السبت ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم رياض كامل

خصوصية المكان ودلالاته في شعر جهشان

حين نلفظ كلمة "مكان" فإن أول ما يخطر ببالنا هو ذلك الموقع المرئي والملموس، سواء كان سهلا، واديا، جبلا أو منحدرا، وربما قد يخطر ببالنا البحر غافلين، في كل الأحوال، عن السماء والفضاء، وغير متنبهين إلى مركباته وحيثياته المتعددة. وهو يرتبط ارتباطا عضويا بالزمان، كما يرى المنظرون مما حدا بالمنظر الروسي باختين إلى اجتراح مصطلح الخرونوتوب- الزمكانية. ويرى باشلار أن المكان مرتبط بالانتماء والألفة وهي رؤية صائبة جدا. فالمكان يتحول من مجرد موقع جغرافي إلى انتماء وجداني وعاطفي.

وهو يعتبر من أهم مكونات الشخصية، سواء كان ذلك في الفن أو في الواقع، إذ يرسخ في ذاكرتنا، ننتمي إليه، ونحافظ عليه حفاظنا على بؤبؤ العين وأكثر. فيه نبني بيوتنا وعائلاتنا، منه نأكل ونشرب، وبفضله نحيا حياة حرة كريمة، ونقدم الغالي والرخيص دفاعا عنه. فقارئ مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي، على سبيل المثال، يرى أن العشق الذي يجمع قيسا بليلى يتبلور وينمو في ظل الصحراء والسماء الصافية، وفي ظل الليل والنجوم، بل يتعدى ذلك إلى عالم الصحراء في تكامله بنباته وحيوانه، وتصبح ليلى شبيه الظبي، ويغدو الخصم ذئبا يطارد الظبي، فينبري قيس للدفاع فيجندل الذئب ويصون شبيه ليلى.

تناولت بعض الدراسات موضوع الصحراء في روايات عبد الرحمن منيف، والبحر في روايات حنا مينة، والأزقة والحارات الشعبية في إنتاج نجيب محفوظ. وهناك من تحدث عن جماليات المكان وأهميته في الشعر، وهؤلاء قلة نسبة إلى الذين تحدثوا عنه في القصة والرواية، وذلك لأنه في الفن الروائي أكثر حضورا وتفصيلا، إذ لا يمكن بناء الأحداث بدون هذا العنصر الهام، فالشخصية تعيش فيه وتتحدّد معالمها من خلال هذا الإطار.

مهما حاول المنظرون والدارسون أن يفلسفوا الأمور فإننا نرى، في كل الأحوال أنه جزء من التكوين النفسي والعاطفي للبشر، نحبه للأسباب المذكورة أعلاه ونطمئن إليه، ونحنّ إليه حين نبتعد عنه. لم لا فالجمل يصدر أصواتا تعبر عن حنينه حين يبتعد عن مكان سكناه، فكيف بالأحرى ذلك الإنسان الذي يشعر بالخطر الداهم الذي يتهدد أرضه ووجوده؟

سنحاول في مقالتنا هذه دراسة المكان في شعر جهشان بعد أن وجدنا أن البيت القروي له حضور فاعل من خلال الصور والأحداث. وقد حاولنا تقصي الرسم الخارجي والداخلي للبيت والقرية، بهدف الوقوف عند دلالات المكان العاطفية الوجدانية وأهمية الانتماء إليه. إننا على علم تام أن معظم الدراسات التنظيرية الحديثة التي قام بها أمثال لوتمان وباشلار وميتران قد أولت جانب الفضاء الروائي أهمية أكبر وأشمل من تلك التي أوليت للشعر، لكن ذلك لا يمنعنا من الاعتماد على هذه النظريات في أسسها الرئيسية.

إن المطلع على نتاج شاعرنا جهشان يرى بوضوح أن هناك رهبة وخوفا من فقدان البيت والأرض والوطن. فوجدنا أن نعمل على توضيح معالم المكان وخصوصياته. لقد برز المكان في شعر جهشان بشكل لافت في العديد من دواوينه، فرأينا فيها ميلا يكاد يلامس التوثيق. إن قضية العلاقة التي تربط الإنسان بالمكان هي قضية إنسانية من الدرجة الأولى، ولم يغفله الأدب الإنساني على مر العصور، خاصة في ظل الحروب والمآسي التي مرت بها البشرية. ولذلك فإن للقرية الفلسطينية وجودا لافتا في الأدب الفلسطيني بوجه عام. ولنا على ذلك أمثلة عدة في القصة والرواية وفي الشعر.

ولد الشاعر شكيب جهشان (1936-2003) في قرية المغار الجليلية في بيت من طين، كغيره من فلاحي هذه البلاد في تلك الفترة. نما وترعرع في ظله، تشرّب من عادات بلدته وتقاليدها التي تتشابه مع تقاليد غيرها من القرى الفلسطينية. أهل البلدة فلاحون يخرجون في مواسم الحصاد والقطاف إلى حقولهم صباحا، يحرقهم وهج الشمس صيفا، وتبللهم الأمطار شتاء.

ولما كانت غالبية سكان هذه البلاد من الفلاحين فإن صورة القرية، بأهلها وبيوتها وأزقتها، نموذج لحياة عامة الفلاحين في بلادنا. والصور التي يلجأ الشاعر إلى استعمالها، سواء في المغار أو الرامة الجليليتين، أو في أي موقع آخر، لها نفس المواصفات الاجتماعية والنفسية. فقرية المغار هي مسقط الرأس، والرامة هي القرية التي عاش فيها الشاعر وعمل فيها مدرسا زهاء ثلاثة عقود من الزمن لينتقل بعدها إلى مدينة الناصرة حيث استقر هناك مع عائلته.

للمكان أهمية قصوى في حياة الإنسان، تتبلور شخصيته في إطاره ويلتصق بوجدانه إلى آخر يوم من عمره. ترتسم في ذاكرة المرء كل معالم المكان الجغرافية والنفسية، بشجره، نباته، صخوره، ترابه، سهوله وجباله. وبناسه، عاداتهم، تقاليدهم، أفراحهم، أتراحهم وأسلوب معيشتهم. يتغير الزمان ويسير إلى الأمام لكن المكان يظل راسخا في الوجدان والذاكرة عميقا. فكل بقعة فيه لها قصتها وحكايتها، لها ناسها وأهلها، وكل شجرة أو نبتة فيه لها ذكرياتها المرتبطة بمرحلة من مراحل حياة هذا الإنسان في ظل هذا المكان وفي إطاره.
لاشك أن الارتباط العاطفي بالمكان هو أحد أهم المؤثرات النفسية التي تعمل في بناء الفرد لدرجة أن الرائحة تثير في النفوس ذكريات ومشاعر وأحاسيس لها علاقة بحدث معين في موقع ما. ومما زاد هذا الارتباط قوة، في وضعية كوضعية الشعب الفلسطيني، هو هذا الصراع الطويل المؤرق حول المكان، بحيث تحول إلى فعل خوف ورهبة من فقدان الكيان والوجود.
إن مجرد فقدان الأرض والمأوى والمسكن هو فقدان للحياة والكرامة، وعامل تشرد وذل وهوان. لقد واجه أهل هذه البلاد هذا الخطر الداهم منذ عشرات السنين، ورأوا كيف أن الأرض تسحب من تحت أقدامهم. بدأت الصورة تتضح أكثر كلما انجلت حقيقة الاتفاقات الدولية. وفي ظل حربين كونيتين رهيبتين وما يتلوهما من أبعاد يتشرد الشعب الفلسطيني، وتتقطع أشلاؤه، بين هنا وهناك، وبين أقطار عربية متعددة، بينما الأقلية تبقى في موطنها تلكأ جراحها وتعيش ألما حارقا.

لقد عاش الشاعر شكيب جهشان هذه التجربة في أوقاتها الحرجة والعصيبة، فذاق جزءا من هذا التشرد وبعضا من طعم الخوف والرهبة حين كان طفلا صغيرا مع أفراد عائلته. فصور ذلك في بعض دواوينه وأشعاره، ونقل إلينا تلك الأجواء بمكانها وزمانها، فساهم بذلك مع مجموعة من أدبائنا وفنانينا في رسم الخيوط من خلال الأعمال الشعرية والروائية والقصصية، ومن خلال النقوش والرسومات.

إن هاجس الخوف والقلق يرافقان الشاعر في جل ما كتب، وهو، كما ذكرنا، قد تعرض صغيرا لتجربة الهجرة والتشرد والعودة سرا إلى أرض الوطن:

"لجأت في طفولتي، لجأت مرتين
وشخت مرتين
أحذية قديمة
وقصة مريرة مسمومة
تلتصق الخيام بالخيام
وتلتقي السماء بالتراب
يلتقي العذاب بالعذاب
وتكبر الخيام، تكبر الخيام
من عمان حتى غوطة الشآم" (مطولة أذكر،1992،ص121)

إن الخوف من فقدان ما هو أكبر ليس مجرد تخوف من أمر قد يحدث، إنما هو حصيلة تجربة فعلية ذاتية وعامة. تلك التجربة التي مرها شعب بأكمله في رحلة التشرد السيزيفية الطويلة. عاد سيزيف اليوناني لكن سيزيف الفلسطيني لما يعد بعد. يصطدم بصخرة الواقع المر فينتابه خوف من الآتي، وهو يرى الوطن آخذا في التقلص يوما بعد يوم، وقد فقد الكثير من ميزاته المعتادة، فبدا غريبا عنه يرتدي زيا غير معهود عما اعتاد عليه في أيام الطفولة. لقد تحدث جهشان عن اللجوء بألم شديد، فرأينا الطفل يشيخ مرتين، مما يعني أن الإنسان خارج إطار بيته يفقد الأمن والأمان ويتعرض للذل والهوان، أما الطفل الذي يجب أن يلهو ويفرح ويمرح في ظل البيت فإنه يفقد طفولته ويتحول إلى شيخ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان وإيحاءات.

للمكان في شعر جهشان نكهته الفلسطينية الخاصة، يمتزج فيه الماضي بالحاضر بما في الأمر من حنين وألم. عين تنظر نحو الماضي وأخرى نحو المستقبل، فتتوزع عاطفته ما بين الحسرة والرجاء، والرهبة والأمل. إنها مشاعر متناقضة لإنسان مر التجربة بحلوها ومرها:

يا عمري المنهوب،
يا تراكض السنين
يا ليتني أسير للوراء
أعيد رحلة السنين والحنين
ورحلة الغناء والبكاء" (أذكر، ص17)

إن تصويره للقرية والبيت أشبه بالتصوير التوثيقي في دقته، يتوثق المكان بكل معانيه من الخارج والداخل: الحارات والأزقة والأشجار والنباتات والبيت بكل زواياه الحميمة. يعود إلى "أيام زمان" إلى العلاقات الحميمة والجيرة الطيبة، وإلى أيام طفولته بنعيمها وبراءتها. يصور بيته، المكان الأعز على قلبه فيراه العش الذي يجمع العائلة ويحميها من الخطر المحدق بها. في ظل هذا البيت أب وأم، أخوة وأخوات، تلاحم وقت الشدائد. إنها أجواء فلاحية حيث القرية مسقط الرأس التي احتضنته طفلا صغيرا ثم فتى في مقتبل العمر. قرية ككل القرى الفلسطينية في تلك الأيام، نموذج حي لحياة الفلسطيني قبل النكبة وبعدها بسنوات قلائل.
إن ما يميز شعر شكيب جهشان هو تلك العاطفة الجياشة التي تبرز في حنينه إلى الماضي، وإلى تكاتف أهل القرية مع بعضهم البعض، في السراء والضراء. تتخيل قطيع الماشية يخرج صباحا ويعود مساء، بينما الفتية يملؤون الأزقة والحارات والحقول صراخا ومرحا. ويعود بنا إلى أيام الأعياد وما تحمله من فرح ممزوج بأسى الفقير وحسرته:

"أذكر يوم العيد في المساء
علمت أن والدي قد سار في تجارة صغيرة
يبيع بعض الزيت والزيتون
وعاد من سفرته القصيرة
بقبضة من الرياح والهباء
وخاطر مشرد حزين
ولونت أمي من البيض لنا عشرين....؟!
بنطالي الجديد واسع، مفضفض رخيص
لكنه جديد
يمر يوم العيد....!!" (أذكر، ص45-46)

إن المطلع على شعر جهشان لا يحتاج إلى كثير من التمعن كي يرى إلى نبرة الحزن والأسى في جل ما كتب من أشعار، نبرة الحسرة والأسى تفرض نفسها على أشعاره، حتى حين يحاول بث روح التفاؤل للجيل الصاعد. جهشان شاعر حسّاس إلى أبعد الحدود، ولا يتوارى خلف الكلمات للتعبير عن هذه الحساسية، ولا يتردد في التعبير عن الخسارة الفادحة، خسارة الأرض وما عليها، وما يرتبط بها. ترى ما الدافع وراء حنين الإنسان إلى أيام الفقر والعوز؟ ما هذا الشعور الذي ينتاب الإنسان وهو يحن إلى أيام "القلة"، كما يقول أهلنا؟
إن الإنسان الفلسطيني لم يفقد أرضه وبيته جغرافيا بل إنه فقد ذكرياته، وارتباطاته بالناس الذين عاش معهم، إن الواحد ليبدل بيته اليوم كما يبدل ثيابه، لكن المشرد يفقد أمنه، ويفقد جيرته وأهله وناسه وخلانه، ويذوق طعم الذل والوجع. إن الفقد بحد ذاته فاجعة يعيشها الإنسان ما دامت رئته تتنفس، فكيف بالأحرى حين تنتزع أرضه منه عنوة!

إن البيت بما فيه من عاطفة وحنان هو أحد الأماكن الهامة في شعر جهشان، يلتصق به ويعود إليه في الكثير من المناسبات، هناك يحس بالأمان حين كان طفلا، ففيه أم حنون توفر له الأمن والطمأنينة والهدوء والسكينة. إن بيت الطفولة نقطة انطلاق هامة في شعره، هناك تكونه الأول فكريا وعاطفيا. في ظل هذا البيت جو عائلي حميم، كما ألفناه، حيث تجلس العائلة ليالي الشتاء إلى جوار الموقد طلبا للدفء، وتكتمل الفرحة بحضور الجدة التي تروي القصص والحكايات:

"أذكر ذات ليلة ليلاء
في كانون
انهمر الثلج على سطوحنا
والتمّت الأسرة حول الموقد الحنون
وقطتي تمد قدها الجميل في عيوننا
وترصد اللهب
والموقد المجنون
يلتهم الصدور والعيون
والحطب
ويكبر اللهب
وجدتي تسكب في آذاننا حكاية الشاطر والجنية
وتصفر الرياح والعواصف الشتوية
وترجف الأبواب والآذان والصدور
ويكبر اللهب
وجدتي
تمر فوق شعري المقرور
كفا من الذهب" (أذكر، ص24-25)

بعد قراءة النص أعلاه والوقوف عند مجموعة الصور التي تكون لوحة فيها الكثير من الحسرة والكثير من الفرح، لا يسعنا إلا أن نؤكد مرة أخرى على حساسية الشاعر وصدقه في التصوير. فهل الدافع إلى ذلك هو التوثيق؟ سؤال من حقنا أن نطرحه في مواجهة شعر جهشان خاصة وأنني أراه من أكثر الشعراء تفردا في وصف القرية العربية الفلسطينية. فإن كان غير قادر على إعادة ما ضاع على أرض الواقع فإنه بوعي منه أو دون وعي يستحضر ذاك الماضي ليؤكد على صدق الرؤية وعمق الرؤيا. وما يؤكد على ذلك ما يعرضه لنا لاحقا في نفس الديوان، إذ أن حدثا عابرا يكدر على العائلة صفاءها حين ينطلق صوت "الناطور" من الخارج معلنا عن سرقة "بيت العمة العجوز أم حسين"، فينبري أهل القرية للدفاع عنها وعن كرامة القرية التي تقف وقفة رجل واحد، فيندفع صوت "الناطور" من جديد معلنا عن عودة "الرجال" ومعهم الحمار والعنزات، فتعود فرحة بنات أم حسين اللواتي ينمن قريرات العين. (انظر ديوان أذكر، ص25-28)
الطفل يرى ويشارك ما يحدث في القرية من خلال تواجده أحيانا في البيت، أو من خوف على هذا المكان العزيز. إن البيت هو نقطة الانطلاق الأولى نحو المجتمع الأوسع-القرية ككل، حيث الأصدقاء والمدرسة والأولاد والجيران. فإذا بها قرية وادعة حتى يطرأ ما ليس بالحسبان:

وذات يوم عادت الطيارة
وجلجلت هادرة جبارة
التهمت قنابل الدمار بيت جارتي "خزون"
ومزقت صديقي الحبيب أسعد المأمون" (أذكر، ص94)

هذه القرية المنقوشة في ذاكرة الشاعر عميقا تتحول إلى موقع رعب ورهبة، بعض أهلها يتركونها إلى غير رجعة، وبعض الأتراب يقتلون ليخيم الحزن عليها، ويذوق الطفل، كغيره من أبناء القرية قسطا من الخوف والتشرد والهوان، وهو يرى كيف تمكنت قنابل الدمار من التهام بيت الجارة وتمزيق جثة صديق الطفولة. إن الشاعر هنا ذو نظرتين؛ نظرة الطفل، ونظرة الشاعر الواعي الذي يكاد يبكي طفولة الصغير، وكأن القارئ هنا يسمع صوتين مؤلمين لجيلين فتكتمل الصورة وتتضح معالم المأساة.

إن التجربة الخاصة والعامة جعلت الشاعر يكثر من أسلوب "الحكمة" و"الوصية" في شعره كما يتجلى بوضوح في ديوانه الأول "أحبكم لو تعرفون كم" (1988)، وفي عدة قصائد أخرى مبعثرة عبر دواوينه الأخرى. ربما من هنا جاء ديوانه "جادك الغيث" (1998) الذي كتبه إثر جولة سياحية في بلاد الأندلس ليقارن بين ماض عريق ومجيد وبين حاضر مترهل ذليل. هناك في أوروبا عاش العرب يبنون الحضارة ويبثونها إلى شعوب الأرض، منتشين بالفتوحات والانتصارات، وهنا في الشرق صراع من أجل البقاء والحفاظ على البيت والمسكن.

هذا الهاجس يؤرق شاعرنا ويقض مضجعه خوفا، كما ذكرنا، من الآتي ومن فقدان البوصلة والضياع أكثر في متاهات اللامحدود. يحاول رغم المآسي أن يزرع بذرة الأمل في نفوس الأجيال الصاعدة علها تعمل على إحداث التغيير المرجو وتحقيق العدالة وبقاء الإنسان فوق أرضه وترابه، وبين أهله وأحبائه.

في مقابل البيت والقرية بما فيهما من محبة وألفة ودفء وفقر، هناك الخيمة والمخيم، يختلف الموقع ويتبدل الزمان. ما كان يتخوف منه المواطن الواعي قد حل فعلا وأصبح حقيقة مرة مؤلمة. تشرد الشعب الفلسطيني، واضطر إلى الابتعاد عن "الوطن" إلى أماكن جديدة يخيم عليها الخوف والرعب والغربة والجوع. يتوقف الشاعر عن الحديث عن الدفء والجيرة الطيبة والجو العائلي، ويحل بدلا عن ذلك جو من الأسى والحزن والقلق والغضب.

هناك نوعان من المخيمات، الأولى تلك التي نصبت في الدول العربية بعيد تشرد الشعب الفلسطيني وحلول النكبة، وكان للشاعر وعائلته نصيب منها، لكن ما لبثت العائلة أن حظيت بالعودة. ولكن رغم قصر المدة فقد هاج شوقه للبيت والقرية فعبر عن ذلك بشكل دافئ حميم:

"ومثلما تثور لهفة الرضيع
إذ تشد ثدي أمه
عن فمه الصغير
ومثلما تغامر الطيور
رجعت ذات ليلة من غابة الخيام والعمالة
رجعت للتراب والهواء
والغناء والعطور" (أذكر، ص30-31)

ما يلفت النظر، مرة أخرى، هو انبثاق صوتين متداخلين، صوت الطفل الصغير وصوت الشاعر الواعي، فنرى إلى صورة الطفل وهو يندفع نحو ثدي أمه، ونرى الواعي وهو يرى هذه الصورة فتتحرك فيه كل مشاعر الإنسان الجياشة. هذه الصورة الشعرية ليست مجرد لوحة جافة بل يكاد القارئ يلمسها ويراها رؤية العين والقلب معا.

قلنا إن الشاعر قد مر بتجربة التشرد حين كان طفلا، فذاق طعمها وأصيب بالرعب بحيث ما انفكت تعوده الذكريات بين الحين والآخر، لذلك لن يكون غريبا عليه أن يرى إلى ما مر به الآخرون وهم يتذوقون أيضا طعم الغربة والتشرد. أما المخيمات الأخرى التي صورها الشاعر فهي تلك التي أقيمت على أرض فلسطين بعد حرب حزيران 1967:

"كان لي كرم من الزيتون قرب الغابسية
صار لي بيت من الزنك على خصر جنين...!!!
كان لي حقل من القمح
وماء وهوية
صار لي وعد، وأحلام، وذكرى
وحنين؟!" (ثم ماذا،1989، ص30-31)

لم يسهب الشاعر في الحديث عن النوع الأول من المخيمات لأن تجربته، كما ذكرنا آنفا، كانت قصيرة. لكنها ظلت جزءا من ذاكرة غنية. فهي تجربة مؤلمة ومرعبة، خاصة لطفل صغير، لذلك ظلت تمور وتفور بين الفينة والأخرى، الأمر الذي جعل الشاعر يحذر من مغبة ما قد يحصل في المستقبل إذا ما تكررت تلك التجربة المرة. فالانقطاع عن المكان يفقد المرء شعوره بالأمان ويخلق لديه حالة من القلق من فقدان الأهل والأحبة. ما يجمع بين الغربتين هو اللهفة إلى البيت وإلى أجواء الأمن والأمان، فضلا عن شعور الألم والحسرة والخوف. ما يلفت النظر هو اللجوء إلى ضمير المتكلم في النص أعلاه، وفي نصوص عدة من أشعاره، لأن الشاعر ينقل نفس الحالة المأساوية، فإن تجربته الذاتية وتجربة غيره من أبناء شعبه لهي نفس التجربة؛ نفس الجوع والألم والوجع، وهي رسالة يبثها المرسل نحو المتلقي.

يصور الشاعر تجربة المخيمات الأخرى بصورة مغايرة نوعا ما لأن الزمان والمكان والحيثيات مختلفة. هنا يبرز الصراع الدموي وسقوط الشهداء والقتلى والجرحى، ويبرز نضال أهل هذه المخيمات ضد المحتل في صراعهما على الأرض، كما يتجلى ذلك في مجموعة لا بأس بها من قصائد ديوان "ثم ماذا":

"السنديانة لي
ويغتصبون بعض الفيء عن رأسي
وبعض العافية
والبرتقالة لي
ويستلبون من شفتي
بعض عصيرها والباطية ( ثم ماذا، ص35)

إن المتتبع لقصائد الشاعر في اختلاف زمانها ومكانها يلاحظ أن الملامح المكانية، بصورها وتشبيهاتها ظلت هي عينها. فالوطن ظل مربوطا ب"السنديانة: و"البرتقالة" و"والأقحوانة" و"البيلسانة". ويظل "الثرى" رمزا للارتباط بالجذور، وتظل "السنابل" إيحاء بالفرح. فالبيت والقرية والمخيم ما هي إلا جزء من الوطن الأكبر الذي لا نحس بطعمه:

يا جيلنا المولود في الضياع
يا لداتي العطاش والجياع
من منكم يعرف طعم الكعك والحليب من
من منكم يعرف معنى لفظة الوطن" ( أذكر، ص129)

ما يجب التأكيد عليه في هذه الدراسة أن المكان يحمل نفس النكهة ونفس المواصفات، مهما اختلف زمانا ومكانا، فالبيت محاط ب"الزيتون" و"الميرامية"، والقرية لها رائحة "النعناع" و"الحبق"، والوطن تفوح منه رائحة "البابونج" و"القرنفل"، والأطفال يتساقطون كتساقط "ثمار التوت"، والبيت صامد صمود "السنديان"، والوطن قديم قدم "الزيتونة".

هذه الصور والتشبيهات تتشابه فيما بينها سواء وردت في ديون "أذكر" الذي يعود بنا ستة عقود ونيف، أو في قصائد الانتفاضة التي تعود إلى سنوات الثمانين من القرن الماضي، والتي وردت بكثافة في ديوانه "ثم ماذا"، وفي ديونه "عامان من وجع وتولد فاطمة" (1996).

بعد معاينتنا لصورة المكان في أشعار جهشان فقد وجدنا أن معظم مركباته تتجلى أمامنا بوضوح ليتعدى الصورة الخارجية مخترقا العاطفة والوجدان، فيصبح دليل انتماء وألفة كما تنعكس في النقاط التالية:

الإطار: تتجلى صورة القرية الفلسطينية بوضوح بما يتلاءم مع شكلها التراثي المألوف وأسلوب حياتها، حيث "البيدر" و"التراب الناعم والقصل"، و"الكروم" و"الحقول". وهي أمور وثيقة الصلة ب"النورج"، و"الدراس"، و"المحراث"، و"الخوابي"، و"الفأس"، و"عودة القطيع".

النباتات والأشجار: ترد أسماء أشجار بلادنا ونباتاتها الشهيرة كجزء من المكان مثل: "الزعرورة" "السنديانة"، "الزيتونة"، "البطم"، "التينة"، "البابونج"، "النعنع"، "الريحان"، "التوت"، "الحبق" و"السنابل".

المأكل والمشرب: ترد أسماء المأكولات التقليدية مثل: "حبات العدس المسلوق"، "خبز الصاج"، "رغيف ملتوت بالزيت"، "رغيف محمص"، "الكبة" و"العرق". ما يجب التأكيد عليه أن هذا المركب له ارتباط بالوضع الاجتماعي والانتماء الطبقي للفرد. إن معظم المأكولات والمشروبات الواردة في أشعاره من نصيب العامة، أما بعضها فهي من نصيب الخاصة، أو ما ينتظر الناس تذوقه في المناسبات السعيدة، وفي الأعياد.

الطيور: إنها أشهر طيور بلادنا المألوفة للناس جميعا مثل: "الحمام"، "الشحرور"، "الدوري"، "الحجل"، "السنونو" و"القبرة".

الألعاب: معظم الألعاب التي ترد في أشعار جهشان مجهولة لجيل اليوم وهي ترتبط بالمحيط الزمكاني وبالوضع الاجتماعي للناس حينذاك مثل: "العاتول"، "طيارة الورق"، "امتطاء العصي خيولا" و"علبة السردين" التي تربط بخيط ليجرها الأطفال وراءهم وكأنها سيارة. هذه الألعاب لا تكلف أصحابها إلا بعضا من الوقت.

العادات والتقاليد: وهي عادات وتقاليد كانت مألوفة في تلك الأيام وما زال بعضها ساريا حتى اليوم مثل: "سلق البيض في الأعياد"، "دجاجة وكماجة"، والحكايات التي كانت ترويها الجدات للأحفاد مساء. لكن ما يجدر ذكره أن هذه الأمور يتم التعامل معها اليوم بصورة مغايرة، فلم يعد البيض، على سبيل المثال، مأكولا نشتهيه، ولا ننتظره للمناسبات، بل إن دلالتها كانت مختلفة عما هي عليه اليوم.

توظيف التراث: يوظف الشاعر القصص والحكايات الشعبية مثل "سيرة عنترة العبسي"، التي كانت تجمع أهل البيت جميعا إضافة إلى الأصدقاء والجيران. كما يعتمد على اقتباس ما يراه مناسبا من التاريخ الإسلامي والمسيحي بما يخدم الجو القروي العام. أو أن يلجأ إلى استعمال الأمثلة الشعبية مثل "ما حك جسمك مثل ظفرك، أو "الحبل على الجرار" وقصة "مسمار جحا".

تترد هذه التوظيفات بكثافة في شعر جهشان لتساهم في خلق جو قروي، وهكذا تتضح ملامح المكان في شعره. إنها ليست ملامح خارجية لموقع جغرافي بل هي فعل عاطفة وألفة كما يرى باشلار.

إن المتتبع لمسيرة شاعرنا يميز بوضوح أنها تواكب ثلاث مراحل من حياته:

جيل الطفولة: وفيها يستعيد أجواء القرية الفلسطينية وما يهددها من خطر الاقتلاع والتشرد، فنرى ذلك بوضوح في مواقع عدة من أشعاره، خاصة في ديون "أذكر". هناك نرى المراحل الأولى للاعتداء على القرية، ثم وقوع الضحايا بشكل متتال، حتى يكون الحدث الأكبر- الهجرة والتشرد- كل ذلك من خلال عيني الطفل.

مرحلة اكتمال الوعي: وفيها يتطرق إلى محاولات الاقتلاع والتصدي من ناحية، وإلى ظروف الإنسان الفلسطيني في ظل الواقع الجديد من ناحية أخرى. ثم التشرد الفعلي ورؤية ما يدور من خلال عين واعية أقل عاطفة وأكثر تعقلا، كما ينعكس ذلك في ديوانه "نمر الياسين الساعدي يروي لكم".

مرحلة البلوغ: إنه زمان آخر ومكان آخر، الشاعر يعيش في الجليل ويصور ما يتعرض له المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومحاولات الثورة والانتفاضة وما يلاقيه المواطن هناك من قتل وتشرد واستشهاد دفاعا عن المكان.

إن ما يجمع بين هذه المراحل الثلاث هو تصوير الشاعر للمكان لا تصويرا برانيا فقط بل هو تصوير يدخل في لب المشاعر والأحاسيس معتمدا في ذلك على الواقع المعيش يلتقط منه صورا لأمور مجردة كما هي على حقيقتها، وعلى الخيال والحلم الذي يغذي طموحات الشاعر وآماله في تحقيق الأفضل، كما يتجلى في قصيدته "عامان من وجع وتولد فاطمة" التي اختارها لتكون عنوانا لديوانه.

لا يكتفي الشاعر في تصويره للبيت بذكر مواصفاته المرئية والملموسة بل إنه يتعدى ذلك إلى البعد العاطفي والوجداني لتتجذر عملية الانتماء، وهو لا يفقد الأمل في جل ما يكتب بل يبقى الباب مفتوحا لتحقيق جزء من هذه "الأحلام".

نستطيع أن نشير بوضوح إلى مدى التحام الشاعر بالطبيعة الفلاحية بكل أبعادها ومركباتها في القرية والمخيم وفي السهل والجبل وفي الكروم والحقول. فقد جعلها جزءا من كيانه تفرح لفرحه وتحزن لحزنه وتصمد لصموده. يحدث كل ذلك بواقعية تامة بعيدا عن الرومانسية لأنها تصور، في غالبيتها، مسيرة ذاتية وعامة حيكت خيوطها على أرض الواقع. ووجدنا أن المدينة كما صورها في قصيدته "مشوار في سوق الناصرة" تكاد لا تختلف عن صورة القرية في ألفتها وطيبتها وتآخيها وحتى في مفرداتها.

ولقد لاحظنا أن لغة الشاعر لصيقة بالأرض كما اعتاد الفلاح والعامل في بلادنا على استعمالها وإدراكها، وهي تساهم مساهمة فعلية في رسم المكان وساكنيه في مواقعهم المتعددة. ووجدنا أن هذه المفردات والتعبيرات ذات دلالات اجتماعية وسياسية. فاللغة التي تعود إلى القرية والفلاح والشهيد وأهله هي لغة الكد والتعب والعرق، ولغة الشرف والوفاء والأصالة، وهي مستمدة من وحي الطبيعة، كما ينعكس في مخاطبته، على سبيل المثال، "أكرم الآباء" قائلا: "ينتفض الثرى المخضوب من دمه على فرح السنابل" ، وتصبح نحالين القرية الثكلى "ساحة الأنبياء"، و"وردة الجراح".

أما اللغة التي تصور المعتدي والمتقاعس في الذود عن التراب والأخلاق والكرامة فهي لغة فيها حسرة وغضب وتسفيه، فكانت النتيجة أن "احترق الهواء في صدورنا" "وانطفأ الزهر على ذوائب الزيتون" "واحترق القمح على البيادر" وكما يخجل المرء من فعل أخيه وصديقه "تخجل الطرق". نشير أخيرا في هذا المجال أن الدارس يمكنه أن يقوم بعملية إحصائية استقصائية ليجد أن مفردات القرية وطبيعتها متوفرة بغزارة حين يكون الموضوع له علاقة بالقرية والبيت.
تحدثنا أعلاه عن مراحل ثلاث في حياة الشاعر، وهي مراحل زمنية، لكنا إذا ما قارنا بين تأثير عاملي المكان والزمان على الشاعر ونتاجه فسنرى بوضوح أن المكان أكثر تأثيرا عليه. ودون الدخول في فلسفات المنظرين الهامة الذين تحدثوا عن أولوية الزمان وتابعية المكان، فإنا نرى أن الشاعر عمد إلى ترسيخ صورة المكان خصوصا في ديوان "أذكر" الذي يعتمد الأسلوب القصصي، فكان عبارة عن لوحات استذكارية لسنة النكبة وما قبلها بقليل.

وإذا ما حاولنا النظر إلى ديوانه "نمر الياسين الساعدي يروي لكم" فسنرى أن عنصري الزمان والمكان يسيران بشكل متواز لدرجة جعلت الشاعر يشير إلى تواريخ محددة بعينها. ومع ذلك فإن المكان هو الأساس. ونلاحظ أن ذكريات الشاعر تحفر عميقا في المكان، فالصلة هي أولا وقبل كل شيء هي صلة إنسانية عاطفية نابعة من تشبث الشاعر بماضيه الذي يستذكره كتعبير عن وجود في الحاضر، لا إبطال له ولا تصارع معه، بل إنه دعم وامتداد لهذا الحاضر الراهن في الإطار الأوسع والأكثر شمولية وهو المكان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى