الأحد ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم سلوى أبو مدين

رسالةٌ على قارعةِ الشتاء

كان صباحاً هادئاً هكذا أرسلت الشمس خيوطها فوق وجهي ، لم أفلح في أن أسدل شعاعها عني ...

في ومضة مضى النهار ،،،

وتحول إلى مساء مُعتم ..
وأخذ المطر ينهمر بغزارة ..
فتحت النافذة ، مددت يدي لاغتسل وأرتوي فإذا بها يجلدني من شدة الانهمار .

زهرة الثلج اغتسلت من أوردة المطر .

جارتي جاك فتحتْ مظلتها الحمراء ، واصطحبت قطتها الصغيرة ، أشارت لي بيدها
بادلتها التحية .

أوقدتُ مدفأتي .. جلست فوق كرسي هزاز ، تناولت صحيفة اليوم تصفحت الأخبار
لا جديد فيها .. رغبة تجتاحني للنوم أغمضت جفني برهة ...

فجأة ...
جلبة في الخارج .. حاولت استيعاب ما يحدث ، دفعت بجسدي المتعب من فوق الكرسي مشيت بخطوات حثيثة .. ألقيت نظرة من النافذة .. كانت السيدة جاك تصرخ تسمرت في مكاني لم استوعب المنظر .. هرعت إلى باب المنزل فتحه .. كانت تجلس على الأرض وتصرخ بصوت عالٍ من شدة الألم ، فقد أصابها كسر في قدمها ..
لفيف من الجيران التف حولها..
دقائق ... وإذا
بعربة الإسعاف تطلق بوقها ابتعد الناس ..
نزل منها رجل يرتدي سترة ذات لون وردي .. يساعده آخر أمسكا بسرير معدني وضع السيدة جاك ثم حملاها وأدخلاها العربة ..
أطلقت عربة الإسعاف بوقها مرة أخرى
لحظات ثم اختفت العربة عن الأنظار ...
ما أنا فقد حملت قطتها المبتلة وعدت منزلي ..
هناك حيث استلقت قرب مدفأتي أخذت أجفف شعرها المبتل وهي تموء مواء متقطع
ليلة شاتية كان الجو باردا جدا ، كلّ شيء صمت فجأة ، إلا من مواء القطة ونقر المطر فوق نافذتي .

...
جال بصري على سلة تحوي مجموعة رسائل قديمة ، وقعت في يدي إحدى الوريقات المهترئة التي بات واضحاً اصفرارها وتآكل جزء منها .. كانت رسالة خطية لإحدى صديقاتي .. بدأت في قراءة كلماتها ، والتي تدفقت علّي مثل ماء بااارد !
كُتب فيها : أعلم جيداً أن هذه الرسالة الأولى التي أخطها إليك .. فقد كنت قبل ذلك أتحدث معك بعفوية فالشجاعة في هذه المواقف لا تتكرر، وأنت تعلمين جيداً أنى أتوق لمعانقة نصحك وإرشادك !
لم أستطع أن أكمل باقي الحروف التي كانت تبدو متباعدة عن بعضها البعض .. !
وأكملت القراءة .. هذه أول مرة أصارحك فيها وأخبرك عن ( سري ) ..
كلماتها تركتني متجمدة في مكاني يلتهمني القلق ..
ثم تابعت :
لقد تقدم لي لخطبتي رجل ثري .. غير أن عمي رفض أن اقترن به ، رغم الجاه والسمعة الحسنة التي عُرف بها ، وما يبدو لي كان رفضه خشية من الفشل ، مثلما حدث لبناته اللاتي تزوجن لأشهر عديدة ثم عدن يحملن معهن الخذلان والألم . !
ودعيني أصارحك بما يجول في نفسي .. وربما هذه أول محاولاتي التي التقط فيها أنفاسي كي أبوح لك بها .. والتي أشعر من خلالها أن أضعك في مكانك المناسب اللائق بك .. فأنت لست مجرد صديقة بل أكثر من ذلك ، فقد وجدت فيك الأخت العزيزة وأحمل لك في نفسي مكانة
....

استوقفتني كلماتها .. وعاودت القراءة : أتذكرين تلك الليلة التي فاجأت الجميع على غير العادة فقد أعلنت جميع المحطات حالة طوارئ نظراً للعاصفة الباردة التي ستهب على مدينتا .. وجاء في البيان لابد من أخذ الحيطة اللازمة . !
في الحقيقة لم أعر ذاك الأمر أي اهتمام .. فالأرصاد الجوية تبالغ في أمور كهذه .. حتى يأخذ الناس حرصهم وحيطتهم . !
وكما توقعت تماماً .. فقد لزم الجميع بيوتهم غير أن ما يبدو لي لم أكن على استعداد لإتباع الأوامر !
أتذكر حينها فقد قررت أن أكسر حاجز الخوف وان أخاطر فيها ، كانت ليلة قارصة البرودة ، فحملتني قدماي صوب الحديقة المجاورة لبيتي ، وخرجت وأنا أصارع الهواء البارد ، وكأن الحياة توقفت عندئذ بالذات ـ حتى المدينة التي كانت تبدو مثل فتاة جميلة ، غطاها الوجوم كانت قاتمة جداً .
هل تصدقين عندما أردت أن أخرج يدي لتمنحني طاقة من الدفْ ..
لم أتخيل ما رأيت !
فقد انعدمت الرؤيا عني في تلك اللحظة .. حتى أصابع يدي لم أرها !
من شدة الضباب الذي غطى تلك الليلة البائسة .
ولم أعد أسمع أو أشعر بأي شئ .!
سوى الإحساس بالموت ، الذي سيطر علّي ، لعلك تدركين معنى هذه الكلمة وما تحمله من إحساس مخيف .. !
تقدمت بقدميّ المثقلتين من شدة الصقيع ، وكأن في داخلي قوة خفية لأمضي حتى أصل إلى سياج الحديقة .. والتي ظهرت على ما يبدو لي على غير العادة . !
لن أخفيك أمرا فقد تهيأ لي ضوء خافت عن بعد .. اعتقدت في بادئ الأمر أنها تخيلات تكثر في مثل هذه الليلة ، وأن الرؤيا تكاد تكون معدومة .. والسكون والضباب يخيمان على المدينة .
فقد جاهدت نفسي في تلك اللحظات جهادا مريراً .. حتى جمدت أطرافي .. وغاصت قدماي في بحيرة من طين .. عندها توقفت عن السير .. مجبرة !
علمت عندها أن موتي محقق لا محالة ، فقد تجمدت جميع أعضاء جسدي .. ولم أعد أشعر بشيء حتى نبض قلبي .. لم أعد أسمعه !
حقيقة لا أعلم ماذا يفعل أكثرهم لو وقعوا في مثل هذا المأزق ؟
انتظرت كثيراً حتى انقشعت الغمة .. حملت نفسي المثقلة التي شلت حركتها .. وإذا بي أشعر بحركة من خلفي !
حاولت أن أستدير نحوها .. لكني لم أحسن ذلك !
وعاود إحساسي من جديد .. غير أني لمحت على مقربة من السياج ظل رجل غريب فأسرعت إليه لأتحقق منه . وسرعان ما اختفى ..
سمعت صوتاً يهمس خلفي !
توقفت بالكاد التقط أنفاسي .. شعرت بشبح أخذ يقترب مني شيئا فشيئا !
وكم كانت المفاجأة أكبر مما تصورت .. كان رجلا يغلفه الضباب .. وسرعان ما تلاشى وتحول إلى دخان أبيض !
جثوت وبكيت ألماً ثم حملت خوفي وارتعادي وظللت اندفع إلى الأمام .. كمن يخوض صراعا مع نفسه .. إلى أن ارتطمت بسياج الحديقة .
إحساس أجوف تملكني ، ورائحة فاحت منها الفقد والعتمة
أغمضت عيني .. لأدفع الخوف الذي جثم على صدري
ولا أعلم عندها المدة التي قضيتها . وسط معمعة الضباب .
وكل ما أذكره أن رجل الضباب تحول إلى شيء بلا ملامح !
حينها أدركت ..
ما عانته صديقتي .. في تلك الليلة الرمادية العصيبة .
وحملتْ حروفها لحناً حزيناً في ذاك اليوم الشتوي .. هذا ما احتوته رسالتها والتي أخذت حروفها تتزاحم حتى ضاقت بها الأسطر !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى