الأربعاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم وليد رباح

زوجتي مع سبق الاصرار والترصد

(هذه قصة حقيقية: رواها لي صديق ونحن في زنزانة عندما كنا نرى في العمل الوطني طريقا لتحرير الوطن.. وهي من المآسي التي لحقت بالانسان العربي نتيجة الظلم)

في زمن مضى.. قاسمنا (زنزانتنا ) في احدى الدول العربية رجل يائس جاوز الخامسة والثلاثين من عمره.. جاء الى السجن رث الثياب كث الشعر شديد الشبه مجازا بقيس بن الملوح الذي طاف الصحراء بحثا عن ليلاه الضائعة.. وبعد ان (اطمأن بنا الحال) في السجن ووجدنا اننا سنقضى مدة طويلة.. اخذ كل منا يبحث عن قصة ليحكيها لنقتل الوقت الذي كان يمر بطيئا مملا.. وحكى رفاق الزنزانة قصصهم الا هو.. كنا نسميه (قيسا) نسبة للشاعر الجاهلي.. ولم نناده باسمه الذي رأى ان نخفيه لغرض في نفسه.. وبعد لآي درج اسمه حتى على لسان الشرطة عندما كانوا يستدعونه.. ولم يشأ ان يتحدث وكأنما اغلق فمه بمفتاح والقاه في بحر لا نعرف له قرار..

وفي ليلة من الليالي الطويلة الكئيبة منعنا عنه الزاد والماء واخذنا نأكل حصته ونشرب الماء الذي خصص له لكي يحكي لنا عن قصتة وما الذي جاء به الى السجن الذي يضم في جنباته احياءا كأنهم من الاموات..لكنه رفض ان يتحدث.. فاضطررنا الى اعادة اطعامه ثانية.. وصرفنا النظر عنه.. غير ان الفضول قد أعادنا ثانية لسؤاله فقال: ولماذا تريدون نكأ الجراح.. دعوني وشأني.. فقلنا معا وكأننا متفقون: يا قيس.. القصص تخرجنا من حالة الصمت القاتل فتحدث..

مد قيس بصره الى سماء الزنزانة وقال: حسنا.. ساتحدث شرط ان لا يسألني احد بعد ذلك عن اية قصة.. وان يكون الحديث همسا.. فالحيطان لها آذان.. وما ان هم بان يبدأ حتى تحولت آذاننا الى كتلة من الصمت والاصغاء.. فنحن نريد ان نعرف من هو هذا (القيس)..

بعد ان تنهد طويلا كشف عن عقب رجليه فرأينا القروح قد حفرت فيها اخاديد كأنما هي وديان بين الجبال.. مد بصره الى سماء الزنزانة ثانية وقال: ولدت يتيما.. فقد مات ابي اثناء حمل امي.. وما ان تفتحت عيناي على الوجود وكبرت حتى اخذت ابحث عن ابنة الحلال التي تقاسمني حياتي.. واخيرا وجدتها.. فتاة فقيرة لابوين عجوزين قد فاتها قطار الزواج فتجاوزت الخامسة والثلاثين وكانت تكبرني بخمس سنين على الاقل الا انني احببت في عينيها مسحة الحزن التي شعت عندما وجدت عريسا جاء ليخطبها.. وتم كل شىء بسرعة.. وتزوجنا وعشنا مع بعضنا سنوات جميلة انجبنا خلالها اولادا ثلاثة.. بنتان وولد واحد..

عندما كبرت الاسرة بدأت اعمل ليلا ونهارا لكي اؤمن لها لقمة العيش؟؟ وتحسنت حالنا بشكل مثير.. اذ اخذت النقود تلعب في ايدينا كأنما هي اوراق ليس لها قيمة.. وكانت زوجتي سعاد امرأة رائعة اذ حفظت علي وعلى اولادي كل تعبي وشقائي وبتنا نشعر انه لا يوجد في هذه الدنيا من هو اكثر سعادة من هذه العائلة الصغيرة التي الف الله بين قلوبها فغدو كنفس واحده..

الا ان الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.. فقد عدت يوما من عملي فوجدتها متبرمة غاضبة وواجهتني بعاصفة من الكلمات قائلة.. لقد قرفت من هذه الحياة.. في كل يوم ادخل الى المطبخ فلا اخرج منه الا عند منتصف الليل.. ولا عمل لي الا الطبخ والتنظيف والمسح وكأنني لست من صنف الانسان..

قلت لها: ولكنك تقولين لي انك سعيدة في هذا البيت.. وان كل شىء على ما يرام.. فما الذي جعلك تتبرمين من هذه الحياة.

قالت: انا فعلا سعيدة.. فقد منحنا الله عائلة جميلة.. واعطاني زوجا عطوفا لا مثيل له بين الرجال.

قلت لها: اذن ما الذي يزعجك؟ قالت.. لقد اعطانا الله فائضا من مال.. فلماذا لا تأخذنا الى اية دولة عربية مجاورة لكي نقضي اجازة لشهر من الزمان.. نستعيد فيه نشاطنا ونعود الى بيتنا لنربي اطفالنا ونعلمهم ولن اطلب منك ثانية اي طلبات اخرى.
قلت لها: هذا حقك يا سعاد.. فمهما فعلت لك لن اوفيك حقك.. ولكنك تعلمين ان العبء قد زاد علينا.. صحيح اننا نمتلك النقود.. ولكن طلبات الاطفال قد كثرت.. ونحن نخبىء الدينار اثر الاخر لكي يخرج اطفالنا في هذه الحياة وقد ذهبوا الى المدارس والجامعات ونالوا قسطا من التعليم ينفعهم في هذه الحياة..

قالت.. حسن.. سوف ادخرمصاريف الرحلة من النقود التي تفيض عن حاجتنا.. ولن يمضي شهران او ثلاثة حتى تجد في يدي ما يمكننا من السفر والاستمتاع برحلة جميلة
قلت: اذن ابدأى منذ الان.. وهذه اول عشرة دنانير دفعة مقدمة لهذه الرحلة.

يقول قيس: بدأت اعمل ساعات اضافية واستطاعت سعاد فعلا خلال شهرين من توفير مبلغ جيد يمكننا من الذهاب الى اية دولة عربية قريبة لنستمتع باجازة جميلة مع الاولاد.

وفي اليوم الموعود..ركبنا السيارة وتوجهنا الى البلد المجاور.. وهناك نزلنا في فندق ليومين.. بعدها تمكنا من استئجار شقة جميلة لشهر تطل على ساحة مكتظة بالناس والسيارات.. وسكنا في الدور الخامس حيث كان الاولاد ينظرون من الشرفة فيشاهدون الحياة تدب في الشارع فيضحكون ويهزجون.

ومرت الايام العشرة الاولى من الرحلة.. كنا في سعادة ليس لها مثيل وفي اليوم الحادي عشر نظرنا من الشرفة فرأينا الناس يتراكضون في الشوارع.. ودوريات من الجيش والشرطة تجوب الشارع طولا وعرضا.. وشاهدت سيارة من الشرطة تدفع اناسا الى داخلها وهم يضربونهم بقسوة.. فقلت لامرأتي: ما الذي حدث يا سعاد.. قالت: لا ادري.. قلت. اخشى ان يكون هناك مصيبه.. لا سجائر معي.. ساذهب الى الدكان المجاور تحت العماره لاشتري علبة من السجاير فانت تعرفين اني استطيع الاستغناءعن الطعام والشراب ولكني لا استطيع الاستغناء عن السجائر.. وسأعود اليك حالا.. وساعرف ما يجري لاخبرك.. قالت سعاد: لا تتأخر فاني خائفة.. قلت لها لن يكون ذلك اكثر من دقائق.. وسأعود حالا.

تركت زوجتي واولادي ونزلت الى الشارع وانا البس البيجامة.. فوجدت صاحب الدكان وهو يسرع باقفالها فقلت له: ارجوك. اريد علبة من السجاير.. ولم ينظر الرجل الي بل اقفل محله وقفز عبر الرصيف الى الجهة المقابلة.. الى سيارة كانت تنتظره واختفى عن ناظرى بسرعة.

جلت بنظري في الشارع علني اعثر على دكان آخر.. وتقدمت قليلا خلال رصيف الشارع.. وما ان خطوت حتى كانت سيارة للجيش او الشرطة لا ادري.. تقف الى جانبي وينزل منها مسلحون ثلاثة ويقول لي احدهم: بطاقتك.. قلت له: انت ترى انني البس البيجامة وانا ضيف لست من هذا البلد واني في اجازة هنا.. وجواز سفري في البيت وهو في الدور الخامس من هذه العمارة فدعني اذهب لاحضاره لك.. قال بلهجة آمرة.. اصعد الى السيارة.. قلت له: ان عائلتي هنا ولا استطيع ان اتركها وما ان اكملت حتى لطمني احد الجنود على وجهي وقادني الى سيارة الجيب فانطلقت الى حيث لا ادري.

كان في الجيب العسكرية ثلاثة ممن القى بهم حظهم الى المعاناة والفجيعة.. كنا ننظر الى وجوه بعضنا وكأننا في حلم اليقظة.. ولم ينبس احدها بكلمة..

سارت بنا السيارة التي كانت مغطاة في جوانبها بحيث لا نعرف طريقنا والى اين نحن متجهون.. وبعد ما يقرب من نصف ساعة توقفت السيارة.. وجاء من لطمني وفي يده (كرباجا) مفتولا وقال لنا.. ايتها الحيوانات السائبة.. انزلوا من السيارة.. وما ان نزل الاول منا حتى تلقاه الكرباج على كافة انحاء بدنه فاخذ يصرخ.. ثم تتابعنا ونالني ما نال الاخرون من ذلك الكرباج الذي كان مؤلما بما فيه الكفاية.. فاذا نحن في باحة واسعة خالية من الناس تحيط بها الاسوار العالية.. وقد اصطف بعض الجنود في مؤخرة السيارة واخذوا يضربوننا بقسوة.. بعضهم يحمل العصي.. والبعض الاخر الكرابيج.. ونلنا من الضرب ما لا يصدق.. ثم اقتادونا الى عنبر فيه اكثر من خمسين موقوفا او معتقلا..

امضينا في العنبر ليلتنا دون غطاء ننام على ارضيته والبرد يقرص اجسادنا.. وعند الصبح اخذ العساكر يختارون منا ثلاثة او اربعة ويذهبون بهم الى حيث لا ندري.. ثم لا يعودون الينا ثانية.. وكان الجمع في العنبر يحاولون ان تكون ادوارهم في الاستدعاء آخر الصفوف.. لكن تكدسنا لم يحمنا من العسكر.. اذ كانوا يقتربون منا فيسوقوننا كالاغنام امامهم.. وهكذا جاء دوري..

قادني احد الجنود او الشرطة الى بناية بطوابق ثلاثة.. وكنت اول من زج بي الى غرفة من الغرف الخالية.. ليس فيها سوى مقعد واحد.. وبقيت انتظر ما يقرب من ساعة والافكار تنتابني وتلقي بي الى الظنون. بعد ذلك جاءني شرطي واستدعاني.. لم يضربني او يلق لي بكلمة.. قادني الى غرفة فيها مكتب خال وقال لي.. انتظر هنا لكي يأتيك المحقق..

كنت اسمع الصراخ والعويل والاستنجاد واصوات الضرب تصلني الى حيث جلست.. اصابني الرعب فبدأت ارتجف.. بعد دقائق جاء رجل بملابس مدنية وقال لي: اذا تحدثت بالحقيقة فلن يمسك احد.. اما اذا حاولت ان تخدعنا فمكاننا اسمه المذبح.. نحن هنا لا نذبح المواشي.. ولكننا نذبح كل من لا يقول الحقيقة.. قلت له: يا سيدي.. انا لست من هذا البلد.. وقد جئت مع عائلتي في اجازة لشهر نقضيها ثم نعود الى بلدنا.. قال.. ما الذي يشير الى صدق كلامك.. اين بطاقتك او جواز سفرك.. قلت له: يا سيدي انت تراني لم ازل البس البيجامة.. ضحك وقال: كلكم يقول ذلك.. ما علاقتك بالشيوعيين والاحزاب الاخرى.. قلت: يا سيدي.. ولم اكمل فقد دخل جندي او شرطي واقتادني الى باحة واسعة والقاني ارضا وربط رجلاي بعصا غليظة ورفعني الى الاعلى وتناوب ألبعض باستخدام ( الفلقة) التي اعادتني الى الصفوف الاولى من دراستي عندما كان المدرس اذا ما اخطأ الطالب في دروسه ان يبدأ بجلده بالعصا حتى تتقرح منا الاقدام.. بدأت اصرخ فقال لي احد الجنود.. اصرخ كما تشاء.. هنا لا احد يسمعك..

استمر الضرب لاكثر من ربع ساعة ثم تركوني وجاءوا بآخر غيري.. وطلب الي الشرطي ان اقف على قدمي فلم استطع الوقوف.. وبعد لآي اعادوني الى زنزانة فيها ثلاثة من الرجال.. أخذوا يطيبون خاطري ويقولون لي اصبر فان الله مع الصابرين.

كانت هذه الحفلة تتكرر في كل اسبوع مرة.. يسألونني نفس السؤال فاجيبهم نفس الجواب.. غير ان احد النزلاء قال لي.. سوف يستمرون في ضربك ان لم تخترع لهم فرية او كذبة لكي يبتعدوا عنك.. قلت له: ماذا اقول لهم.. قال احدهم.. قل لهم ان البعض عرضوا عليك الانضمام الى الشيوعيين فرفضت.. فان طلبوا منك اسماء من عرضوا عليك قل لهم اسماء من عندك.. وانك لا تعرف امكنة سكنهم.. قلت له: ولكن هذا غير صحيح.. فانا لا اعرف اصلا ما هي الشيوعية.. قال لي: انت وشأنك.. سوف يستمرون في ضربك حتى تموت..

وتكررت حفلة الضرب مرارا.. وبعد شهر نقلوني الى عنبر فيه اكثر من عشرين معتقلا..

أمضيت سنة كاملة في السجن الرهيب.. وقد استسلمت للقضاء والقدر ولم اعد اطالب باخراجي خاصة بعد ان طلبني مدير السجن وقال لي بانه لا ملف لي عند ادارة السجن.. ثم اتهمني باني قادم من مكان لا يعرفه.. وعلي ان اقول الحقيقة عمن ارسلني مضيفا.. لقد قلت في التحقيق انك لا تعرف احدا هنا.. ولكني اشك في صدق كلامك.. ثم أمرني بالعودة الى الزنزانة بعد ان نادى جنديا قادني الى هناك.. وايقنت انني ميت لا محاله.. وعند انقضاء السنة لم اعد افكر في نفسي اطلاقا وكأنني الغيتها من الوجود.. وانصب كل تفكيري على عائلتي وماذا حدث لها بعد ان تركتها في الشقة ولا معين لهم سوى الله.. وعلم الله ماذا جرى لهم خاصة وانهم لا يمتلكون الوسائل التي تمكنهم من العيش سوى بعض النقود التي كنت احتفظ بها في عهدة زوجتي.. وهكذا انقطعت عنهم وانقطعوا عني ولم يعد احدنا يسمع عن الاخر.

وتتابعت السنون.. سنة اثر اخرى.. وعند جلوسي مرة لحساب السنين التي امضيتها وجدتها سبع سنوات كاملة.. وفي نهايتها صممت على الانتحار لاجلب انظار ادارة السجن.. ولكن الله ارسل لي ما كنت انتظره.. فقد تغيرت ادارة السجن وقال لي السجناء بان القادم مدير معروف عنه النزاهة والعدالة.. وهكذا وجدت نفسي اكتب اليه رسالة اشرح فيها ظروفي.. ولم تمض عدة ايام حتى طلبني المدير ودار بيني وبينه الحوارالتالي.

 منذ متى وانت هنا

 من سبع سنوات يا سيدي

 الا تعرف ما هي تهمتك

 كلا يا سيدي.. لقد كنت في اجازة ثم وقع الانقلاب.. ومنع التجول فاخذتني دورية عسكرية من الشارع.. دون ان تسألني.. قال لي: لا تقل انقلابا وقل ثورة.. قلت له: يا سيدي.. سواء كانت ثورة او انقلابا فانا لا اعرف هذه المسميات.. قال: يبدو انك سوف تتعبنا يا رجل.. ثم صمت: وبعد لاي قال لي..

 لماذا لم تطرح المشكلة على المدير الذي كان هنا قبلي

 طرحت عليه المشكلة ولكنه اصم اذنيه.. واتهمني بما ليس بي..

 متى كانت آخر مرة رفعت اليه شكواك

 قبل خمس سنوات تقريبا

 حسنا.. اذهب الى زنزانتك ولسوف ارى فيك رأيي

 شكرا يا سيدي..

عدت الى الزنزانة.. وتلقفني زملائي بالاسئلة وقال احدهم ممن امضى سنين طويلة لسوف تخرج قريبا.. فكما علمت هم ينظفون السجون ممن لا تهم توجه اليهم.

في اليوم التالي طلبت على عجل الى غرفة ادارة السجن.. وهناك وجدت رجلا مهيب الطلعة يحمل على كتفيه ما لا يوصف من النجوم والتيجان بانتظاري.. وعند دخولي الغرفة قام من مكانه وسلم علي بحرارة وقال.... نحن آسفون جدا على ما جرى لك.. ولكن الحقيقة ان اسمك كان مطابقا لاسم آخر مطلوب.. ولهذا سوف نفرج عنك حالا.

كان الرجل قد استحضر لي رسالة من دائرة المخابرات تقول بانني فقدت جواز سفري وان جنسيتي هي (.....) وقال لي: هذه رسالة تفيد ان لا جواز سفر معك ويمكن ان تجتاز بها الحدود الى بلدك.. عليك ان تبرزها لاجهزة الشرطة في المغادرة والدخول الى بلدك.. وهكذا وضعت الرسالة في جيبي دون ان افتحها..

من الغريب انني لم افرح عندما نطق بهذه الكلمات.. فقد تعودت على سماع هذه المقولة حتى بت اكرهها.. ولم يتركني الرجل الا عندما طلب طعاما وقهوة واعطاني علبة من السجاير وقال لي.. اذهب الى زنزانتك واجمع حوائجك الخاصة وودع اصدقاءك فانك سوف تخرج اليوم
تحركت متثاقلا الى الزنزانه.. فاستقبلني اصدقائي بعاصفة من التنكيت والضحك والتهليل.. واخذوا يودعونني بشوق ومحبة وبكى البعض وصرخ البعض الاخر.. وخلال دقائق كان السجناء بكل فئاتهم يعلمون قصتي.. وهكذا انطلقت الى ادارة السجن ثانية.. فوجدت الرجل بانتظاري.
سألني كم معي من النقود فقلت له لا املك منها شيئا.. فقال حسن.. لسوف اصطحبك معي الى دائرة المخابرات وهناك تؤمنك الى عائلتك ان كانت لا تزال هنا.. او نرسلك الى بلدك ان لم تعثر عليهم..

قلت: من غير المعقول يا سيدي ان تنتظر زوجتي واولادي كل هذه المدة واغلب الظن انهم رحلوا الى بلدي..

وهكذا وجدت نفسي في سيارة صغيرة من نوع الجيب متوجها الى البيت الذي تركت عائلتي فيه مع وجود مبلغ من المال يمكنني من ان اسافر واصرف على نفسي لشهر او اكثر على الاقل.

ذهبت الى الشقة التي كنت اسكن فيها منذ سنوات سبع ويقيني انني ابحث عن ابرة في كومة من القش.. وعندما طرقت الباب خرجت لي امراة عجوز فعرفتها بنفسي فقالت.. أسفة يا ولدي فانا لا اذكرك.. ثم اخذت اطرق باب الشقق في العمارة وحمدت الله على ان وجدت امرأة تذكرت ما حدث لي فتنهدت وقالت: لا حول ولا قوة الا بالله.. لقد بقيت زوجتك هنا لمدة شهر او اكثرقليلا ثم سافرت الى بلدها بعد ان تيقنت انك لن تعود ابدا..

يقول (قيس) نزلت من العمارة فوجدت الجيب الذي كان يقلني قد تركني وانصرف.. واتجهت الى موقف السيارات التي تقلني الى بلدي.. كنت خائفا مرتعبا انظر يمينا ويسارا فقد اصبحت لدي عقدة السيارات العسكرية.. فما ان ارى احداها حتى اختفي في زاوية من زوايا البيوت او في ركن من الشارع.. غير اني ذهبت الى موقف السيارات التي يمكن ان تقلني خارج هذه البلاد..

عند الحدود في بلدي ادخلوني الى غرفة للتحقيق استمر اكثر من ساعة عن ظروف ضياع جواز سفري فرويت لهم الحكاية كاملة.. وقام احدهم بالاتصال في مركزه الرئيس ليشرح لهم الحكاية.. بعد ذلك افرجوا عني فاكملت سفري.

وصلت المدينة التي تسكن فيها عائلتي عند الساعة العاشرة مساء.. ولم استطع النوم.. ذهبت الى حيث سكنت وطرقت الابواب ولكن لم يفتح لي احد.. كانت الدنيا عند منتصف الليل.. وفي هذا الوقت لا تجد من يستقبلك اذا ما طلبت المساعدة.

نزلت الى وسط المدينة واخترت فندقا صغيرا نمت فيه ليلتي.. وعند الصبح توجهت ثانية الى حيث كنت

اسكن فعرفني بعض الناس هناك.. وكانوا يفاجأون لمرآي ويقولون: سبحان الله، سبحان محيى الموتى.. وظللت على هذا الحال اياما حتى اهتديت الى مكان سكن عائلتي الجديد.. غير ان الدكان التي تبيع الحاجيات على ناصية الشارع قال لي: ولكن زوجتك قد تزوجت منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.. وهي تقيم مع زوجها واولادك في الدور الارضي من هذه العمارة.. واشار الى عمارة قريبة قلت له: كيف ذلك.. فانا زوجها ولم اطلقها.

قال الرجل: لقد غبت طويلا.. ولم تترك زوجتك مكانا الا بحثت عنك فيه.. وقد تأكد لها انك ميت.. اضافة الى ان الحال قد ضاق بها وتريد ان تعيش مع الاولاد.. وجاء ابن حلال اخيرا وقبل ان يعيش مع ام واولادها لعل الله يرزقه فيما اقدم عليه من فعل الخير..

بعد تفكير طويل.. نظرت الى ساعتي فاذا بها لا تزال في اوليات الليل تقارب الثامنة.. وقررت ان الج العمارة لارى اولادي وما آل اليه حال زوجتي.. غير اني فكرت كثيرا قبل ان اقدم على هذه الخطوة وقلت لنفسي.. دعها للصباح.. فان الخير يقدم مع طلوع النور.. ولكني لم اصبر.. فتقدمت بخطى ثابتة وطرقت الباب.

كانت ذقني منفردة على وجهي وقد غزاها بعض الشيب.. ثيابي كانت رثة وملامحي قد تغيرت.. اذ كنت انظر الى نفسي في المرآة فاكاد لا اعرف نفسي.. جسد نحيل تغير عن ذي قبل خسر وزنه فاصبح عودا على جسد هزيل..

فتح الباب فاذا بي امام احد اطفالي وعرفته جيدا.. هذا عصام الذي تركته ابن سنوات سبع فاصبح اليوم على عتبة الشباب.. وما أن رأيته حتى سالت دموعي مدرارة.. نظر الي عصام بشىء من الاستغراب ولم يعرفني.. فاغلق الباب في وجهي ودلف الى داخل البيت فسمعته يحدث احدا ويقول ان من بالباب شحاذ ربما يطلب الطعام.. سمعت احدهم يقول: أشحاذ في مثل هذا الوقت..؟ أعطه بعض ارغفة ولا ترده خائبا.. واذا كان بحاجة الى كساء فاعطه بعض ملابسي القديمة.. خمنت ان الرجل الذي تحدث هو زوج زوجتي فادركت انني في عالم غريب لا يعرفه الانسان الا خيالا او بعض خيال..

طرقت الباب ثانية فاذا برجل طويل القامة عريض المنكبين يفتح الباب وينظر الي مستغربا قائلا: انتظر يا هذا.. فابني سوف يحضر لك بعض الطعام.. فعاجلته قائلا.. يا سيدي.. انا لا اطلب طعاما ولا ملابس اوشيئا ينقصني.. جئت من سفر طويل لا يعلمه الا الله ابحث عمن فقدتهم.. نظر الي الرجل باستغراب وقال: انا لا افهمك.. هل توضح لي..

فوجئت بزوجتي قد جاءت فوقفت خلف الرجل ونظرت الي نظرات استغراب ثم فغرت فاها كأنما اصابها الجنون وصرخت.. ثم وقعت خلف الرجل فاذا به ينظر خلفه ويتلقاها قبل ان تسقط..
ظل الباب مفتوحا.. اصبحت الضجة في البيت صراخا.. قال الرجل.. الي ببعض الماء سريعا.. قام عصام باحضار كوب من الماء رشه الرجل على وجه سعاد فتحركت ببطء وقالت: يا رب.. ما هذه المصيبة.. قال لها الرجل.. عن اي مصيبة تتحدثين.. قالت له: هذا زوجي الذي فقدته عندما كنا في اجازة قبل سنوات..

وقد حدثتك عنه..

جاء بقية الاولاد واخذوا ينظرون الي باستغراب.. قال لي الرجل.. تفضل وادخل.. قلت له مرتعشا.. آسف يا سيدي للازعاج الذي سببته لكم.. دخلت عتبة الباب وقامت زوجتي بالاتكاء عليه ودخلت الى غرفة اخرى.. سمعت بكاء طفل صغير في المنزل.. اطفالي الذين اصبحوا على عتبة الشباب كانوا كأنما اصابهم الخرس..

ولجت الى البيت بعد ان غاب الرجل قليلا في غرفة اخرى.. ويبدو انه كان يطيب خاطر من كانت زوجتي.. ويقول لها: انتظري يا سعاد.. سوف نعرف ما الذي جرى.. جلست الى كرسي في صالة البيت.. اشرت الى عصام بان يحضر لي كأسا من الماء فقد جف حلقي.. جاءني عصام بالماء فرشفت منه ونظرت الى وجوه اولادي تباعا.. كانوا كأنما لا يعرفونني.. فسبع سنوات او اكثر لم تقنع طفولتهم بانني قد اختفيت عن هذه الدنيا لانهم يجهلون ما الذي حدث..

بعد لاي جاء الرجل ليرحب بي ويقول: آسف يا اخي.. فقد كانت الصدمة كبيرة على زوجتي مما جعلها تفقد وعيها مؤقتا.. سوف تأتي الينا في الصالة لتعلم ما الذي حدث..

تجمع ( الصغار) يجلسون قبالتي.. غاب الرجل قليلا ثم جاء مصطحبا سعاد.. كان صدرها يعلو ويهبط ولم تتمالك انفاسها بعد.. لكنها بعد لاي هدأت واخذت تنظر الي نظرات حذرة ثم فاضت عيناها بالدمع وقالت: ما الذي حدث لك.. ما الذي جرى.. قلت لها وقد احترت في وصفها.. هل اقول لها يا زوجتي.. هل اناديها باسمها فاقول لها سعاد.. ثم عولت ان اقول لها يا ام عصام.

قلت: قد جرى لي ما لم يجر لانسان في هذا الكون حسب ما اعرف.. فلم تصادفني مشكلة بمثل ما جرى.. لقد كانت جزءا من حياتي كتبها الله لي فرماني سنوات وسنوات خلف القضبان ولا دخل لي في كل ما جرى.. انها الاقدار..

بدأت بسرد قصتي.. ويبدو انها استغرقت ساعات طويلة.. كان الرجل في كل حين يذهب خارج الغرفة لكي يجفف دموعه التي كانت تسيل على خديه.. اما سعاد فقد تمالكت نفسها وفي كل كلمة والاخرى تقول لا حول ولا قوة الا بالله.. وكان الاولاد يسمعون ما اتحدث به وقد فغروا افواههم كأنما انا قادم من عالم آخر لا يدرون كنهه.

نظرت الى ساعة الحائط في الصالة فاذا بها قد جاوزت الثانية عشرة ليلا.. قلت للرجل: يا سيدي.. انا آسف لكي اسبب لكم كل هذا الازعاج.. قال الرجل.. حمدا لله انك لم تزل حيا.. على اية حال سوف نفرد لك مكانا تنام فيه حتى الصباح.. وعندما ينبلج الصبح سوف نتحدث اكثر.. قلت له: يا سيدي.. اني قد استأجرت غرفة في فندق ليس بعيدا من هنا.. ساذهب الى هناك ويفعل الله بعدها ما يريد.. قال الرجل.. حسن.. سوف اوصلك الى مبتغاك وارجو ان اراك غدا على الغداء.. قلت له: اشكرك يا سيدي.. جاء الاطفال الي فقبلتهم واحدا اثر الاخر.. كانوا لم يزالوا حذرين مني.. وهكذا ولجت الى سيارة الرجل فاوصلني الى مبتغاي وعند نزولي من سيارته قال لي: هل معك من النقود ما يكفي.. هذه دنانير خمسة يمكن ان تنفعك حتى ظهر الغد.. قلت له.. اني امتلك البعض ولا حاجة لي بها.. قال.. يا رجل.. ما مر بكل لا تحتمله الجبال.. سأعود اليك عند الثانية عشرة ظهرا ثم غادر.. ولم انم تلك الليلة.. فقد داهمتني الهواجس ولم استطع ان اغمض عيني حتى الصباح.. غير ان النوم عاودني فرحت في نوم عميق ولم استفق الا وعامل الفندق يدق باب غرفتي.. فتحت له فاذا به يقول لي ان رجلا وامرأة في صالة الفندق يريدونك.. قلت له: قل لهم دقائق وسأكون جاهزا..

كانت سعاد وزوجها كمن اصابهما الصمم عندما نقلاني في سيارتهما الى بيتهما.. لم يتحدثا.. كانا صامتين حيث سرحت الى عوالم السجن الذي كنت فيه.. دلفنا الى المنزل.. وهناك رايت الصغار وقد فرحوا لقدومي.. كانوا قد بدأوا يشبون عن الطوق وفهموا كل ما جرى.. كانت هنالك شموع تضىء الصالة.. فقال لي عصام وقد دلف الى حضني وتبعته الاختين.. قال لي عصام: كل عام وانت بخير.. قلت له: ما هذه المناسبة السعيدة.. قال: يا أبي.. اليوم عيد ميلادك الم تدر بعد.. سرحت دمعة في عيني.. ولكني تمالكت نفسي وقبلت عصاما واختيه.. وامضينا ساعات وساعات كأنما هي دقائق.. ثم دلفنا الى الغداء.. وكانت تلك هي المرة الاولى التي اتذوق فيها طعام سعاد بعد خروجي من السجن.. كنت اتناول اللقمة اثر الاخرى وتأخذني افكاري الى البعيد البعيد.

بعد الانتهاء من الطعام انفردت بسعاد وزوجها فقال لي الرجل.. يا اخي.. هناك مشكلة شرعية.. لا ادري ما هو حلها.. قلت له على الفور وقد فهمت ما يبغيه.. ان الشرع في مثل هذه الحالة يحكم لك بشرعية الزواج.. فقد كنت عند غيابي في حكم الميت.. وعلى اية حال فسندلف سويا الى المحكمة الشرعية لكي تعطينا الفتوى مكتوبة.. قال الرجل وقد بدى على سيماه الالم ناظرا الى سعاد.. لم اشعر في حياتي بمثل هذا الالم وظهرت على وجهي سيماء الحيرة.. واستطرد الرجل.. هل تريد ان نخيرها بيني وبينك.. قلت له: يا اخي.. لقد كنت نعم الرجل الذي حفظ صغاري واطعمهم من بعد جوع.. قال الرجل: انها ارادة الله لا نستطيع الا ان نرضى بحكمه.. غدا نذهب سويا الى المحكمة.. اما صغارك فانت مخير في ان تحتفظ بهم لديك او ان اردت ان تزورهم في الوقت الذي تشاء فانت مخير.... ذرفت دموعا غزيره فقالت لي سعاد.. وانت كنت نعم الرجل الذي عشت معه سنوات طويلة دون ان تجرحني ولو بكلمة.. ولكني حامل من زوجي الحالي.. اضافة الى مولود عمره الان ما يقرب السنتين.. سرحت في فضاء الغرفة وقلت لها: بارك الله بك وبزوجك.. ثم غادرت المنزل الى الفندق..

في اليوم التالي ذهبنا ثلاثتنا سويا الى المحكمة.. وهناك حكم القاضي بان تحتفظ بالزوج الثاني وطلب الي ان اطلقها علنا وامامها.. لكي نحتفظ بوثائق المحكمة درءا للخلاف مستقبلا.. وهكذا كان..

يضيف قيس.. لقد وجدت عملا اعتاش منه.. وقد بدأت حياتي من جديد.. انا سعيد لان ابني وبنتاي يزورانني كل اسبوع فافرح بهم.. وتجذرت الصداقة بيني وبين زوج طليقتي حتى بتنا كأخوين..

نظرنا الى وجوه بعضنا في الزنزانة التي نسكنها وقال احدنا.. انها قصة لا تحدث الا في الحلم بل لم اسمع بمثلها في حياتي الطويلة.. ولكن.. ما الذي اتى بك الى هذه الزنزانة بعد كل تلك الاحداث.. قلت: لا استطيع ان اقول الا انها ارادة الله..

أكد لي زميل في الزنزانة قائلا.. انها القصة التي نكأت جروحنا.. وانها لمأساة.. قلت: وهذا هو السر الذي جعلني اربأ بنفسي ان احدثكم بها.. اما الان فقد علمتم لماذا اطبق فمي.. قال الزميل.. لم تقل ما الذي اتى بك الى هنا.. قلت.. أحمد الله على ان اولادي جميعا يحبونني الان بعد ان علموا ما الذي جرى لي.. ان حياتي علمتني ان اصبر على المحن.. وها هم اولادي قد كبروا.. عصام تزوج من فتاة احبها.. وبنتاي احداهما خطبت لشاب لطيف المعشر.. اما وجودي هنا فان المسألة تتكرر.. ليس لي ناقة ولا جمل في السياسة.. وها انت تراني قد حشرت في هذه الزنزانة معكم لانني كما قيل.. ضد نظام الحكم في هذا البلد الذي هو بلدي.. واخشى ان تتكرر المأساة منذ اولياتها.. قلت له: عليك بالصبر.. ومن خلال الكلام.. سمعنا شيخ السجن يؤذن لصلاة الفجر.. فقمنا جميعا للذهاب الى مسجد السجن ونحن نضحك.. ولا ادري ان كان الضحك لمأساتي ام لانني وجدت الله في ذلك السجن.. فبت اعترف اعترافا كاملا بحكمته تعالى..

(تمت)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى