الثلاثاء ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
الإستغراب
بقلم حسن عبادي

كل شي فرَنجي برِنجي

تحل هذه الأيام (25.09.2003) ذكرى وفاة المفكر الراحل إدوارد سعيد (من أهم أعماله: الاستشراق، مسألة فلسطين، تغطية الإسلام، بدايات: القصد والمنهج، العالم والنص والناقد، الثقافة والإمبريالية، متتاليات موسيقية، الموسيقى والأدب ضد التيار، موسيقى بلا حدود، سيرته الذاتية:"خارج المكان" وغيرها من مؤلفات تُرجمت لعشرات اللغات وبيعت بملايين النسخ).

إدوارد من مؤسسي الدراسات ما بعد الكولونيالية ومن أبرز الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدب، أثار ضجة عالميّة عقب إصداره كتاب "الاستشراق" (عرّفه قائلًا: إن لفظ الاستشراق لفظ أكاديمي صرف، والمستشرق هو كل من يدرس أو يكتب عن الشرق أو يبحث فيه، وكل ما يعمله هذا المستشرق يسمى استشراقاً) الذي تناول فيه دراسات الاستشراق الغربية المتخصّصة في دراسة ثقافة الشرقيين وربط تلك الدراسات بالمجتمعات الإمبرياليّة وأعتبرها منتجًا لتلك المجتمعات ووصف الاستشراق الغربي بعدم الدقة والانحياز:"تحيز مستمر وماكر من دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربية والإسلامية"، فيراه مبنيًّا على التمييز المعرفي والوجودي بين الشرق والغرب ليصبح أسلوبا في التعامل مع الشرق من أجل الهيمنة والتسلط عليه. يؤكد إدوارد سعيد أن معظم الدراسات الأوروبية للشرق كانت ذات منحى عقلاني غربي تهدف إلى تأكيد الذات بدلًا عن الدراسة الموضوعية معتمدًا وسائل تمييز وأدوات هيمنة إمبريالية، وخاصة أنه لدى الغرب رؤية نمطية للشرق في الفن والأدب من منطلق منظورهم الاستعلائي القائم على أخذ الغرب كمعيار ونموذج أفضل.
رأى إدوارد سعيد الاستشراق "بأنه أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة عليه".

من الجدير بالذكر أن الكتاب أثار ضجة إعلامية من أكاديميين ومفكرين غربيّين وعرب (ومنهم صادق جلال العظم ومهدي عامل) على أكثر المستويات العالمية والدولية شمولاً وبأسلوب عابر للقارات والثقافات والقوميات واللغات لم يسبق له مثيل، وما زال يثير الجدل، وله تأثيره الواسع في مختلف وجوه الحياة الأكاديمية، والثقافية، والإعلامية في العالم. أثّر على العلوم الإنسانية كالأدب والنقد الأدبي والأدب المقارن وعلم السياسة والاجتماع والتاريخ والجغرافية والدراسات النسوية والفنون وغيرها وحفّز العاملين في حقل الاستشراق على إعادة النظر لميدان الدراسات الشرقية - أهدافه، تاريخه، مناهجه، نظرياته، أحكامه ومستقبله.‏

من المؤسف أن بعض النخب العربية وغيرها من الشرقيين حاولت استيعاب واستبطان الأفكار الاستشراقية الغربية وتذويتها مما أدى إلى ظاهرة "الإستغراب" فتحوّل مثقّفونا من أصيل إلى وكيل وبدأ هؤلاء "المستغربون" باستنساخ الصورة الغربية عن المجتمع الشرقي ليبدو فيها المواطن الشرقي بشعًا ومنغلقًا ومتخلّفًا - سعياً إلى إرضاء المؤسسة الغربية النُخبويّة وأكبر مثالٍ على ذلك الروائي الهندي سلمان رشدي وكتابه آيات شيطانية، الروائي الأفغاني خالد حسيني وروايته عدّاء طائرة ورقية، وكاتبات خليجيات كرجاء الصانع وروايتها بنات الرياض. نرى ظاهرة غريبة وعجيبة يميل فيها الشرقي، وخاصة في محيطنا، إلى اعتماد أدوات النقد والقياس والمقارنة الغربية متناسين، لجهل وسوء اطلاع بثقافتنا وحضارتنا العربية والشرقية، والتشبه بالغربي لنيل القبول والرضى عنه والنياشين، والاعتماد على مجموعة صغيرة جدًا من وكالات الأنباء الأجنبية التي ينحصر عملها في إعادة بث الأنباء باتجاه العالم الثالث، حتى حين يكون ذلك العالم هو النبأ وانطلاقا من كونه مصدرًا للأنباء. وكذلك شأن مثقّفينا وباحثينا الذين يلجؤون إلى مصادر غربية "مُعتمدة" لأبحاثهم وإصداراتهم ورواياتهم حول شرقنا فأصبح العالم الثالث، والعالم الإسلامي بشكل خاص، مستهلكين للأخبار والمصادر والأفكار الغربيّة، ومنطقهم "كل شي فرَنجي برِنجي"، ولأول مرة يصبح العالم الاسلامي يعلم عن ذاته ويتعرّف عليها عبر صور وتاريخ ومعلومات يصنّعها ويسوّقها الغرب، فنكتب له عنّا ما يستسيغه وما يرضيه مما يزيدنا تشويهًا.

في السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة خطيرة حيث هيمن الفكر الغربي على الشرق فبات وكلاؤه، من كُتّاب وأكاديميين وباحثين وفنانين وجمعيات أهلية، يكتبون ما يستسيغه الغرب، بعيدًا عن الواقع، لا بل تشويهه، ليطيب للقالب الغربي مما جعلهم يستغنون عن مستشرقيهم لأننا نسوّق لهم البضاعة التي يريدونها وتروق لهم بسعر زهيد، وكذلك هو حال وكلاء التغيير المحليين من "مثقفين" و"جمعيات المجتمع المدني" صاحبة الباع الطويل في أنسنة الاستعمار وترويج مفاهيمه وتنميط الفعل ورد الفعل العربي، منذ دخول الارساليات الدينية الى الشرق وحتى يومنا... وإدوارد سعيد يتقلّب في قبره حسرة، لما آل اليه مثقفونا!!

هذا "الاستغراب" أثار حفيظة إدوار سعيد وأدى به لإصدار كتابه "تغطية الاسلام" الذي يعتبر، وبحق، أكثر صوت فعّال في الدفاع عن الاسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الامريكية وفي الغرب. يحاول في هذا الكتاب رصد النظرة الحديثة الغربية للعالم الشرقي ويصل إلى قناعة ونتيجة حتمية أن التغطية الاعلامية للإسلام مليئة بالمغالطات وبعيدة كل البعد عن المهنيّة والموضوعية حيث تصور الإسلام كدين تُميّزه الكراهية الثقافية والجنسية والتعصّب العرقي، وذلك بناءً على تقارير جاهزة،سطحيّة، مُقولَبة ونمطيّة، مثلها مثل المؤسسات الأكاديمية، فإعلاميوها وباحثوها لا يجيدون ولا يتقنون اللغة العربية ويعتمدون على تلك المصادر المهيمنة المضادة للإسلام، التي تعرض، عمدًا، سلوكيات وأراء فرديّة ليس لها علاقة بحقيقة الإسلام لتشويهه وبغرض الحفاظ على الهيمنة الغربية لتأطير النظرة الدونية للمسلمين، وساعدت سطوة وتقنية الإعلام الصهيوني والامريكي على العالم عمومًا والعالم العربي خصوصّا من تبني وتثبيت أفكار هذا الإعلام على الجميع لتصبح تيّارًا مركزيّا مسلّما به.
آن الأوان لنصرخ صرخة إدوارد سعيد إلى الغارقين في التملّق والنفاق لأدوات الغرب الفكريّة والبحثيّة والنمطيّة: كن أنت وذاتك وآمن بنفسك وبقدراتك، إبنِ عُشّك خارج القفص لتتحرّر من تلك العبوديّة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى