الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم عائشة بنت المعمورة

صرخة الحياة

قال تعالى: (( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت..))

صدق الله العظيم

فرحة عارمة أحسها تتسرب بداخله.. تبعث فيه الطمأنينـة والسعـادة من جديد.. تحسسه برجولة عائـدة وغرور احتـواه في لحظة كبرياء... أفكار تراوده وهو يخطو الخطوات نحو مزرعته الصغيرة.. بفأس تعبت كتفاه من حملـه واخشوشنت يداه من شق التربة.. تيقن أخيراً أن أيامه المتتاليـة المتعبة التي اختزلت آلامه وأحلامه وقهره ستختفي.. ستختفي وإلى الأبد.

لقد قرب موعد الولادة وهو يتطلع بشوق ولهفة إلى المولود الجديـد.. طفل يحمل اسمـه.. امتدادا لرجولتـه.. طفل يحمل تعبـه.. طفل يحمل أحلامه وآلامه.. طفل يخفي خجلـه ويرفـع رأسه أمام أمـه التي ما فتئت تسمعه الكلام وتحثـه على الزواج من أخرى تلد الذكور، وأنه رجل بإمكانه أن ينجب الولد كبقية اخوته.. كانت تقول له دوماً:

ـ خديجـة رحمها يلد البنات..!!
وكأنها تطعنه في رجولة مسلوبة فيخيـم صمت رهيب ينقص من قدرته وهي تتابع إلحاحها وتذمرها:
ـ ما رأيـك في سمية ابنة عمك.. ستنجب لك الذكر الذي حرمتك منه زوجتك؟
فجأة تذكر بناته وقد تنجب زوجته مرة أخرى بنتاً فتوَّلد الألم من جديد والخيبة قطعت دربه وتجرع تنهيدة الحسرة التي تلاحقه والحظ العاثر الذي يلازمـه ويطارده بكثير من العناء الذي أثقل أيامه.

نسي "وليد" أنه بخجله ألبس بناته السبعة رداء العار وأسقط على نفسه رجولة قوية تحميه من ذل العائلة وقهر الزمان.. أنساه الجبن أنه رجل بإمكانه أن يخرس الألسـن إلى الأبد وقد تناسى أنه هو من صنع هذا المجتمع بسلطة جائرة وأبوة كاذبة ورجولة مزيفة.. لم يرحم طفولتهن وتوسلات زوجته الخائفة من طلاقـها.. لم يرحم سكاكين الألم التي تجرحها من عيون أمه وزوجات اخوته..

كبر جرحها وهي تتكئ على آلام الخوف من المجهول.. استوقفتها تلك الكلمات الجارحة التي كانت تسمم بدنها فأطلقت العنان لألمها وصرخت صرخة قوية.. مدوية بها أرجاء الغرفة فنزل المولود الصغير بصرخة الحياة وقد كسا العناء وجهها وأخذ التعب والإرهاق من جسدها النحيف قوتها.. حدقت إلى وجوه الممرضات بجانبها بعدما استفاقت من غيبوبة الوجع تترقب الخبـر.

تهنئها الممرضة قائلـة:

ـ الحمد لله قد رزقت بطفلـة جميلة.
نزل عليها الخبر كالصاعقة وهي تنظر إليهن باندهاش وسقطت دمعتان تجرح خديها المصفريـن..

ضحكت الطبيبة مخففة عنها آلام الولادة وهي تقول لها:
ـ أتبكين من الفرحة أم من الألم؟
ردت عليها الممرضة وهي تغرز حقنة التخدير في الوريد:

ـ كيف لا تفرح وقد رزقت بطفلة جميلة بعد ولادة عسيرة..
صفعها قولهن وغاصت في غيبوبة تمنت أن لا تفيق بعدها.
سمعت العجوز في البهو صراخ الطفلة فضربت الأرض برجلها وهي مقطبة الحاجبين تقول لولدها:
ـ إنه صراخ بنت.. بنت.. بنت..
عادت الممرضة بابتسامتها مبشرة الزوج بأن الله أكرمه بطفلة جميلة.. وقبل أن تكمل قولها رفع صوته متذمراً:
ـ إنها طالق.. طالق.. طالق.
في اليوم التالي لبست الأرض حلة بيضاء وأشرقت شمس الصباح تطبع قبلة لؤلؤية تغازل بها بياض الأرض وانتظرت خديجة زيارة زوجها.. يوم.. يومان..

فجاءت العجوز تنذرها بيوم موعود تخبرها أن ابنها قد طلقها البارحة، وأن عودتها إلى المنزل مع ابنتها استحالة.

وقع عليها الخبر كالصاعقة وآلمتها الغصة في حلقها وانتظرت الليل بعدما اسودت الدنيا في عينيها ولاحقتها الأفكار الجهنمية وقد سكنها اليأس والإحباط.. حدقت النظر في الصغيرة.. نظرت من حـولها.. سحبت الوسادة وكتمت بها أنفاس الصّبية المولودة فكانت آخر نفس من صرخة الحياة.

هامش:

القصـة واقعيـة.

• الكاتبة صدر لها: مخالب(قصص) ، الموؤودة تسأل فمن يجيب؟ (قصص) ،قراءة سيكولوجية في روايات و قصص عربية(دراسة) ، رواية السوط و الصدى ومجموعة من قصص الأطفال..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى