الأربعاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم غزالة الزهراء

قمة الوفاء

تمددت شهيرة على سريرها الوثير التماسا لراحة نفسية عميقة، وبمجرد أن أطبقت أجفانها سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتها، بتكاسل قالت: ادخل.

أطلت الخادمة برأسها سائلة: أمن شيء تبتغينه يا آنستي؟

ـــ لا، لست بحاجة لشيء، دعيني أنام.

ونامت إلى غاية الواحدة زوالا.

حياتها بطولها وعرضها تنحصرفي سهرات متواصلة، شرب، تدخين، رقص، وعبث، غالبية أوقاتها تنصب في الملاهي الليلية، لا تعبأ البتة بآهات الموجوعين الذين سقطوا فريسة بين مخالب الفقر والمرض مادامت منغمسة كامل الانغماس في بحر ملذاتها.

تقول بزهو وفي العلن: التحضر هو التنصل التام من قيود المجتمع، ومن عاداته وتقاليده، هو الانطلاق نحو فضاء الحرية المديد بدون قيود.

الهاتف يرن، أيقظها من عميق سباتها، امتدت يدها إلى سحبه من الطاولة المجاورة لسريرها، المتصل هو خطيبها أنيس، دار بينهما حديث عابر، نهضت متجهة إلى المغسلة، ثم تهيأت للخروج بعد أن بدلت ثيابها على عجالة.

استوقفتها الخادمة: آنستي، الطعام جاهز.

ـــ ليست لدي رغبة في ذلك.

ـــ آنستي، أتنصرفين هكذا دون تناول الطعام؟

ـــ أو......ف ! أنت لحوحة جدا ومزعجة، انصرفي إلى مطبخك وإلا سأخصم لك يوما كاملا من راتبك.

الخادمة هي أم لسبعة أطفال يتامى، فارقها رفيق دربها إلى الدار الثانية بعدما أنهك جسده الداء العضال، راتبه الشهري لا يغطي كامل مصاريف أسرته ولذا خرجت للكدح في بيوت الناس الأثرياء.

ـــ آثار الارهاق بادية عليك بوضوح، محياك يعلوه اصفرار في صفرة حبة ليمون.

تثاءبت كأنما لم تحظ بقسط وافر من النوم منذ مئة عام أو يزيد.

ـــ لمحتك البارحة تغادرين ذلك الملهى الليلي النتن، و......

اعترضته: كف عن الثرثرة ولا تبالغ، أنت تدرك تماما أنه مكاني المفضل، ولا قدرة لي على التنصل منه حتى لو انطبقت السماء على الأرض.

ـــ الحياة ليست بالشكل الذي تتصورينه، افهميني.

ـــ الحياة يا عزيزي هي تحد لكل عادات المجتمع البالية، ماعلي إلا أن أعيش حرة طليقة من غير أن تكبلني أغلاله.

ـــ لا، أنت مخطئة، أعيدي حساباتك.

احتد النقاش بينهما، قالت مؤنبة إياه: ألم تكن أنت بلحمك ودمك ترتاد ذلك الملهى الليلي، أنسيت ذلك يا فتى؟

ـــ لقد عزفت منذ شهرين عن ارتياده عزوفا تاما، لا أحبذ ذلك المكان مادمت واضعا نصب عيني تكوين أسرة صالحة، نحن علينا أن نكون المثل الأعلى لأبنائنا ليتأسوا بخصالنا، أيجدر بنا تشييد أسرة على دعائم متينة وأنت تنغمسين كل دقيقة من عمرك في حمأة المعصية؟

ردت عليه بغيظ بغيض: لقد تحولت بين ليلة وضحاها إلى مصلح اجتماعي طامحا إلى غرس أفكارك الغثة في تلافيف رأسي، أنا أنبذها جملة وتفصيلا، لا أوافقك الرأي، أنا حرة مذ أن وجدت على الأرض، ولا سلطة لك علي.

ـــ ستصيرين زوجتي، وأم أولادي، ومن غير اللائق أن تحيدي عن طاعتي.

ـــ من اليوم فلا شأن لك بي، خلقت لأن أحيا فوق أهداب السعادة، ولا يهمني شيء مادمت قنوعة بتصرفاتي.

ـــ أأنت واعية مما تقولين؟

ـــ واعية جدا أيها الغبي.

ـــ أتنعتينني بالغبي؟

ـــ تستحق أكثر من ذلك.

تلقت منه صفعة قوية على خدها، ومن ثم أمسك بشعرها لاعنا إياها بشدة: أنت أرخص امرأة.
أخذت تصرخ وتتلوى كأفعى ماردة.

المارة يشقون طريقهم دون أن يحركوا ساكنا، بينما نبيل ذو الخصال الرفيعة سارع لانتزاعها من بين يديه.

ابتداء من ذلك اليوم وهي تقتفي آثاره أينما توجه، وقد جمعت عنه معلومات كافية من بينها رقم هاتفه.

ـــ ألو، من؟

ـــ أنا شهيرة التي حررتها من قبضة ذلك الوغد.

ـــ الحادثة وقعت منذ سبعة أشهر، أما زلت تتذكرين؟

ثم استفسر: من أين تحصلت على رقم هاتفي؟

ـــ من خلال تحرياتي عنك أيها البطل المغوار.

ضحك وقال: أنت تبالغين يا آنسة، أنا لست بطلا، قمت بالواجب المحتم علي كإنسان فحسب.
أثناء مغادرته لمقر عمله ألفاها بانتظاره في سيارتها الفارهة، أخرجت رأسها من زجاج النافذة الصغيرة، هتفت به بعد أن ألقت عليه تحيتها المسائية: هيا اركب بجانبي.

اعتذر بقوة: من عادتي السير على قدمي، شكرا لك يا آنسة.

ألحت: هيا اركب، ولا داعي لكلمة آنسة، لا حواجز بيننا، قل شهيرة وانتهى.

إحراج شديد تملكه من رأسه إلى أخمص قدميه، الانفلات منها لا يجدي نفعا في مثل حالته، وتحت طائلة الالحاح المستمر انصاع لها، وامتطى سيارتها.

أدارت المقود.

ـــ إلى أين تتجهين الآن؟

ـــ إلى منزلي.

بدهشة كبيرة كادت تعقد لسانه عن النطق: منزلك!؟

ـــ لا تعارض، أرجوك، كلمت والدي عنك فهو يتوق لرؤيتك في هذه الأمسية بغية التحدث إليك.

ـــ لا تحرجيني أكثر مما ينبغي يا آنسة.

ضحكت ضحكة مجلجلة وقالت: ألم أقل لك لا حواجز بيننا، إلغ كلمة آنسة من قاموسك، أرجوك.

بعد وقت قصير ألفى نفسه أمام والدها.

أخذ يكلمه وهو ينفث دخان سيجارته: لو كان باستطاعتي غزو السماء لغزوتها، ولأتيت بالنجوم بين يدي ابنتي المدللة.

صمت هنيهة ثم استأنف قوله: لقد أغرمت بك ابنتي، شهيرة تطمح إلى الارتباط بك، تريدك زوجا لها تدافع عنها وتحميها.

ابتلع نبيل ريقه بصعوبة، وقال بمشقة أنهكت أنفاسه: ألم تخبرك بقصتي كاملة؟

ـــ أماطت اللثام عن تفاصيل حياتك كلها، ولكن لا مانع في ذلك مادامت تريدك في الحلال.
ـــ لا تضغط علي يا سيدي، ليس بإمكاني التفريط في أولادي وزوجتي.

تجاهل والدها ما سمعه، ووفاه بكلام كان مخزنا في جعبته يضاهي مصيدة لعينة:

سأمنحك من المال ما تريد، إضافة إلى ذلك منزلا مؤثثا يتربع على شاطئ البحر، وسيارة لم تحلم بها يوما، أتوافقني فيما قلت؟

ـــ لا تجبرني على ذلك يا سيدي.

قال بنوع من الخشونة: أمن المعقول أن تكون سببا في تدمير وحيدتي، فلذة كبدي؟ أتود هذا يا رجل؟

ـــ أود لها كل الخير يا سيدي، لست أنا من يكون لها، لا أحد يملأ جوانحي اطمئنانا ماعدا صغاري الذين هم سر سعادتي.

أوقد الرجل اللفافة الثانية وهو يزفر بغضب، بينما نبيل انتصب من مجلسه واندفع خارجا كالزوبعة، عبر الشارع مشوش الفكر، مضطرب الأنفاس، سيارة من نوع "رونو" كادت تدهسه، المهم أنه مازال حيا، وسيمارس حقه المشروع في احتضان أولاده ليشعر بذلك الدفء العائلي الذي لا يضاهيه دفء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى