الأحد ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم صبحي حديدي

قمّة المعلوماتية: إحتكار التكنولوجيا أم اجتماع المعرفة؟

ليست القمة العالمية لمجتمع المعلومات، التي تتواصل أعمالها في تونس منذ أيام، تلك البلاغة الوردية التي تعجّ بها خطابات رؤساء الدول المشاركة، الطافحة بالتمنّي وحسن النيّة والتعاطف والتضامن بين الأمم والأقوام والمجتمعات، حيث تفوح روائح النفاق السياسي والأخلاقي في الفقرات والسطور والمفردات. إنها، في الآن ذاته، تلك اللغة الخشنة الصريحة الوقحة ربما، ذات البحّة الناشزة أحياناً، التي تسعي إلي النطق بحقائق أخري، وتشير إلي معطيات أشدّ بشاعة من أن تحتويها اللغة الرسمية الجوفاء، سيئة الطوية غالباً.

إليكم، في مثال أوّل رسمي، ما نقله مراسل سويس إنفو ، توماس ستيفنز، حول قيام التلفزة التونسية بمراقبة (أي قطع إرسال!) فقرات من خطاب الرئيس السويسري صمويل شميدت تحدّث فيها ـ بحدّة وصراحة وخشونة، والحقّ يُقال! ـ عن الدول التي تزعم رعاية مجتمع المعلومات، لكنها في الآن ذاته تنتهك أبسط حقوق الإنسان وحقوق التعبير في هذا المضمار دون سواه. وقال شميدت في خطبته الإفتتاحية (إذ كانت جنيف هي التي احتضنت أعمال القمة الأولي قبل سنتين): بصراحة، ليس من المقبول أن تكون في عداد عضوية الأمم المتحدة تلك الدول التي تسجن مواطنيها لمجرّد أنهم انتقدوا حكوماتهم علي الإنترنت أو في وسائل الإعلام . ولكي يطرق الرجل الحديد وهو حامٍ تماماً، أضاف شميدت بنبرة المفارقة: بالنسبة لي، إنّ من المسلّم به أنّ يتمكن الجميع هنا في تونس، داخل هذه الجدران وخارجها، من التعبير الحرّ. إنه واحد من الشروط التي لا غني عنها لنجاح هذا المؤتمر الدولي .

وبالطبع، كان شميدت يغمز من قناة البلد المضيف مباشرة، بعد أن تواترت الأخبار عن الإعتداء بالضرب علي صحافي فرنسي، ومنع روبير مينار الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود من دخول تونس للمشاركة في القمة الموازية، وحجب عدد من المواقع الإلكترونية التي تنتقد صيغة القمة الرسمية وبرامجها، أو تقترح رؤية وخطط عمل وفلسفة موازية أكثر عدالة ومساواة بين الأمم. وبين أبرز هذه المواقع ذاك الذي ينطق باسم قمّة المواطن لمجتمع المعلومات ، وقد حُجب في جميع أرجاء تونس منذ 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، وإنْ كانت السلطات التونسية قد ارتأت الإبقاء عليه متاحاً في مصدر واحد فقط، هو المركز الصحفي الرسمي التابع للقمّة!

ثمة، إذاً، شدّ وجذب من نوع آخر مختلف في الجوهر عن الرطانة التقنية التي تدور حول إقرار المزيد من عقود الهيمنة الأمريكية علي الشبكة، أو ردم ما يُسمّي الفجوة الرقمية بين الشعوب، أو المزيد من العدل في توزيع تكنولوجيا المعلومات والإتصالات. خذوا، في مثال غير رسمي هذه المرّة، هذه الفقرة الإستهلالية من نصّ مطوّل بعنوان إعلان المجتمع المدني ، قُدّم للمرّة الأولي إلي قمّة جنيف سنة 2003، ثمّ قُدّم معدّلاً وموسعاً إلي قمّة تونس الحالية: الإنسان هو محور رؤيتنا لمجتمعات المعلومات والإتصالات. ويجب تعزيز كرامة وحقوق كلّ الشعوب وكلّ الأشخاص واحترامها وتأكيدها. ولذلك يجب أن يكون تصحيح الفجوة التي لا تُغتفر بين مستويات التنمية وبين الرغد والفقر المدقع أولي اهتماماتنا. ونحن ملتزمون ببناء مجتمعات معلومات واتصالات جامعة ومنصفة قوامها البشر، مجتمعات متاح فيها لكلّ فرد حرّية إنشاء المعلومات والمعرفة والنفاذ إليها والاستفادة منها وتقاسمها ونشرها لتمكين الأفراد والمجتمعات والشعوب من تحسين نوعية الحياة وتحقيق إمكاناتهم الكاملة، مجتمعات تؤسس علي مباديء العدالة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، وعلي المشاركة الكاملة للشعوب وتمكينها تماماً .

ومن أجل تشديد أكثر صرامة ومبدئية علي حرّية التعبير والرأي وموقع الإنسان في هذا الخضمّ المعلوماتي، يقول الإعلان: ونحن نؤكد من جديد أنّ الإتصال هو عملية إجتماعية أساسية وحاجة إنسانية أساسية، وهو أساس كلّ أشكال التنظيم الإجتماعي. وينبغي أن تتاح الفرصة لكلّ فرد في كلّ مكان وزمان للمشاركة في عمليات الإتصال، ولا ينبغي حرمان أحد من فوائدها. ويعني ذلك أنّ النفاذ إلي وسائل الإتصال يجب أن يتاح لكلّ شخص ويجب أن يتمكن كلّ شخص من ممارسة حقه في حرّية الرأي والتعبير، التي تشمل الحقّ في اعتناق الآراء وفي استقاء المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، دون التقيّد بالحدود الجغرافية. وبالمثل فإنّ الحقّ في النفاذ إلي المعلومات العامة وإلي المجال العام من المعارف ينبغي أن يحظي بالتأييد مثله مثل كثير من حقوق الإنسان العالمية الأخري التي تتصل بالتحديد بعمليات المعلومات والإتصالات .

وفي الربط بين حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة والممارسة الديمقراطية، يري التقرير أنّ بناء مجتمعات معلومات عادلة ينطوي علي إشراك الأفراد بصفتهم مواطنين، وكذلك إشراك منظماتهم ومجتمعاتهم كمشاركين ومتخذي قرارات في تشكيل الإطار والسياسات والآليات. ويعني ذلك تهيئة بيئة تمكينية يتمّ فيها إشراك والتزام كلّ الأجيال رجالاً ونساء، وتكفل مشاركة المجموعات الإجتماعية واللغوية المتنوّعة ومختلف الثقافات والشعوب والمجتمعات الريفية والحضرية دون استبعاد لأحد. وبالإضافة إلي ذلك ينبغي للحكومات أن تعمل علي استمرار الخدمات العامة وتعزيزها وفقاً لما يتطلبه المواطنون، وتثبيت المساءلة أمام المواطنين كركيزة من ركائز السياسة العامة، لكي تكون نماذج مجتمعات المعلومات والإتصالات نماذج مفتوحة للتصويب والتحسين المستمر .

وفي تفصيل مجتمع المعلومات الذي يطمح إليه أصحاب الإعلان، ويساجلون أنه هو الموازي للمجتمع الذي تنشده القمّة الرسمية، ثمة تركيز معمّق علي العدالة الإجتماعية والتنمية المستدامة (القضاء علي الفقر، العدالة بين الجنسين، أهمية الشباب، محو الأمية، وضع حلول مستدامة لحاجات المجتمع التكنولوجية...)، وعلي حقوق الإنسان بوصفها ركيزة أساسية لمجتمع المعلومات (حرّية التعبير، الحقّ في الخصوصية، حقّ المشاركة في الشأن العام، حقوق العاملين، حقوق المرأة والطفل وذوي العاهات والإحتياجات الخاصة، وحقوق الشعوب...)، وعلي الثقافة والمعرفة والمجال العام (التنوّع الثقافي واللغوي، التعليم والتربية، وسائط الإعلام، المجال العام للمعارف الوطنية والعالمية، البرمجيات والبحث، حقوق المؤلف...)، فضلاً عمّا يسمّيه الإعلان البيئة التمكينية ، أي الأبعاد الأخلاقية، نظم الحكم، الديمقراطية، والمساءلة...).

نحن، في عبارة أخري، أمام قمّتين واجتماعين وفلسفتين. ليست هذه مفاجأة بالطبع، كما أنها أقرب إلي تحصيل الحاصل عند المؤمنين بأنّ الفجوات بين العوالم، أي بين الأغنياء والفقراء وأقلّية التخمة وأكثرية الجوع، لا تعدّ ولا تحصي من جانب أوّل. كما أنها، من جانب ثانٍ، تدور حول وقائع قاتلة مثل نسبة الوفيات اليومية، جوعاً أو مرضاً أو تصحّراً أو كارثة طبيعية، هنا وهناك في العالم الفقير الشاسع الواسع (قرابة 1.2 مليار آدمي يعيشون بأقلّ من دولار واحد يومياً، ومرض الإيدز حصد العام الماضي أرواح 22 مليون نسمة، محوّلاً 13 مليون طفل إلي أيتام)، أكثر إلحاحاً وخطورة من وجود فجوة رقمية بين قرية معلومات سويدية وقرية في جنوب أفريقيا لا تعتمد في اتصالاتها إلا علي هاتف واحد يتيم.
ولكننا، في البُعد الثاني الهامّ للهوّة بين قمّتين واجتماعين وفلسفتين، أمام هيمنة إنتاجية تكنو ـ برمجية لشركة واحدة إحتكارية، هائلة وعابرة لكلّ القارّات وكلّ الحدود، هي ميكروسوفت. لا أحد من المشاركين في القمة، من رؤساء الدول إلي ممثّلي الشركات والهيئات المعنيّة بتكنولوجيا صناعة وتناقل المعلومات، سوف ينبش أياً من الأسئلة المسكوت عنها: لماذا ميكروسوفت فقط، تقريباً؟ ماذا لو انهارت ميكروسوفت، ليس مالياً فحسب (وهذا احتمال وارد دائماً كما تعلّمنا أخلاقيات البورصة)، بل تكنولوجياً أساساً، بفعل اختراق تكنولوجي قاتل، أو بتأثير هجمة فيروسية لا تبقي ولا تذر؟ أيّ مجتمع معلومات بعد ميكروسوفت؟

وثمة شعار طريف، ولكنه عميق المغزي في الآن ذاته، يختصر المعركة بين ميكروسوفت الإحتكارية، ومنافسيها المتزايدين المعتمدين علي تسويق البرمجيات المفتوحة، يأخذ صيغة سؤال يغمز من اسم بيل غيتس، ويقول: ما حاجتنا للبوّابات Gates في عالم بلا سياجات؟ أمّا المغزي فهو مأزق النظام الرأسمالي ذاته، واقتصاد السوق تحديداً، في تنظيم شكل راقٍ من التعايش التنافسي السلمي بين مختلف منتجي تكنولوجيا المعلومات، ثمّ بين مختلف مجتمعات المعلومات استطراداً.

وللمرء أن يتذكّر هنا أنّ المعركة القانونية الشرسة التي اندلعت قبل سنوات بين وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من عشرين ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة)، ضدّ بيل غيتس وميكروسوفت لم تنته تماماً، لأنها ببساطة بالكاد بدأت علي الصعيد الأمريكي، في انتظار انتقالها كالنار في الهشيم إلي أربع رياح الأرض. ولم يعد المرء بحاجة إلي اقتباس حُجَج المناهضين لأخلاقيات ميكروسوفت في التنافس الحرّ علي السوق، لأن تلك الحجج باتت تصدر عن ممثلي الشرائح الأعرض للضمير الأمريكي، يسارآً ووسطاً ويميناً (من نوام شومسكي، إلي رالف نادر، إلي دانييل بيل...)، والشرائح الأعرض لقوّة العمل الأمريكية، وربما للقسط الأعظم من فلسفات الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة. يكفي التذكير هنا أن هذه المعركة سوف تشكّل بصمة الأيام العسيرة القادمة من أزمنة الرأسمالية الكونية، وأزمنة العولمة (الوحشية الهوجاء مثل الرحيمة المتمدنة)، وأزمنة افتتاح القرن لا كما حلم الفرقاء الكبار الذين صنعوا منعرجات القرن السالف. ثمة، في النهاية، دلالات كبري في أن تهبّ الرأسمالية ضدّ واحد من خيرة أبنائها البرَرة، وضدّ واحدة من كبريات معجزاتها ، لكي نقتبــــــس أسبوعية الإيكونوميست العليمة بأسرار الآلة الرأسمالية.

ومفيد في مناسبة قمّة المعلوماتية، وطريف في سياقات تطوّر الكون الرأسمالي عموماً، أن توضع تلك المعركة في واحد من سياقات التنظير الفلسفي لنهاية التاريخ المتعدد الأقطاب، وولادة الإنسان الرأسمالي الظافر بوصفه وريث التواريخ وخاتم البشر أجمعين. سياسة ما بعد التاريخ هي اقتصاد مبطّن، كما اكتشف فرنسيس فوكوياما، و جميع المسائل السياسية تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً . لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، يقول فوكوياما، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الإجتماعية، ولا يمكن فهمه علي نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها. ههنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الإجتماعية (أو الإجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيـــــادي الأخري مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابــي أو التقني.

وأن يركب المواطن الكوني عباب محيط المعلومات الكونية (لكي نستخدم التعبير التقني السليم Navigate في رطانة الإنترنت) أمر يشكّل ثقافة اجتماعية وإجتماعاً ثقافياً في الأساس. وأن يشتغل الفتي ـ المعجزة بيل غيتس علي احتكار وسيلة الإبحار هذه أمر يعني احتكار الإجتماع الثقافي أوّلاً، قبل احتكار الإجتماع الإقتصادي والإستثماري والتكنولوجي والعلمي. ومن جانب آخر، أليست معركة وزارة العدل الأمريكية ضد ميكروسوفت لا تدور فقط حول احتكار قوارب الإبحار في عباب المعلومات (ثم الثقافات والحضارات والفلسفات)، بل أيضاً حول إغلاق جميع الورشات الصانعة لتلك القوارب، لصالح الورشة الوحيدة العملاقة التي تحمل لافتة ميكروسوفت؟ ألا يبدو وكأنّ عوالم المعلوماتية، وليس مجتمعاتها وحدها، مضطرة إلي الخروج من حدود الدولة الواحدة، وكذلك من تحالفات الدول شرقاً وغرباً، لكي تدخل في انقسام العالم بأسره إلي ميكروسوفت في قطب أول، وكلّ ما عداها فـــي قطب ثان؟

وما الذي سوف تنقذه قمّة المعلوماتية: إحتكار التكنولوجيا، أم اجتماع المعرفة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى