الثلاثاء ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
بقلم نجمة خليل حبيب

ذاكرة تتنفس فوق سرير أبيض

هي ذاكرة عشوائية، مزج غير بريء بين الموضوعي والمتخيل. جنس هجين قد لا تستسيغه الذائقة النقدية. هي ذاكرة عشوائية لأنها تنتقي من الزمان والمكان ما يروق لها، لا ما يروق للمصنفات الأدبية

* * * * *

أَتذْكُر؟ . . . كنْتُ دائماً أقول لك أنني سأموت كما جدتي. في نفس عمرها وبالطريقة الكريمة ذاتها. وحسب الدعوة التي كانت دائماً ترددها:
"يا ربي لا تمتني ألا وتراب الحقل فوق أذيالي"
كن طبيباً جرئياً... وأخاً محباً... إفعل ما يجب فعله (قلت له)
أخذ يدي بيدين مرتعشتين ربتها بحنو وملأ بريق حزين عينيه:
معافاة يا أم مازن....
خمس وستون سنة، ياه ما أطولها من مسيرة! أبعد ما أتذكر منها، هذا الأخ الطبيب الراتع الآن عند سريري، طفلاً نائما في حضن أمه وفوق ذراعه قنينة ضخمة علمت فيما بعد أنها كانت إبرة مصل. لست ادري كم كان لي من العمر عندها، ولكن بالطبع أقل من أربع سنوات لأن ذلك المشهد ترافق بمشهد غريب هو الثلج. وعلمت فيما بعد أن ذلك كان يسمى عام الثلجة.
في غرفة طينية متواضعة أقصى حدود التواضع كانت عمتي أم أديب تتربع على طراحة بمواجهة أمي.
 أيوا، وبعدين!. . . شو قال الحكيم
 قال الحصبة غايره بـمصارينه. . . وإذا ما ظهرت على الجلد بيموت.
كانت كلمة بيموت مفردة جديدة على سمعي.
 عمتي شو يعني بيموت؟
 يكفينا شرّك؟ قومي إركعي قدام صورة العدراء وقولي يا عدرا إشفي خوي
لا بد ان كلمة بيموت شي بشع. وشو يكفينا شرك كمان؟ ولكني قمت وركعت قدام صورة العدرا ورددت كالببغاء: يا عدار إشفي خوي
تقول والدتي إنها ظلت شهراً، ثلاثين يوماً بنهاراته ولياليه، حاضنة سميح وإبرة مصل رايحة وإبرة مصل جاي، حتى بالنهاية فتح عينية وقال إمبو (أريد ماءً).
يومها لم يكن هنالك أب في عائلتنا. كانت عمتي المتربعة فوق بساط وضيع، تضم يديها إلى حضنها وترفع رأسها صوب الأعلى وتقول: الله يردك سالم لمرتك وولادك يا مخول
 عمتي مين مخول ؟... ومين مرتك وولادك؟
تنهدت عمتي. شدتني صوبها، قبّلت رأسي وقالت:
 مخول أبوك يا روحي. وأمك مرتو. وأنتِ وسميح ولادو.
 منذ تلك اللحظة رحت أرسم صورة لمخول .
هل هو بسروال يندلق بين فخذيه مثل عمي أبو أديب؟ أم ببنطلون مثل زوج خالتي نجلا ؟ هل يحمل لوز وسكر في جيبه مثل جدي أبو زكي؟ هل هو بشارب أم بدونه؟
كنت أتمنى أن يكون مثل زوج خالتي مهيوب وحاسر الرأس وخواجة ليس كجدي وزوج عمتي المتسربلين بالحطة والعقال والقمباز.
زال الخطر عن أخي سميح وما عادت عمتي تزورنا باستمرار. ولكن أمي ظلت حزينة وتنوح طول النهار. لا أستطيع ان أسألها عمّا بها. فهي دائما في دنيا غير دنيانا. وان حدث وأجابت كان جوابها مقتضباً كشراً كوجهها الذي بدأت أكرهه.
كانت تأخذنا (انا وأخي سميح ) كل نهار أحد إلى الكنيسة وتطلب منا أن نركع أمام الهيكل ونقول: يا حبيبي يا يسوع رجع بوي بالسلامة.
كان أهالي القرية يجتمعون بعد صلاة يوم الأحد في باحة الكنيسة، يعقدون حلقات بحث صغيرة. يعلو الصياح من هذه الحلقة، والشتائم من تلك، والضحكات من أخرى. وكنّا نحن الاطفال نتراكض ونتصايح.
 ابناء مَن هؤلاء الاولاد؟ سمعتُ امرأةً تسأل أخرى
 أولاد مخول الفلسطيني (أجابتها).
أعجبنـي الوصف، وصرت اذا سألوني بنت مين انتِ يا بنت، أقول باعتزاز: أنا بنت مخول الفلسطيني.
كنت أمسك بيد أخي سميح ونقف متفرجين عندما سمعنا زوج عمتي أبو أديب يصرخ بوجه زوج خالتي ويقول غاضباً
 مخول مجنون مخول!. . . انت وأمثالك الجبناء المجانين. . . مخول شرَّفنا كلنا. لولاه لكانت كفربرعم عرة بين القرى.
عندما كبرت، علمت أن مخول كان يحارب مع الثوار عام 1948 وأنه احتل مع خمسة من رفاقه دبابة في معركة مع العصابات الصهيونية في بلدة كمب النبي يوشع. وأنه لم يسلِّم قط بسقوط فلسطين وظل يقطع الحدود لسبب لا يبوح به. قد يحمل عند عودته "صُرَّة" من تين أو زيتون أو سبلات قمح يعرضها بطقوس وشعائر كالقرابين المقدسة. وأنه ذهب ولم يعد منذ اكثر من سنة حتى تبين أن العصابات التي احتلت بلده سجنته بتهمة تهريب السلاح للمقاومين المتخفين في التلال على الحدود مع لبنان.
أتذكر ايضاً أنها قامت في إحدى الليالي ضجة في غرفتنا الفقيرة التي لم تعرف قبلاً أي ضجيج. حتى أختي المولودة حديثاً ما كنا نسمعها تبكي.
 ظلت منذ ولادتها مغمضة العينين ولم تفتحهما إلا في اليوم الذي عاد به مخول (تقول أمي).
لا أتذكر تفاصيل عودته. لا أتذكر إذا كنت قد استأت أو فرحت عندما بدأ هذا الرجل المدعى "بوي" يشاركنا الغرفة والفراش. أتذكر فقط أن بيتنا الذي كان يتألف من غرفة واحدة، صار ضاجاً بأناس غادين رائحين. في السهرات يتحلقون حول موقدة بدائية في زاوية الغرفة الترابية يعمي دخانها عيوننا، وهو في وسطهم، يحكي، والعيون شاخصة نحوه بذهول. تقهقه أحياناً، ويعتريها صمت ووجوم ثقيل احياناً أخرى.
مخول بالنسبة لي أيام المراهقة فارس أحلام. غيابه عن حياتنا أسهم في صنع صورة له على مزاجي. يعمل في قطر ليعيل أفواهاً تزداد كل عامين او أقل. كان يقضي بضعة أسابيع من السنة معنا. فترة قصيرة ولكنها كانت كافية لأغرم به. فحديثه حلو جذاب وشخصيته مرحة، وحواديته ذات نكهة مميزة بغرابتها وسحر سردها. هو ليس كالبومة أمي. ولا مثل جدي الذي لا يناديني إلا ب"وِلِك" و"يقصف عمرك" و"انقبري فِزّي". . . كنت أشبهه في أمور كثيرة. أحب عبد الناصر، وأطرب لسماع تلاوة القرآن، وأومن أن عودتنا قريبة، وأثق بالناس واتخذهم أصدقاء بسهولة ولا أندم إذا ما خذل أحدهم صداقتي. ومع ذلك، ففرحتي بعودته تعود بالدرجة الأولى للهدايا التي كان يجلبها لنا من السفر ونتباهى بها أمام أبناء الجيران ورفاقنا في المدرسة. جدي ما كان يحب إجازة والدي. ففي اثنائها يتحول البيت الى هرج ومرج. نلعب نحن الصغار ونمرح على هوانا ونسهر الى ساعة متأخرة. وضيوف لا ينقطعون طوال إقامته.
* * * * *
غاب أبو سميح عن حياتنا في عمر مبكر وبشكل دراماتيكي.
في ليلة كانونية ليلاء- كليلة مخائيل نعيمة في بيادره- والحرب اللبنانية في أشهرها الأولى، استفقنا على صوت مدافع ورشاشات تخرق صمت الليل والمطر.
إنهم يقصفون المخيم قال والدي بغضب. هم بالخروج. سدت والدتي الباب في وجهه وقالت بحزم لم نعهده فيها من قبل:
إعقل يا مخول. عندك كومة لحم. أي تهور نعدمهم كلهم بلحظة.
بيتنا ريفي، سقفه من الطوب. قذيفة صغيرة كفيلة ان تجعله مقبرة جماعية.
 يلّا مخول، خلينا نروح عند الجيران. بيتهم أكثر أماناً. الأولاد خائفين.
لأول مرة لم يجادلها وقاد الثلاثة الصغار أمامه إلى بيت الجيران. تكوموا حول مدفأة من المازوت تملأ رائحتها البيت والجوار. اختلطت أصوات المدافع بأصوات الرعود الغاضبة، وامتزج لمعان البروق بلمعان القنابل عند انفجارها. اندست الصغيرة رنده في حضن والدها مُروَعة كقطة داهمها وحش مزمجر غاضب. وراحت جارتنا تذرع الغرفة بخطوات عصبية، تفرك يديها ببعضهما، وتلهج بسلسلة من الأدعية. أبو سميح يستنبط شيئاً من جعبته الفكهة في محاولة منه لتشتيت انتباهها فترمقه بنظرة جانبية مواربة.
يا رب استر يا رب استر. . . الله يجيبك يا أبو طوني. . . الله يجيبك يا أبو طوني
مالت عزة على أخيها نعمان وقالت: وليش يعني أبو طوني؟ البابا هون ما بيكّفي؟
يضع نعمان يده على فمها ويقول هامساً:
 انقبري أسكتي. بلا فلسفتك
نقرة عنيفة على الباب.
يندس نعمان بجانب طوني ويتظاهر بالنوم. تتشبث رندة ببيجامة والدها وتتطلع عزة باندهاش وفضول صوب الباب...
 من؟ سألت أم طوني
 كتايب. . . قال صوت أجش.
وما أن ازاحت المزلاج، حتى اندفع شخص بنظرات زائغة قلقة وبلباس مرقط وبصليب خشبي يتدلى فوق صدره، وسلاح أوتوماتيكي جاهز للانقضاض على فريسة ما
 نريد أبو سميح ...
انبرى والدي عارضاً نفسه:
 أنا أبو سميح. أمر!...
بعينين زائغتين، بصوت مرتجف متحشرج أجش، وبلهجة تصطنع رباطة الجأش قال:
 الريس طالبك. أمش معنا على بيت الكتايب.
لم ينبس ببنت شفة. ولا طلب منهم مهلة لتغيير بيجامته. رمق رندة بنظرة خاصة ومشى معهم دون أدنى ارتجافة أو تردد.
 أنت زوجته؟ قال رفيقه:
تتحفز لتجيب ولكنه يسبقها بالقول: تفضلي معنا.
* * * * *
صبيحة اليوم التالي، عادت أم سميح من بيت الكتائب زائغة النظرات كمن به مس.
 ماذا جرى؟ وين البابا صرخت رندة ؟
ظلت زائغة النظرات تحدق في الفضاء ولا ترى، تسمع أصواتاً كهدير الموج ولا تفقهها
هزتها عزة بعنف.
 وين البابا؟ ليش ما إجا معك؟ شو صار معكم؟
بصوت خافت كأنه الهذيان قالت كالمخاطب نفسه:
 عصبوا عيني بعصبة سوداء. . . سمعته يقول: يا كلاب . . . يا جُبَنا . . . يا مفترين. . .
يا وزاويز. أريد رئيسكم. أين رئيسكم؟
* * * * *
سقط المخيم الفلسطيني الصغير تلك الليلة بأيدي الكتائب اللبنانية. لن أحكي عن معاناة أهله وما أصابهم في ذلك اليوم الكانوني القارس من قتل وسحل وتعذيب. فأنا في عجلة من أمري وأريد لذاكرتني أن تزفر ألمها قبل أن يفاجئني قضاء الله.
 رأيت ثلاثة او أربعة مسلحين يدفعونه أمامهم إلى خارج الشقة (المكتب) وبعد ربع ساعة سمعت إطلاق نار. (قال باسم احد المعتقلين الذين أفرج عنهم).
وزاد آخر:
 وشدّوا حنّا كمان. . . وبعد ربع ساعة سمعنا إطلاق نار.
 كان الدور آت عليّ (قال أبو صلاح). انقذني الحظ. صحا ضمير القبضاي. سمعته يقول:
 لن أنفِّذ أي إعدام، إلا بأمر من القيادة.
* * * * *
أعترف أنني حتى تلك اللحظة لم أكنْ أكنّ لتلك الأم أية مشاعر حب تذكر. هي على طرفي نقيض مع أبي. تفضل الصبيان على البنات. تهرع لخفض صوت الراديو عندما يرتفع بالآذان. تتضايق من أصدقاء أبي الذين يأتون لزيارته من المخيم. جماعة فتح الشراشيح الزعران كما كانت تقول من وراء ظهر أبي. تزجرني بعنف عندما أقارع جيراننا وآخذ صف الفدائيين. ولكن حالة الذهول التي رأيتها بها ذلك اليوم، فجرت فيّ مشاعر حب وحنان وشفقة كنبع شق قلب الصخر واندفع جياشاً في صحراء قاحلة.
المرأة المذهولة التي كنت أظنها بلا عواطف، لا تعرف إلا التذمر والتشكي وندب الحظ العاثر، هامت على وجهها تبحث عن ذلك الزوج الذي ما سمعتها يوماً تناغيه بكلمة رقيقة. اخترقت كل تقليد وقواعد وأصول. لم تأبه بالحواجز المعادية التي كانت تقتل الناس على الهوية. قصدت كل أمراء الحرب في محيطها. تذللت لأحقرهم. من أين جاءت بكل تلك الجرأة وكل هذا الحب لست أدري. وإذ يئسَتْ وصدقت أنه راح (صفّوه)، راحت تجوب شواطئ البحر المزمجرة المهجورة في ذلك الشتاء القاسي. راحت تتفقد الجثث التي تلفظها تلك الشطآن:
 واحدة منتفخة كما خلقتني يا الله. . . (تقول على حياء بصوت هامس ذليل)
 واحدة أكل السمك عينيها. (تقول وهي تغطي وجهها بيدين معروقتين زادهما الهزال زرقة)
 وغيرها مسلوخ بعض لحمها. تقول رافعة يديها بالابتهال: (نجينا يا الله)
استفيق عليها في دهمة الليل البارد منزوية في ركن الغرفة تندب وتولول:
 يا شحاري يا شحاري!. . . إذا كان مات أكون انا السبب. وقفْتُ متل الهبلة. لو أني استعطفتهم. لو أني تذللت لهم. لو أني عرضت عليهم فدية. . . لو أني قلت لهم أتركوه وأنا ادلكم على مكان السلاح. أنا أدلكم على باقي رفاقه وأين يختبئون. لو لو لو، تعدد وتتلوى وتُعصِّب رأسها كي لا ينفجر.
* * * * *
مرّ ربع عقد على غيابك يا أبو سميح وأنا لا أزال غير مصدقة أنك رحت: رفضت ان ألبس السواد واعلن الحداد. أغضب الأمر أم سميح في حينه ووصفتني بالعاقة. قلت لها:
 روحي إلبسي السواد وحدك. أنا لا أصدق أنه مات. ما زلت أراه قادماً متل الطير الأخضر يمشي ويمخطر يقتل خالتو دباحتو ويرمي لنا اللوز والسكر.
رنده، ثامِنتُنا المدللة، "قريد العش"، كما كان يسميها أبو سميح، لا تزال تسترجع نظرته الأخيرة وتتساءل عمّا وراءها
 كأنه كان يودعني. كأنه أحس أنه سيترك عصفورته الصغيرة لليتم المبكر.
 بل كان يقول لك لا تخافي إني راجع. هو لا يعرف التشاؤم (أقول لها).
 عاتبة أنا عليه يا نازك. لماذا استهان بحياته؟ ألا يعرف أن حياته لا تخصه وحده؟ لماذا لم يهرب من الباب الخلفي؟ لماذا تركني لليتم؟
 رنده!...ماذا جرى لعقلك!... كأنك لا تعرفين والدك. . . تريدين منه أن يهرب كالجبناء أو يتخبأ في الجحور كالفئران.أو يعرّض البيت الذي استضافه لانتقامهم الأرعن؟
 طز بالشهامة، بالكرامة، بالشجاعة. يُتمي أكبر منها جميعها. . .
* * * * *
"صحيح انك مت يا أبو سميح!... خذلتني . . . جعلتهم يشمتون بي. صحيح انني أنتظر السراب!... أببساطة تم ذلك!... أم أن الشمس كسفت، والأرض زلزلت، والسماء غضبت في تلك اللحظة الجهنمية؟!... هل أسلمت الروح أم ان الملائكة حملتك جسداً وروحا الى السماء كالقديسين! ليس كثيراً عليك ان تصعد إلى السماء كالقديسين، فأنت مثلهم تنضح حباً وتضحية ووفاء وتسامحاً. بل إنك لَتتفوقُ عليهم. فمحبتهم مقايضة. يشترطون مقابلها خضوع وإيمان وطاعة. أما محبتك ففيض وبلسم لا ينتظر رجاء ولا يسأل عن ثـمن
انا لست آسفة لأنه لا مكان لجثتك في هذا الأرض النجسة. أمثالك لا تسعهم الأرض ولا تليق بهم القبور. أمثالك مُلْك الكون. ملك الهواء الطلق والشمس المتوهجة والغمام المعطاء. أمثالك أكبر من أن يأكلهم الدود ويتحللوا تراباً. أمثالك تحتضنهم السماء وتجعلهم نجوماً ينيرون العالم. و....
واستفقت على يد سميح الحانية وهي تربت فوق خدي:
 الحمد لله على السلامة يا أم مازن

د. نجمة خليل حبيب
سدني استراليا
13/01/2016


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى