الجمعة ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٦
بقلم زهير كمال

قراءة في «انثيال الذاكرة هذا ما حصل»

أهداني الأستاذ فتحي البس كتابه (انثيال الذاكرة هذا ما حصل)

صدر الكتاب في العام 2008 عن دار الشروق ولم يتسنى لي قرائته من قبل.
في تناول السيرة الذاتية لفتحي البس لفت انتباهي عنوان السيرة
فكلمة الانثيال في اللغة هو التدفق وفعل حصل يطلق على جمع المال او الأشياء في الغالب، ولو أردنا ترجمة العنوان الى اللغة العربية المتداولة لقلنا
تدفق الذاكرة - هذا ما حدث
فلماذا يريد كاتب استعمال كلمات كهذه في عنوان سيرته؟

ولكن هذا الأمر ليس بالأهمية عند تناول السيرة.

تناول الكاتب قصة حياته منذ ولادته في الفالوجة عام 1951 وحتى العام 2008 من عمره المديد.

يمكن تقسيم حياة الكاتب الى ثلاث مراحل كما وردت في سيرته.

القسم الأول: منذ ولادته في الفالوجة عام 1951 وحتى حصوله على منحة دراسية لدراسة الثانوية في بيروت وهي فترة تمثل 17 عشر عاماً من عمره لخصها في 33 صفحة من الكتاب
القسم الثاني: حياة الطالب الثانوية والجامعية في بيروت، امتدت عشر سنوات من عمره وأخذت الحيز الأكبر من الكتاب في 240 صفحة
القسم الثالث: عودته الى الاردن وبداية حياته العملية وحتى كتابة السيرة في العام 2008 وهي فترة تمثل ا3 عاماً من عمره ولخصت في 64 صفحة من قصة حياته.
رغم قصر القسم الأول فقد أبدع الكاتب في تناول السنين الأولى من حياته ووصف بدقة حياة المعاناة والشقاء في مخيمات لجوء الفلسطينيين المنتشرة في فلسطين وحولها.

عانى أطفال فلسطين في مخيمات اللجوء شظف العيش والفقر والحرمان من أبسط مقومات الحياة ومع هذا نجدهم يتلهفون على التعليم والدراسة وكأنهم يعوضون في التحصيل الدراسي ما افتقدوه .

منذ نعومة أظفاره في مخيمات اللجوء التي لم يعرف غيرها في طفولته عمل فتحي في كل المهن التي تتاح لطفل في سنه لمساعدة عائلته على الحياة.

تكوّن الرجل المسؤول في فتحي في طفولته، وأثبت أنه يستطيع أن ينحت في الصخر لاستخراج لقمة العيش لعائلته. ولم يمنعه هذا الشقاء من التفوق في مدرسته التي كان يمشي اليها عدة كيلومترات مهما كانت أحوال الجو.
ولا يملك القارئ إلا الإعجاب بهذا الرجل العصامي.

ومن الجدير بالذكر هنا القول أنه قد صدرت إحصائية من الأمم المتحدة في ثمانينات القرن العشرين ذكر فيها أن الشعب الفلسطيني يأتي في المرتبة الأولى بين شعوب العالم في عدد خريجي الجامعات.

كان تركيز الكاتب الأساسي كما يبدو واضحا هي على فترة دراسته الثانوية والجامعية في بيروت بعد حصوله على منحة دراسية.

الفترة الممتدة منذ 1967 وحتى 1977 حقبة مميزة في تاريخ الشعب الفلسطيني وكفاحه المسلح وتصادف وجود كاتب السيرة في موقع الأحداث على الساحة اللبنانية
وقريباً من صانع القرار الفلسطيني.

ويمكننا من هذه الناحية اعتبار السيرة تأريخاً من وجهة نظر فردية لهذه المرحلة .
عرف الكاتب وعاشر عن قرب قيادات هامة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني ( فتح) ، وكان عضواً في أحد أجنحتها الفكرية ،
هذه الأجنحة لم تخرج عن كونها إرهاصات غير متصارعة لم تتبلور الى خطوط واضحة ، فعلى سبيل المثال ينتمي الكاتب الى جناح يسمي نفسه خط الجماهير- خط الشعب ويتبنى الماركسية منهجاً (ويجدون في انفسهم مسلمين ومناضلين) .
تعكس هذه التسمية التفكير الطلابي المحض وتحاول مسك العصا من الوسط ، وكما نلاحظ فقد انتهى هذا الخط بانتهاء وجود أفراده في بيروت.

انثالت ذاكرة فتحي البس فقدم لنا بالتفصيل كل ما حدث معه في تلك الفترة سواء كان ذلك عن دراسته أم نضالاته أو حياته الاجتماعية ومغامرات مرحلة الشباب.

ولكن ماذا عن ذاكرتنا نحن؟

من المؤكد أننا سنقرأ السيرة وسننساها بنفس سرعة قراءتنا لها. والسبب بسيط أنها لا تحتوي على أفكار.
فكتب السيرة الذاتية الناجحة هي التي تحتوي على أفكار كاتبها وموقفه من الأحداث التي مر بها.
الأمر الذي لم يحدث في هذه السيرة.

كان بوسع المؤلف محاولة الإجابة على سؤال هام وهو لماذا فشلت الثورة الفلسطينية في الوصول الى أهدافها مع انها أعدل قضية في العالم.

ولا شك ان هذا سؤال كبير فيه الذاتي والموضوعي
وكان تناول الذاتي الذي عاشه وعاشر فيه اصحاب القرار بمتناول يده .
لكنه لم يفعل.

القسم الثالث:

من طبيعة الأمور أن الشهادة الجامعية تخول صاحبها العمل بما ورد في تخصصها
فالمهندس يعمل مهندساً والطبيب كذلك اما الصيدلي فانه سيعمل في مجال الصيدلة طيلة حياته، وربما شارك أي منهم في العمل النقابي أو السياسي ولكنه لا يترك مهنته.

حالة صاحب السيرة نادرة ، صحيح أنه عمل قليلاً في مجال الصيدلة ولكن نجده بعد فترة قصيرة وفي ما لا يتجاوز سنتين من تخرجه يباشر عملاً مختلفاً تماماً وهو مجال الكتب والثقافة والنشر.

والحق أن هذه نقلة كبرى كانت بحاجة الى توضيح من الكاتب، وللأمر علاقة بالتحليل وسبر أغوار النفس البشرية.
وكما يبدو فإن العمل الجديد هو أقرب ما يكون الى حياته الجامعية المليئة بالثقافة والنقاش والسياسة والتي شكلت شخصيته وذاته، وكان تأثيرها أكبر من تأثير دراسته الجامعية في مجال الصيدلة.

كذلك فان هذا المجال، القريب من تشكّله في المرحلة الجامعية، مأمون العواقب خاصة مع عدم توفر المناخ الديمقراطي في الأردن.

ماركسي أم متمركس
إن الحل الماركسي الصحيح للقضية الفلسطينية هو النضال من أجل دولة ديمقراطية علمانية حيث يعيش فيها المسلمين والمسيحيون واليهود في مساواة تامة على أرض فلسطين، وحل كهذا نابع من التحليل العلمي الدقيق للمعطيات على أرض الواقع.

وحل كهذا يعني تدمير الصهيونية وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني المضطهد.
ومثل هذا الحل قابل للتطبيق على أرض الواقع فقد لاحظنا اندحار إسرائيل عن جنوب لبنان وعن قطاع غزة ثم هزيمتها المريرة في حرب تموز عام 2006

الغريب أن الكاتب لم يشر إطلاقاً الى هذا الموضوع الهام في سيرته التي كتبت بعد هذه الحرب.
تبنى الكاتب الحل المرحلي الناتج عن اتفاقية اوسلو، في نفس الوقت الذي تأكد فيه قابلية المشروع الصهيوني للهزيمة.
استوقفني تساؤل الكاتب في صفحة 336 عندما يقول وهو في داخل أراضي السلطة الفلسطينية:
هل يستقبل أهلنا الذين قضينا عمرنا نقاتل لتحريرهم ، العائدين بهذه الطريقة؟
وأجاب مرافقه: هناك مآس كثيرة جابهها بعض العائدين، لكن شعبنا بالعموم طيب.
فهل يعيش كاتبنا الوهم أن سلطة اوسلو قد حررت الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية ؟
الأسوأ من ذلك ان هذه السلطة والعائدين معها قد فعلت ما لم يستطع فعله الاحتلال في إدخال منظومة الفساد التي تنهش جسد الشعب الفلسطيني (الطيب).

وفي صفحة 348 وفي نهاية السيرة يقول الكاتب:

انتقلت السلطة بسلاسة كما في أعرق الديمقراطيات لتصل الى (أبي مازن) ، محمود عباس إثر انتخابات شفافة.
ظاهرياً يبدو هذا الكلام معقول ولكن لماذا يتناسى الكاتب أن إسرائيل قد فرضت على ياسر عرفات محمود عباس كرئيس للوزراء؟ ولماذا أهمل الكاتب الإشاعات القوية عن تسميم ياسر عرفات لإزاحته عن رئاسة السلطة. وهي الإشاعات التي تأكدت لاحقاً والتي ما زالت السلطة تحقق فيها وستظل تحقق فيها الى أبد الآبدين.
مع تمنياتي للأستاذ فتحي البس بالعمر المديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى