الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم عبد الرحيم العطري

تيبولوجيا المثقف المغربي

خلال انتفاضات الشباب التي اجتاحت العالم سنة 68 من القرن الفائت، كان جان بول سارتر يخطب بالطلاب في ساحة السوربون، وكان ميشيل فوكو يوزع المناشير عند مدخل مصانع سيتروين للسيارات، وحتى قبل وفاته بقليل كان عالم الاجتماع المتميز بيير بورديو يشارك في المظاهرات ويساند الحركات الاحتجاجية، مقدما بذلك النموذج الأمثل للمثقف العضوي.

لكن هنا والآن، وفي هذا الزمن المغربي، هل نصادف أمثال هؤلاء المثقفين الذين يعبرون الصمت البهيم، ويرفضون في كل حين تقديم الاستقالة؟ هل يداهم مساءنا المغربي هذا المثقف العضوي كما حدده غرامشي؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فأين توارى ذات المثقف المبحوث عنه ؟ ولماذا باع مثقفنا المفترض عفوا وقصدا صمته وانزوى في الظل يناجي "يوتوبياه" المغتالة من طرفهم طبعا؟! و بعدا هل نتوفر على نخبة مثقفة تضطلع بأدوارها الريادية على مستوى تفعيل المشروع المجتمعي و ممارسة النقد و المساءلة ؟ فما هي أبرز خصيصات النخبة المغربية المثقفة ؟ و ما هي شروط الانتماء إليها في إطار جدل الإنتاج و إعادة الإنتاج ؟ و ما هي محاور اشتغالها و دوائر تحركها و مبادراتها ؟ و إلى أي حد يمكن الحديث عن وجود أنتلجانسيا مغربية تضطلع فعلا لا قولا بأدوارها التاريخية ؟ فما هي صنوف المثقفين في المشهد المغربي ؟ ما هي ملامحهم و اتجاهاتهم ؟و ما هي دوائر اشتغالهم ؟ و فوق ذلك كله ما النسبة التي يمثلها المثقف الملتزم وسط النخبة المثقفة المغربية ؟

إن المتابعة النقدية لما يجيش به الحقل السوسيوسياسي المغربي تقود إلى الاعتراف بوجود فئات متعددة من المثقفين تختلف كل واحدة منها على الأخرى ، اعتبارا لتباين التوجهات و الأهداف التي تحرك الفعل و تميز الحضور في الساحتين الثقافية و السياسية ، فإلى جانب المثقف العضوي الملتزم ، نجد المثقف المزيف الانتهازي و المثقف المستقيل فضلا عن نوع رابع يتجسد في لون المثقفين المتعالين المنفصلين كلية عن شجون المجتمع و قضاياه .

المثقف الملتزم : و يمكن القول بوثوق عال بأن هؤلاء المثقفين في تناقص مستمر بسبب آليات التهميش و الإقصاء و الإدماج التي يتعرضون لها باستمرار ، فهم دوما مطلوبون من السلطة ، لأنها ترى فيهم المنافسة الاحتياطية و المحتملة ، و عليه فلا بد من التخلص من هاجسهم النقدي باستثمار منطق العصا و الجزرة .فالمثقف الملتزم يظل المطلوب الأول لدى السلطة ، و لهذا نجدها تبدع في محاولة استمالته و تقريبه منها ، لأنها تعي جيدا أنها يمتلك رأسمالا رمزيا نوعيا يؤهله للعب أدوار طلائعية على درب التغيير و التثوير .إن المثقف الملتزم يرفض بالمرة أن يغدو رقما في معادلات السلطة ، و لهذا فهو لا يتورع في ممارسة النقد و لو قاده فعله هذا إلى غياهب السجون و إلى تذوق مرارة المنفى أو غير ذلك من تقنيات ترويض العقول الثائرة

المثقف الانتهازي : و هو مثقف مزيف باع صمته و أحال وعيه النقدي على المعاش المبكر طمعا في منصب أو جاه ، و للأسف الشديد فهذا النوع من المثقفين في تكاثر مستمر ، و هو ما يدل على نجاح مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه في تبخيس دور المثقف و تحويله إلى مجرد موظف تنفيذي يدور في فلك السلطة ، ينتهي بنواهيها و يأتمر بأوامرها ، و المثقف الانتهازي لا يفوت مناسبة أو حدثا دون أن يستثمره لصالح تقوية رأسماله و تأكيد ولائه ، و لهذا تجده يدس أنفه في مختلف القضايا التي تهم مصالح الذين هم فوق ، ليس من باب النقد ، بل من أجل المباركة و التكريس ، و يصير بالتالي من أكثر المدافعين عن استمرار نفس الأوضاع ، فلا يضيع أدنى مناسبة لتأكيد دفاعه المستميت عن كل ما يصدر عن مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه في النسق المجتمعي .

المثقف المستقيل : يجسد نوعا من المثقفين الذين فقدوا القدرة على مسايرة إيقاع التحولات و راعتهم فعلا شراسة التدخلات القمعية و إمكانيات الاحتواء و الفرملة ن ففضلوا تقديم الاستقالة من كل ما له علاقة بالسؤال ، و انتهوا بذلك عن ممارسة النقد و التفكيك ، خوفا من سوء العاقبة التي تحيق بمن يقترف " جرم " السؤال ، و طلبا بالتالي للأمان ، و الواقع أن استقالة هؤلاء المثقفين تعد إقالة موجهة بطريقة غير مباشرة ، و هي دليل آخر على نجاح تقنيات الضبط و التوجيه المخزني ، و استقالة هذا النوع من المثقفين تتخذ صورا أكثر مأساوية في المجتمع المغربي ، فقد تلوح في صورة قطع قيصري للحبل السري الذي يربط المرء بمجتمعه ، أو تحتمل صورا أكثر فظاعة تتصل باعتماد لغة الصمت بديلا عن الكلام ، و في جميع الأحوال فالمثقف المستقيل يكون نتيجة مركزية لتاريخ بشع من التهميش و الإقصاء ، و بالطبع فتنامي عدد هؤلاء المثقفين يؤشر من جهة على بشاعة عمليات تقليم الأظافر و قص الأجنحة و من جهة أخرى على إفلاس المشروع المجتمعي في ضمانه لحق النقد و التعبير و المشاركة في صنع القرار .

المثقف المتعالي :
نتيجة الاقتناع التام بعدم الجدوى من مواجهة مالكي وسائل الإنتاج و الإكراه ، أو طلبا للأمان و اعتبارا من دروس التاريخ ، فإن هذا النوع من المثقفين يختار التحليق في الأعالي برفقة مواضيع و قضايا تندرج أساسا في دائرة الترف الفكري ، و لهذا تراه دائما منشغلا بقضايا ثانوية لا تتصل بمصالح الكبار و المتحكمين في موازين القوى ، و حتى إن قادته الظروف إلى محايثة هذه المصالح ، فإنه دوره النقدي كمثقف لن يكون بعيدا عن طابع النقد التعميمي البارد أو الخطاب التمجيدي الساخن ، و يبدو المثقف المتعالي أكثر المثقفين استفادة من تجارب الآخرين ن فهو يعي جيدا ضريبة الالتزام ، و يعرف أيضا نهاية الانتهازية ، و بؤس الاستقالة ، و لهذا يختار المنزلة بين المنزلتين فيتعالى عن كافة القضايا التي تتعارض مع مصلحة الذين هم فوق ، و ينصرف بالتالي إلى الترف الفكري ، حيث يضمن لنفسه مقعدا وثيرا بين أحضان النخبة و من غير وجع رأس أو متاعب مع مسيري الحقول المجتمعية .

و بالطبع فليست هذه النماذج الأربعة المقترحة لتوصيف المثقف المغربي ، هي الوحيدة و النهائية ، فثمة نماذج أخرى يمكن اكتشافها في سياق آخر تبعا لمقتربات البناء و الكشف ، و لكن الاقتصار على هذه النماذج دون غيرها يرجع إلى كونها الأكثر حضورا و الأكثر تعبيرا عن ملامح النخبة المثقفة بالمغرب ، مع التأكيد التام على أن هذه النماذج قد تظهر مجتمعة في نسق واحد و دون إثارة لأي صراع محتمل ، و ذلك اعتبارا لطبيعة المجتمع المغربي المركبة ، فالمثقف الانتهازي قد نجده إلى جانب الملتزم و في اتصال أيضا مع المستقيل و المتعالي ، فالحدود بين الحقول و الأنساق تكون مستحيلة في كثير من الأحيان ، بل إن المثقف الواحد قد يحمل في أعماقه كل هذه النماذج ، و هو ما أكده بول باسكون في أطروحة المجتمع المركب التي تمتلك جانبا كبيرا من الوجاهة العلمية في تحليل و فهم المجتمع المغربي .
*كاتب و باحث مغربي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى