي تجاذبه وتبادله السير حتى انتهي مما يشير إلى إنجاز المهمة وهي اجتياب تلك الفلاة المخوفة في جُنح الظلام، هو وصحبه، ومن ثم تبرز الذات الجماعية عندما يستدعي دالة الشمس مسبوقة بفعل الخرق المنسوب إلى الجماعة نا ومسبوقة بدالة المصاحبة مع لتقفنا هاتان الدالتان أمام الدلالة: أنهم اجتابوا الفلاة وقد أشرقت الشمس، فكانت مصاحبة لاجتيابهم الفلاة بالنهار وقد ظهر جلدهم وشدة تحملهم البارزة في اصطلائهم حرَّ الهجير، واستمر جوبهم الفلاة إلى الليل غير عابئين بتلك الأكم وما يمكن أن تخفيه من أخطار.

وعندما افتخر ابن المعتز العباسي بقومه بني العباس، أجابه القاضي التنوخي بقصيدة افتخر فيها بالعلويين، وقال منها [طويل]:

وَقُــــلْتَ: بَـــنُـو حَرْبٍ كَسَوكُمْ عَمَائِمًا
مِـنَ الضَّرْبِ فِي الْهَـامَـاتِ حُـمْرَ الذَّوَائِبِ
صَــدَقْتَ، مَـنَــايَــانَــا الـسُّيُـوفُ وَإِنَّــمَــــا
تَـمُـوتُــونَ فَــــوْقَ الْـفَــرْشِ مَــوْتَ الْـــكَـوَاعِبِ
وَنَــحْـــنُ الأُلَى لاَ يَــسْـــرَحُ الــذَّمَّ بَــيْــنَـنَا
وَلاَ تَـــــــــدَّرِي أَعْـــــــرَاضُــنَــــــــا بِـالْــمَــعَــــايِبِ
إِذَا مَـــــا انْـــتَــدَوْا كَانُوا شُمُوسَ نَدِيِّهِمْ
وَإِنْ رَكِــبُـــــــوا كَــــانُـــــوا بُــــــدُورَ الـــرَّكَــــائِبِ

إن الأبيات الأربعة تقدم صورة من صور المنافرة الواقعة بين الرجلين: ابن المعتز العباسي، والقاضي التنوخي، حيث يفخر كل من الرجلين على صاحبه فيقوم الآخر بنقض ما قاله صاحبه، وهذا ما نجده في أبيات القاضي التنوخي السابقة، حيث نلحظ الإشارة إلى الرجل الآخر وهو ابن المعتز العباسي كما جاء في المصاحبة السردية لتلك الأبيات، وكذلك في ضمير الخطاب الذي يوجهه القاضي إلى محدثه الذي يتهم العلويين في البيت الأول بأنهم استكانوا للأمويين ـ بنو حرب ـ الذين أذلوهم وكانوا يضربونهم على رءوسهم، حتى سال الدم منها، فكانت الدماء فوقها أشبه بالعمائم الحمراء، فيرد عليه القاضي مصدقًا ما قاله، ثم أتى بما يناقض قوله الدال على الخضوع والاستكانة، ومميزًا بينهما، فإن منايا العلويين هي أرض المعارك يموتون فيها ميتة الشجاعة والشرف أما العباسيين، فإنهم يموتون على فُرُشهم كما تموت النساء، ثم يفخر بطهارة الأصل وبُعد أعراضهم عن المعايب، ويختم هذه المنافرة باستدعاء الشمس والقمر مشبهًا به للعلويين في حلّهم يشبهون الشمس، وإذا ارتحلوا راكبين كانوا الأقمار والبدور لتلك الركائب. ويقول منصور النمري مفتخرًا ببيته وأهله [متقارب]:

وَبَيْتٍ كَمِثْلِ جَنَاحِ الْعُقَابِ
جَمَعْنَا السُّيُوفَ بِأَغْمَادِهَا
يَجُولُ كَجَوْلِ فِلاَءِ الرَّبِيطِ
جَعَلْنَاهُ لِلشَّمْسِ عَنَّـــا سِدَادَا
عِمَادًا لَهُ إِذَا عَدِمْنَا الْعِمَادَا
تَرُودُ مَعَ الْخَيْلِ يَوْمًا رِيَادَا

فقد جعل البيت في عزه وعلو شرفه سَدّا للشمس فلا تصل إليهم، وفي ذلك ما فيه من الدلالة على العُلُوِّ والعزة والشرف، وكذلك جعل الشاعر من السيوف أعمدة يقوم عليها البيت إذا لم يجد هو وأهله عمادًا له وفي ذلك دلالة على القوة والشجاعة وهو بيت ذو حيوية ونشاط كأنه المهر يجول مع الخيل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى