الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
بقلم سعاد جبر

دراسة تحليلية نقدية في نص "الجثمان " للكاتب د. ايمن ياسين

تفتتح كواليس النص بإيحاءات الإنكسار وصدمة الخبر المؤلم بموت الرضيع ، ويكشف النص عن نافذة الروتين القاتل في التعاطي البارد مع معضلات الألم ؛

" تركه الطبيب إلى موظف مسئول لاستكمال بعض الاستمارات..أوراق كثيرة بصم عليها لا يدري ما بها..تنفس الموظف براحة و لملم الأوراق ثم أعطاه أقصوصة صغيرة.."

وتدور أحداث النص في مشاهد اجتماعية مقتطعة من مسارات الأيام المتخمة بالألم وثقل الأعباء، وتعبر عن بعدين في النص هما : بعد الجراح والألم بواقعة موت الرضيع ومترتباته من الحسرة والانكسار وبعد ضنك الأيام وقد اكتوى بطل النص " فرج ربنا " بكدح الأيام وقلة ذات اليد والجلوس صفراً على الطرقات وبين يديه عدة العمل والمعاناة في مشهد اجتماعي صارخ يجرد الواقع من زيفه ويبث أنين جرحى المجتمع على أثير سطور النص
وتعبر الكواليس النفسية المطلة على شخوص النص على حجم المعاناة والعذابات التي بلغت حدها في البعض فأنكسر من الألم وفي الآخر فنراه يمضي تديره ماكنة الحياة في الذهاب والإياب ، لكنها لا تدوم ، إذ لا بد أن تطل لحظات الشعور الحادة والتي تبث طرقاتها في النص فتثير الخلجات عند البعض وتحركه ولكن يبقى الصمت هو السلطان الذي يخيم على الجميع تجاه رمادية الواقع السلبية .

وتبرز في النص وحدة موضوعية تكشف الألوان القاتمة في إيقاعات الحزن التي لا تلبث أن يخفف من برد حرها ، انسام الأماكن الطاهرة وصلوات المؤمنين ، لكن لا يلبث الواقع أن يكشف عن نفثه فيثير نزف الأحزان وقد تراكم زخمه مادة وحسا في حراك بطل النص الشعورية.

وتدور الأحداث في ذلك في مسارات دولابية متسارعة الوتيرة والإيقاع في عكس ظلال الألم والحسرة وتنهدات لهاث قلة ذات اليد في المعاش .
وتسجل أحداث القص في أماكن متعددة يتجاذبها النص بين مكان استلام الرضيع في غرفة شاحبة يتناثر فيها طرقات الموت الصارخ في مشاهد تصويرية في مخيلة الذاكرة بحيث تعبر عن برودة الإحساس في الذوات المتحركة في مساحاتها القارصة في الشعور في الوقت ذاته ، ومضيا في لغة التضاد المعبرة عن تضادات المجتمع في نمنماته وكلياته يمضي السياق في احتضان بطل النص في بقعة طاهرة بحيث تقوى أركانه في مساحات صغيرة في جسده فيتغلب على أحاسيس الحيرة والذهول ويركن إلى الاستسلام والدموع ويدور في المسجد هناك حوارات تتغلفل في أعماق " فرج ربنا " دائرة بين التسرية والعزاء ، ويبرز في النص تصوير فني مؤثر يعبر عن حجم التصاق الأب بأبنه الرضيع وهو في نومة الموت الأخير

" تمسك بقوة بجثمانه خشية أن يفلت منه من صدمة سائر هنا أو هناك..خفف القبضة فقد شعر بأصابعه تغوص فى الجسد الذابل..خشى عليه..مرة أخرى شعر بدموعه تختلط بحبات عرقه..لقد مارس شعورا جديدا عليه..بالحنو و بالخشية على ولده حتى و لو كان جثة هامدة"
ويعبر هذا المقطع عن حجم ذبول أعصاب بطل النص وقشعريرته بين الاحتضان الشديد وانسحاب اليد المنكسرة ألما تخفيفا على الرضيع في تضادات الشعور الدائر في غيمة عاشقة للرضيع تقطر حبا وتحنانا إليه؛ بحيث شكلت حجابا قاتما في إيقاف شحنات تفكير " فرج ربنا فغدت هناك الذكريات ذابلة في مساحاتها الخريفية ، لا محل لها في وقع قلبه الجريح في مقطع من الذاكرة مسجل لزوجته وهي تبشره بعوض في الطريق .
ويكتنف النص اسقاطات متنوعة تقطع مساحات النص على التتالي وتكسر الفكرة قبل بلوغها حدها في الإشباع وتبقى السطوة لتلك الأسقاطات التي تعبر عن مسرح الحياة الاجتماعي وتضاداته في الفقر والمعاناة وزخم الحراك نحو المادة ولقمة الخبز التي تحمل معها الألم والنشوة الباردة في الآن ذاته ، إذ تعبر عن نفسها بقوة في لغة الشارع الذي يستلم صولة المضي في المعاناة والحذف في ظلاله الأسقاطية التي ينفتق رحمها في بقعة النزع الأخير حيث رائحة الموت واحتضان الأمنيات والتطلعات والعمر كله تحت ثرى التراب المنسي في لغة الوجود.
ويدور النص في نهارات الكدح وقيظ ظهيرة المعاش والمعاناة وازدحام الخلق نحو لقمة العيش المتدللة في هروبها من الناس في لغة اللهاث والتسارع مع الزمن البعيد القريب ، وتتشكل ثنايئة المكان والزمان بقوة في النص بحيث تحملان ثقل النص كله في الإسقاطات وتشكلان مقوما هاما في الوحدة الموضوعية للنص .

وفيما يخص الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات فيمكن إدراجها على النحو الأتي "

بطل النص " فرج ربنا " فهو رمز للشاب الكادح في مجتمع المعاناة والبحث المضني عن لقمة العيش في ظل العمل البدني الشاق وجسد الكادحين الذي تتقاسمه المشاعر المرهفة والأمنيات الوردية الضائعة وانكسارات الفقر وانتظار لقمة الخبز التي لم تطرق بابه وعدته في النص و في متتاليات الحلم مازالت تدور رحاها في أن تراود يومه في لحظة ما

الرضيع : صورة الألم ورمز التضحيات المتتالية في حياة ذوي المعاناة والمقهورين في لوحة المجتمع الرمادية وقسوة الأيام

الطبيب : مفردة اجتماعية تحمل وجه الموت والحياة معا ولكن يغيب قمر الحياة معها في النص انسجاما مع معزوفة الموت الرمادية في النص
موظفي حجرة الموت : مسارات الأيام القاتلة وروتينها البارد وتوقيعاتها الزائفة المتشرذمة من لغة الشعور فتبدو في النص في سمت تكوين اجتماعي مؤسسي بارد صارخ متجرد منفصم من الشعور ومتواكب مع دينامية حراك ميكانيكي في عمر الحياة المادي

الأمام : رمز العطاء والتسرية وغيمة برد تقطر برد سكينتها على القلوب الجريحة المكتوية بالألم
الزوجة : تكتم النص في بعد الكشف عن أبعاد شخصيتها ولكن يحمل النص إيحاءات البشارة في شخصها لزوجها في لغة استمرارية الحياة في رمزية أنوثتها المعطاءة في عمر البقاء
الزبون : صفعة الألم وخيبة الأمل في معترك الأيام
السائق : ماكنة الحياة الروتينية التي تختلط فيها المادة والإحساس بحيث يغيب كل منهما في الأخر في لغة العطاء والعمل الميكانيكي المنتظم في متتاليات الأيام
الرجل : مفردة اجتماعية تفرد صفحة التسرية عن الشاب من خلال عملة ورقية تخفف حر مادة الحرمان المسيطرة بقوة قاهرة على مشاعر الشاب إذ غاب معها لغة التذكار للمقطع المكاني الذي يحتضن جثة الصغير في وسط المدافن المتشابهة

أما أيدلوجية النص فهي تدور في لغة الرفض المتعالية في النص لحيثيات ويوميات المجتمع المثقلة بالقهر والأحباطات إذ تقتل روح الشعور ولا يبدو على الساحة إلا رقصات لغة المادة والمال
ويعبر النص عن حجم التعاطف مع الطبقة الكادحة العاملة المتهاوية فقرا ومعاناة
أما لغة القيم في النص فتدور في مداراتها المتجردة من خلايا الشعور الحية باستثناء نمنمات فردية خالجت النص في لغة المسجد وسمت الرجل عند قارعة المدافن الخاوية من حراك الأشياء باستثناء عملة ورقية تحرك صوتها الخافت في جسد الشاب الفقير فتبعث الحياة في عمر الموت الأبدي مكانا وزمانا

أما وتيرة الإيقاع في النص فهي تدور في أبعاد الحدة والانكسار التي تزداد طرقاتها على القلوب المرهفة مع توالي مفردات يوميات ذل الشاب الكادح في رحلته مع رضيعة في لغة النزع الأخير

أما فيما يخص لغة الكاتب فقد تراوحت بين المباشرة وتغذية النص بصور فنية تحمل معها لغة المفارقات بين وحي الواقع وعبوره في مخيلة الكاتب الذهنية في اسقاطات رمزية معبرة عن لوحة اجتماعية صارخة بالرمادية السلبية في الحياة بين المعاناة والقهر وسعار قلة ذات اليد الذي يثير انتفاضة الشعور فتبث مناجاتها للقارئ في لغة التعاطف والذوبان الشعوري مع النص

أما فيما يختص بعقدة النص " الحبكة " وهي الحبة المفقودة في عقد النص الذي بين أيدينا فنجد خلو النص من عقدة النص وما يرافقه من لحظة تنويرية إذ غاب ذلك كله في آتون سيطرة مشاعر كاتبنا المبدع على النص ففلتت منه بعض مقوماته ويعود ذلك لأنه على وجه التحديد ؛ استجاب مستسلماً لمشاعره المسيطرة على النص ، ففلتت منه أدوات السيطرة على النص فضاع بالتالي مقوما هاما في عناصر القص وهيكلته البنائية ، وهذا مأخذ على الكاتب إذ كان من نتاجه سيطرة وتيرة الألم والحسرة التي طغت على النص وافقدته عنصر المفأجاة التي لو انتثرت في النص لزادته بهاءا وجمالا وتغريدا في عرضه القصصي المبدع .
ولكن ذلك لا ينتقص من جودة النص وإبداعه وتميزه في لوحته الاجتماعية المؤثرة ، ويتضح للباحث المتأمل في النص طبيعة الاتساق بين عنوان النص ومادة النص الموضوعية فكلاهما يعبر عن الأخر ويحتفظ العنوان بمفاجأة للقارئ تنكشف عند العرض القصصي ببيان ماهية الجثمان وسره كنه في النص

وتسدل النهايات في النص في إعلاء صوت ضمور الجسد حسا ومادة بحيث تطغى ماكينة الأيام في رمزية مادتها فتطوي معها الذكريات في لحظة جوع آنية ، لا تلبث ان تخيم متتاليات المشاعر والذكريات على الجسد في لحظة ما فيعود إلى متتالية الشعور والمعاناة وهكذا تواليك بين الشعور وسلطان المادة .

تحايا التقدير المبدع الألق الوضاء لكاتبنا المبدع : د . ايمن ياسين ودام تألقه البهي الثري الذي يطل بأمواجه القزحية على لوحات المجتمع الرمادية فيفض الغبار عنها ويعريها في كنه جوهرها في لغة واقعية تحمل معها عنفوان الضمير ونبل الرسالة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى