الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤

طريقة أخرى للحديث عن سيرة ذاتية "لعادي" (أي، بي)..

عبد الباسط خلف:

ما أن شققت طريقي نحو الكتابة، وأنا على مقاعد الدراسة الوسطى، إلا وبدأت أشكل في نفسي أسلوبا خاصاً، صرت أسأل أعماقي على شرف ما كان يطلبه معلم اللغة العربية السمين والذي يعشق السمك المعلب، من موضوعات للتعبير، عن مشروعية حضور الأنا والآخر فيما أخطه، شرعت أخاطب ذاتي بتلقائية : هل من المشروع أو المباح أن أشير قليلاً إلى تجربتي الذاتية؟ وماذا عن تمرير القليل من مواقف طفولتي التي كثيراً ما نطرق "جدران" ذاكرتي ؟ وبأي الأشكال أصنف الخاص من العام؟ وهل من حدود فاصلة وواضحة بين النمطين الضدين،كتلك التي اعتقدت بوجودها لأول مرة عندما اقتحمت أذني لفظة مدار الجدي وخطوط العرض والطول؟

أسرعت في مرحلة مبكرة، بعد أن علا نجمي في الصف بين نظرائي في الإنشاء، لتدوين يومياتي، وما كان يحدث من طرائف وغرائب ومواقف وساعات حرجة إلى صعبة أحياناً، وكأنني رحت أصنع تقسيما خاصا داخل النثرية أو القصة القصيرة أو الخاطرة أو المقال الخجول، من هو البطل؟ وهل من اللائق الإشارة لخبراتي الصغيرة أو المتواضعة جداً؟ ماذا عن صورة والدتي، وحضور أبي، وتواجد الأشقاء والصغار في حينا القديم، وصدى مدرس التاريخ الذي كان يسرد لنا الأحداث الغابرة بفكاهة لا زالت عالقة في أذهاننا؟ فمثلا: روى لنا أن الخليفة العباسي المعتصم، صاحب القوة الخارقة كان ينادي على الأسد ويقول له : سأقتلك اليوم (شو رأيك…؟)، وضعف شخصية مدرس الرياضيات الذي كاد البكاء يعرف كلمة المرور إلى عيونه بفعل استفزاز زميل أرعن من جُلساء مقاعد الخشبية الرثة والمكتظة.

مع كل خطوة كنت أتقدم فيها من المدرسة الأساسية صوب الإعدادية، كانت الأسئلة تتكاثر كالبكتيريا، وتتعقد شيئاً فشيئاً… على عتبات الإعدادية سألت مدرس اللغة العربية لماذا لا تمنحني علامة كاملة في التعبير، فلا أخطاء لدي لا في القواعد بنحوها أو صرفها ولا بالإملاء وهمزاته وأحرفه الفارقة، وحتى جمعه المذكر السالم الذي بقيت أربط بينه وبين أحد جيراننا في بلدتنا الهادئة ؟ كان رده المقتضب: "ما في حدا بياخذ علامة كاملة يا عبد.."

صرت في كل حصة لصناعة الإنشاء تأتي بعد طول انتظار أقول لنفسي: سأتحدث قليلاً عن كفاح أمي ومثابرة أبي وتضحية أخي جمال وقصصي المشتركة بأخوتي وشقيقتيّ، وتأثري بالشاعر إبراهيم طوقان، وتعلقي بمدرس الجغرافيا، و نضالي في حقلنا وعشقي لكرم زيتوننا الذي اسميته لاحقاً "منجم الذكريات"، وشغفي غير المحدود بحارس منتخب المغرب بكرة القدم (بادو الزاكي) الذي لمع نجمه في المكسيك العام 1986، ولكن الحيرة- قاتلها الله- كانت تشن عليّ هجوما معاكساً وتقول لي: وماذا عن القضية العامة؟ ولم كل هذا الإسراف بالخصوصية؟ فإذا ما أردت التحدث ولو بجملة عن شخوصك ومقربيك فلن تبقي لي مساحة للبوح بالمحور الرئيس الذي تحيك كلماته وتغزل مضامينه لحظة في إثر لحظة .

تناسيت قليلاً أدبي ونقدي الغر لنسختين من نصوص درامية عرضتها الشاشة الصغيرة الأدرنية، والتي زاوجت فيها بين العام الذي حمله مضمون السيناريو والخاص الذي عشته مع جدتي القريبة الماثلة في البطلة التي سرقتني طوال الشهر، وسببت لي توبيخاً من والديّ لأنني أبالغ في التعاطي مع التلفاز منزوع الألوان.
تمردت قليلاً وبدأت معارفي بالنمو والتخلي عن خجلها، فقلت لنفسي" لكل مقام مقال"، وفي كل زاوية سأسهب في الإشارة للذين أعشقهم وأتأثر بهم من دون المساس بالفكرة الرئيسة.

وفعلا تخليت عن براءة الطفولة في سطوري، وتنازلت عن الإسراف في إمطار القارئ بطائفة من الأسماء قد تثقل كاهله وتجعله متضايقاً مشتتاً كارهاً للمتابعة متمرداً على النص وإن عرف الجودة .
في دفتر يومياتي الأزرق السماوي الذي كنت متحفظاً من إشهاره أو نثره على الملأ بلا رقابة أو قطع لطريق الحقيقة، لولا تشجيع الصديق الناقد تحسين، تحدثت عن شجون و هموم بروائح متفاوتة، أشرت مثلاً للغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 في نفس القصة التي كتبتها عن شقيقتي عزيزة، وأشرت لنصائح العجوز لي ولشقيقي في يوم اغتيال رشيد كرامي ( رئيس الحكومة اللبناني السابق) في طائرة مروحية، وربطت بين يومياتي مع أخي و فترة حكم السلاجقة لعالمنا، وكتبت عن القدس لأول مرة على خلفية تدوين حواري مع أبي حول السماح أو عدم السماح لي بالذهاب في رحلة المدرسة. ونحتُ اسماً بديلاً لحقلنا السهلي على غرار مدينة في القوقاز الروسي راج الحديث عنها في نشرات الأخبار وتشابهت قليلاً مع اسمها الأصلي، وأشرت لنزهة بريئة مع رفاقي الصغار في اليوم ذاته الذي اغتيل فيه أحد السفراء الأجانب في مدينة الضباب.

قليلا، وعقب تطوير أسلوب أدب خاص بي، قررت أن أخط في الثانوية العامة موضوع التعبير بحوارية بيني وبين نفسي، حرصت فيها على إخفاء أنني أحاور ذاتي حتى الهزيع الأخير من الحكاية الإنشائية، ما لفت أنظار "قوى الرقابة وحفظ نظام الامتحان المصيري، اللذان ظلا طوال جلسة الامتحان يسترقان النظر على ما أكتب من حروف.

في المعتقل الاحتلالي، حيث كنت وفق تعريفات منظمات الأمم المتحدة طفلاً في السابعة عشرة وأقل بقليل رحت أنسج قصصي القصيرة محاولة لتطوير النمط القصصي، تخليت عن الخاص بشكل لافت، ورحت أسرف في الحديث بعموميات تجافي الخصوصية، لأن رفاق القيد المستقطعة حريتهم يمُثلون قضية واحدة تحاول التمرد على القيد والسجان.

بعد أن تسللت أقدامنا وعقولنا للجامعة، راحت الحيرة تتملكني، بين دراسة الأدب الخالص أو الصحافة الصافية، وصلت في نهاية المطاف لقرار نهائي بالتحول لصحافي يعشق الأدب ويستفيد منه لصالح نصوصه الإنسانية وقصصه وتقاريره وأخباره.

أعدت نَشر نفسي في قسم تسجيل الطلبة عشرات المرات، في كل مرة كنت أختار كلية الآداب، وقبل أن يجف خبر قراري ، أعود مسرعاً للتراجع…

أذكر أنني وفي المقابلة التجريبية الأولى والتي أجريتها مع أحد الإذاعيين، جعلت أسئلتي أطول من إجاباته و رحت أتحدث له عن ذكرياتي مع إذاعة الثورة الفلسطينية التي كنا نسترق الاستماع إليها، وظهر الناتج النهائي وقد بدت فيه رائحة الأدب و الذات أيضاً مع إشارات رمزية هنا وهناك، وجاء تعقيب المشرف: لماذا كل هذه الصور والأمثلة في المصنوعة الصحافية…؟؟

قال لي مدرس الصحافة: أنت تصلح لأن تكون مؤلفاً في المقام الأول، وبوسعك الكتابة للأدب، والتفنن في انتقاء العناوين والشعارات والرموز …

عشية انتقالي لبلاط صاحبة الجلالة رحت أحاول إعلان الانقلاب الأبيض على الأدب، وبقيت على صلة به، كتبت عن غير شأن اجتماعي ورافقتني المحسنات البديعية والأساليب الإنشائية و الوصفية إلى أن قررت في نهاية المطاف إعلان حالة طوارئ.

كان من نصوص الإعلان الاستثنائي، أن أمشي في مسارين متوازيين( شبهتهما بما كان يشيع من أحاديث عن مسارات السياسة والتفاوض وبخاصة المسارين السوري واللبناني)، أمارس في الدرب الأول كل الذي أعشقه من كتابة لقصص قصيرة ويوميات ومقاطع سير ذاتية وغيرية، وأعلن في الجهة المقابلة الولاء لمواد صحافية غير جافة، وفق بنية القصص الصحافية( feature story) أو الشكل الإعلامي الذي يطوع اللغة ويجعل الوصف سيد الموقف وينجح في جعل القارئ هائماً متخيلاً لما يقرأ بخلاف الصحافة الجافة التي كنن أشبهها بنقد ربيعه بن حذار الإسدي حينما قال لأحد الثلاثة من الشعراء الذين تنافسوا أمام أذنيه: أنت شعرك كلحم أُسخن فلا أُنضج فأُكل ولا تُرك نيئاً فينتفع فيه.

نجحت في ذلك، وساعدني الزميل بسام الكعبي في تبني مدرسة الفصل بين المسارات وكذا الناقد تحسين يقين الذي سُر بتوظيفي للأدب يوم كان محرراً للصفحة الثقافية في جريدة" الحياة الجديدة". وصرت بعدها "أصحف الأدب وأُدب الصحافة".

ومن الطريف أنني في إحدى المرات بعثت بنص صحافي لإحدى الصحف العربية الصادرة في كندا عبر الإنترنت والورق أيضاً ( عرب 2000)، لكن رئيسة التحرير مي إلياس ظنت أن الذي صدرته لها قصة أدبية خالصة، فوضعتها في خانة الأدب مع كومة من القصائد، بالرغم من أنها تتحدث عن طفلة صغيرة احترفت الغناء وراحت تصدح به في أزقة مخيمها، وشجعها والدها في إنتاج كاسييت(شريط) وقرص مدمج لها قبل أن تكمل ربيعها السابع.

ذلا ليل قائظ، طُلب مني إعداد دراسة عن تاريخ شبكة المعلومات الدولية" الإنترنت" في وطني، قلت لنفسي بداية: حذار حذار من الكلام الجاف، ورحت أبحث عما يلطف حدة النص ويعلن رفضه للتجريد الرقمي.

ذات شتاء، قررت إطلاق النار على ترددي في كتابة القصة القصيرة المعدة للنشر، وبدأت أتخلى عن التمترس وراء الطراز الخاص الذي يُكتب ولا يخرج إلى الملأ، بدأت المجموعة الأولى المعدة أصلا للنشر ( رائحة إكس) بسبعة عشرة قصة تحدثت في معظمها عن حواء التي تتعرض لطيف من الاضطهاد النهاري والليل على حد سواء، كان العام سيد الموقف ولم تخل المسألة من الإشارة للخصوصية غير الدخيلة، تذكرت كفاح أمي وجد أبي وتمييز جدتي وهشاشة النظام الريفي غير المستند لإصول، وربطت بين صدى حواء المثقلة و نظيرتها القادرة على التحدي.
في كل محور تقريباً، أضفت القليل من الخاص إلى العام كطاهٍ يجود بالقليل من التوابل والمطيبات لأطباقه غير الرخيصة.
بعدها هاتفتني مؤسسة تعني بالطفولة، وأرادت الكتابة الإنسانية عن الأطفال الذين سرق الرصاص الأعمى رحيق حياتهم وتركهم أسرى لكراسي إعاقة تبعث على الحسرة، فتشتت عن ثلاثة عشر كوكباً، و جالستهم وطاردتهم بأسئلة لم تخل من الأدب والبلاغة والتشبيهات والاستعارات.

قلت لأمجد: ماذا عن الليل الوقح الذي كنت وأنا في عمرك أخاله كذا وكذا؟؟
سألت إبراهيم:كيف تُعرّف الخوف الذي ظننته في طفولتي كمارد بشعر كستنائي غير مرتب؟

انهلت على محمد بافتراض: ما العمل الأول الذي ستقوم به إذا ما استعادت قدماك عافيتها، هل ستذهب مثلي في الظهيرة إلى شجرة التوت الضخمة في بوابة بلدتك لانتقاء أطايب الثمر؟

تحادثت ومصعب، وقلت : وأنا في التوجيهية التي أعاقته الرصاصة العمياء الحاقدة عنها حلمت بدراسة الأدب، وماذا عنك؟
في أمسية فاترة حرارتها، وأنا عبر الأثير أتعرض لمساءلة أدبية صحافية، خفت من الوقوع في مصيدة المبالغة بالإشارة إلى نفسي، فنوهت بداية لقضية أنني أتحدث بلساني عن غيري…

وتشرع كعادتك في كل عام منذ كنت طفلا بتدوين يومياتك، أحيانا تتسلل إليك الفوضوية، و مع أخرى يطاردك الاستعجال، و في محطات ما تكتب من القلب والروح . تفتش بعد "نزاع "العام 2003 مع الموت عن هموم تستحق أن يطالعها غيرك، وتتذكر نصيحة زميلك تحسين يقين وتشجيعه لك للسير في اتجاه كهذا …
وطورت عشقك لمذهب " أنسنة " كل ما يستحق أن يكون له لسان بالإنابة الذي دفعك للإطاحة بترددك، والقبول بوأده .

في الأول من يناير، تستهل يومياتك بغزل رداء حب" لسيدة روحك " ووالدتك وأمك ومعشوقتك الاستثنائية، فهي التي اختزلت في حياة مشقاتها آلاف الحكايا المرة، وناضلت بصمت حتى أوصلتنا لشاطئ الحياة الكريمة، إلى جانب الإشارة عن ضحايا الطائرات التي تتهاوى في السماء البعيدة .

عند نقطته الثالثة، ووسط الجو العاصف تخصص حيزا هائلا للإشارة إلى مقولة الجدة السبعينية، التي صنعت الأيام العلقم خبرتها الطويلة، وهي تحث أنجالها في قريتنا المجاورة على العمل، لأن كثرة الثرثرة لا تتحول " لخبز وعسل "، كالسماء التي لن تمطر ذهبا، مثلما كتبت عن الرعب الذي يحدثه غضب الطبيعة الزلزالي .

في الحادي عشر من كانون الثاني تبدل عنوان السبت من رثاء أيام زمان إلى " أم تستحق مليون فخر "، فحينما اغتال المحتلون إحدى نهاراتنا، اتجهت الأم المعذبة إلى مدرسة وليدها، تتقاذفها " أشواط المطر " وتلسعها البرودة الملعونة، لتقدم لحبيبها الصغير طوق نجاة، فأوجاع قلبه وأزمته لا تمنحه إلا الخوف العظيم .

في أحاديثك الموجوعة، يوم الرابع عشر من كانون ذاته، تأسرك عذابات نسوة إحدى قرى ريف مدينتك التي كانت يوماً مخضرة ومستعمرة شرعية للجنان، فتدون ما نقلته لك مسؤولة جمعية للأطفال عن حوادث :" الوأد " بنسخته المعدلة، تبدأ من حال الطفلة التي تسبب والدها الضال ببتر ساقها، لأنه فقط منعها من تلقي العلاج، فتضاعفت الإصابة وتحولت لعجز . كل ذلك يجانب الحديث عن السعال الملعون الذي طارد صغيرك، والتهديدات المتصاعدة من البيت الأبيض لشن حرب سوداء على العراق.

تصل لمشهد قساة القلوب، وأصحاب أرباع العقول، الذين يجبرون زوجاتهم على العمل الشاق، ويتخذون قرارات تخصهم بالراحة، وتأتي المرأة من شقائها لخدمة زوجها، وإعداد الطعام لنزلاء بيته الرث، وبالطبع لا تأكل " الخادمة " بنظره، أو " الجارية " إلا بقايا وليمة استدان الزوج ثمنها أو صادره من موازنة أسرته .
في منتصف كانون، لا تنس قمرك الوضاء، وشريكة عمرك وقلبك " هنادي " التي تقاتل على جبهتي المنزل و الجامعة عدا عن الصغير أحمد، وتتذكر ما روته لك عن رحلة العذاب الشتوية، كما الصيفية، من الجامعة وإليها . وفي جوار هذه المقطوعة تشير باستحياء للأطفال ضحايا الألغام حول عالمنا الصغير.

وما أن يحل شباط، إلا ويحمل لك بيوم منكه بالذل، وأنت في الطريق إلى نابلس التي لا توصل إليها، تضطر، كحال المئات، للسير بضعة جبال وقمم ورواب ودروب معهودة، وسط رائحة رائحة ارتداء الأرض لفستانها الربيعي الأخضر، غير أن الوقوع في " مصيدة الجلاد " كلفتنا التحول لأسرى لست ساعات، فيما الجامعيات المتجهات لمقاعدهن، أجبرن على البقاء حتى العاشرة ليلاً، وسرن في الظلام والخوف يطاردهن … إنهن معذبات في وطنهن، كما العنوان .

في الرابع من شباط أيضا، ترى النور مجموعة قصص صحافية شاركت في جمع أوتار وجعها باسم " طيور جريحة " في رؤية لحال أطفال سرق الرصاص الأعمى رحيق حياتهم، وتحولوا لمعتقلين لموت لا ينتهي، تخصص بدورك اليوم لاسترداد ما روته الأمهات بدموعهن عن حال أحبائهن …
الأربعاء، الحادي عشر من شباط، اليوم الثاني للعيد، تدون عن أم العبد، التي تشكل حالة نادرة للمر والعلقم وعلاقة الأم بهما، فهي التي فقدت أثنين من أبنائها شهداء، دفنوا على بعد قلة من السنتمترات من غرفة نومهما، تختزل الحكاية الحمراء : أم وأسير وقبران …..، تستذكر مقولة توفيق الحكيم في " عصفور من الشرق " : لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم .

في السابع والعشرين من شباط، تطالعك حكاية الطالبة الجامعية التي جاهدت في الوصول إلى جامعتها، ومشهد سقوط المذكرات الخاصة بها في تجمع للمياه أحدثته حفر " قطاع الطرق "، لتتحول إلى كتب غريقة .

وما أن تصل دقائق الزمن للثامن من آذار، إلا وتلخص ما نسجت حول اليوم الأممي للمرأة : الثامن من آذار الفلسطيني …مواصفات نادرة للوجع، وفيها تتحد حكايات الموت والقهر و البؤس والتحدي والإرادة الحديدية لحواء وطننا الجريح .
وتنهال بقلمك الذي شارف على الهلاك، فتدون بإيجاز حال غزو الفضاء.

في منتصف آذار، تقتحمك حادثة الرضيعة " ملك " التي ولدت بعد شهرين ونيف من اغتيال والدها مصطفى بدم بارد، وتطاردك مقولة إحداهن : إنها يتيمة قبل أن تخرج من رحم أمها .

عند انتصاف الشهر الثالث، تعد ملفا ليوم الأم، لنشره فتكتشف حال أمهاتنا اللواتي رافقهن الألم في معاهدة من طرف واحد، كثير الخرق للاتفاقات وعدو فطري للأمل .

الخميس أو 27 آذار، اليوم الثامن للعدوان على أرض الرافدين، تدون حال الفرح المر والعرس الصامت الذي دعيت إليه، وتكتشف تحول نشرات الأخبار ومشاهد الألم لموسيقى وإيقاع مجاني، وتنقل إليك شريكة دربك، حزن العروس " ولاء " التي لم تشعر أنها كذلك " لأن الحزن بالأطنان .

في نيسان تنحاز لشجون ذات رائحة موت، فتدون مقاطع من أحاديث أجريتها ونساء من مخيم جنين، بعد عام على أحداث " نيسان الدم " والمجزرة .

وفي الرابع منه، تلتقي بامرأة نسجت 38 سنة نجاح، وعملت عملت في التجارة منذ رحيل شريك حياتها، إلى أن حققت ذاتها، ورغم مزيج عصاميتها وتحديها، تصر على البقاء مجهولة الهوية …
ظهيرة الثلاثاء، 15 نيسان، تنهال عليك أم إبراهيم، وهي والدة طفل فقد عينه في إحدى مصائد الموت ذات المنشأ الإسرائيلي، بسيل جارف من همومها ومعاناتها وقصص ليلها المحزن .

تدون بعد يومين، كفاح ليديا ميخائيل أو أم سامي، المرأة التي تخلى عنها زوجها وتركها تعارك الشقاء، حتى وصلت بفكرها وذاتها وكفاحها العذب إلى محطة أمل، لكن رحلتها لم تنته بعد .

تغرقك يوميات نيسان الأخيرة بالدموع، فتكتب بمرارة ما بكته الأم أمل حباشنة حسرة ووجعا، تقتبس من حديثها الأسود المحمر : أبكي حتى تبتل وسادتي بالدموع، أحدث نفسي في الطريق وحيدة، أولادي الخمسة كمال وعميد والأطفال اليتامى : سهام وسعيد وهايل، كلهم مصابون بداء الثلاسيميا اللعينة …. لا نمتلك الكاز لإضاءة مصباح بيتنا، والفقر الموحش يطاردنا. تتردد كثيراً في تدوين شيء خاص عن غمرة احتفالك وزوجتك لمناسبة ميلاد أحمد.

في الأول من أيار، تخصص نهاراتك للحديث عن حواء الفلسطينية العاملة التي تنتظر حصادا غائبا، وتستذكر ما روته لك إلهام العاملة التي تطاردها حادثة احتراق الإثنتي عشرة مكافحة في مصنع للولاعات بالخليل، لم يجدن بعد الموت غير الصمت…
في العاشر من أيار، تلتقي آنسة مكافحة، تنقل ليومياتك شغفها ونساء من جنين بالمعلوماتية، وسعيها لإطلاق مشروع " مدينة النساء " كي يكون بمقدورهن التنفس بحرية .

بعدها، تعيدك مريم نعيرات أو أم محمد، الاستثنائية التي فقدت زوجها قبل 28 عاما، وناضلت وحيدة حتى وصلت لمجلس إدارة جمعية التنمية الريفية، وحصدت 22 نجاحا في مجالات مختلفة منها ميكنة الجرارات الزراعية، وأوصلت ولديها، محمد وناظم إلى بر الأمان….
في حزيران تنحاز لمناصرة قضايا نساء نالت الشمس منهم، وهن يعملن في الحقول الخضراء، تروي في غير مذكرة حال أم عصام وقريناتها اللواتي يعملن جل نهارهن، ويكابدن الشقاء، ولا يحظين بجزاء يوازي حسن صنيعهن، ويعشن ضائقة تلو ضائقة .

في السابع من تموز، تعنون بكلمة مفردة " أنوار " لتشير إلى حالة كفاح بطلتها أنوار أبو سيفيين، تنثر بشقائها العذب تفاصيل صغيرة للعصامية، و تختزل بدورك قصتها بالقول نيابة عن بلاغتها المتواضعة : أنا أكافح أنا أستحق الحياة إذا …

في التاسع من تموز، يقتحم أذنك عبث "ماكينات " الموت بهدوء قريتك التي تمزج حكايتها بين الزيتون الرومي المعتق وذكرياتها مع السيد المسيح وثالث أقدم مكان مقدس لمسيحي الأرض، وتستمع لصوت الرصاص الذي أنطلق باتجاه الزوجين أياد وخلود، الأول يقضي برصاصتين في أيام " هدنة " لم تحترم، وخلود أثخنتها الجراح، تاركين وراءهم طفلين في ربيعهما السادس والرابع، ولم يكن مسوغ القتل غير أن الاثنين حاولا عبر نافذتهما استشراف ما يحيط بهما….

الأحد أو العشرون من الشهر السابع، تخصص سطورك لفارسات الثانوية العامة غير العاديات، وحكايا نجاحهن في النسخة الثالثة من حصاد الانتفاضة والعدوان، في لحظة فرح تعاند الحواجز وتقاوم عبث آلات الموت.

تتحدث عن وداد شرفي وحلمها بتوجيهية بعد عشر سنوات منن التأجيل، وتستوقفك عينا وداد الموزعتان على الكراس والرضيع، في حين تكمل فريال عساف القصة بعد 18 عاما من التأجيل، وترسم نوال عقاب، 37 عاما ومعها أطفالها الستة، مشهد لنجاح تأجل 17 سنه …..
في مطلع آب القائظ، تخصص يومياتك ثانية، لأم الأطفال السبعة، التي مزجت بعرقها وشقائها و وحلمها غير الهادئ بالزراعة الخضراء، وتقتبس عن أم عادل : كثير من الشقاء، قليل من الشواقل.
يقرر تفاعلك مع أم عادل تأجيل يوميات السنوية الثالثة لشراكتك الزوجية، فترى كلماتك النور بعد يومين.

تنتقل في 12 آب لرابا، القرية القريبة – البعيدة من جنين، وتنفق سحابة نهارك فيها، لتعود مساء إلى كراس يومياتك، تتحدث وتتفاعل مع الأم العجوز التي يطاردها الوجع والفقر، وتشير إلى ابتهال وفاطمة بزور ومريم قصراوي، وثلاثتهن يثابرن جنبا إلى جنب مع أزواجهن …

ليل 18 آب، تذهل من 4,9 مليون عربي انشغلوا بهواتفهم وعقولهم للتصويت على برنامج تلفزيوني غنائي مستورد، يصور الفتاة العربية جسدا ويتآمر على مضمونها ويستثمرها سلعة دعائية شبه مجانية .

في الخامس والعشرون منه، تشير لمعاناة الزميلة عبير التي أجبرتها الحواجز والأطواق على الوصول إلى عملها بعد انتصاف النهار، في رحلة شقاء يومية تختزل معاناة آلاف من نظيراتها وتطل برأسها مع ميلاد كل نهار.

الثلاثون من آب، تكتب في وداع صديقك الصحافي والناقد، وليد الشرفا الذي صادق رئاسة تحرير " صوت النساء " الصحيفة التي " تطلق النار" على كل تمييز أعمى ضد حواء، قبل سفره واستقالته وبعد رحلة داعب فيها قلمه أوراقا مخملية، وصلت نتاجاتها إلى القراء أو عثرت على واد يمنح الكلمات صدى ومساحة للاسترخاء.
في السادس من أيلول " القاتم "، تكتب عن " جوقة البيت المحترق " وذاك الشجاع الذي أجهد نفسه في البحث عن لون جديد لماركة غذاء" لقطته "المدللة، فيما والدته تعاني الموت والضنك !

في منتصف أيلول، تشرع بغزل حكاية الزيتون الأحمر في وطنك الجريح، وتعنون : موسم القطاف : حين يصير الزيت دمعا … خليط من المعاناة والقتل والخوف والعشق اللامحدود، وبطولة نسوية لافته، تحرس الحلم وترعى الشجر، كأم محمد و سحر وإيمان وغيرهن : يزرعن ويتعبن ولا يحصدن…….

يحمل 16 أيلول برنامجا تلفزيونيا نسائيا لقناة " الجزيرة "، يفتح سلسة أوجاع عن نساء العراق، تدون مقتطفات مرة : 400 فتاة عراقية اختطفوهن ثم باعوهن بـ 500 دولار ثمن من هن دون العشرين، و300 دولار لمن تخطين العشرين ! تذهلك وثائق صفقة رسمية لبيع فتيات كرديات لبلد عربي مجاور ؛ للعمل في سوق الدعارة، وتصعق من مناشدة ضحية حاولوا اغتصابها لضابط احتلال أمريكي : هذا ليس من اختصاصنا!

"المؤامرة "أو عنوان يوميات 20 أيلول و إبحار في قصص تآمر على رضيعات لم يعرفن الجريمة التي اقترفنها، سوى أنهن من جنس حواء : ريفي ينذر بذبيحة، إذا ما قبض الله روح وليدته … آخر ترك رضيعته تحت المطر المدرار، وانتظر حتى الصباح لمشاهدة موتها، لكن المعجزة التي أنقذت الملاك الصغيرة ؛ أوقعته في الموت الصاعق…..

في بدايات تشرين الأول تتفاعل مع يوميات آنسة ما، نثرت لك عبر وسيط همومها الثقيلة، " أكابد الشقاء، وأخوتي يتفرجون، والدتي رحلت، والأبناء البررة يزورون والدي ووالدهم المريض، يستنفذوا ما في حوزتنا من ضيافة وطعام، ولا ينظرون لنا بعين الشفقة !

في أروقة يوميات الخامس من تشرين أيضا، تصعقك سيدة مجتمع ما، تنادي برفع الظلم الاجتماعي عن المهمشين، وتمارسه على غيرها، فيما تتداول لغة العنف الجسدي المتبادل مع زوجها، وتتأثر بموجات اللصوصية، فتضيف أرقاما وأصفارا لخزينة مملكتها…….!!

بعد نهارات، تعيد إليك زيارة ما روح نقد مغاير، أم تشارك الأبناء والمرض الثقيل في التآمر على جسدها المحطم، وتحول الأعزاء لغرباء لم يراعوا شؤون والدتهم، وناصبوا حبها العداء ….

تحمل أوراقك في نهاية الشهر العاشر المزيد من الهموم، فيوميات " أم سمير " التي تسكن أطراف جنين، ينهال عليها قدوم شهر الصوم المبارك بنهر من الأحزان والدموع، فهي إحدى الشهود على أول مجزرة، اختلطت فيها الدماء والأشلاء لخمسة شبان، كانوا يحرسون حاجزهم، مع أطباق فطورهم …….

مطلع تشرين الثاني، تبذأ بحوار غلبت عليه دموع الأم أمل أبو قديلة التي خسرت مرح ولدها حسام، وعاد طفلا مرة أخرى، إذ أصبح بحاجة يومية لحليب خاص للاستمرار في حياة موته السريرية، بعد أن سحق سائق أرعن طفولته، ثم مضى طليقا، ونزع عن نفسه صفة الإنسانية، وواصل جلد العائلة، فهو وراء الفاصل الأخضر، و يأبى التخفيف من ألم الصغير، رغم مقدرته ….

تنحاز في الثامن من الشهر الحادي عشر لهموم أم مصطفى التي خسرت في لمح البصر وفي نهار رمضاني فلذة كبدها، حينما سارعت إليه رصاصة عمياء، عندما كان عائدا من مدرسته، لينتقل بعدها لاستراحة الأموات، قريبا من مدرسته وقبر والده واصف عامودي الراحل باكرا، بالتهاب كبد فيروسي خطف شبابه ويتم أطفاله …

بعد أيام قلائل تناسب يومياتك بتلقائية لتمثيل صدى ثلاث أمهات لشهداء أطفال، صرخن ضد تحويل أولادهن لمقاتلين في ملصقات ضخمة، اتجهت للغة " الدبلجة " وجافت الحقيقة البريئة، وكأن مصممها منح شرعية زهق أرواحهم، تقول أم مجروحة : كيف حرفوا رسم ولدي من هيئة تلميذ لمقاتل ! و تردد صفاء في أعماقها : يقتتلون على انتماء الشهيد، ويتسابقون على نسيانه !

عشية العيد المجروح السادس في عهد العدوان الشرس، تخصص حيزا من يومياتك، لحديث مر عن أجواء العيد في بلدتك، فتشير إلى سبعة عشر أما معذبا، ثكلن الأحبة الأعزاء، وتتفاعل بقوة و تناثر الذكريات المجروحة في شوارع البلدة، وفي محيط المقبرة حيث تحاط بست أسر ودعت أبناءها من غرف نومهم إلى لحودهم، لتظل بعدها عين الثكالى متوزعة على ذكريات حمراء في أمكنة موحشة، ولقبر صامت لا يزد الحال إلا رعبا، يتسلل الموت إلى العام بوقاحة ذات رائحة حمراء، وتتمنى أن تكون نسخة العام الآخر بمواصفات فارقة…

في اليوم الأخير، تقرر الكتابة عن ابنة عمك نجمة، التي عشعش المرض العضال في جسدها سبعة عشرة سنة، قبل أن يدونها في قوائم الأموات، لكنها رغم ذلك كله تتحدى الوجع وتطلق ابتسامة معدلة وراثيا. .
تجري بعدها تقييما للخاص والعام، وتهاتف أصدقاء ونقاد وأدباء لسبر غورهم في قضية الأنا والآخر، ومكامن الإسراف والاعتدال في القضية….

تدخل في امتحانين شاقين إلى عسيرين، في اللحظة التي تكتب فيها أدباً ممزوجاً بالصحافة لنقل كفاح أبي وتضحية نعمة شقيقة صديقي المقرب، تبحث عن الوسطية في السرد بين الخصوصية ونقيضها، تخرج النصوص الصحافية التي تقرر إجراء " استنساخ أدبي " لها بشكل حيادي تقريباً.

تتمنى في النهاية أن يتخلى البشر عن إطلاق لفظة " الخصخصة" و " العولمة" أو " التعويم" في قاموس المال والمصالح ويبقوا الخصوصية والعمومية هذه لعشاق الكلمات والأدب.

عبد الباسط خلف:

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى