الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٥
بقلم سها جلال جودت

عفواً لم نكن نقصد !

هل تعلم من هم أصحاب الحزن؟

لم يجدوا مكاناً لهم غير هذه الأرض الخضراء الجليلة، مهد عيسى، ومخاض مريم، قالت لهم الحاخامات : ندفع.

ودفعوا بهم قوافل للإقامة في أرض العذراء، في بيت المسيح، في المسجد الأقصى، قالوا لهم:
 جئنا، وماذا بعد المجيء ؟

قرأت هذا في كتب التاريخ فبدأت قصتي منذ أن بدأت أفهم السبب، فحارت خيالاتي وازدادت حيرتي وغفت مواعيد قلبي عن الأحلام والمواعيد والذكريات الخضراء، تترصدني الأحزان راحلة مقهورة زرعوا في عينيها الخوف والهلع والرغبة بالفرار إلى عالم لا يسكنه هؤلاء الغرباء المنعوتون باشتراكهم مع الشيطان في الرقص على جثث الضحايا من الأبرياء، وجه راحاب يتجدد كل يوم، يسلب الراحة والطمأنينة من عقول الناس وهم يقطعون المسافات الحيرى، ويسألون إلى أين تريدوننا أن نصل؟

في قرية بدروس غرب رام الله، جلست أحدق بعينين محتقنتين بعبرات مختنقة زرع الفقر والتشتت فيهما حزناً قانطاً، وأسى آسراً، ووجهاً نضارته غيبها الرحيل المزعج اللئيم، بينما كانت أمي ما تزال منهمكة في ترقيع اللحاف المهترئ بيدين معرورقتين.

قلت لها وجرح السؤال ينغل في صدري:
 هل سنبقى على هذه الحال ؟

لم ترفع رأسها، ظلت تغرز الإبرة والخيط في ثقوب وشقوق اللحاف، ذكراها الوحيدة من رائحة أبي، الزوج الذي لم يرحل عن أنفاسها وحركاتها وسكناتها، كان مسكوناً في داخلها مثل دمها، وأنا ما أزال أحدق بها وأسأل !

فجأة وجدت نفسي أحدق في شيء آخر، في مكان لم أعتد على دخوله، وضعوني في زنزانة حقيرة وضيعة تفوح منها الروائح النتنة الكريهة، ووجه أصفر يحملق بي بعينين شرستين تشبهان شبق الذئب ووضاعته، حين فتحت عيني الضارعتين المتوسلتين الخائفتين المرتعشتين أغمضتهما بسرعة، لم أصدق أنني أصبحت رهينة محتجزة بين يدي من يسمي نفسه كابتن الفريق.

في هذه الليلة لم ينم ضابط القسوة والاتهام الباطل، طبول الشهوة دقت في أعضاء جسده، فتهرب السواقي مثل مجنونة، تقهقه الرياح وترقص، جاءني والرعونة تتلمظ بها شفتيه، تبتسم شفة، وترتجف شفة، تقترب كتف، وتنفر كتف، يتقابل الوجهان، تولول السواقي الحزينة، تبح حنجرتي وأنا أصرخ بملء جوارحي المجروحة :لا!

تتسلل أصابع الوحش في هيئة بني آدم لترفع الثوب، تقصف البروق وترعد السماء فيقع الكرسي .

القمر يهرب مشمئزأ، تندلق المياه الآسنة فتفوح الروائح الكريهة، فيسد أنفه ويصرخ:
 ها توها إلى غرفتي.

في تقاسيمي ينام التراب ولا تفتر عزيمتي، أنسجة الأوردة تتكالب، تتشنج، تتصلب مثل حجارة من صوان، والقلب بحدة يقرع مثل طبال.

لم يعجبه حالي، فنفر مني وطلب منهم أن يضعوني في مكان آخر، في زنزانة أخرى لأمارس الذعر والاشمئزاز والنفور والقلق والشعور بالمقت وأنا أرى بأم كواهلي التي شاخت قبل أوانها العري والفسق والفجور في إناث ينضح الجبين عندهن بعرق بارد، أيتها العذراء الراقدة في محراب طهارتك المقدس أنقذيني، وأنت يا أبي لماذا رحلت وتركتني وأمي وأخي وأختي نبكي اليتم الذي تشبث بأعناقنا حتى الموت؟ أبي هل حقاً ما يقولونه، أتصدق أن محموداً ورفاقه هم من الإرهابيين؟ أي تهمة كاذبة تلك التي يلفقون؟ أقسم بالتين والزيتون أنهم مجانين، لا، هذه صفة لا تليق بهم، لا أريد أن ينطبق عليهم المثل "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".

هدد:

كي يضعوني في سلة للبيع أحضروا صور أمي وحارتي ومشهد مصرع أخي، هناك حيث سقطت الأم الحزينة الملتاعة الملتاثة مغمى عليها، كانت ركلات الجند ونباح الكلاب تعربد عند جسدها المستلقي بلا حراك كما يعربد الزلزال، وفي جداول ذاكرتها العتيقة سؤال عنك وعني وعن اللحاف، وحطام الأبواب المخلوعة تزف الحطام فوق الحطام.

تهيأ:

جموع الواقفين في رتل واحد قرب الجدار لم تنطق بشبه كلمة، أو حتى بحرف صغير.

وأفواه البنادق تحدد المسافة ما بين الجندي وتماثيل الموت، وحدها العيون التي جحظت والتهبت أحداقها كانت ناطقة، متحركة، متكلمة، وهي تهمهم من وجيف القلب " إلى متى ؟"

اقتل:

قلب اللئيم لا يعرف الهدوء أبداً، في داخله تتفجر الصراعات حرباً قاتلة أو رصاصاً غادراً من أجل إزهاق أرواح الأبرياء، لم يكن محمود يسمع، فقدَ سمعه حين عوت داخل جدران بيتنا القديم قذيفة مسكونة بصوت الانفجار المخيف بعد رحيلك عنا ببضعة أسابيع، ولم يكلف خاطره من يدعي القوة على حساب الجبن أن ينعطف بسيارته كي يتلافى ابن السنوات التسع، سال دمه على الأرض مثل شموس محمرة ترسم العزة والشهادة والكبرياء.

مشهد قابل للتدوال:

حين حمل الفتيان جسد محمود على المناكب كانت أمي توزع شظايا الجنون النافر بعد أن طمرت مواويل حزنها في الساحات والشوارع، وبتبارد معهود يقول لها كابتن الفريق :
 عفواً لم نكن نقصد قتله، هو من ظهر فجأة أمام السيارة، أين زعيم الإرهاب محمود؟

خسارة الذئب:

وظلت مناورتهم على جسدي تأكل من عيون الضابط النهمة استقرار نومه، حتى أفرجوا عني بحجة أنني مسكونة بعفاريت من تحت الأرض، كان الجنون سلاحي الوحيد، هل حقاً أصبحت مجنونة وأنا أركض في الطرقات الوعرة بحثاً عن أمي وضريح أخي، وأخت صغيرة اسمها ليلى تلف جسدها الناحل الضعيف بلحاف أبي !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى