الاثنين ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٦
(111) دور صندوق النقد والبنك الدولي
بقلم حسين سرمك حسن

في أزمة الغذاء العالمية

ملاحظة

هذه الحلقات مترجمة ومُعدّة عن مقالات ودراسات وكتب لمجموعة من الكتاب والمحللين الأمريكيين والبريطانيين.
(التحوّل الذي خلقته برامج الصندوق والبنك الدولي هو سبب رئيسي يجعل الفلاحين النازحين أو المهمشين في االهند بفعل تحرير التجارة وطغيان الشركات الزراعية يقومون بالانتحار. في ولاية أندرا براديش وحدها، ارتفعت حالات انتحار المزارعين من 233 في 1998 إلى 2600 في عام 2002. وتشير إحدى الإحصائيات إلى أن 000،150 مزارع في الهند قاموا بالانتحار. الضائقة الاقتصادية الشديدة التي يعيشونها بفعل انهيار الأسعار الناتج عن تحرير التجارة وفقدان السيطرة على البذور التي تنتجها شركات التكنولوجيا الحيوية مثل مونسانتو، هي جزء من مشكلة أكثر شمولا تقف وراء الانتحار)

الناشطة والباحثة

"فاندانا شيفا"

(في المكسيك، ارتفعت مدفوعات فائدة القروض من 19 في المائة في عام 1982 إلى 57 في المائة في عام 1988 بينما انخفضت النفقات الرأسمالية الضعيفة أصلا من 19.3 في المائة إلى 4.4 في المائة. وتَقلُّص الإنفاق الحكومي تُرجم في الريف إلى عملية طويلة من تفكيك نظام قروض الدولة والمدخلات الزراعية المدعومة حكوميا من بذور واسمدة، وإلغاء دعم الأسعار، وتفكيك مجالس التسويق التابعة للدولة، والخدمات الإرشادية. المساهمة في زعزعة استقرار الفلاحين المنتجين كانت نتيجة برنامج البنك الدولي والصندوق بتحرير التجارة الزراعية من جانب واحد).

(المزارعون في هندوراس لا يمكن أن يتنافسوا في السوق العالمية حيث ارتفعت تكاليف الوقود والأسمدة وتضاعفت أسعار الأرز في العام الماضي. هندوراس التي كانت تُعتبر سابقا سلة الخبز لأمريكا الوسطى تستورد الآن 83 % من الأرز الذي تستهلكه – وذلك بسبب تنفيذها لسياسات السوق الحرّة التي فرضها البنك الدولي على مدى عقدين من الزمن).
الباحث

"اريك هولت-جيمينيز"

المحتوى

(تمهــــــــــيد: أزمة الغذاء ليست كارثة طبيعية بل من صنع البنك الدولي والشركات الغربية- أزمة الغذاء تؤثر على 3 مليارات إنسان- أمثلة على دور البنك الدولي في تجويع الشعوب: (1)تجويع هندوراس: البنك الدولي جعل فلاحي هندوراس يعشون على وجبة واحدة- أعلى التعريفات الجمركية- انخفاض الأسعار- رد فعل البنك الدولي- برامج البنك نقمة وليست نعمة- القروض الرخيصة- البنك الدولي يصر على سياساته المدمّرة- (2). تجويع المكسيك- تآكل الريف المكسيكي- (3). تجويع الفلبين: تفاصيل خطة صندوق النقد والبنك الدولي لخلق أزمة الرز في الفلبين- البنك الدولي: سداد الديون أولوية للفلبين قبل التنمية !- البنك الدولي يفرض تخفيض الإنفاق على الزراعة في الفلبين- وجاءت منظمة التجارة العالمية لتكمل تخريب القطاع الزراعي- وعود خبراء البنك كاذبة ولم تتحقّق- التحوّل العظيم- الصندوق والبنك الدولي: على الفلاحين أن يغادروا- (3). انتحار 150000 فلاح في الهند ثمرة برامج الصندوق والبنك الدولي- (4). التحكّم بالزراعة في أفريقيا- سياسات البنك الدولي هي السبب في تجويع أفريقيا- مستشارو البنك في فنادق الخمس نجوم كالمندوب السامي حلوا محل الدولة الأفريقية- (5). تجويع شعب مالاوي- البنك الدولي يتنصل عن المجاعة في مالاوي التي سببتها برامجه- السيادة الغذائية: نموذج بديل- مصادر هذه الحلقات)

تمهــــــــــيد:

أزمة الغذاء ليست كارثة طبيعية بل من صنع البنك الدولي والشركات الغربية

"وصف برنامج الغذاء العالمي أزمة الغذاء العالمية بأنها أشبه بـ "كارثة طبيعية" توشك أن تضرب عامة الناس العاجزين عن مواجهة تدميرها الشامل.

لكن أسباب هذا العدد الكبير من الناس الجياع العاجزين عن الحصول على الغذاء الكافي هي أبعد من أن تكون "طبيعية". على العكس من ذلك، ألقت عقود من السياسات الزراعية المنحرفة، والتجارة غير المنصفة، والتنمية غير المستدامة، النظم الغذائية في العالم إلى هوّة الخراب والتقلّب والكساد واتسعت الفجوة بين الثراء والفقر. وعلى الرغم من أن الجوع يأتي في موجات، فإن ليس الكل "يغرق" في المجاعة. في الواقع، أزمات الغذاء المتكررة في العالم جعلت حفنة من المستثمرين والشركات متعددة الجنسيات أكثر غنى بالرغم من أنهم يدمّرون الفقراء ويضعون ما تبقى من كوكب الأرض في خطر بيئي واقتصادي شديد. موجة من ما يسمى بـ "أعمال شغب" الغذاء ليس فقط في البلدان الفقيرة مثل هايتي، ولكن حتى في البلدان الغنية بالموارد مثل البرازيل، بل في الدول الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة، تعكس حقيقة أن الناس لا يتمردون فقط من الجوع، بل أنهم يتمردون ضد نظام غذائي عالمي خطير وغير عادل.

البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وبرنامج الغذاء العالمي، وتحدي الألفية، والتحالف من أجل ثورة خضراء في أفريقيا، ووزارة الزراعة الأمريكية، والشركات الصناعية العملاقة مثل يارا للأسمدة، وشركة كارجيل، آرشر دانييلز ميدلاند، سينجينتا، دوبونت، وشركة مونسانتو، كلّها جهات تتجنب بعناية معالجة الأسباب الجذرية لأزمة الغذاء. "الحلول" التي يصفونها متجذرة في نفس السياسات والتكنولوجيات التي خلقت المشكلة في المقام الأول: زيادة المساعدات الغذائية، رفع القيود في التجارة العالمية فيما يخص السلع الزراعية، والمزيد من التطوّرات التكنولوجية والجينية. هذه التدابير تعزّز فقط سيطرة الشركات العالمية الراهنة على المواد الغذائية في العالم. لهذا السبب، حتى الآن، كان هناك القليل من القيادة الرسمية في مواجهة الأزمة. ولم يكن هناك أي نقاش علني حول الأسباب الحقيقية لتزايد أعداد الجياع في العالم، أو ما يمكننا القيام به حيال ذلك. ويجري تقرير مستقبل أنظمة غذائنا – ووقودنا - بحكم الأمر الواقع من قبل الأسواق العالمية غير المنظمة، والمضاربين الماليين، والاحتكارات العالمية.

وعلى مدى عقود، قاومت الأسر والمجتمعات الفلاحية في جميع أنحاء العالم تدمير بذورها الأصلية، وعملت بجد لتنويع محاصيلها، وحماية تربتها، والحفاظ على المياه والغابات، وإنشاء الحدائق، والأسواق، والأعمال التجارية المحلية، والنظم الغذائية المجتمعية. وهناك عشرات الآلاف من البدائل عالية الإنتاجية والمنصفة والمستدامة للممارسات الصناعية الحالية واحتكارات الشركات التي تحتجز الموارد الغذائية في العالم رهينة، وحرفيا هناك الملايين من الناس الذين يعملون لتطوير هذه البدائل في هذا الوقت العصيب. ما ينقصنا هو الإرادة السياسية من جانب الحكومات، والصناعة، والدعم المالي لتعزيز هذه البدائل.

أزمة الغذاء تؤثر على 3 مليارات إنسان

أزمة الغذاء الحالية تؤثر على أكثر من ثلاثة مليارات نسمة أي ما يقرب من نصف سكان العالم تقريبا. وكان الدافع وراء الأزمة الحالية هو التضخم في أسعار المواد الغذائية. أعلن البنك الدولي أن أسعار الغذاء العالمية ارتفعت بنسبة 83٪ خلال السنوات الثلاث الماضية، وأشارت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى زيادة بنسبة 45٪ في مؤشر أسعار الغذاء في العالم على مدى تسعة شهور فقط. مؤشر أسعار الغذاء لصحيفة الإيكونوميست يقف في أعلى نقطة له منذ أن أنشىء أصلا في عام 1845. واعتبارا من مارس 2008، كانت أسعار القمح قد ارتفعت بنسبة 130٪ عن مستواها قبل عام، وكانت أسعار فول الصويا أعلى بـ 87٪، وأسعار الأرز قفزت بنسبة 74٪، والذرة بنسبة 31٪. ولأن العوائل الفقيرة وذات الدخل المنخفض تواجه ارتفاع تكاليف الوقود والإسكان أيضا، فأنها لا تزال غير قادرة على شراء ما يكفي من الغذاء.

أمثلة على دور البنك الدولي في تجويع الشعوب:

(1). تجويع هندوراس:

البنك الدولي جعل فلاحي هندوراس يعشون على وجبة واحدة

تخلى فايدنيشيو الفاريز عن مزرعة الفول و الذرة في جنوب هندوراس بسبب ارتفاع تكاليف البذور والوقود والمواد الغذائية. بعد أشهر من العيش على وجبة واحدة في اليوم، نزح مع زوجته وأطفاله الستة للعثور على عمل في المدينة.
وقال ’’ ألفاريز، 37 عاما، الذي طلب المساعدة من بعثة منظمة الاغاثة: "نستيقظ وبطوننا فارغة ونذهب إلى الفراش ببطون فارغة.. نحن لا نستطيع شراء البذور لزراعة الغذاء ولا ركوب الحافلة لشراء الطعام".

المزارعون في هندوراس مثل ألفاريز لا يمكن أن يتنافسوا في السوق العالمية حيث ارتفعت تكاليف الوقود والأسمدة وتضاعفت أسعار الأرز في العام الماضي. هندوراس التي كانت تُعتبر سابقا سلة الخبز لأمريكا الوسطى تستورد الآن 83 % من الأرز الذي تستهلكه – وذلك بسبب تنفيذها لسياسات السوق الحرّة التي فرضها البنك الدولي على مدى عقدين من الزمن.

كانت البلاد مدينة بـ 3.6 مليار دولار في عام 1990. وفي مقابل الحصول على قروض من البنك الدولي، أصبحت هندوراس واحدة من عشرات الدول النامية التي تخلت عن سياسات الدولة الرامية إلى حماية المزارعين والمواطنين من تقلب أسعار الغذاء.

ويرى المختصون أن السياسات التي ينادي بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أسهمت في خلق أزمة الغذاء في العالم. تم الضغط على الحكومات من غانا الى الفلبين لخفض تعريفات الحماية والدعم الزراعي وزراعة المزيد من المحاصيل عالية القيمة المخصصة للتصدير والتي تستفيد منها الشركات الأمريكية وترك زراعة الحبوب والمواد الغذائية، وصدر الكثير من التقارير التي تدين البنك الدولي ومقره واشنطن طبعا.

أعلى التعريفات الجمركية

إن ركود الزراعة في هندوراس خلال الثمانينات كانت بسبب إلغاء الدعم وضوابط السوق، التي فرضها البنك الدولي.
كان مزارعو الأرز في هندوراس محميّين من خلال التعريفات الجمركية العالية المفروضة على الواردات في أمريكا الوسطى وعندما تولى الرئيس السابق رفائيل كاييخاس منصبه في عام 1990 توقف الاقتصاد. الحواجز التجارية التي ساعدت البلاد على توفير أكثر من 90 في المئة من الطلب المحلي من الأرز تم إلغاؤها بموجب اتفاق مع البنك الدولي للحصول على قرض منه في سبتمبر من ذلك العام، مما سمح بإغراق السوق بأرخص الواردات.
وتضمنت شروط الحصول على القرض القضاء على القيود المفروضة على الاستيراد والرسوم الإضافية وإعادة تنظيم نظام التمويل الزراعي.

انخفاض الأسعار

انخفضت الأسعار المدفوعة للمزارعين بنسبة 13% في عام 1991 وأكثر من 30% في عام 1992، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة في روما.

في أغسطس 1993، نصح البنك الدولي هندوراس بتبني جولة ثانية من التغيرات الاقتصادية كجزء من شروط قرض آخر. وتضمنت تلك الشروط القضاء على جميع ضوابط الأسعار وخفض التعريفات الجمركية بشكل أكبر من السابق.
وقال مسؤولو البنك الدولي في تقرير داخلي عام 1994 ينبغي القضاء على ما تبقى من ضوابط السيطرة على التجارة والأسعار. وبرنامج خصخصة صوامع الحبوب التابعة للدولة يجب أن تكتمل. واستخدام احتياطي الحبوب لتحقيق استقرار الأسعار في الأسواق المحلية ينبغي أن لا يتكرّر".

كاتب التقرير، دانيال كوتلير، الآن اقتصادي البنك الدولي لشؤون أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، رفض التعليق على هذه المعلومات.

رد فعل البنك الدولي

وقال المتحدث باسم البنك الدولي سيرجيو جيلينيك أنه من المستحيل ربط أزمة أسعار الغذاء اليوم مع سياسات التجارة الحرة البالغة من العمر 20 عاما.

وقال: ’’يتم تحديد سعر المواد الغذائية، وخاصة الحبوب، في السوق الدولية وليس في الأسواق المحلية. حتى إذا استطاع بلد مثل المكسيك، أو كولومبيا، أو السلفادور أو هندوراس أن يضاعف أنتاجه من الحبوب ثلاث أو أربع مرات، فإن ذلك لن يؤثر على العرض العالمي، وستبقى أسعار المواد الغذائية في الأسواق المحلية مرتفعة كما هي اليوم".

الآن هناك 1300 من مزارعي الأرز في هندوراس، مقارنة مع أكثر من 000،20 مزارع في عام 1989.
ولقد دمّرت وكالات الإقراض الدولية صناعة الحبوب الأساسية في هندوراس. إن أفضل الأراضي تنتج الآن أشياء مخصصة للصناعات الغربية مثل النخيل الأفريقي، التي ليست للاستهلاك.

في الشهر الماضي، مُنع الآلاف من النشطاء والطلاب والمزارعين من التحشّد على الطرق السريعة في العاصمة تيغوسيغالبا، احتجاجا على ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسياسات التي جعلت بلادهم الأكثر انفتاحا على التجارة الحرة في أمريكا اللاتينية – والأكثر فقرا بين البلدان في نصف الكرة الأرضية الغربي.

برامج البنك نقمة وليست نعمة

وارتفع نصيب الفرد من الدخل بنسبة 0.5 في المئة في العام من 1990 حتى 2004، وهو واحد من أبطأ معدلات النمو في أمريكا اللاتينية، حسب تقرير من قبل المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية.

لم يجلب تحرير التجارة أي قدر من النعم للاقتصاد في هندوراس بل كان نقمة أفقرت شعبها.

القروض الرخيصة

الآن المزارعون يطالبون الحكومة الهندوراسية بتغيير السياسات وتقديم قروض رخيصة، وطويلة الأجل لشراء البذور والأسمدة التي يحتاجون إليها من أجل البقاء.

وقال صندوق النقد في بيان صحفي أن حكومة هندوراس طلبت من صندوق النقد الدولي ارسال فريق الى البلاد لدراسة كيف يؤثر ارتفاع أسعار الغذاء والوقود على الاقتصاد وما إذا كان ينبغي إعادة النظر في بعض جوانب البرنامج الاقتصادي الحالي.

البنك الدولي يصر على سياساته المدمّرة

استراتيجية البنك الدولي – التي لُخصت في مقالة عام 1989 لكبير الاقتصاديين في جنوب آسيا "جون ويليامسون"- أصبحت تُعرف باسم "اجماع واشنطن".

قال مارك بلانت، نائب مدير صندوق النقد الدولي لوضع السياسات في واشنطن: كان التركيز في تحرير التجارة هو على خفض أسعار المواد الغذائية المحلية. القيادة والسيطرة في سياسات الحكومات زادت تكاليف المستهلك وخفضت دخل المزارعين.

وقال وليامسون، وهو حاليا عضو في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن، في مقابلة 9 مايو أن الأفكار لا تزال سليمة، على الرغم من أنها ربما تكون قد دفعت إلى حدود صعبة جدا من قبل البنك الدولي.

وقال: وجهة نظري هو أن كل هذه الأمور جيدة بالنسبة للبلدان. ولكني لست متعاطفا بشكل كبير مع ذهاب البنك الدولي إلى وضع قائمة من الأشياء يتعين على الدول القيام بها.

(2). تجويع المكسيك

عندما خرج عشرات الآلاف من الأشخاص في مظاهرات في المكسيك العام الماضي احتجاجا على الزيادة الحادة أكثر من 60 في المائة في أسعار التورتيلا (نوع الخبز الرئيسي في المكسيك)، أشار العديد من المحللين إلى الوقود الحيوي باعتباره الجاني والسبب الرئيسي. ونظرا لدعم حكومة الولايات المتحدة، فإن تحول الذرة إلى إيثانول أصبح أكثر ربحية من استهلاكها كغذاء، مما دفع المزارعين الأميركيين إلى تكريس المزيد والمزيد من المساحة لذلك، في عملية تسبّبت في الارتفاع الحاد في أسعار الذرة.

كان تحويل الذرة من خبز إلى وقود حيوي بالتأكيد واحدا من الأسباب المباشرة لارتفاع الاسعار، على الرغم من أن المضاربات على الاتجاهات المحتملة في الطلب على الوقود الحيوي من قبل الوسطاء العالميين قد لعب دورا أكبر. ومع ذلك، ظل السؤال المُحيّر للعديد من المراقبين: كيف يمكن أن يصبح المكسيكيون، الذين يعيشون في الأرض التي تم زراعة الذرة في العالم فيها أولا، "معتمدين" على واردات الذرة من الولايات المتحدة في المقام الأول؟ ((لمزيد من المعلومات عن تدمير المكسيك راجع الحلقة (88) كيف يقوّض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الديمقراطية ويدمّران حقوق الإنسان: تدمير الديمقراطية والاقتصاد في المكسيك كحالة أولى، وكذلك الحلقة 20 عن البنك الدولي).

تآكل الريف المكسيكي

أزمة الغذاء المكسيكية لا يمكن أن تُفهم بشكل كامل دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنه في السنوات التي سبقت أزمة الخبز، تم تحويل المكسيك من موطن للذرة إلى بلد يستورد الذرة بسبب سياسات السوق الحرة المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، في واشنطن. بدأت هذه العملية مع أزمة الديون في أوائل الثمانينات. ولكونها واحدا من اثنين من أكبر المدينين البلدان النامية، اضطرت المكسيك إلى التسول للحصول على المال لدفع فوائد ديونها للبنوك التجارية الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وللحصول على حزمة "الإنقاذ" بمليارات الدولارات والتي تمّ تصميمها لتسديد فوائد ديون البنك والصندوق المتراكمة على المكسيك، كان على الأخيرة أن تلغي الرسوم الجمركية واللوائح الحكومية، ومؤسسات الدعم الحكومية لتسير وفق برنامج السوق المفتوحة الحرّة.

وباعتبارها جزءا من إجمالي الإنفاق الحكومي، ارتفعت مدفوعات فائدة القروض من 19 في المائة في عام 1982 إلى 57 في المائة في عام 1988 بينما انخفضت النفقات الرأسمالية الضعيفة أصلا من 19.3 في المائة إلى 4.4 في المائة. وتَقلُّص الإنفاق الحكومي تُرجم في الريف إلى عملية طويلة من تفكيك نظام قروض الدولة والمدخلات الزراعية المدعومة حكوميا من بذور واسمدة، وإلغاء دعم الأسعار، وتفكيك مجالس التسويق التابعة للدولة، والخدمات الإرشادية. المساهمة في زعزعة استقرار الفلاحين المنتجين كانت نتيجة برنامج البنك الدولي والصندوق بتحرير التجارة الزراعية من جانب واحد.
وأعقب ذلك توجيه أكبر ضربة للزراعة والفلاحين في عام 1994، عندما دخلت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) حيز التنفيذ. فعلى الرغم من أن النافتا كانت قد بدأت بالتخلص التدريجي من حماية المنتجات الزراعية منذ 15 عاما بما في ذلك محصول الذرة، فإنه في تلك السنة غمرت الذرة المدعومة من الولايات المتحدة المكسيك، وبذلك انخفضت الاسعار بنسبة النصف وأُغرق قطاع الذرة في أزمة مزمنة. اليوم، ونتيجة لهذا الاتفاق البالغ من العمر 14 عاما، فقد ترسخت مكانة المكسيك باعتبارها مستوردا صافيا للغذاء يستورد 40 في المائة من احتياجاته الغذائية من الأسواق الخارجية بعد أن كانت بلدا مكتفيا ومصدّراً..

مع اغلاق وكالة الدولة لتسويق الذرة، صار توزيع كل واردات الذرة من الولايات المتحدة والحبوب المكسيكية حكرا على عدد قليل من الشركات التجارية العابرة للحدود الوطنية مثل شركة كارجيل وتملكها الولايات المتحدة وماسيكا المملوكة جزئيا لشركة امريكية تعمل على جانبي الحدود. وقد أعطى هذا لهذه الشركات قوة هائلة للمضاربة على اتجاهات التجارة، بحيث أن التغيرات الحقيقية في الطلب على الوقود الحيوي يمكن التلاعب بها وتضخيم الأسعار عدة مرات، وهذا هو ما حصل في أثناء أزمة أسعار الخبز. في الوقت نفسه، فإن سيطرة الاحتكار على التجارة الداخلية ضمن أن ارتفاع أسعار الذرة الدولية لا يُترجم إلى أسعار أعلى تُدفع لصغار المنتجين على المستوى المحلي.

ومع ذلك، ورغم كل الصعاب، استمر ثلاثة ملايين مزارع على زراعة الذرة، وكثير منهم كان يقترض المال عن طريق الحوالات من أقارب يعملون في الولايات المتحدة. ولكن، سنة بعد سنة، أصبح أكثر وأكثر صعوبة على هؤلاء المزارعين تجنب مصير العديد من زملائهم مزارعي الذرة وأعداد كبيرة من أصحاب المزارع الصغيرة في قطاعات مثل الأرز ولحم البقر والدواجن ولحم الخنزير الذين دُمرت حياتهم بسبب الدعم الممنوح للمنتجين والمزارعين في الولايات المتحدة في ظل اتفاقية النافتا. ووفقا لتقرير مؤسسة كارنيجي 2003، فإن واردات المكسيك من منتجات الولايات المتحدة الزراعية قد جعلت 1.3 مليون شخص على الأقل من المزارعين عاطلين عن العمل، وكثير منهم وجد طريقه مهاجرا إلى الولايات المتحدة يبحث عن العمل.

هل هناك آفاق للتغيير نحو الأفضل؟

ليس كثيرا، مادام الليبرليون الجدد الذين يسيطرون على الدولة في المكسيك يواصلون عملية تفكيك منهجي لنظام الدعم الزراعي للمنتجين الفلاحين التي كانت إرثا أساسيا في الثورة المكسيكية.

(3). تجويع الفلبين:

تفاصيل خطة صندوق النقد والبنك الدولي لخلق أزمة الرز في الفلبين

أن أزمة الغذاء العالمية الحالية تنبع أساسا من إعادة هيكلة السوق الحرة للزراعة في العالم النامي، هذه السياسة التي تتجسد بصورة أكثر وضوحا في حالة محصول الأرز في الفلبين. على عكس الذرة في المكسيك، يتم تداول أقل من 10 في المائة من الأرز المنتج عالميا. وعلاوة على ذلك، لم يكن هناك أي تسريب من محصول الأرز من الاستهلاك الغذائي لاستخدامه كوقود حيوي. ومع ذلك، وفي هذا العام وحده، فإن الأسعار قد تضاعفت ثلاث مرات تقريبا من 380 دولار في يناير كانون الثاني إلى أكثر من 1000 دولار في ابريل نيسان. ومما لا شك فيه، أن التضخم في الأسعار ينبع جزئيا من مضاربات العصابات القوية من تجار الجملة في وقت الأزمات الشديدة. ومع ذلك، وكما هو الحال بالنسبة لمحصول الذرة في المكسيك، فإن اللغز الكبير يتمثل في تساؤل هو: لماذا تحول عدد كبير من البلدان المستهلكة للأرز التي اعتادت ان تكون مكتفية ذاتيا من هذا المحصول إلى بلدان مستوردة له بصورة شديدة ؟.

تُقدّم الفلبين مثالا قاتما على الكيفية التي تحول بها إعادة الهيكلة الاقتصادية النيوليبرالية بلداً من مصدّر صافٍ للغذاء إلى مستورد صافٍ للغذاء. هذا البلد هو الآن أكبر مستورد في العالم للأرز، يؤمّن بانتظام 1 – 2 مليون طن من حاجته السنوية من الأرز من السوق الدولية. أصبحت محاولات مانيلا اليائسة لتأمين إمدادات الأرز لسكانها مهما كان الثمن عنوان الصفحات الاولى من الصحف، وأصبحت صور الجنود المستنفرين لتوفير الأمن عند لتوزيع الأرز في المجتمعات الفقيرة رمزا لأزمة الغذاء العالمية. ومع ذلك كان هذا البلد حتى وقت متأخر من عام 1993 مُصدّرا صافيا للغذاء، ولم يكن يستورد سوى كميات صغيرة بين وقت وآخر. ما الذي حصل وجعل هذه البلاد تنزلق إلى مصيدة تبعية أكبر وأكبر في استيراد الأرز والواردات الزراعية الأخرى؟

الخطوط العريضة لقصة الفلبين مماثلة لتلك التي حصلت في المكسيك. كان الديكتاتور فرديناند ماركوس مذنبا في العديد من الجرائم والآثام، بما في ذلك الفشل في متابعة إصلاح الأراضي، ولكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يُتهم به هو حرمان القطاع الزراعي من الدعم الحكومي. قدم النظام للمزارعين الأسمدة والبذور المُدعمة، وبدأ بخطط الائتمان، وبنى البنية التحتية الريفية، مع تصاعد مساحة الأراضي المروية من 000،500 هكتار في منتصف الستينات إلى 1.5 مليون هكتار في منتصف الثمانينات، وكل ذاك طبعا لتجنّب سخط الفلاحين. ونظرا لهذه الاستثمارات، حقّقت الفلبين الاكتفاء الذاتي في الأرز لأكثر سنوات حكم ماركوس، وإن كانت قد استوردت في العام الأخير من حكمه، 1985، أكثر 000،500 طن من الأرز. ومع ذلك، وعندما فرّ ماركوس من البلاد في عام 1986، أعلن أنه كان هناك 000،900 طن متري من الأرز في المستودعات الحكومية.

البنك الدولي: سداد الديون أولوية للفلبين قبل التنمية !

ومن المفارقات، ان السنوات القليلة اللأحقة - وفي ظل النظام الديمقراطي الجديد - شهدت الاستثمارات الحكومية في القطاع الزراعي تقلصا كبيرا جدا. وكما هو الحال في المكسيك، ضغط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذان يعملان لصالح الدائنين الدوليين للبلاد، على إدارة الرئيسة كورازون أكينو لجعل سداد الديون الخارجية التي تبلغ 5،21 مليار دولار أولوية اقتصادية وطنية بدلا من التنمية الاقتصادية. أذعنت أكينو، على الرغم من أنها كانت قد تم تحذيرها بشكل جماعي من قبل كبار الاقتصاديين في البلاد من أن "البحث عن برنامج للانتعاش الاقتصادي يتفق مع جدول سداد الديون التي يحددها الدائنون لبلادنا هو خيار عقيم، وبالتالي ينبغي التخلي عنه".

في الفترة الحرجة بين 1986-1993، كان ما يقرب من نحو 8 إلى 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي يغادر الفلبين سنويا كمدفوعات خدمة الديون وهي تقريبا نفس نسبة فوائد الديون السنوية في المكسيك. لدفع فوائد الديون الخارجية التي استقرت عند 5،21 مليار دولار في عام 1986، دفعت الفلبين 30 مليار دولار خلال تلك الفترة الحرجة. وتعزّز هذا التدفق عن طريق إعادة هيكلة جذرية للميزانية الوطنية: مدفوعات الفائدة كما ارتفعت كنسبة في الإنفاق الحكومي ارتفعت من 7 في المائة في عام 1980 إلى 28 في المائة في عام 1994؛ كما انخفضت النفقات الرأسمالية أو الاستثمارية من 26 في المائة إلى 16 في المائة. خدمة الدين، وباختصار، أصبحت أولوية وطنية في الميزانية، وهذا ما كان منصوصا عليه قانونيا في "قانون الاعتمادات التلقائي" الذي تعهدت الحكومة بموجبه بأن تضع سداد الديون المستحقة أولوية قبل جميع الالتزامات الأخرى.

البنك الدولي يفرض تخفيض الإنفاق على الزراعة في الفلبين

ومن بين البنود التي تمّ خفضها بشكل حاد هو الإنفاق على الزراعة، الذي تراجعت إلى أكثر من النصف؛ من 7.5 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي في عام 1982 في ظل ماركوس إلى 3.3 في المائة في عام 1988 في ظل أكينو. ولم يكن البنك الدولي وأتباعه المحليون الخاصون به يشعرون بالقلق، نظرا لأن جزءا من أهداف ممارسة التقشف كلها هو السيطرة على السوق المحلي وجعل القطاع الخاص يخترق الريف الفلبيني وينشّطه كما يزعمون.

ولكن القدرة الزراعية في البلاد سرعان ما تآكلت بسرعة. فمساحة الأراضي المزروعة بالري ركدت عند 1.3 مليون من 4.7 مليون هكتار. وبحلول نهاية التسعينيات، كانت 17 في المائة من شبكة الطرق في الفلبين مُعبّدة، مقارنة بـ 82 في المائة في تايلاند، و 75 في المائة في ماليزيا. وكانت غلة المحاصيل في جميع المجالات هزيلة، مع متوسط العائد في الأرز الذي بلغ 2.8 طن متري لكل هكتار وهو دون عوائده في الصين وفيتنام، حيث تتدخل الحكومات هناك بصورة فعالة في تعزيز الإنتاج الريفي. برنامج الإصلاح الزراعي الضعيف فعليا والملىء بالثغرات تلاشى بعد ماركوس، وحُرم القطاع الزراعي من تمويل خدمات الدعم التي كانت مفتاح الإصلاح الزراعي الناجح في تايوان وكوريا.
وما يؤكد هذا المشهد غير المشجع هو أنه كما هو الحال في المكسيك، ما كان يواجه الفلاحين في الفلبين هو تراجع الدولة الشامل عن توفير الدعم الواسع لهم، وهو الدور الذي يعتمد نجاحهم في زراعة المحاصيل عليه.

وجاءت منظمة التجارة العالمية لتكمل تخريب القطاع الزراعي

وكما هو الحال بالنسبة للمكسيك أيضا، فقد أعقب خفض تمويل البرامج الزراعية الذي فُرض من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بفعل برامج التكيف الهيكلي، فرض تحرير التجارة، مع دخول الفلبين الى منظمة التجارة العالمية (WTO) في عام 1995، وهو نفس الدور الذي حصل مع المكسيك بفعل دخولها معاهدة النافتا.

العضوية في منظمة التجارة العالمية فرضت على الفلبين القضاء على نظام الحصص في جميع الواردات الزراعية والسماح لكمية معينة من كل سلعة بالدخول في معدلات الرسوم الجمركية المخفّضة. وفي حين سمح للدولة بالحفاظ على الحصص على واردات الأرز، فقد كان لزاما على الحكومة الموافقة على ما يعادل واحد في المائة من الاستهلاك المحلي في عام 1995 ليرتفع إلى 4 في المائة في عام 2004. في الواقع، نظرا لحالة الضعف الشديد لإنتاج الأرز الناتجة عن الحرمان من الدعم الحكومي، استوردت الحكومة أكثر مما كان مقررا تحت اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن الزراعة وذلك من أجل توفير الاحتياجات المحلية. وكان لهذه الواردات التي ارتفعت من 000،263 طن متري في عام 1995 إلى 2.1 مليون طن في عام 1998، تأثيرا كبيرا في خفض أسعار الأرز المحلي، وعدم تشجيع المزارعين على زراعته، والحفاظ على نمو في إنتاج الأرز بمعدل أقل بكثير من إنتاج اثنين من كبار الموردين للبلاد، وهما تايلاند وفيتنام.

دخول الفلبين الى منظمة التجارة العالمية زعزع استقرار إنتاج الأرز، ولكنه اكتسح ايضا ما تبقى من الزراعة الفلبينية مثل الإعصار الساحق. مزارعو الذرة في مينداناو، تم محوهم، وليس مشهدا غير مألوف أن ترى المزارعين هناك وقد تركوا محصولهم من الذرة ليتعفن في الحقول لأن أسعار الذرة المحلية قد انخفضت إلى مستويات ليس لديهم القدرة على منافستها. تدفقت عليهم واردات الذرة الرخيصة، وجزء كبير منها من الذرة الأمريكية المدعومة، ولهذا لم يكن من المستغرب أن المزارعين قللوا بشكل كبير من مساحة الأراضي المخصصة لزراعة الذرة من 003،941،3 هكتار في عام 1993 إلى 003،015،2 هكتار في عام 2000. ترافقت متاعب الذرة مع مشكلات في القطاعات الأخرى: استيرادات ضخمة من قطع الدجاج أدت إلى قتل صناعة قطع الدجاج تقريبا، ومثل ذلك حصل في مجالات صناعات لحوم الخنازير، والخضروات.
وعود خبراء البنك كاذبة ولم تتحقّق

خلال حملة التصديق على عضوية منظمة التجارة العالمية في عام 1994، وعد اقتصاديو الحكومة التكنوقراط الذين درّبهم خبراء البنك الدولي بأن الخسائر في الذرة والمحاصيل التقليدية الأخرى ستعوّض بأكبر قدر ممكن من خلال ظهور صناعة تصديرية جديدة متخصصة في إنتاج ما يسمى "المحاصيل المُضافة ذات القيمة العالية" مثل الهليون، والقرنبيط، وغيرها، إلا أن ذلك لم يتحقق. كما لم تتحقق الـ 000،500 فرصة عمل زراعية التي كان من المفترض أن يتم توفيرها سنويا من قبل "سحر" سياسة السوق الحرة. بدلا من ذلك، انخفضت العمالة في قطاع الزراعة من 11.2 مليون شخص في 1994 إلى 8،10 مليون في عام 2001.

السحر الذي وعدوا به لم يعمل. كان كل ما تحقق من ضربات برامج التكيف المفروضة من صندوق النقد الدولي وتحرير التجارة المفروض من منظمة التجارة العالمية هو التحول السريع من اقتصاد زراعي كان مكتفيا ذاتيا إلى حد كبير إلى اقتصاد قائم على الاستيراد الواسع والتهميش المستمر لصغار المزارعين. لقد كانت عملية موجعة، والألم الذي اعتصر مفاوض الحكومة الفلبينية خلال واحدة من دورات اللجنة الزراعية لمنظمة التجارة العالمية في جنيف انطلق بقوة من خلال خطابه:

"قطاعنا الزراعي الذي تعتمد عليه استراتيجية الأمن الغذائي وسبل العيش وفرص العمل في الريف، تم بالفعل تدميره من خلال ذبح صغار المنتجين لدينا بسبب ما يعانونه من ظلم صارخ في البيئة التجارية الدولية. وحتى وأنا أتكلم أمامكم، يُذبح لدينا صغار المنتجين في الأسواق الخاصة بنا بلا رحمة. وحتى من هم أكثر مرونة وكفاءة يعيشون في محنة".

التحوّل العظيم

تجربة المكسيك والفلبين تتوازيان الواحدة تلو الأخرى في تعرُّض كل بلد لمزيج قاتل من برامج التكيف الهيكلي المفروضة من صندوق النقد الدولي وتحرير التجارة المُكلف المفروض من منظمة التجارة العالمية. وجدت دراسة على 14 بلدا من قبل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن مستويات الواردات الغذائية في 1995-1998 تجاوزت تلك التي في 1990-1994. وهذا لم يكن مفاجئا حيث كان واحدا من الأهداف الرئيسية لاتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن الزراعة لفتح أسواق البلدان النامية حتى تتمكن من استيعاب فائض الإنتاج في دول الشمال. كما وضع وزير الزراعة الامريكي جون بلوك هذا الأمر حين صرّح في بداية جولة أوروغواي للمفاوضات التجارية في عام 1986، حين قال: "فكرة أن الدول النامية يجب أن تقوم بإطعام أنفسها هي مفارقة تاريخية من عصر مضى. يمكن لهذه الدول ضمان أمنها الغذائي على نحو أفضل من خلال الاعتماد على الولايات المتحدة في استيراد المنتجات الزراعية، والتي تتوفر في معظم الحالات بتكلفة أقل ".

ما لم يقله بلوك هو أن انخفاض تكلفة المنتجات الأمريكية راجع إلى الإعانات التي تقدمها الحكومة الأمريكية للمزارعين الأمريكيين، وهذه أصبحت أكثر ضخامة مع مرور كل سنة، على الرغم من أن منظمة التجارة العالمية كان من المفترض أن تفرض التخلص التدريجي من جميع أشكال الدعم. من 367 مليار دولار في عام 1995، وهو العام الأول لمنظمة التجارة العالمية، ارتفع إجمالي مبلغ الإعانات الزراعية التي تقدمها حكومات البلدان المتقدمة إلى 388 مليار دولار في عام 2004. الإعانات الآن تمثل 40 في المائة من قيمة الإنتاج الزراعي في أوروبا (الاتحاد الأوروبي) و 25 في المائة في الولايات المتحدة.

الصندوق والبنك الدولي: على الفلاحين أن يغادروا

إن الآثار التي تصيب البلدان النامية من سياسات البنك والصندوق الدولي هي في النهاية: عولمة الزراعة الصناعية الرأسمالية. النظام الذي يُرسم للزراعة في البلدان النامية هو واحد حيث يجري الإنتاج الموجه للتصدير في مجال اللحوم والحبوب في مزارع صناعية كبيرة جدا مثل تلك التي تديرها المؤسسة التايلاندية متعددة الجنسيات على سبيل المثال حيث يتم تطوير التكنولوجيا باستمرار بفضل التقدم الهائل في مجال الهندسة الوراثية من قبل الشركات مثل شركة مونسانتو الأمريكية. وحيث يخلق القضاء على الحواجز الجمركية وغير الجمركية سوبر ماركت زراعي عالمي مربح للمستهلكين من النخبة والطبقة الوسطى التي تخدمها شركات حبوب تجارية عملاقة على امتداد العالم مثل شركة كارجيل وآرشر دانييلز ميدلاند الأمريكيتين وتجار المنتجات الغذائية العابرين للقوميات مثل تيسكو البريطانية وكارفور الفرنسية.

هناك مجال ضئيل لمئات الملايين من الفقراء في الريف والحضر في هذه السوق العالمية المتكاملة. هم إمّا محصورين في الأحياء الفقيرة في الضواحي العملاقة حيث يتعاملون مع أسعار غالبا ما تكون أعلى بكثير من سعر السوبرماركت من الغذاء أو في الريف حيث نجدهم محاصرين في الأنشطة الزراعية الهامشية والضعيفة معرّضين على نحو متزايد للجوع. في الواقع، داخل البلد الواحد، نجد المجاعة في القطاع المهمش تتعايش مع الازدهار في القطاع المعولم، وهذه هي الحالة "الكلاسيكية" في إثيوبيا الثمانينات مثلا حيث الأراضى الشاسعة المزروعة بالقطن وقصب السكر المخصص للتصدير بينما يتضوّر مزارعو الكفاف الفقراء جوعا في المناطق المجاورة.

يقف الإنتاج الفلاحي ذو النطاق الصغير في طريق هذا التحول الهيكلي ويبدو أن عليه أن يذهب. ما يجري في الواقع ليس مجرد تآكل الاكتفاء الوطني الذاتى من الغذاء والأمن الغذائي ولكن ما سُمّي بالـ depeasantization أي الإلغاء التدريجي لنمط الإنتاج الزراعي المألوف لجعل الريف موقعا أكثر ملاءمة لتراكم رأس المال الكبير.

(3). انتحار 150000 فلاح في الهند ثمرة برامج الصندوق والبنك الدولي

هذا التحول هو صدمة كبيرة لمئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم لأن نمط إنتاج الفلاحين ليس مجرد نشاط اقتصادي. بل هو وسيلة للحياة، وثقافة، وهو سبب رئيسي يجعل الفلاحين النازحين أو المهمشين في االهند بفعل تحرير التجارة وطغيان الشركات الزراعية يقومون بالانتحار. في ولاية أندرا براديش وحدها، ارتفعت حالات انتحار المزارعين من 233 في 1998 إلى 2600 في عام 2002. وتشير إحدى الإحصائيات إلى أن 000،150 مزارع في الهند قاموا بالانتحار. الضائقة الاقتصادية الشديدة التي يعيشونها بفعل انهيار الأسعار الناتج عن تحرير التجارة وفقدان السيطرة على البذور التي تنتجها شركات التكنولوجيا الحيوية مثل مونسانتو، هي جزء من مشكلة أكثر شمولا تقف وراء الانتحار، كما تقول الباحثة الهندية "فاندانا شيفا": "في ظل العولمة، يفقد المزارع هويته الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية كمنتج. المزارع هو الآن "مستهلك" للبذور المكلفة والمواد الكيميائية الغالية المباعة من قبل الشركات العالمية القوية عن طريق ملاك الأراضي ومقرضي الأموال الأقوياء محليا".

(4). التحكّم بالزراعة في أفريقيا

وصل مخطط إلغاء النمط الفلاحي أو حرفة الفلاحة إلى مرحلة متقدمة في أمريكا اللاتينية وآسيا. وبفعل سياسات البنك الدولي، فان افريقيا تسير في نفس الاتجاه. إن تقرير التنمية للبنك الدولي لعام 2008، والذي تناول على نطاق واسع الزراعة في أفريقيا، هو في الحقيقة مخطط للقارة للتحول من الزراعة القائمة على الفلاحين إلى الزراعة التجارية واسعة النطاق.
الدول الأفريقية مثل غانا ومالي نفّذت بالمثل مشورة البنك الدولي. في عام 1992، اشترط البنك على حكومة غانا خفض الرسوم الجمركية على الأرز من 100 في المئة إلى 20 في المئة، مما أدي إلى مضاعفة واردات الأرز الرخيصة.
في عام 2004، نصح البنك إثيوبيا لوقف توفير الأسمدة والقروض لصغار المزارعين كجزء من صفقة لتخفيف عبء الديون، كما أقنع اندونيسيا بتفكيك مجلس تسويق الأرز.

في مرحلة إنهاء الاستعمار في الستينات، كانت أفريقيا ليست فقط مكتفية ذاتيا من الغذاء ولكن في الواقع مصدّرا صافيا للغذاء، وصلت صادراتها في المتوسط إلى ​​1.3 مليون طن سنويا بين 1966-1970. اليوم، القارة تستورد 25 في المائة من احتياجاتها الغذائية، وصار كل بلد من بلدانها تقريبا مستوردا صافيا للغذاء. أصبح الجوع والمجاعة من الظواهر المتكررة، وفي السنوات الثلاث الماضية وحدها اندلعت حالات مجاعة شديدة في القرن الأفريقي والساحل وجنوب أفريقيا، ووسط أفريقيا.

سياسات البنك الدولي هي السبب في تجويع أفريقيا

الزراعة في أزمة عميقة، وتتراوح الأسباب من الحروب إلى سوء الإدارة، والافتقار إلى التكنولوجيا الزراعية لتعزيز الإنتاجية، وانتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز). ومع ذلك، وكما هو الحال في حالتي المكسيك والفلبين، كان جزءا مهما جدا من التفسير هو التخلص التدريجي من الضوابط الحكومية وآليات الدعم في إطار برامج التكيف الهيكلي التي فُرضت على معظم البلدان الأفريقية، كثمن لحصولها على قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

بدلا من تحقيق قفزة واسعة من النمو والازدهار، أوقعت برامج التكيف الهيكلي أفريقيا في فخ كانت ميزاته الرئيسية انخفاض الاستثمار وزيادة البطالة وخفض الإنفاق الاجتماعي، وانخفاض الاستهلاك، وانخفاض الانتاج ؛ تفاعلت كلها لخلق حلقة مفرغة من الركود والتراجع.

رفع الرقابة على أسعار الأسمدة مع القضاء على أنظمة الائتمان الزراعي أدى ببساطة إلى انخفاض الدعم، وانخفاض العوائد، وانخفاض الاستثمار. وعلاوة على ذلك، فإن الواقع رفض التوقعات النظرية التي ترى أن انسحاب الدولة من شأنه أن يمهد الطريق لنمو السوق والقطاع الخاص وتثوير الزراعة. بدلا من ذلك، رأى القطاع الخاص أن خفض نفقات الدولة سوف يخلق المزيد من المخاطر وفشل في التدخل لملء هذا الخرق. في بلد تلو الآخر، حصل العكس من ذلك الذي تنبأت به عقيدة الليبرالية الجديدة: رحيل الدولة خلق فراغا لم يملأه القطاع الخاص. وفي الحالات التي تدخل فيها تجار القطاع الخاص ليحلوا محل الدولة، فإنهم فرضوا شروطا غير مواتية للغاية على المزارعين الفقراء، وتركوا المزارعين يعانون من المزيد من انعدام الأمن الغذائي، والحكومات تعتمد على تدفقات معونة لا يمكن التنبؤ بها. وحتى صحيفة الإيكونوميست المناصرة للقطاع الخاص عادة اعترفت بأن "العديد من الشركات الخاصة التي جاءت لتحل محل الدولة تحولت إلى احتكارات ريعية قابلة للتأجير. ما ساند البنك الحكومة فيه بإلحاح هو القيام بتصدير المنتجات الزراعية لتوليد عائدات من النقد الأجنبي تقوم الدولة بدفعها لتسديد فوائد ديونها للبنك والصندوق الدولي. ولكن، كما هو الحال في إثيوبيا أثناء المجاعة التي حدثت في أوائل عام 1980، أدى ذلك إلى تخصيص الأرض الجيدة لمحاصيل التصدير التجارية، ودفع المحاصيل الغذائية إلى المزيد والمزيد من الأراضي غير مناسبة التربة، مما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي. وعلاوة على ذلك، فإن البنك قام بإجراء مضر آخر تمثل في تشجيع عدة دول تخضع لبرامجه في التعديل الهيكلي على إنتاج نفس المحصول المعد للتصدير في وقت واحد مما أدى في كثير من الأحيان إلى الإفراط في الإنتاج الذي تسبب في انهيار الأسعار في الأسواق الدولية. على سبيل المثال، فإن النجاح الكبير لبرنامج غانا في توسيع إنتاج الكاكاو تسبّب في انخفاض بنسبة 48 في المائة في الأسعار الدولية للكاكاو بين عامي 1986 و 1989، مما أدى إلى تأثر اقتصاد البلاد بأكمله بتقلبات سوق الكاكاو. وفي الفترة بين 2002-2003، ساهم انهيار في أسعار البن إلى حالة طوارئ غذائية أخرى في إثيوبيا.

مستشارو البنك في فنادق الخمس نجوم كالمندوب السامي حلوا محل الدولة الأفريقية

وكما هو الحال في المكسيك والفلبين، فإن برامج التكيف الهيكلي في أفريقيا لم تكن مجرد قلة استثمار ولكن سحب يد الدولة من الاستثمار نهائيا. ولكن كان هناك اختلاف رئيسي واحد. في الفلبين والمكسيك، اقتصر دور البنك والصندوق على الإدارة الكلية للاقتصاد، أي الإشراف على تفكيك الدور الاقتصادي للدولة من فوق، وترك التفاصيل القذرة للتنفيذ من قبل الجهاز البيروقراطي. في أفريقيا، تعامل الصندوق والبنك مع حكومات أضعف بكثير، وقلّلا من قيمة هذه الحكومات، ووصل الأمر الى حدّ اتخاذ قرارات بشأن كيفية إلغاء الدعم الحكومي بسرعة، وكم هو عديد موظفي الخدمة المدنية الذين يجب تسريحهم، أو حتى، كما هو الحال في حالة دولة ملاوي، كم من احتياطي البلاد من الحبوب ينبغي أن يُباع ولمن. وبعبارة أخرى، صار ممثلو البنك وصندوق النقد الدولي المقيمون في فنادق الخمسة نجوم في البلاد مندوبين سامين حلّوا محل الدولة في التدخل في الأحشاء الدقيقة للاقتصاد الزراعي لتدميره.

تضاعف الأثر السلبي للتعديل الهيكلي والممارسات التجارية غير العادلة من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فتحرير التجارة سمح ببساطة للحم الأبقار المدعوم (وبالتالي فسعره منخفض) والمستورد من الاتحاد الأوروبي بالدخول إلى الأسواق الأفريقية ودفع العديد من مربي الماشية في غرب أفريقيا وجنوب افريقيا الى الخراب. مع الدعم الذي شرعنته لهم اتفاقية منظمة التجارة العالمية بشأن الزراعة، أغرق مزارعو القطن في الولايات المتحدة الأسواق العالمية بقطن يقل سعره بما بين 20 إلى 55 في المائة من تكلفة الإنتاج، مما أدى إلى إفلاس مزارعي القطن في أفريقيا الوسطى وغرب أفريقيا.
وفقا لمنظمة أوكسفام، فإن عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم في أفريقيا قد زاد بأكثر من الضعف ووصل إلى 313 مليون شخص بين عامي 1981 و 2001، أي 46 في المائة من سكان القارة بأكملها. دور برامج التكيف الهيكلي في خلق الفقر، وكذلك في الإضعاف الشديد للقاعدة الزراعية في القارة وتعزيز الاعتماد على الواردات، من الصعب إنكاره. وكما اعترف رئيس الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي لأفريقيا، "نحن نعتقد أن التكاليف البشرية من هذه البرامج يمكن أن تكون كبيرة جدا، وان المكاسب الاقتصادية المترتبة عليها ستكون بطيئة جدا في التحقق".
كانت هذه لحظة نادرة من الصراحة. فما هو مثير للقلق خصوصا هو تعامي الصندوق والبنك عن رؤية فشل نهجهما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، هذا التعامي الذي لا يزال قائما على الرغم من ان دراسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أنفسهم قد فشل في ذكر أيّ نتائج إيجابية لهذه البرامج".

(5). تجويع شعب مالاوي

عناد البنك والصندوق أدى إلى مأساة في ملاوي. لقد كانت مأساة سبقها نجاح. في عام 1998 وعام 1999، أطلقت الحكومة برنامجا لمنح كل أسرة من أصحاب الملكيات الصغيرة "حزمة بداية أو حزمة شروع" من الأسمدة والبذور المجانية. جاء ذلك بعد عدة سنوات من التجارب الناجحة التي قُدمت فيها هذه الحزم للأسر الأكثر فقرا فقط. وكانت نتيجة هذا البرنامج وجود فائض وطني من الذرة. ما حصل بعد ذلك هي قصة سيكون لها بالتأكيد موقع كدراسة حالة كلاسيكية في كتب المستقبل عن أكبر الحماقات العشرة للاقتصادات الليبرالية الجديدة بغشراف البنك الدولي.

أجبر البنك الدولي وغيره من الجهات المانحة للمساعدات حكومة ملاوي على الغاء حزم البداية أو حزم الشروع المجانية نهائيا وإلغاء الدعم الحكومي للزراعة، بحجة أن الدعم يشوّه التجارة الحرّة. دون الحزم المجانية تلك، انخفض الإنتاج الغذائي. في هذه الأثناء، أصر صندوق النقد الدولي على أن الحكومة تقوم ببيع جزء كبير من احتياطياتها الاستراتيجية من الحبوب لتقوم بدفع الديون التجارية. امتثلت الحكومة لذلك.

عندما تحولت أزمة إنتاج الغذاء إلى مجاعة في 2001-2002 كان هناك بالكاد أي احتياطيات من الحبوب يمكن تسليمها للجياع في الريف. لقي نحو 1500 شخص مصرعهم بسبب الجوع. ومع ذلك، لم يندم صندوق النقد الدولي على ما قام به. فوق ذلك قام بإيقاف الصرف على برنامج التكيف الهيكلي الذي فرضه على الحكومة على أساس أن "القطاع الطفيلي سيشكل خطرا على نجاح تنفيذ الميزانية لعامي 2002/03 !!. لقد ثبت أن تدخلات الحكومة في المواد الغذائية والأسواق الزراعية الأخرى كان تدخلا منتجا لكن البنك ألغاه !!".

عندما حصلت أزمة غذائية أسوأ في عام 2005، أدركت الحكومة في النهاية أنها حصلت على ما فيه الكفاية من الغباء والحماقة التي يتمتع بها خبراء البنك وصندوق النقد الدولي. أعاد الرئيس الجديد لملاوي برنامج دعم الأسمدة، مما ساعد مليوني أسرة فلاحية على شراء الأسمدة بثلث سعر التجزئة والبذور بأسعار مخفضة. وكانت النتائج: حصاد وفير لمدة عامين على التوالي، وفائض مقداره مليون طن من الذرة، وتحول البلد إلى مصدر للذرة إلى بلدان أخرى في جنوب أفريقيا.

لكن البنك الدولي، مثل شقيقه الشيطان صندوق النقد الدولي، لا يزال يصر وبعناد على مصداقية عقيدته. وكما قال المدير القطري للبنك لصحيفة تورونتو غلوب وميل: "جميع المزارعين الذين توسلوا، واقترضوا، وسرقوا لشراء أسمدة اضافية في العام الماضي يبحثون الآن في هذا القرار ويعيدون النظر فيه. كلما انخفض سعر الذرة، كلما كان ذلك أفضل للأمن الغذائي، ولكن أسوأ لتطوير السوق".

البنك الدولي يتنصل عن المجاعة في مالاوي التي سببتها برامجه

كان تحدّي ملاوي للبنك الدولي فعل مقاومة بطولية، ولكنه غير مجدٍ قبل عقد من الزمن. البيئة مختلفة اليوم. ونظرا لعدم وجود أي حالة واضحة لنجاح برامج التكيف الهيكلي، فقد فقدت مصداقيتها على نطاق واسع وفي جميع أنحاء أفريقيا. حتى بعض الحكومات المانحة التي كانت تميل إلى الاشتراك بها نأت بنفسها عن البنك، ولعل أبرز جهة هي وكالة المساعدات البريطانية الرسمية والتي شاركت في تمويل برنامج دعم الأسمدة الأخير في ملاوي. ولعل الدافع الرئيسي لهذه المؤسسات هو منع تناقص تأثيرها في القارة وتعرضه للمزيد من التآكل بسبب ارتباطها بنهج فاشل ومؤسسات لا تحظى بشعبية في الوقت الذي بدأت فيه المساعدات الصينية بالظهور كبديل للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، و برامج مساعدات الحكومات الغربية مع جميع الشروط القاسية والاستغلالية الخاصة بها.

خارج أفريقيا، اعترف حتى المؤيدين السابقين لبرامج التكيف الهيكلي، مثل المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI) في واشنطن وصحيفة الليبرالية الجديدة: الإيكونومست، بأن تخلّي الدولة عن الزراعة كان خطأ. وفي تعليق على ارتفاع أسعار المواد الغذائية، على سبيل المثال، أكد المعهد الدولي أن "الاستثمارات الريفية قد أهملت بشدة في العقود الأخيرة،" وأن الوقت قد حان لـ "حكومات البلدان النامية لتقوم بزيادة قدرتها على القيام باستثمارات طويلة ومتوسطة الأجل في مجال البحوث الزراعية والإرشاد، والبنية التحتية الريفية، ووصول صغار المزارعين إلى الأسواق". وفي الوقت نفسه، جاء الهجوم على سياسة التجارة الحرة التي يدعو إليها البنك وصندوق النقد الدولي من قلب هذه المؤسسات الاقتصادية نفسها، حيث قال سير "انجوس ديتون" الحائزعلى جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية متهما قسم البحوث في البنك بالانحياز و"الانتقائية" في بحوثه وفي عرض البيانات المضللة.

ولأنه غير قادر على نفي ما هو واضح، فقد اعترف البنك أخيرا أن برامج التكيف الهيكلي كلها كانت خاطئة. وعلى الرغم من أنه "مرّر" هذا التنازل والاعتراف في منتصف تقريره عن التنمية في العالم لعام 2008، ربما على أمل أنه لن يجذب الكثير من الاهتمام. ومع ذلك، كان الإعتراف دامغا:

"برامج التكيف الهيكلي في الثمانينات فككت نظاما محكما من الهيئات العامة التي ساعدت المزارعين على الحصول على الأراضي والقروض ومدخلات التأمين، وتشكيل المنظمات التعاونية. وكان من المتوقع أن إزالة الدولة ستفتح السوق أمام القطاع الخاص ليضطلع بهذه الوظائف- خفض التكاليفها وتحسين النوعية، والقضاء على التحيزات الرجعية. في كثير من الأحيان، لم يحدث هذا التوقّع. في بعض الأماكن، كان انسحاب الدولة مؤقتا في أحسن الأحوال، مما حدّ من دخول القطاع الخاص. من جهة أخرى، لم يدخل القطاع الخاص إلا ببطء وبشكل جزئي مقدّماً خدماته أساسا للمزارعين التجاريين تاركا صغار الملاك يتعرضون لأضرار كبيرة في السوق، ولارتفاع تكاليف ومخاطر الصفقات العالية، ونقص الخدمات. الأسواق غير المكتملة ونقص المؤسسات فرض تكاليف باهظة تسببت في خسائر في نمو ورفاه أصحاب الحيازات الصغيرة، مما هدّد قدرتهم على التنافس، وفي كثير من الحالات، هدّد قدرتهم على البقاء على قيد الحياة".

السيادة الغذائية: نموذج بديل

ولكن ليس تحدي الحكومات مثل مالاوي والمعارضة المتحالفة معها سابقا فقط هي التي تقوّض برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كانت منظمات الفلاحين أيضا وفي جميع أنحاء العالم وعلى نحو متزايد هي التي رفعت أصواتها وتشدّدت في مقاومتها للعولمة الزراعة الصناعية. في الواقع، كانت ضغوط جماعات المزارعين هي التي جعلت حكومات الجنوب ترفض منح الشركات الغربية حق الوصول على نطاق أوسع إلى أسواقها الزراعية وتطالب بخفض هائل للإعانات الزراعية الأمريكية والأوروبية، وتوصل مفاوضات "جولة الدوحة للتنمية" التي نظمتها منظمة التجارة العالمية إلى طريق مسدود.
لدى جماعات المزارعين شبكات دولية، وواحدة من أهم هذه الشبكات وأكثرها فاعلية هي "فيا كامبيسينا Via Campesina (مترجمة حرفيا من اللغة الإسبانية "مسار الفلاح"). هذه الشبكة لا تسعى فقط لتحقيق شعار "خروج منظمة التجارة العالمية من الزراعة" أو تعارض ترويج وفرض نموذج الزراعة الصناعية الرأسمالية المعولمة من قبل البنك الدولي، ولكنها تقترح بديلا لبرامج البنك هو: "السيادة الغذائية". السيادة الغذائية تعني أولا وقبل كل شيء، حق كل بلد لتحديد إنتاجه واستهلاكه من المواد الغذائية وإعفاء الزراعة من النظم التجارية العالمية مثل منظمة التجارة العالمية. وهي تعني أيضا تعزيز نمط زراعة يركز على صغار الفلاحين عن طريق حماية السوق المحلية من الواردات المنخفضة الأسعار، وتقديم أسعار مجزية للمزارعين وصيادي الأسماك، وإلغاء جميع الإعانات المباشرة وغير المباشرة المخصصة للتصدير، والتخلص التدريجي من الدعم المحلي الذي يشجع الزراعة غير المستدامة. وتدعو هذه الشبكة أيضا إلى وضع حد لنظام حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة Trade Related Intellectual Property Rights TRIPs التي تسمح للشركات بامتلاك براءات اختراع عن بذور النباتات، وتعارض التكنولوجيا الزراعية القائمة على أساس الهندسة الوراثية، وتطالب بالإصلاح الزراعي. وعلى النقيض من الأحادية الثقافية العالمية التي يتم إنشاؤها من قبل الزراعة الصناعية الرأسمالية، فهي تقدم رؤية لاقتصاد دولي يميز بتنوع الاقتصادات الزراعية الوطنية التي يرتبط بعضها ببعض ولكنها تركز في المقام الأول على الإنتاج المحلي.

لقد اعتُبر الفلاحون قطعا اثرية من عصر ما قبل الصناعة، وها هم الآن يقودون المعارضة لنموذج الزراعة الصناعية الرأسمالية التي من شأنها أن تودعهم إلى مزبلة التاريخ. لقد أصبحوا حسب ما وصفه كارل ماركس باعتبارهم "طبقة" تعي نفسها سياسيا، ولكنهم يناقضون توقعات ماركس الخاصة بزوالهم. مع أزمة الغذاء العالمية الراهنة، يتحرك الفلاحون إلى مركز الصدارة ولا يخلون من الحلفاء والمؤيدين. لأن الفلاحين يحاربون إلغاء النمط الزراعي من الحياة ويرفضون "الذهاب بلطف في ليلةٍ جيدة،" باستعارة بيت شعر من ديلان توماس، فإن التطورات في القرن الـ 21 تكشف عن أن الدواء الشافي الذي تصفه الزراعة الصناعية الرأسمالية المعولمة صار كابوسا. مع تضاعف الأزمات البيئية، وتراكم الاختلالات الاجتماعية للحياة الحضرية والصناعية، وخلق الزراعة الصناعية الرأسمالية للمزيد والمزيد من انعدام الأمن الغذائي، فإن حركة المزارعين تصبح مهمة على نحو متزايد ليس فقط للفلاحين ولكن لكل من يشعر بأنه مهدد بالعواقب الكارثية لرؤية رأس المال العالمي لتنظيم الإنتاج، والمجتمع، والحياة.

مصادر هذه الحلقات

مصادر هذه السلسلة من الحلقات عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي سوف تُذكر في الحلقة الأخيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى