السبت ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

تجليات الوطن في «لها.. أغنِّي» لجواد الهشيم

يعد جواد الهشيم من الأصوات الشعرية الصافية في الشعر الفلسطيني، إذ تمثل تجربته الشعرية صورة صادقة ودقيقة للحياة الأدبية في فلسطين، والذي حرص فيها على إيجاد التواصل والتلاقي بين القصيدة ، وحركة الواقع الفلسطيني اليومي .

وديوان "لها.. أغنِّي " هو باكورة نتاج الشاعر، صدر عام 2011 م عن دار الأرقم بغزة، وهو ينبئ عن مولد شاعر ذي مواهب ثرة، ويمتد الديوان عبر (78 ) صفحة من الحجم المتوسط، في طبعة أنيقة، قسمه الشاعر قسمين: أحدهما بعنوان:"انتماء للطهر والقداسة"، ويحتوي على ( 13 ) قصيدة، والآخر يحمل عنوان" احتفاء بالنبل والعفاف" وبذلك يكون مجموع قصائد الديوان(42) قصيدة، نظم بعضها على النمط التقليدي، وسار الجزء الآخر على نمط شعر التفعيلة .
تسترعي انتباه المتلقي بعض قصائد الديوان؛ لأنه يرى أنها تمثل الحالة الأرقى بين صفحات الديوان؛ ذلك أن الشاعر استطاع من خلال هذا المجموع الشعري أن يقدم تجربة ذاتية خاصة، تجلى فيها الصدق الفني، مع رهافة الموضوع، وهذا أمر طبعي؛ ذلك أن تواصل الشاعر بالقضية الفلسطينية، وهموم أبناء أمته، إما يجيء عبر عالمه الخاص، فمن خلال الخاص يتجلى العام، مع توافر عنصري الصدق والانتماء من ناحية، والوعي الموضوعي والفني من ناحية أخرى.
لفتت نظر الناقد جملة من الظواهر الموضوعية والفنية في هذا الديوان، سيحاول إلقاء الضوء عليها منها: العتبات النصية، والهم الوطني، والطابع الغنائي .

أولا - العتبات النصية :

تتجلى العتبات النصية في هذا الديوان في: العنوان والإهداء والحواشي والغلاف: الأمامي والخلفي، وسيتم التركيز على العنوان والإهداء.

أ – العنوان: يسترعي انتباه المتلقي العنوان الذي ينفتح على"الغناء" والنشيد، ولكن لمن هذا الغناء؟ الضمير" لها " يلعب على مستويات دلالية متعددة، فقد يخطر ببال المتلقي أن الغناء يكون لامرأة بعينها تشد الشاعر إليها علاقة حميمية، فيتوجه إليها بعزف أعذب الألحان، وأرقّ الأغاني، وربما يكون هذا الغناء موجهاً لمدينة القدس السبيّة؛ يعبر فيه الشاعر عن حبه وتعلقه وشوقه إليها، وقد اختار الوسيلة التي يعبر فيها عن هذا الحب والتعلق، وهو"الغناء" بما يحمله من دلالات العشق والمودة والتعاطف والمحبة. وربما امتزجت هذه الدلالات الموحية جميعها في الوطن" فلسطين"، إذ غالباً ما يزاوج الشعراء الفلسطينيون بين المحبوبة الحقيقية والوطن، وهكذا يغدو عنوان الديوان"لها.. أغنِّي " محملا بطاقات إيحائية غنية وزاخرة بالمعني الشعري .

والقارئ لقصائد هذا المجموع الشعري يكتشف أن العنوان جاء بمثابة إضاءة أولى لنصوص ذلك المجموع، وأنه لم يأت حلية أو زخرفاً أو تعالماً بأي حال؛ إنما هو تلخيص للإطار العام للرؤية الشعرية في الديوان كله، إنه يعكس خلفيات موجهات فنية وتقنية.
ويعمد الشاعر طيلة صفحات الديوان إلى جعل المتلقي يسبح في رقعة واسعة من المعاني الغامضة الشفيفة للوصول إلى المغزى الكامن وراء ضمير الغائب في العنوان"لها أغني"، يقول الشاعر في قصيدته قبل الأخيرة في الديوان
" يا أهل الهوى":

أوّاهُ يا أهل الهوى
ما ضلّ قلبي
أو غوى
من كان يوماً سائلي
عن حبها
ستجيبه
أنات روحي
والجوى
يا سائلي هي بلسمي
أنا لم أجد غير الحبيبة
من دوا
...يا كثر ما روّت أنهراً
في تربها
أنّى مددت لها يداً
تعطيك من أثمارها
أنّى اشتكيت من الظما
ترويك من أنهارها
هي ستةٌ بحروفها
ولها ابنة في وصفها
أعرفتها ؟!
هي درة موسومة
بسحرها
واحرّ قلبي من هواها
والنوى.

القراءة المتأملة للنص السابق تكشف عن أن الشاعر قد لجأ إلى استخدام أسلوب طرح الألغاز الذي تفضي محملاتها الدلالية وبما تكتنزه من طاقات إيحائية إلى أن جواب اللغز هو الوطن/ "فلسطين"، وكأنه يستلهم في ذلك طريقة الكاتب المسرحي اليوناني "سوفوكليس" في طرحه للغز المشهور على بطل مسرحيته "أوديب ملكاً"، وهي طريقة تثير المتلقي، وتغني الخطاب الشعري في القصيدة، وتكسبه مسحة درامية مثيرة.

لقد أدرك المتلقي أن اللغز هو كلمة واحدة تتكون من ستة أحرف، سواء أكانت تلك الكلمة هي الوطنَ فلسطين أم المحبوبة فلسطين أم كلتيهما معاً. وقد أسهمت إيقاعات بحر الكامل بهدوئها وفخامتها في إضفاء جو من القداسة، وهالة من الوقار على هذا مضمون اللغز الذي يحمل الوطن بكل ما يوحي به من معاني الإجلال والتقديس. وأدت الأصوات المنبعثة من القافية الألف المقصورة" الهوى ، غوى، الجوى، دوا"،الظما ، النوى"، والقافية الداخلية "ها" المطلقة مثل:" روضها، أثمارها، أنهارها، حروفها، وصفها، أعرفتها ، سحرها" دوراً فاعلاً في توسيع المدى الزمني للتأمل في حقيقة الوطن والتعلق به، وإعطائه أيضا حيزاً جغرافياً أفسح لاحتضانه والتشبث به.
إن للعنوان في هذا الديوان هيمنة وسطوة، بوصفه المستقطِب والموزِع في آنٍ معا لبنية الديوان ودلالته الفنية. والعنوان هو العلامة الأولى أو العتبة النصية التي يدلف من خلالها المتلقي إلى عالم الشاعر الذي يعزف ألحانه على وتر الحب والعشق .
إن قصائد الديوان تدور – في مجملها – حول الثيمة الرئيسية التي يحملها الديوان، ولو استطاع المتلقي أن يَسِمَ قصائده بعنوان شامل ما تردد لحظة في وسمها بـ (لها..أغنِّي)، وما ذلك إلا لأن المجموع الشعري المتعدد القصائد ينتظمه خيط رفيع واحد مجدول بألوان مختلفة، إنه عزف مُغَنٍّ فلسطيني، أو مزمور عاشق من فلسطين؛ ذلك أن دلالة الغناء والعزف لفلسطين تخترق الديوان منذ القصيدة الأولى إلى سائر القصائد الأخرى.

إن العنوان في هذا الديوان يشد المتلقي بأكثر من صورة ولون متخيل إلى رحاب فلسطين -تاريخاً وموطناً وشعباً، إنه يفتح الطريق إلى تعرف مشارب الشاعر ومصادره وآباره التي امتاح منها مادته الأصلية وفنه الشعري.
أما علامة الترقيم"الحذف" التي جاءت في العنوان (لها .. أغنِّي)، فإنها تؤدي دوراً تأويلياً، وتعيد إنتاج الدلالة من جديد، إنها توحي ظاهراً بالفصل التام بين ضمير الغائب والغناء، بيد أن نظرة فاحصة إلى العنوان تهدي إلى القول بأن ثمة ارتباطاُ متينا، ووشيجة قوية بين دالتي العنوان: الوطن والغناء، وأن هذا الغناء والعزف مقصور على فلسطين وحدها دون غيرها من الأوطان، فهي وحدها التي تستحق منه هذا الغناء والحب والعشق والهيام.
ب – الإهداء .
ويجيء الإهداء عتبة نصية ثانية، يقول الشاعر في إهدائه:"إلى من أَحبَ فلسطين، فوهبَها دماءه الطاهرة، زهرة حياته الناضرة ، كلمته الصادقة الثائرة".

يحمل هذا الإهداء بلغته الشعرية الرقيقة، وعباراته التصويرية الموحية، وإيقاعاته النغمية الشجية، دلالات تؤكد الارتباط القوي بالعنوان، بيد أن ذكر الشاعر للدال" فلسطين" في ثنايا الإهداء قد فضح سره، وأماط اللثام عن المحمول الدلالي للضمير في العنوان، فقيمة العنوان تكمن في قدرته على الإيحاء والبوح، ولو أن الشاعر اختار لإهدائه العبارة الآتية:" إلى من أَحبها" لظل الضمير مستكناً، ولاتسعت رقعة الإيحاء وأحوازه الدلالية التي يسبح فيها المتلقي، وازداد النص بالتالي غنىً وثراء.

ثانيا - الهمّ الوطني:

يشكل الهمّ الوطني مكوناً رئيساً من مكونات رؤية الشاعر، بحيث يندر أن يجد المتلقي قصيدة من قصائد الديوان تخلو من هذا الهمّ، لقد كان انشغاله بالهم الفلسطيني واضحاً جلياً، فالهم الفلسطيني شغل الشاعر وملك عليه أقطار نفسه، فجاءت دائرته أوسع مساحة، وأعلى نبرة من درجة الانشغال بغيره من القضايا والهموم .

لقد تضاعف الانشغال بالهمّ الفلسطيني لدى الشاعر بعد مأساة احتلال وطنه، وبلغ ذروته عنده بعد الحصار الظالم والتمزق المرير بين أبناء شعبه حتى غدا نشيداً متصلاً في التعبير عن الهم الفلسطيني الأكبر المتمثل في الصراع العربي الصهيوني والإخفاقات العربية المتوالية في حلبة هذا الصراع. ويتجلى غلبة الهم الوطني على اهتمام الشاعر في مظاهر عدة ، لعل من أبرزها تعلقه بوطنه، وحبه له وتوحده به:

رنوت إليك يا وطني
بقلب خاشع صافي
فقال أما ترى عدْنأ
بأرض جليلها الدافي
فقلت بلى أيا وطني
فسل عقلي وإطرافي
وسل من كان يرمقها
بعشق حالم وافي

إن الشاعر يحتضن في أشعاره الهم الفلسطيني، إنه يحلم بعودة اللاجئ الغريب إلى وطنه فلسطين، يصور محبة هذا اللاجئ لوطنه ويجسد الآلام والعذابات التي اكتوى بنارها، إنه يرصد موقف الأشقاء العرب في سخرية مرة وتهكم صارخ في قصيدة " أنا لم أهاجر " .

إني ظلمت بقولكم عني مهاجر
أنا لم أهاجر
أبداً ولم أبع الديار ولم أغادر
لكنني هُجرّت قهراً وسط صمت يعربيِّ
وبسوط غادر.
لقد تضاعف الانشغال بالهم الفلسطيني لدى الشاعر بعد مأساة الحصار البشع على وطنه، يقول :
حاصروني .. حاصروني
إني أهوى جنوني
لن تنالوا من حصاري سوف أبقى كالنهار
أطعم الخصم
اشتعالي
حاضنا كل الليالي
باعثا فيها لحوني .

لقد كان رفض الانقسام الفلسطيني والتمزق، والدعوة إلى المصالحة ورأب الصدع أحد تجليات الهم الفلسطيني الذي شغل الشاعر منذ أخذ ذلك التمزق يدب في جسد الوطن، وقد تجسد هذا التجلي في صور فنية مختلفة في غير قصيدة من القصائد التي كتبها الشاعر، ومن أبرع هذه التجليات ما جاء في قول الشاعر وقد صبه في قالب من السخرية المرة والتهكم اللاذع:

هيّا... لنقتسم الوطن
ثلث لنا
ثلث لكم
ثلث لمن؟ .
قاد القطيع إلى الإحنْ
هابيل...
قد عدنا لقتلك من جديدْ
...
قابيل ...
دونك ما اشتهيتَ من السلاحْ
أملأ به كل البطاحْ
واقمع به مَنْ قال حيّ على الكفاح .
هذا مسيلم قد أتاك معززاً
بصدى سجاحْ.

لقد أحدث الانقسام بين الأخوة في الوطن الواحد جرحاً لا يندمل في الوجدان العربي الفلسطيني، وترك أثراً عميقا في وجدان الشاعر واهتماماته.

وينبجس من الديوان صوت قوي، ينادي باتباع سبيل الجهاد والمقاومة من أجل تحرير الوطن وتطهير المقدسات من العدو الصهيوني الغاصب، فليس من سبيل لاسترداد الأوطان سوى الجهاد والكفاح ، فالأوطان لا تحرر بالدموع والاستجداء والعبرات، يقول حاثاً بني قومه على الجهاد:

قوموا بني إلى الجهاد وكبـــّروا
إن البـغاث بأرضــنا يستنسـر
لن ترجع العبرات حقــا ضائعا
إن تنصروا الرحمن حقا تنصروا

استعان الشاعر في التعبير عن تجربته الشعرية ورؤيته الإنسانية بوسائل التعبير الفني التي تحمل محمولاته الدلالية والتي كان منها المتناصات الثقافية، إذ جاءت معظم استدعاءاته التراثية مستقاة من نصوص التراث: من القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر العربي القديم، فضلا عن الشخصيات والوقائع التي ترتبط بهذه النصوص مثل: شخصية عمر بن الخطاب والمثنى وكافور؛ الأمر الذى أتاح لها إنتاج دلالات جديدة، أثرت خطابه الشعري, وأغنته.
ولم يغب عن بال الشاعر أن يترك قضية الاستيطان والمستوطنات دون أن يتناولها ويبين الخطر الكامن وراء بنائها. إنها تقضم الوطن قطعة قطعة، إلى الحد الذي يجيء يوم لن يجد الفلسطينيون مكاناً للعيش فيه فوق أرضهم، يقول في قصيدة جيل أبو غنيم في سخرية مرة وتهكم لاذع يمتزج بلون من الإدانة للواقع العربي الراكن، حتى يتحول هجاءً غاضباً، لكن هذه الإدانة تمتزج بلون من الانتماء المعتز بالوطن أرضه وتراثه:

أأبا غنيم يا جبل
أنت الذي سكن المقلْ
ترنو إلى مؤملا وأنا الغريق لا بلل
صوت الخليفة قد مضى
لكنه عاش المثل
هلّا صرخت صراخه
يا سارية ضاع الجبل
... قم وانتفض وانهض بنا
نجم الشهادة ما أفل

من يتأمل النص السابق، يجد أن الشاعر يمتلك حساً واعياً، ونظرة ثاقبة، إنه يتشرف المستقبل، ينبه، ويوقظ بصوت عالٍ لعل أحداً يدرك خطورةالموقف.
استدعى الشاعر بعض الروافد التراثية التي تمثل الأداة الأساسية في تشكيل بنية القصيدة بخاصة الدلالات القرآنية التي تعبر عن الصمود والتحدي وحب الوطن . لقد توسل إلى توصيل رؤيته إلى المتلقي بأشد الوسائل الفنية لصوقاً بوجدان هذا المتلقي وقدرته بخاصة شخصية عمر بن الخطاب الذي تربطه بالقدس علاقة تاريخية حميمة، وهكذا يمتزج الماضي بالحاضر، وتحمل شخصيات التراث التي عاشت منذ أكثر من خمسة عشر قرنا من الزمان أكثر هموم الإنسان الفلسطيني المعاصرة واشد إلحاحا وخصوصية .

لم يقف الشاعر في إبراز وجه الهم الفلسطيني عند الفردي الخاص؛ وإنما بدا هذا الوجه ذاته في رؤيا الشاعر ينداح في وجوه أكثر رصانة وشمولا، إنه وجه الهم القومي، ووجه الهم الإنساني العام .
ثالثا – الغنائية:
ومن أبرز سمات هذا الديوان طغيان النزعة الغنائية التي شكلت مكوناً رئيساً من مكونات بنية الديوان، وقد تجلت هذه الغنائية في اللغة الرقيقة الشفافة التي تنساب ألحاناً عذبة، يقول معبراً عن حبه وتوحده بالوطن:

توحدت فيك حتى الغناء
فكنت ابتداء
وكنت انتهاء
وغبنا سويا
وراء الوراء
فزدنا حنوا
وزدنا علوا
وزدنا رواء .
إذا غاب يوما ضياء القمر
وجف الربيع
وغاض النهر
فأنت السناء
وأنت العبير
وأنت المطر
وأنت لقلبي
عليل النسيم
وأنت لعمري
ليالي الصفاء .

وظف الشاعر في خطابه الشعري ألفاظاً مأنوسة تتسم بالبساطة والرشاقة والرقة، استغل فيها القيم الصوتية التي ساهمت في بناء هذا الشعري؛ بوصفها بنية فنية مترعة بالإيحاءات والرؤى، التي تعكس حالة نفسية. فضلً عن أنه راح يمتاح معانيه وتراكيبه من الجو الصوفي الروحاني بما يتصف به من توحد واندغام وذوبان.

لقد ازدادت رؤية الشاعر شفافية وصفاء وإنسانية عندما عبر عن تجارب وجدانية ذاتية يتدفق منها الصدق الصافي المفعم بحرارة التجربة وألقها، موشياً إياها بلون من التعاطف الحميم مع مظاهر الحياة في الوطن. إنه يفيض حبه الدافئ على كل مظاهر الحياة في وطنه، في بساطة تصل إلى حد التعاطف الحاني، يقول:

والتقينا ...
لا تسل
كيف التقينا ؟
سل معصمينا
أو رقة الأشواق في راحتينا
والتقينا .....
لا تسل أين التقينا ؟ سل عيونا لم تزل
تبكي علينا .
والتقينا ...
لا تقل ماذا جنينا ؟
يوم عدنا للهوى
ماذا جنينا ؟
قد جنينا عِزَّةً
مذ دعينا للمحبة
واعتلينا .

ينساب من القصيدة لحن عذب شجي يذكر بعودة الرومانسية الغنائية العربية، إذ تتدفق الأبيات رقة وغنائية وعذوبة، مستثمراً في ذلك القيم النغمية المنبعثة من التكرار النغمي من بعض الألفاظ مثل: دال والتقينا"، وصوت النون الذي يتردد ي غير دال من دوال الخطاب الشعري بما يكتنز بداخله من إيحاءات نغمية واسعة، فضلا عن استخدام حرف المد (الألف) الذي أسهم في البوح والإفضاء بالمشاعر المستكنة في قاع النفس البشرية. وهذه النغمة الغنائية سمة أصيلة من سمات الشعر العربي، وكأنه جاء استجابة لدعوة الشاعر العربي حسان بن ثابت:

تَغَنَّ في كل شعر أنت قائــله

إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ

إن المتتبع للمعجم الشعري للديوان، يجد أن دوال الغناء والنشيد واللحن متشظية في غير مكان فيه، بدءاً بالعنوان، وانتهاء بكلمات الغلاف الخلفي من مثل:" نشدو، لحنا تردده، ذاك الدعاء مرتلا ، باعثا فيها لحوني، سل الأيام لم غنت قصائدنا ..." .

تشكل كثير من قصائد الديوان مجتمعة لحناً موسيقياً متكاملاً، فيبدو وكأنه مقطوعة موسيقية عذبة، تصلح للغناء والنشيد، من ذلك أنشودة عذبة يناجي فيها الشاعر الوطن فيقول:

صباح الخير يا أختي
صباح الجوري والعرعرْ
صباح الخير يا أملا
يداعب مرجنا الأخضرْ
ويسقينا مودته
إذا ما الفجر قد أسفر
ونغفو بين أذرعه
كطفل خيره أزهر
ونبني كوخنا الغالي
بأعمدة من الحوَّرْ
صباح الخير يا أختي
... صباح القدس
يا سكرْ
صباح الخير للأقصى
ومن صلى ومن كبَّر
ومن ما زال يرويه
بدمع القلب
إذ يؤثر
ومن ما زال يفديه
بروح الروح
بل أكثر .

يبرز التكرار في هذه المقطوعة الموسيقية وسيلة فنية بنائية لخلق النغم وإبداعه، فتكرار اللفظة والعبارة يتجلى في اعتناء الشاعر بموسيقى الجملة الذي يتلاحم فيها مجمل الإيقاع الشعري من خلال تكرار عبارة (صباح الخير يا...) إلى جانب الصور الشعرية التي تتميز بالبساطة في البناء، إنه يأخذ العادي ويعيد تركيبه، ولكنه تركيب يشير إلى مهارة شعرية، وقدرة على التعامل مع اللغة لبناء القصيدة، ويضعها ضمن تجربته الشعرية .

إن مثل هذه الأشعار تكشف للمتلقي عن شاعر مُغنٍّ، ليس فقط لأن عدداً من قصائد الديوان قد جرى تقديمها على أنها أغنيات عذبة؛ وإنما لخصوصية قصائده ذاته، لبساطتها ورقتها وتماسكها الداخلي، وإيقاعها الزاخر بالقيم الموسيقية إلى الحد الذي جعلها قابلة؛ لأن تكون ملحنة وجاهزة للغناء. فالغنائية في الديوان تمتد لتشمل التناغم في الإيقاع، ووضوح الدلالة مع الحفاظ على شاعرية الصورة وشعرية البناء، إنه يستغل موسيقى الأصوات في الكلمات معتمداً عليها أساسيا في استثارة المشاعر، وردود الأفعال النفسية التي استثارتها لدى المتلقي .

وأخيراً ، فإن ما زعمنا انه قراءة ليس إلا مفاتيح قراءات أخرى نأمل أن تدرس جوانب أغفلناها.
 جواد إسماعيل الهشيم شاعر فلسطيني من مواليد غزة سنة 1952، حاصل على درجة الماجستير في الأدب والنقد والبلاغة من الجامعة الإسلامية بغزة، وهو عضو في رابطة أدباء وكتاب فلسطين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى