الجمعة ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
(الحلقة الخامسة)

دوقلة المنبجي:يتيمة الدهر

كريم مرزة الأسدي

شعراء الواحدة: دوقلة المنبجي / رؤى جديدة وأسئلة مثيرة

1 - المقدمة:

لأيم الله أنا حائرٌ لمن أنسب هذه القصيدة الدعدية اليتيمة الكاملية ( من البحر الكامل، عروضها حذاء، وضربها مضمر)، عدد أبياتها مختلف فيه بين 60 إلى 66 بيتاً، تسلسل أبياتها غير متفق عليه، مترادفات كلماتها متباينة حتى يكاد كلّ بيت يروى بصياغة مختلفة ، مما يشير إلى أنّ العديد من الشعراء عبثوا بها لينحلوها لهم غصباً، و كل واحد منهم يزعم نسخته هي الصحيحة الأصيلة، لأنه صاحبها، وما عداها صورة مشوهة لولادة غير شرعية، الحق أنّها فريدة جميلة يتيمة، يتيمة لا من حيث تسببت في مقتل مبدعها فتيتمت، ولا لأنها واحدة شاعرها، لا أخت لها، لا و لا...!! أنا عندي هذه المسكينة يتيمة لأنها عرضة للعبث والتحرش بها لكلّ من هبَّ ودبَّ دون خجل ولا حياء، لا راعي لها، ولا ولي لأمرها، كلّ يقول أنا لها، ولا يدري ما سرّها إلا الذي بدعا !!

2 - صورتان لا تجتمعان حتى تشكيليا...!!:

يعني لا أريد أن أجرجرك إلى يتم المسكينة المطعون بشرفها رغم عفتها وأنفتها...!! أنت - بربّك -ألا توافقني الرأي حين أقول ؟ إنّ شاعر هذه الأبيات الرجولية العفيفة الحكيمة الرائعة :

ولقد عَلِمْـــــتِ بأنَّني رَجُـــــلٌ
في الصالحاتِ أروحُ أو أغْدوا
بَرْدٌ على الأدْنى ومَرحَمَــــــةٌ
وعلى المكـــارِهِ باسِــلٌ جَلْــدُ
مَنَعَ المطامـــعَ أن تُثَلِّمَنـــــي
أنِّي لِمِعْوَلِــها صَــــفَاً صَــــلْدُ
فأظـــلُّ حُـــرّاً مــن مَذَلَّتِهـــــا
والحُـرُّ حيـــن يُطيعُــهـــا عَبْـدُ
آلَيْـــــتُ أمـــدحُ مُقْرِفأً أبـــــــداً
يَبْقـــى المديـــحُ ويَنْفَـــدُ الرِّفْـدُ
هيهـــات يأبـى ذاك لـي سَـــلَفٌ
خَمَدوا ولـــم يَخْمَدْ لـــهم مَجْــدُ
فالجَـــدُّ كِنْــــدَةُ والبَنـــونَ هــــمُ
فَزَكـــا البَــنونَ وأنْجَــــبَ الجَـــدُّ
فلَئِـــنْ قَفَـــــوْتُ جميــــلَ فِعْلِهِــــمُ
بِذَميــــمِ فِعْلــــي إنّنــــي وَغْــــــــدُ

لا يمكن - بأي حالٍ سكران، تعبان، بطران...!! - أن يضع هذين البيتين الفاحشين حتى العهر الساقط الرذيل:

ولها هـنٌ رابٌ مجستــــــه
وعر المسالك حشوه وقـدُ
فإذا طعنت طعنت في لبـدٍ
وإذا نزعـت يكـاد ينســــد

النقد - لعنه الله - تجبرني لذته أن أعرّي العارين تماما من شرف الكلمة، والاحترام الآدمي ، ولو أن شرف النفاق والرياء لأعرى وأسقط وأرذل...!!، ولعلك تعلم:( هن) من الأسماء الستة، حذفت لندرة استعمالها على ذمة فحشها وعيبها، فقيل الأسماء الخمسة، جزماً لم أضم هذين البيتين للقصيدة، وحاولت جاهداً أن أختار أقرب االنصوص صحة لجمالية الفريدة الخالدة في لغة العرب...!! القصيدة اشتهرت منذ العصر العباسي الأول، لذلك نسبت لأبي الشيص والعكوك العباسيين، وهذا عصر يضم كثيراً من الشعراء المتهتكيكن الخبثاء، وهي أيضاً نسبت لأبي نؤاس، والشعراء - في خلواتهم - مزاحهم ثقيل، وعبثهم متهتك لعين، لابد أنهم وضعوها على مشرحة فسقهم، ونالوا منها ما شاءوا، أو من بعدُ شعراء أواخر القرن الرابع الهجري، لعبوا بها ما لعبوا - سيأتي الحديث - لأن البيتين السابقين الفاجرين، لا يقولهما إلا شاعر شاعر، ولله في خلقه شؤون، وعليهم عيون...!!

نعم القصيدة ملئت الدنيا، وشغلت الناس، رائعة، بل من أروع الشعر العربي عشقاً ورقّة ووصفاً وحكمة وبلاغة وإحساسا، وقد تنازع عليها أربعون شاعر، كل يدّعيها لنفسه، بعضهم من الشعراء المشهورين، وبعضهم من الشعراء المغمورين، ولكن رست الحال على دوقلة المنبجي، ولم تنسب إليه قصيدة أخرى، مَنْ هذا الدوقلة المنبجي ؟!!

3 - دوقلة المنبجي:

هو الحسين بن محمد المنبجي، نسبة لبلدة منبج السورية المعروفة بتاريخ الأدب العربي، لم يذكر لنا التاريخ سنة ولادته، ولا تاريخ وفاته، ولكن نستطيع أن نجتهد أنه أول المنبجيين من الشعراء المشهورين في تاريخ الأدب العربي أي سبق البحتري ولادة بجيل، فهو بزغ في عصر المأمون، وربما مات في عصره، والبحتري جاء من بعده عاش ما بين ( 206 - 284 هـ / 820 - 897م)، وبزغ في عصر المتوكل الذي تسنم عرش الخلافة بعد عمّه المأمون بخلفتين، أبيه المعتصم، وأخيه الواثق، أما أبو فراس الحمداني ( 320 - 357 هـ / 932 - 968 م)، فمتأخر عليهما بنيف وقرن من الزمان، ومعاصرنا عمر أبو ريشة، ذاك اليوم مات...!!، عاش بين ( 1910 - 1990م ).
جاءت ترجمة شاعرنا التي تنسب إليه هذه الدعدية قصيرة في (تراجم شعراء الموسوعة الشعرية) وفي الكتاب ( دواوين الشعر العربي على مر العصور)، وفي كتاب ( فهرس شعراء الموسوعة الشعرية)، كالآتي:
" دوقلة المنبجي:

? - ? هـ / ? - ? م

الحسين بن محمد المنبجي، المعروف بدوقلة.

شاعر مغمور، تنسب إليه القصيدة المشهورة باليتيمة، ووقعت نسبتها إليه في فهرست ابن خير الأندلسي وهي القصيدة التي حلف أربعون من الشعراء على انتحالها ثم غلب عليها اثنان هما أبو الشيص والعكوك العباسيان، وتنسب في بعض المصادر إلى ذي الرمة، وشذ الآلوسي في بلوغ الأرب فجعلها من الشعر الجاهلي، وتابعه جرجي زيدان في مجلة الهلال (14-174)، وخلاصة القول أن القصيدة كانت معروفة منذ القرن الثالث الهجري عند علماء الشعر، وأول من ذهب أنها لدوقلة هو ثعلب المتوفى سنة 291هـ "

4 - القصيدة من البحر الكامل، عروضها حذاء ( فَعِلُنْ)، وضربها أحذ مضمر ( فَعْلُنْ):

مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ فَعِلُنْ
مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ فَعْلُنْ
القافية: متواترة.

لاريب أن الضرب جاء أحذ مضمر، والقافية متواترة للتوافق مع اسم حبيبته ( دَعْدُ)، بوعيٍّ منه، أو لا وعي..!!

1 - هل بالطُّلول لِسائِلٍ رَدُّ؟
أَمْ هل لها بِتَكَلُّمٍ عَهْـــــــدُ؟
2 - دَرَسَ الجَديدُ جَديدُ مَعْهَدِها
فَكَأنما هي رَيْطَــــــةٌ جَــرْدُ
3 - مِن طولِ ما يَبْكي الغَمامُ على
عَرَصَاتِها ويُقَهْقِهُ الرعْـــدُ
4 - وتَلُثُّ سارِيَةٌ وغادِيَـةٌ
ويَكُرُّ نَحْسٌ بعدهُ سَعْــــــدُ
5 - تَلْقى شآمِيَةٌ يَمانِيَــةً
ولها بِمَوْرِدِ ثَرِّها سَــــرْدُ
6 - فَكَسَتْ مَواطِرُها ظَواهِرَها
نَوْراً كـأنَّ زَهاءَها بُــــرْدُ
7 - تَنْدى فَيَسْري نَسْجُها زَرَداً
واهِي العُـــرى ويَغُرُّه عَقْـدُ
8 - فَوَقَفْتُ أسألُها وليس بهــا
إلاّ المهَا ونَقانِـــــقٌ رُبْـــــدُ
9 - وَمُكَدَّمٌ فــي عانَةٍ جـزأت
حَتّـى يُهَيِّجَ شَــأوَها الوِردُ
10 - فَتَناثَرَتْ دُرَرُ الشؤونِ على
خَـــدِّي كما يَتَناثَرُ الع ِقْـدُ
11 - أَو نَضحُ عَزلاءِ الشَعيبِ وَقَد
راحَ العَسيف بِملئِها يَعدو
12 - لَهْفي على دَعْدٍ وما خُلِقَتْ
* إلاّ لِطولِ تلَهُّفي دَعْــدُ
13 - بَيْضاءُ قد لبِسَ الأديــمُ أديْـ
ـمَ الحُسْنِ فَهْــوَ لِجِلْدِها جِلْدُ
14 - وَيَزيِنُ فَوْدَيْها إذا حَسـرَتْ
ضافي الغَدائرِ فاحمٌ جَعْدُ
15 - فالوَجْهُ مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌّ
والشَّــــعْرُ مِثْلُ الليلِ مُسْوَدُّ
16 - ضِدَّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنــــا
والضِّدُّ يُظْــهِرُ حُسْــــنَهُ الضِّـدُّ
17 - وجبينُها صَلْتٌ وحاجِبُهــــا
شــخْتُ المَخَـــــطِّ أزَجُّ مُمْـــتَدُ
18 - وكَأنَّها وَسْنى إذا نَظَــــــرَتْ
أوْ مُدْنَــفٌ لَمَّــا يُفِـــــقْ بَعْـــــدُ
19 - بِفتورِ عَينٍ ما بِها رَمَــــدٌ
وَبِها تُداوى الأَعيُنُ الرُمــدُ
20 - وَتُريكَ عِرنيناً بـــه شَمَـــمٌ
وتُـريك خَــــدّاً لَونُـــهُ الوَردُ
21 - وَتُجيلُ مِسواكَ الأَراكِ عَلــــى
رَتـــلٍ كَـأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
22 - والجِيدُ منها جيدُ جازئــــةٍ
تعطو إذا ما طالهـــا المَــردُ
23 - وَكَأَنَّما سُقِيَت تَرائِبُهـــــا
وَالنَحرُ مـــــاءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
24 - وَاِمتَدَّ مِـــن أَعضادِها قَصَبٌ
فَعمٌ زهتـــهُ مَرافِــــقٌ دُردُ
25 - وَلَها بَنــــــانٌ لَو أَرَدتَ لَــــه
عَقــــداً بِكَفِّـكَ أَمكَنُ العَقــــدُ
26 - وَالمِعصمان فَمـــــا يُرى لَهُما
مِــــن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
27 - وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَــــت
بيضُ الرِيـاطِ يَصونُها المَلدُ
28 - وَبِخَصرِها هَيَــفٌ يُزَيِّنُــــهُ
فَــــإِذا تَنـــوءُ يَكـــــادُ يَنقَـــدُّ
29 - وَالتَـــــفَّ فَخذاها وَفَوقَهُـــم
كَفَـــلٌ كدِعصِ الرمـــل مُشــتَدُّ
30 - فَنهوضُها مَـــثنىً إِذا نَهَـــضتْ
مِــن ثِقلَـــهِ وَقُعودهـــا فَــردُ
31 - وَالســــاقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَـــةٌ
عَبِــلَت فَطَـــوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
32 - وَالكَعــــبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَــــه
حَجـــمً وَلَيــسَ لِرَأسِـــهِ حَـــدُّ
33 - وَمَشَت عَلى قَدمَيــــنِ خُصِّرتـا
واُلينَتـــا فَتَكامَـــــلَ القَـــدُّ
34 - إنْ لم يَــــكُنْ وَصْــلٌ لَدَيْكِ لنـــا
يَشْفي الصَّبـــابَةَ فَلْيَكُنْ وعْــــدُ
35 - قد كـــــان أوْرَقَ وصْلُكُم زَمَناً
فَذَوى الوِصالُ وأوْرَقَ الصَّدُّ
36 - للَّهِ أشْـــواقٌ إذا نَزَحَــتْ
دارٌ بِنـــا، ونَبــا بِكُـــــمْ بُعْـــــدُ
37 - إِن تُتهِمي فَتَهـــامَةٌ وَطني
أَو تُنجِدي يكنِ الهَـــوى نَجدُ
38 - وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُريـــــــنَ لَنـا
وُدّاً فَهَلّا يَنفَـــــعُ الــــــوُدُّ
39 - وَإِذا المُحِــــبُّ شَكا الصُدودَ فلَــــم
يُعطَف عَلَيـــهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
40 - تَختَصُّها بِالحُبِّ وُهـــــيَ علـــــى
ما لا نُـــــحِبُّ فَهكَــــذا الوَجدُ
41 - أوَ ما تَرى طِمــــــرَيَّ بَينَهُمــــا
رَجُـلٌ أَلَـــــحَّ بِهَزلِـــــهِ الجِــــدُّ
42 - فالسَّيفُ يَقْطَعُ وهْـــــوَ ذو صَدَأٍ
والنَّصْلُ يَفْري الهــــامَ لا الغِمْدُ
43 - لا تَنْفَعَـــــنَّ الســــيفَ حِلْيَتُـــهُ
يــــومَ الجِـــــلادِ إذا نَـبا الحَدُّ
44 - ولقد عَلِمْـــــتِ بأنَّني رَجُـــــلٌ
فــــي الصالحاتِ أروحُ أو أغْـــدوا
45 - بَرْدٌ على الأدْنى ومَرحَمَــــــــــةٌ
وعلـــى المكـــارِهِ باسِــلٌ جَلْــدُ
46 - مَنَعَ المطامــــــعَ أن تُثَلِّمَنـــــي
أنِّــــي لِمِعْوَلِــها صَــــفَاً صَــــلْدُ
47 - فأظـــلُّ حُـــرّاً مــن مَذَلَّتِهـــــا
والحُـــرُّ حيـــن يُطيعُــهـــا عَبْـــــدُ
48 - آلَيْـــــتُ أمـــدحُ مُقْرِفأً أبـــــــداً
يَبْقـــى المديـــحُ ويَنْفَـــدُ الرِّفْـــدُ
49 - هيهـــات يأبــــى ذاك لـــي سَـــلَفٌ
خَمَدوا ولـــم يَخْمَدْ لـهم مَجْــدُ
50 - فالجَـــدُّ كِنْــــدَةُ والبَنـــونَ هــــمُ
فَزَكـــا البَــنونَ وأنْجَــــبَ الجَــدُّ
51 - فلَئِـــنْ قَفَـــــوْتُ جميــــلَ فِعْلِهِــــمُ
بِذَميــــمِ فِعْلــــي إنّنــــي وَغْـــدُ
52 - أجْمِـــــلْ إذا حاولــــتَ في طَلَـــــبٍ
فالجِــــدُّ يُغْــــني عنــــك لا الجَـــدُّ
53 - وإذا صبَــــرْتَ لِجَهْــــدِ نـــازِلَــــةٍ
فكَأنَّـــما مـــا مَسَّـــكَ الجُهْـــــــدُ
54 - وطَريــــــدِ لــــيلٍ ســــاقَهُ سَـــغَــبٌ
وَهْنــــاً إلَـــــيَّ وقــــــادَهُ بَـــرْدُ
55 - أوْسَعْــــــتُ جَهْـــــدَ بَشاشَـــــةٍ وقِرىً
*وعلى الكريـــمِ لضَيْـــــفِهِ جَهْـــدُ
56 - فَتَصَــــرَّمَ المشْتى ومَرْبَعُــــــــهُ
رحْـــــبٌ لــــديَّ وعَيْشُــــهُ رَغْــــــدُ
57 - ثـــــمّ اغتَــــــدى ورداؤهُ نِعَـــــمٌ
أسْـــــأرْتُهـــــا وردائــــــيَ الحَمْـــــدُ
58 - لِيَـــــكُن لَدَيـــــكَ لِســــائِلٍ فَــــرَجٌ
إِن لِــــم يَكُـــــن فَليَحسُــــن الـــــرَدُّ
59 - ياليــــــتَ شِـــــــعْري، بعـــــــد ذلكمُ
ومَحـــــالُ كــــلِّ مُعَمَّــــــرٍ لَحْــــدُ
60 - أصَريــــعَ كَلْــــمٍ أم صَريـــــعَ ضَنـــىً
أرْدى؟ فليــــسَ مــــنَ الرّدى بُـــدُّ

5 - تعقيب: عودٌ على بدء:

شاعر اليتيمة الدعدية رسّام ناطق من طراز رفيع يصل للمعجزة الإلهامية، كأنما يضع حبيبته أمام ناظريك عارية بشحمها و ولحمها، وتقول سبحان الخالق المبدع، ما كان يعوزها إلا الشعراء الشعراء الخبثاء ليكملوا ويتمموا بالبيتين المجرمين...!! ومع هذا لم تخلُ من رقة ولا أعذب، وسلاسة ولا أجزل، وحكمة ولا أعقل... قصيدة متكاملة من جميع جوانبها
ولمّا نسبت القصيدة:

لأبي الشيص الخزاعي (130 - 196 هـ / 747 - 811 م)، و هو محمد بن علي بن عبد الله بن رزين بن سليمان بن تميم الخزاعي - ابن عم دعبل الخزاعي الشهير - وتوجد في ديوانه. وإلى (العكوك)، وهو علي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي، ويكنى أبا الحسن، ويلقب بالعكوك علي بن جَبلة بن مسلم بن عبد الرحمن الأبناوي، ولد سنة 160 هـ / 776 م ـ توفي سنة 213 هـ / 828 م. وهو شاعر عراقي مجيد، أعمى، أسود، أبرص، من أبناء الشيعة الخراسانية، ولد بحيّ الحربية في الجانب الغربي من بغداد ويلقب بالعَكَوَّك وبه اشتهر ومعناه القصير السمين، ويقال إن الأصمعي هو الذي لقبه به حين رأى هارون الرشيد متقبلاً له، معجباً بهم. وقيل لأبي نؤاس كما يذكر فاروق شوشة في كتابه ( أحلى 20 قصيدة حب في الشعر العربي )....

و لكن الذي ثبتها لدوقلة، شيخ الكوفيين في النحو العربي ثعلب، وهو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار، عاش بين (200-291هـ/816-904م)، رجل ثقة كبير، له حافظة قوية، وأسلوب في الخطابة، لا يضاهيه أحد فيها حتى أبو العباس المبرد شيخ البصريين.

مما سبق نستطيع أن نطمئن أن القصيدة ولدت أيّام صدر العصر العباسي الأول، لأنها نسبت لشعراء معروفين ومشهورين من ذلك العصر، وثبتت في دواوينهم، ونخص أبا شيص والعكوك، لذا من المحال أ مثل هذه القصيدة الرائعة تعبرعلى أمثال ابن سلام الجمحي، والأصمعي، وخلف الأحمر.... ثم أن أسلوب القصيدة ليس بإسلوب الشعر الجاهلي، ولا تسير على نهجه، وليست من أغراضه، القصيدة الغزلية الكاملة، وبهذه الإباحية، والوصف الدقيق لمفاتن المرأة، بزغت في العصر الأموي، وعلى يد الشاعر الشهير عمر بن أبي ربيعة (ولد 644 م / 23 هـ - توفي 711م / 93 هـ).

لذلك أنا في شكٍّ كبير ممن ينسبها لذي الرمة، ولا أذهب مع الشيخ الآلوسي، ولا مع جرجي زيدانه، وهلاله في جاهليتها ، وإنما القصيدة عباسية، ولدت في العصر الذهبي ما بين هارونه ومأمونه...!!

6 - هل هو انتحارٌ أم أسطورة للخيال الشعبي... متأثراً بعصر ألف ليلة وليلة ؟!!:
هل هو انتحار، صيّره الضمير الشعبي لأسطورة، أم ماذا ؟ اقرأ معي البيتين الآخيرين من القصيدة:
59 - ياليــــــتَ شِـــــــعْري، بعـــــــد ذلكمُ
ومَحـــــالُ كــــلِّ مُعَمَّــــــرٍ لَحْــــدُ
60 - أصَريــــعَ كَلْــــمٍ أم صَريـــــعَ ضَنـــىً
أرْدى؟ فليــــسَ مــــنَ الرّدى بُـــدُّ

هذا انتحار برسم البيتين ؟ فهل كان معمراً كهلاً - وهذا ما أرتأيه - عند نظم القصيدة؟
ويبدو لي جلياً قد هُدّد بالقتل، إن تمادى بالعشق والهيام، واختار الموت، وقال مع نفسه، ما ردد سعد بن معاذ ذات يوم في غزوة الأحزاب...!!:
لبّث قليلا يلحق الهيجا حملْ
لابأس بالموت إذا الموت نزلْ

وللقصيدة الشهيرة قصة ممتعة ما بعدها إمتاع، ولا مؤانسة، ربّما نسجها الخيال الشعبي، أو رتبها أحد الرواة، لينشر بضاعته بين الحفاة... لتغدو إحدى الأسطورات الباقيات!!.

قصص ألف ليلة وليلة الشهيرة كتبت بمهارة فائقة في منتصف القرن الرابع الهجري - أي بعد موت المتنبي بعقد أو عقدين - سنوات أبي حيان التوحيدي والوزيرين ابن العميد والصاحب بن عباد والسلاطين البويهيين، وكان هذا أبو الحيان قد ألف كتابه (الإمتاع والمؤانسة) وهو من الكتب الجامعة وإن غلب عليه الطابع الأدبي، تقول الموسوعة الحرة عنه "هو ثمرة لمسامرات سبع وثلاثين ليلة نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض. كتبها لصديقه أبي الوفاء المهندس، تقلب فيها الكلام وتنوع من أدب إلى فلسفة إلى شعر إلى مجون إلى فلك إلى حيوان إلى مشاءت ثقافة تلك العصرأن تأخذنا فهو أشبه بموسوعة غير مرتبة ودائرة معارف لا نظام فيها "، وهذا طابع ألف ليلة وليلة، ولا ننسى في هذا العصر بزغ نور أدب المقامات على يد بديع الزمان الهمذاني، وتلميذه أبي محمد القاسم الحريري، وهذا الأدب أيضا جمع بين النثر والشعر، والشخصيات الوهمية...
أقول: وهذه القصيدة (اليتيمة الدعدية)، قد مرّت بهذا العصر الذي امتزجت فيه الأساطير الشعبية بأدب الفصحى نثراً وشعراً، لاريب أنهم وضعوها على دكّة التشريح، وعبثوا بها كأسلافهم شعراء صدر العصر العباسي الأول، وقدموها في مجالس أنس وإمتاع وزرائهم، لعلهم يتذكرون...!!

أنقل إليك إحدى الرويات، واحسبها عليّ من قصص ألف ليلة وليلة، وإن أبيت، توقعها واقعاً، ولِم لا ؟ والليالي يلدن كلّ عجيب..!!

تقول الروايات: إنه كان لأحد أمراء نجد في العصور القديمة ابنة فائقة الجمال والذكاء مبدعة في الشعر اسمها (دعد) تهافت عليها الخطاب وهي ترفض وتشترط في من يتزوجها أن يصفها بقصيدة تخلدها وتكون أجمل من شعرها....سار ذكر الأميرة دعد في الآفاق وطار وتسابق الشعراء في وصفها رغبة في الحظوة والزواج، ولكنها - لذكائها وثقافتها - تنتقد قصائدهم واحداً بعد واحد وتُظهر مافيها من المثالب...وسمع (دوقلة المنبجي وهو شاعر مجهول)... بالقصة والشرط، وكان قد رأى هذه الأميرة الجميلة فأبدع قصيدته الشهيرة، وسار اليها يريد أن ينشدها بين يديها، وفي الطريق الصحراوي صاحبه أعرابي وسامره وسأله عن سبب سفره فذكره له وأسمعه القصيدة فطرب لها الأعرابي وطلب إعادتها مراراً ودوقلة مسرور من إعجاب الأعرابي بشعره، حتى حفظ الأعرابي القصيدة كاملة، فقتل دوقلة غيلة وهو نائم وحثّ الخطى إلى الأميرة دعد وأنشد بين يديها القصيدة فطربت لها طرباً شديداً، وطلبت من الأعرابي أن يزيد فيها بيتاً - كي تختبره - فعجز وأصابه العي، وحاورته فأحست أنه كاذب وقاتل، فقالت لحراسها: اقتلوه فإنه قتل مبدع القصيدة وسرقها ولو كان قائل القصيدة حياً لتزوجته فوراً.. فسألها والدها: وكيف عرفتِ أنه سرق القصيدة، فقالت: لأنه يقول::

إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني ****أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ

والأعرابي ليس من تهامة ولا في لهجته شيء من هوى نجد، كما انه عجز عن اضافة بيت واحد فقُتل....
إنا لله وإنّا إليه راجعون، نحن ننادي في (انتصارنا للمرأة العربية)، أن تقتسم مع الرجل مسؤولية القرارات السيادية كاملة مكمّلة، وهنا تاريخنا طلّعها قاتلة أكثر من الرجل... هذي طركاعة، بطلت عمي..(فوت بيها و عَ الزلم خليها )،و ( شرّ البليةِ ما يضحكْ)، فيُدهينا ...مع السلام والاحترام... شكراً لمرافقتي.

كريم مرزة الأسدي

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى