الأربعاء ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
معارج الصعود
بقلم سها جلال جودت

بين الذاتي والموضوعي

رواية السبع الأشهب لنادر السباعي

لابدّ أولاً من التطرق إلى بعض النقاط الهامة التي تختص بفن الرواية ذلك الفن الجميل الشائق والذي يعتمد على أكثر من حدثٍ في زمكنات مختلفة، فالرواية التقليدية تعتمد على الطابع البرجوازي السياسي، والتجريبية تقوم على توظيف البناءات اللغوية في استقلال الشعور واللاشعور .

أما الرواية الإيديولوجية الفكرية ذات الطابع المتنامي مع الحدث في الزمان والمكان نفسه، فإنها تخلق من رحم الرواية مخاضاً ببلوغرافيا"ً يجعلنا نقرأ الاتجاه الفكري للأديب لنتعرف على صناعته الفكرية المشغولة من ذهنه .

وفي رواية السبع الأشهب اعتمد الكاتب على التراكمية التجميعية لأكثر من حدث وفي أكثر من مكان وفي أزمنة متعددة متداخلاً مع باقي الفنون الأدبية من خلال رسائله مع الطرف الآخر الأنثى .

فالأنثى ورغم ابتعادها الكلي عن محور الحدث أو الأحداث كانت المفصل الأساس الذي فجر طاقات الكاتب الفكرية في هذا البوح الروائي الجميل بإضاءات متمظهرة بالواقعية الداخلية والخارجية كونها تتعلق بالبيئة الذاتية وبالبنى الفكرية التي يحملها الراوي البطل ... المتواشجة مع الشخصيات المحورية مابين المعرفي الشخصي والمعرفي السابق للماضي الممتوح من التاريخ العريق .

وثمة سؤالٌ : - هل اعتمد الكاتب على الاتصال بالماضي عن طريق إحياء شخصيات صوفية لها مكانتها ؟ أم أنه اعتمد على الأسطرة الحلمية في تجميع المسافات عندما برزت هذه الشخصيات بمحفز فكري ينهض برؤى الكاتب كإسقاطات لها دلالتها ؟

من الملاحظ أن الكاتب قد اعتمد في روايته على تشابك متواز فيه زخرف حداثوي يشدك نحو الأعماق لتعيش مخاض ولادة أفكار البطل التي منشؤها الأساس الجذور، التاريخ والتاريخ يعني الواقع المعيش في أية حقبة زمنية، والذي يؤكد واقعيتها أنها ابتدأت بضمير المتكلم أنا ، والأنا هنا قلقة متساوقة مع الأحداث أحداث التاريخ .

وإذا نظرنا إلى ما كتبه الدكتور "منذر عياشي" على غلاف الرواية، يمكن القول إن رواية السبع الأشهب، لتعد بحقّ سعياً يضاف إلى هذا التراكم الذي تحتاجه الرواية، وإلى ذلك التركيب الذي تتجلى به في عالم الأدب .

من هذا المدخل في تطور الرواية العربية يمكن تقسيم رواية السبع الأشهب إلى :

1 – الرسائل ... التي تجلت بين الذاتي والموضوعي في تناقل الأحداث على صوت الراوي البطل بضمير المتكلم ( أنا ) .

2 – المقاطع المشهدية ... التي تراوحت بين القصة القصيرة كما في ريح الصحراء وبين فن المقالة كما في الشيخ الفراتي والشيخ ياقوت العرش في سلسلة من الأحداث تطرحها بيئة وتقدمها ظروف مكانية وزمانية بتأريخ دقيق .

3- المضمون وتساوقه مع الشكل بشفافية الرؤية الذاتية والتاريخية.

4- الهدف والذي تضمن إدغام التاريخ بشخصيات الرواية المحورية والثانوية .

تدور هذه العناصر في المدارات الحركية بين الداخل والخارج من خلال زمن مكانه مسقط الرأس الطفولة، العقيدة الدينية، العادات التقاليد .... لأن شخوص الرواية تتحرك بمفتاح اللعب بدقة بين ثنائية البياض والسواد بالإرتكاز على سلوك هذه الشخصيات .

في بداية الأمر تبدو عبارة عن رسائل لن تقدم سوى شخصين ذكر وأنثى يتحاوران ويصطدمان كما يحصل في البنية الداخلية للرواية العادية .

فوردة الربيع هذه الأنثى الحالمة الحائرة تشتغل مع الكاتب في جسد الرواية من خارج المكان دون أن تدرك أنها الأس الشاغل الذي فجرّ قدرات الكاتب في توصيف حوامله الإيديولوجية في المعرفة والتاريخ والسياسة والعلاقات الاجتماعية الأسرية بتوافقية المقدرة على الفهم والاستقبال بين كلا الطرفين لهذا نراه يقول لها :
" لقد تفاءلت بك قارئة من مستوى ما ... ولكن هل يسعك أن تستقبلي تلك الإشارات التي بين السطور " ص (25).

يبدأ نبض الجنين داخل رحم الأحداث بالتحرك ، فالرسالة ذات الرقم عشرة تبرز هواجس الذاكرة عن الطفولة والجد الذي جعل من كوامن النفس الخبيئة حالة اجتماعية لابدّ وأن تتعرى أمام عقدة النص التي تؤكد على أن للطفل ذاكرة تختزن في داخلها الكثير من المعطيات الاجتماعية والفكرية، فجده الأقرب الذي تحدى والده في كشف الحجاب وأحب وتزوج بالسر ... ثم غادر ... يشكل هالة في حياة الأسرة ، فتبدي وردة الربيع إعجابها الشديد في استمرار الكاتب سارداً الأحداث حسب إشاراته .

ففي الرسالة الثانية عشرة تبدو مدينة حلب بقلعتها الشامخة المفتاح الأصل للحديث عن عراقة تاريخها وأسواقها وحاراتها وأبوابها وبساتينها وعادات أهلها كلوحة لها مراميزها الدلالية بتكثيف لغوي يصنع نسيج الرواية التي مازال جنين الحالات المتوافدة يتآزر مع بعضه بعضاً، كأنه لا يريد أن يفصل بين تاريخ الجد العظيم في ملحمة تنجز عملاً تراكمياً متكاملاً .

وفي المتابعة تراه ينقب في أصل السلالة التي ينتمي إليها من خلال الشيخ الجليل... يفتش عن المضامين التي جعلت من أبيه رجلاً استثنائياً ! ولكن من أين جاء هذا الاستثناء ؟!.

هل هو من تأثير المرأة عليه ؟ أم أنه لأنه هتك قدسية الحجاب مع والده الشيخ الكبير ؟.

الرواية ومن خلال مقاطعها المشهدية عن حياة الأسرة التي ارتبطت جذورها بجذور التاريخ والأمة تندّغم مع الأحداث التي ارتبطت بالحكايات عن قوته الجسدية ولأن الأمر كذلك فقد راوده ذلك الحلم العظيم، الحلم الذي عليه أن يوقظ النيام لأجله ... فالأحلام يجب إيقاظها للعودة إلى أرض الأجداد غرناطة !.

ولكن لماذا كُتب الترحال على هذا الجد ؟ ألأنه كشف الحجاب ووقف وجهاً لوجه أمام والده الجليل ؟!.
أم لأنه كان استثنائياً بترحاله وزواجه وكشف الحجاب ...؟!.

من التكرار لقصة الحجاب نراه يؤكد على مضامين الواقع الاجتماعي المعيش آنذاك، فالزمن زمن "المجيدية" والواقع المدروس مع الأب العاشق للترحال تكشف عن الفكر الصوفي الذي وظفت من خلاله البنى الحكائية للرواية التي استعرض الكاتب وفق نسقها التصاعدي المفارقات في وصفه للدنايا والمنايا وأصحاب المقامات العليا .

وفي "ريح الصحراء" التي بدت كأنها قصة بحدّ ذاتها والتي بدأت بالفعل وجدت نرى أن الكاتب البطل يحلم ويمضي بعيداً في غابة ، والغابة مصّفرة ويابسة لتظهر الأسطورة الحلمية على شكل صورة مرعبة ومخيفة "الأيدي الشوكية أمسكت بي من كل جانب تريد نهش لحمي، وأخذ بعضها يتحسس مكان القلب . تلك الأصابع تسعى لقطف قلبي الممزّق !" ص (51).
ليظهر في حواره مع الجد الذي مدّه بالمدد للنجاة والخلاص من هول فظاعة الأشواك والأغصان التي تريد القضاء عليه ما أراد قوله: " أهذا أنت، ياجدي ؟ ".

لنقف عند جواب يحمل أبعاداً دلالية قومية على لسان الجد "أأنت وحدك تحمل عذاب العالم ؟!" وبين جواب السارد البطل "كيف تتركنا يا جدي ... نحن ننهار!" ص(54).

هل كان المقصود انهيار الأسرة ؟! أم إشكاليات البشر في طبيعتهم المتفاوتة بين الخير والشر ؟!.

لتنهض صرخة تحد وقورة تقف في قمة الهرم "من هنا انطلقت الرايات ... حيّ على الصلاة !" ص(54).

ومن الحلم الغرائبي الذي يحمل عذابات إنسان متعلق بجذوره محب لتاريخه إلى الشيخ ياقوت العرش الذي تجلت من خلال سيرته الإسقاطات الدينية كي تعري حكاية الجدة وأحاديثها لننطلق مع الكاتب في عمق دلالالتها مع الرسائل التي عثر عليها فأسماها كتاب "جدي".

فالنصوص المقطعية المرتبطة فنياً بلغة مكثفة برزت فيها تقنية دمج العناصر الهامة المتعلقة بالربط والتحليل والاسترجاع التاريخي والتي انغرزت في جسد الرواية ضمن ثنائيات متوالية تحكي عن الزمن الحاضر، الماضي، المستقبل بجرأة أدبية فكرية تراكمية تجترح عوالم خاصة به (عودة المغترب ... المدينة المزروعة في النخاع ... رسالة النقطة .... الشيخ الفراتي ... وعوالم خارجية ... العلمنة الكاسحة !).

إضافة إلى بروز عامل النقد الأدبي "أرى في نهاية الأمر ... أن الرواية العربية ما تزال في حاجة إلى جرأة المتخيل ، فيه تكتشف الرواية نفسها كي تؤسس نصها الجديد " ص(91).

إذن أبرز لنا أدواراً عديدة حملها على عاتقه كسارد يقدم منجزاً روائياً يكون فيه الكاشف والمكتشف ، المحلل والمؤرخ من خلال أمرين هامين :

إدغام الشخصيات الصوفية والتاريخية في لعبة السرد الحكائي مستعيناً بالهوامش .
المحافظة على المتن الحكائي في بناه الروائي التراكمي .

فالجملة عند نادر السباعي مكثفة سريعة ... تحمل على إيديولوجيتها الرموز والإشارات من خلال تناصه الصوفي مع عناصر شخصية الشيخ ياقوت العرش... الشيخ الفراتي ، ليشكل هذان الاسمان معادلتان لهما أبعادهما على مستوى الأمة ... الأرض ... الوطن ... الأسرة .

وفي قصر المرايا وعلى صوت الجدة التي كانت تريد أن تمتلئ الدار بالذرية كي تقر عينها وتنعم، نراه في طريقه إلى قصر المرايا يحس بغربته أثناء عبوره بالممرات والسلالم والدهاليز ، ليزدحم النص بالكثير من التساؤلات ... من هو الرجل الغامض الذي استقبله؟ ولماذا بدا غامضاً ؟ ولماذا اختاره دون غيره ؟ ومن هم الذين اختاروه ؟ ومن أين حصلوا على سلالة الأسرة ؟

بذكاء يفتح النص المقطعي ثم يقفله ليعيد قفله بمفتاح جديد وصور متحركة (برأيك من أطلق اسم قصر المرايا على هذا المكان الموحش) ص(120)

فصول الرواية المقطعية تلعب بمفتاح إنماء الحدث الأساس الساكن في الذاكرة وذلك من خلال استعراضات دراماتيكية إيحائية تعطي للكاتب خصوصية التفاعل مع الحركة النصية للشخصية .

ففي موانئ الأحلام نلاحظ وجود المواءمة بين قصة حصان طروادة والكاتب " كالفينو " واستقراء الرجل الغريب " ماركو فالدو " ... والنقاش حول الحضارة والتطهير العرقي وبأن شرور العالم تنتم إلى إبليس .. المخلوق الشرقي .

كل هذا يؤكد أن التوافق في التراكمية الحديثة والتاريخية في المقاطع النصية جاء منفصلاً شكلاً ومتآزراً مضموناً وهذا ما أكسبها تنامياً فعلياً متدرجاً نحو رأس الهرم لا إقحام فيه لأن السارد البطل متمكن والتي تلقت هذه النصوص أنثى من نمط متميز ذات قراءات واعية .

فالكاتب من خلال تراكمية أحداثه بين الذاتي والموضوعي استطاع وببراعة أن يوظف اسم (الزّغل) على لسان جده الذي يتوق إلى عودة غرناطة كما كانت " كيف تزول بلاد وفيها رجال مثل الزّغل؟! (ويضيف وآهة حرى تنبعث من صدره ) ما تزال غرناطة موجودة .... إنها لم تسقط !" ص120.

والسؤال الذي يجب أن يوقظ النيام يتحرك : " أين أنت يابن الخشاب ؟ لنرَ؟ أين أنت ياشيخ ياقوت العرش ؟ أين أنت ياسيدي الفراتي ؟ أين أنت ياجدي ؟ أين مددك ؟.

ما رأيكم في المقولة التي تتردد : العقل الشرقي ينسى والعقل الغربي يتذكر ص 232.
مما لا شك فيه أن رواية "السبع الأشهب" بكل تراكميتها ستظل متعلقة بوجدان القارىء طالما في الصحراء ثوابت وجود الألق رغم امتدادها، لذا تراه يقول :

إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح في الاستيلاء على الصحراء !

وماذا أقول أنا ؟

ها أنذا ابن الشرق الذي لم يخشع، أو لم يتنبّه، لدوي هذه الآيات البينات .
وقد توكلت على الله .
يالجلال تلك الرمال !
يا لوهجها الذي أنضج تلك القامات، التي ما تزال مزروعة في الذاكرة . ص233.

رواية السبع الأشهب لنادر السباعي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى