الجمعة ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٧
قراءة في شذرات
بقلم محمد شداد الحراق

الكاتب الإعلامي عبد العزيز كوكاس

تقديم

يصرّ الأستاذ كوكاس على السير خارج فضاء المعتاد، ويستلذ كثيرا ركوب المغامرة والمشي المستمر فوق صراط التجريب والخوض في نطاق المختلف فيه ومعاكسة مجرى التيار ومعانقة الاستثناء. يجد متعته الإبداعية في الانفلات من كل جاذبية، وفي التخلص من مغناطيس النمطية، وفي الهروب من النسق والنظام، وفي هتك حرمة النموذج الجاهز، وفي افتضاض بكارة الجديد، وفي اقتحام أسوار كل ظاهرة فنية ترفع شعار الثورة على المألوف، وتدعو إلى تكسير المسلمات والمشاغبة في حمى اليقينيات، وتتيح إمكانية السفر بحرية خارج الحدود المرسومة والغوص في كل بحر لجّيّ بدون إذن مسبق أو بدون انتظار رخصة للغوص. عوّدنا الأستاذ كوكاس في كتاباته أن يأسر قارئه ويلقي به في دهاليز الإثارة وفي سراديب المتعة، فلا يخرج منها إلا وقد امتلأ أسئلة ولذة ورغبة في العودة من جديد لاقتناص المزيد. حينما تقرأ كتابات الأستاذ كوكاس تجرفك سيول الفضول نحوها بقوة، وتدعوك هواجس البحث والكشف والوصف لامتطاء صهوة القراءة العميقة التي تتسلل عبر الفجوات، وتكسر نظام التراكيب النحوية البسيطة والقوانين اللغوية الموروثة، وتعْبُر نحو ضفة المسكوت عنه الذي ظل متواريا تحت ظلال الكلمات المخطوطة وفي ثنايا العبارات المرصوفة. أدب كوكاس يحتاج ذاك القارئ العميق أيضا الذي لا يكتفي بالسطح، ولا يقنع دون التقاط الأسرار المنتقبة خلف جدار الاستعارات وفي كواليس الانزياحات، ولا يمل من قطف أزهار الأفكار الثائرة المتمنعة التي تأبى الخضوع بسهولة في يد من يلمسها بحنو. كتاباته لوحات فنية جريئة تمتلك سلطة خارقة لجمع كل القطع الممكنة وتوظيفها ببراعة الفنان المقتدر الأنيق لصناعة جمال الكلمة وتحقيق سحر التعبير لحظة الإبداع وخلق المتعة الفنية ولذة القراءة لحظة التلقي.

كوكاس كاتب يسعى بجرأة واقتدار إلى هدم كل الحدود القائمة بين الصحافة والأدب، ويعمل بجد على خلق اللُّحمة الفنية بينهما. فلا يكف عن مد الجسور وتمهيد السبل لتجتاح سيول الأدبية حمى الكتابة الصحفية. وبفضل تلك الجهود جعل القلم الصحفي يخضع لمراودة سلطان الأدب ولإغواء الذائقة الأدبية. فأصبح الحس الأدبي والهاجس الصحفي يتحمل أحدهما الآخر في تناغم تام، بل يصلان في كثير من الأحيان إلى درجة الحلول الصوفي. وبهذه الخصوصية نقش كوكاس اسمه في عالم الكتابة، وهي ميزة فريدة يتعذر اليوم إيجاد نماذج كثيرة منها فيما يقرؤه الناس. فالذوق الأدبي يسكنه في كل لحظة، ويرافقه في كل حين، ويستوطن خلايا ما يكتب. في مقالاته الصحفية لا يضحي بالأدب لصالح الحدث، ولا يؤجل الجمال من أجل الخبر، ولا يكتفي بالفائدة على حساب المتعة. فالإقناع والإمتاع توأم سيامي في مشروعه، ملتصق أحدهما بالآخر، يصعب الفصل بينهما.

في كتاباته يستفز قارئه بأسئلة كبرى، ويفتح شهيته على المشاركة في صناعة المعنى وفي البحث عن الإجابات، لأنه لا يستخف بعقل القارئ، ولا يحتقر ذكاءه، بل يحترمه ويقدر دوره ويدعوه بطريقة ضمنية إلى التعالي إلى مستوى التذوق والقراءة المنتجة وإلى ممارسة حقه في صياغة الرأي وإلى بناء الموقف والتقاط ذبذبات الحياة دون توجيه أو ترهيب أو وصاية. وفي كتاباته أيضا ميل جلي نحو تبني الحداثة الأدبية في أرقى صورها؛ حداثة في الموقف وفي الكتابة وفي الصياغة اللغوية وفي الصور الفنية وفي قراءة صور الحياة وفي مناقشة قضايا الواقع بعيدا عن لغة الجرح والقدح والرفض والإثارة الجوفاء. كتاباته عميقة تستمد ألقها من عمق التفكير ومن بعد النظر ومن اعتدال الموقف ومن متانة الأسلوب ومن خبرة طويلة في مضمار الرسم بالكلمات.

1- وارتباطا بخصوصية هذا المشروع الأدبي المميز، جاء هذا المنجز الأدبي الماتع الموسوم ب(الصحو مثير للضجر) لينضاف إلى الرصيد الأدبي الرصين الذي ينحته كوكاس على صخور ناتئة بصبر الصحفي وجرأته، ويصوغه بخيال المبدع وكشوفاته. كتاب يرفض القراءة العابرة ويأبى السفور إلا بحضرة كل مغرم ببحار الغموض وكل عاشق للسباحة الحرة المعاكسة للتيار. كتابه هذا لوحة فنية فسيفسائية وليس كتابا عاديا منسجما في مضامينه أو خاضعا لتصور منهجي مسبق. كتابه لوحة تركيبية مثيرة للقارئ، لوحة متعددة القطع والألوان والأحجام. لوحة حلمية تجريدية منجزة بميكانيزمات تصويرية دقيقة. مادتها الأولية الكلمة البليغة والتراكيب الاستعارية والإشارات الموحية والرسائل القوية، وروحها كل ما تشتمل عليه من مغزى إنساني.

كان كوكاس منصتا لنصيحة فيتاغورس: (لا تَقُل القليل بكلمات كثيرة، ولكن قُل الكثير بكلمات قليلة). كما كان وفيا للعمق الرؤيوي الذي أشار إليه النفري( كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة). وكان مقتفيا كذلك لمنهج نيتشه حينما قال: «إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب… ما لا يقوله في كتاب بأكمله». وهذا المنجز الأدبي ترجمة صريحة لهذا التوجه الفني الفلسفي من خلال اختيار آلية (الشذرة)؛ المادة المشاغبة وسط الكون الجمالي، والشكل التعبيري المتمرد والصادم والمثير للجدل. واختياره لهذا اللون الفني لم يأت عبثا، فهو جزء من الموقف الرافض لكل نظام مكرس للتبعية والنمطية، وتجاوز للنسق الذي يقيد الفكر الحر ويحد من الخيال الطليق. كتابة زئبقية متمنعة على التصنيف، كتابة لزجة يصعب الإمساك بها أو محاصرتها أو وضعها تحت المراقبة. كتابة حرة تؤمن بالتنوع والاختلاف والتفكك والخروج عن الأبواب والفصول والمحاور، وتدعو إلى تقويض اليقينيات والتمرد على القوانين والثورة على كل المقاييس.تجربة عنيدة لها هوية خاصة في عالم الكتابة، تسعى إلى استفزاز خلايا الفكر، وإلى التحلل من كل عاداته ومسلماته، وإلى تغيير مسار الأشياء.

ليست الكتابة الشذرية بدعة مستحدثة أو رجساًَ من عمل الشيطان، وإنما هي جنس أدبي قديم من حيث النشأة، احتفى به الفلاسفة والصوفية وكبار الكتاب، ولكنه بدأ ينبعث من جديد في الكتابات الأدبية المعاصرة بشكل منسجم مع السياق التاريخي، يتفاعل مع منتجات الحضارة المعاصرة ويستفيد من آليات التواصل الجديدة. استطاع هذا الجنس الأدبي أن يفرض وجوده بالقوة وبالفعل، وصار اليوم رقما صعبا يستحيل تجاوزه، لأنه فن يتوجه نحو المستقبل، ويكرس عقيدة التحديث والتجديد، ويخاطب الجيل العولمي الرقمي الذي ثار على الانتماءات والحدود والأنساق والأنظمة وكل القيود والمعايير التي يفرضها عالم القيم الصارم. ولذلك يصعب على من نشأ في محراب تقديس التراث واعتاد على احترام القيم الجاهزة المألوفة أن يتقبل هذا النمط الكتابي المفكك الشاذ القوي العنيد الشرس، أو أن يتفاعل معه بسهولة.. هذا النمط الاستثنائي اللانسقي غير المنتظم هو الذي يترجم بوضوح ما ذيّل به نيتشه عنوان كتابه (هكذا تكلم زرادشت) حينما سجل العبارة التالية:(كتاب للجميع ولغير أحد).

تنتمي الشذرة إلى نوع الكتابة الفلسفية والأدبية الثائرة (البوهيمية) التي تتعالى على القوانين الفنية المتداولة والكيانات الأسلوبية القائمة والأشكال التعبيرية الجاهزة، وتلغي الحدود بين الأجناس الأدبية المعروفة. وبهذه الخلفية الثورية تتحول الكتابة الشذرية إلى جُماع هذه الأجناس، وإلى تجاوز لها في الآن عينه. فهي تضمها جميعا لتتآكل وتنسحق تحت رحاها، وتذوب وتنصهر وتتشكل في جنس جديد، ظاهرهُ التفكك والتنوع، ولكن باطنه وحدة عضوية متينة بين أجزائه وقطعه، واتساق وترابط بين طبقاته ومستوياته، ووحدة موضوعية غائرة لا يمكن أن يلتقط ذبذباتها إلا من غاص عميقا تحت قشرة البنى السطحية، واستطاع الوصول إلى مستوى العمق البنيوي للشذرة. ولذلك فهي ليست ترفا فنيا أو استهتارا بالأشكال الأدبية المكتملة بقدر ما هي شغب مبرَّر في الساحة الأدبية، يرفض القيود، ويرسم لنفسه مساحة حرة للقول والبوح والتعبير، مع التزام التكثيف والاختزال والإيحاء والانزياح والإشارة.غناها في ثرائها الفني وبنائها التصويري. وقوتها في قدرتها على هتك حرمة الخطاب وعلى تحويل البوح إلى تدفق جمالي مكثف يصعب اختراقه أو مقاومته. وجمالها في ابتعادها عن التحليل المنطقي والبرهاني واكتفائها بإثارة الأسئلة والنبش في المناطق المعتمة. وبهذا النسيج الفني تعبر الشذرة عن رؤية للعالم، وتؤشر على موقف خاص إزاء الوجود كما فهمه الأديب وكما نقله حدسه وأدركه وعيه.

2- كان كوكاس واعيا بإشكالات هذا الجنس الأدبي ومدركا لخصوصيته التشكيلية والفنية، ولذلك وضع بين يدي منجزه الشذري مقدمة نقدية تنظيرية غنية بالإحالات والمواقف والنظريات الفلسفية والنقدية. ولعل حرصه على إدراج هذه المقدمة النقدية نابع من رغبته في إعطاء فرش نظري يستدرج به المتلقي ويقنعه ويدعوه إلى التفاعل مع النصوص المكثفة الواردة في هذه الأضمومة، علما أن القارئ المفترض الذي بإمكانه السباحة في هذا الفضاء الجمالي يحتاج إلى جرعة زائدة من الفضول القرائي والمهارة التأويلية لتقليص المسافة الجمالية التي يخلقها الغموض والتكثيف والانزياح. كما أننا نلمس في هذه المقدمة صوت كوكاس/ الناقد الذي وجد ضالته وانسجامه مع حساسية المثقف التي توجهه في هذا الجنس الأدبي، وصار يدعو إليه ضمنيا ويغري الآخر به. وإن كان كوكاس/ الكاتب يحافظ على نفس المسافة بينه وبين مختلف الأشكال التعبيرية التي خاض غمارها خلال تجاربه الإبداعية السابقة.

تتيح لنا المقدمة بيان الكثير من الإشارات الممهدة لفعل القراءة، والمبررة للشكل التعبيري المعتمد في الكتابة، وهي إشارات نقدية وفلسفية لها إحالاتها المرجعية ومصداقيتها العلمية. ولكن كوكاس يرفض أن يظل ناقدا مستهلكا للمادة النظرية الجاهزة، بل يطل علينا بتعريفات نقدية خاصة ذات لبوس أدبية جميلة متعددة الألوان، وبرؤى يختلط فيها النقد بالإبداع. فهو لا يستطيع المكوث طويلا في ضفة الكتابة التقريرية المباشرة، ولا يستطيع التنفس خارج فضاء الجمال الأسلوبي، إذ سرعان ما تجرفه تيارات الأدبية نحو مصب الإبداع لكونه مصابا بالحساسية الفنية وبالقابلية للانسياق مع سيول اللغة التعبيرية المترعة بالخيال والجمال والإثارة. وهنا يمتعك بمواقفه النقدية بقدر ما يقنعك بها. لنستمع إليه وهو يذيب الحدود بين القول النقدي والقول الجمالي في هذه التعريفات:
"الشذرة هي القدرة على اقتناص التفاصيل العلنية وكتابتها بحبر سحري، هي التماعة السهو أو صوت ما بعد منتصف ليل الروح..للشذرة طقوس تستقطبها من أقاصي مملكة الأناشيد، وتحتاج دوما إلى قرابين استثنائية تماثلها في التفرد، وقليلون من يستطيعون إنقاذ الشذرة من تعب الاستهلاك اليومي"ص5

" الشذرة لآلئ الحقيقة التي تنفلت من طي النسيان وظلال الظلمات، كسطوة الريح حين تسقط كل الأوراق الزائدة أو يشطب الشوارع من رمال تائهة أو زوائد عالقة دون حاجة إلى عمال النظافة أو حطابي الأشجار..أقصد النقاد..."ص6

"الشذرة هي الكثافة اللازمة للكتابة، فرح الدال وغبطته بانفلاته من سلطة ميتافيزيقيا الدليل، هي الالتفات الدقيق للهامشي واللامعقول..ضد الحضور أنها سليلة الغياب، لذلك تميل إلى سطوة الأبيض على الأسود، عبر تضييق مساحاته والرقص الحر على حلبته"ص7

" الشذرة مشاكسة،لعب وهزء وشغب ومرح جميل،"ص8

" الكاتب الشذري مثل فاتح عظيم يريد أن يكتشف منبع الشمس أو مكان اختبائها في المغيب ثم يكتشف أوهامه الكبرى،لذلك لا تصلح الشذرة للإلقاء،ليس فقط لأنها لا تحتاج للجمهور ولا تصلح مطية للدعاوة السياسية والمنبرية الخطابية، بل لأنها نرجسية..أقصد جد فردية، لأنها سليلة الرؤية لا الإنشاد "ص8

" الشذرة قفز حر نحو الغياهب، بتوجيه قليل لمؤشر الروح نحو المرايا التي لا تسكن بيوت الحقيقة، لأنها ضد النسخ والمثيل وصنو الشبه، لها شكل الزمردة متعددة الأضلاع...لا شذرة تكتب بحضرة الوعي أو بتأمل العلاقات بين الأشياء في حدود تمظهرها الخادع..."9

هذه التعريفات الطريفة هي نوع خاص من التنظير النقدي المتماهي مع الكتابة الإبداعية المغرقة في الانزياحات الممتعة والمليئة بالإيحاءات المولّدة للفضول والمثيرة لفعل التأويل. تنظير يتمرد على التعريفات الكلاسيكية ويتجاوز المفاهيم والمصطلحات العلمية المألوفة في الكتب المتخصصة. ولذلك تتداخل اللغة النقدية مع اللغة الجمالية، وتتعانقان لتشكيل أسلوب طريف في الكتابة النقدية، يحمل بصمة صاحبه الذي يأبى الانحياز إلى جنس دون آخر، ويرفض كل نعت يخرجه من كونه الجمالي الممتد في كل اتجاه. ومع كل ما سطره بسحر اللغة وبلاغة الكلمة وعمق الرؤية في تنظيره للشذرة، نجد كوكاس في (التعتيم) الذي سطره في فاتحة الكتاب يقول:"أود فقط التأكيد على أن التقديم الذي افتتحت به هذا الكتاب مليء بالادعاء النظري، لذا أنبه القارئ الكريم إلى أن ما رسمته قد لا يفي بمكونات الكتابة الشذرية ولا يلامسها إلا جزئيا"ص11

3- والعنوان نفسه نص أدبي مواز ذو نفس فلسفي، ومنطقة دلالية حبلى بالأسرار والإيحاءات المستفزة للقارئ، لا يقل متعة وإثارة وفلسفة عن ما يتضمنه الكتاب من درر فريدة وأصداف مغلقة محشوة بالمواقف والرؤى والإشارات. فأن يكون الصحو مثيرا للضجر، فهذا الموقف فيه إيحاء إلى الرغبة الأكيدة في الانفلات من أسر الوعي ومن قيد الإدراك. فحينما يفجع الواقع عقلك ويدمي قلبك بسبب محاولتك فهم ما يجري أمامك وبسبب متابعتك لما يحيط بك، حينئذ تفضل الارتماء في أحضان الضبابية واللاأدرية والانغماس في بحار العبثية المخلّصة والاحتماء بعدم الفهم وإسقاط الالتفات إلى كل ما ينغص عليك متعة الوجود، وتنفي من عالمك كل صور البشاعة والقبح والتردي وكل الاختلالات المستشرية في الحياة. فأن تكون واعيا مدركا فثمة مأساتك، وأن تحاول فهم ما يجري فهذا هو الشقاء المنتظر وهذا هو الصحو المثير للضجر. وكأن الكاتب يدعو منذ البداية ومنذ العتبة الأولى إلى تبني أسلوب التمرد على حاستي الوعي والإدراك حتى يغوص الإنسان في بحبوحة الغفلة الآمنة، ويطيل المكوث في نعيم اللامبالاة المصطنعة.

أما لفظة ( تشظيات) التي تحدد نوعية الجنس الأدبي المختار لهذا المنجز الإبداعي، فخير ما يمكن أن يصف واقع الإنسان المعاصر الذي طحنته تناقضات الحياة، واستبدت به الحيرة والمعاناة. ففقدان المعنى وانحطاط القيم وتفشي القبح ولّد في هذا الإنسان الإحساس بالتمزق الداخلي، وزج به في دوامة اليأس والسوداوية والضياع، وأصابه بالانشطار والانفصام وفقدان الهوية. وما هذه التشظيات سوى انعكاس للحالة النفسية المتأزمة وللمسار السيكولوجي والوجداني الذي يعيشه كل من اكتوى بالحرائق المتسعرة في القلوب والعقول وفي كل خلايا الجسد. ولذلك جاءت الشذرات أو التشظيات لتترجم ما يموج في عمق الإنسان المعاصر الذي يعيش قلقا وجوديا متواصلا، ويقف خائبا محبطا تائها على شفا جرف هار، ويعلم علم اليقين أنه على موعد أكيد مع مصير قاس لا يرحم أحدا. وهنا نجد الكاتب واعيا بهذا الوضع الإنساني المتردي، حاملا لرؤية ناقمة على العالم، يتبنى قضية الإنسان المنسحق تحت عجلة الحياة والمتعب بتناقضاتها، يتعاطف معه، يحلّ فيه، ينوب عنه، ويرسم بالعبارة الأدبية البليغة النبضات الذي تختنق في داخله، ويحرر الكلمات والأصوات المحبوسة في صدره.

إن هذا المنجز الأدبي الخاص في بنيانه وفي مداد كلماته وفي خلايا تشكيله، لا يستجيب للقراءة المسترسلة التي تبحث عن الامتداد الأفقي على جسد النصوص، وإنما يتقبل القراءة التي تحمل المتلقي إلى نمط قرائي انتقائي، وإلى ركوب غواصات وعبّارات للوصول إلى جوف العبارات، ومساءلة ما استوطن فيها من حكم وتأملات وأسئلة وجودية ونظرات نقدية ورسائل مشفرة. ولذلك فهو ليس من الكتب الكلاسيكية التي تتوالى فيها القراءة صفحة بصفحة، أو عنوانا بعد عنوان. لأن القارئ نفسه في حاجة إلى تبني موقف التحرر من كل سلوك قرائي مألوف، وإلى البحث عن الآلية القرائية المثلى التي تدخله في حوار مكشوف مع هذه النصوص، وتتيح له إنجاح التواصل معها. فالتنقل بين الصفحات لا يشترط مسارا منتظما أو الوقوف عند كل محطة وما يجاورها. فالرؤيا التي ينضح بها هذا الكتاب لا تُستمد من الصور البسيطة المتوالية والمتجاورة، وإنما تجد قوتها في صورته التكاملية التي تأتلف فيها كل الأجزاء والقطع دونما ترتيب صارم أو نسق محدد. فكما كان الكاتب حرا في تحليقاته وشروده وسباحاته الجمالية، لا يستقر في موقع ثابت، ولا يستند إلى جدار قائم، ولا يتمسك بجناح طائر، فكذلك من حق قارئ هذا الكتاب أن يصنع لنفسه عالمه القرائي وأسلوبه في مراودة هذا المارد وفي التقاط إشاراته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى