الأربعاء ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم عز الدين عناية

لاهوت التحرير والوثنيات الجديدة (ج.2)

نص: ميكائيل لوفي∗

ثانيا: إعمار الكون وتحديات الوثنية الجديدة

خلال العقود الأخيرة، دشّن لاهوت التحرير ورشات عمل جديدة، بتناوله بالتحليل مظاهر اضطهاد المرأة، وأشكال العسف والميز المسلَّطة على تجمعات الزنوج، والسكان الأصليين؛ كما ضمّ إلى تلك المسائل تحديات التنوّع الثقافي والتعددية الدينية والحوار بين سائر المعتقدات، فضلا عن المسألة البيئية. مستهلا عمله، بوضع الليبرالية الجديدة محل نقد لاهوتي وسياسي، باعتبارها الشكل الجديد الرائج في أمريكا اللاتينية لنظام مضطرب داخليا ألا وهو الرأسمالية.

حيث لم يقتصر النقد، الذي وجهه لاهوتيو التحرير إلى نظام السيطرة السائد على المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية؛ بل شمل أيضا المجال اللاهوتي. فقد بدت الرأسمالية، ولا سيما في شكلها الليبرالي الجديد، من منظورهم، شكلا من أشكال الوثنية. سوف تتلخص هذه المقاربة، وللمرة الأولى، في مصنّف من إعداد "قسم الأبحاث المسكونية" (D.E.I.) التابع لِسان خوسيه بكوستاريكا، والمنشور تحت عنوان: "نضال الأرباب. أوثان القهر والبحث عن الإله المحرِّر"، الذي سيلاقي صدى واسعا. ظهر المؤلف سنة 1980، وجرت ترجمته إلى ثماني لغات. وجهة النظر المشتركة التي تقاسمها الكتّاب الخمسة –هوغو آسمان، وفرانز هينكيلامار، وجورج بيكسلي، وبابلو ريتشارد، وجون سوبرينو- تم عرضها في المقدّمة. يتعلق الأمر بقطيعة جذرية مع التراث المحافظ والرجعي للكنيسة، ذلك التراث الذي عرض "الإلحاد"، منذ قرون، -وهو ما كانت الماركسية الشكل الحديث من ضمنه- بمثابة العدو الأكبر للمسيحية:

"فليست المسألة المحورية المطروحة اليوم في أمريكا اللاتينية الإلحاد، أي المسألة الأنطولوجية التي تطرح وجود الله (...)؛ بل تتمثل المسألة في الوثنية، في عبادة الآلهة المزيفة لنظام الاستغلال. (...) حيث يتميز كل نظام من أنظمة الاستغلال بهذا الشكل تحديدا، أنه يخلق آلهة وأوثانا تضفي قدسية على الاضطهاد وتناصب الحياة العداء. (...) فعملية البحث عن الإله الحقيقي في هذه المعركة للآلهة، تقودنا إلى رؤية للأشياء تنزع نحو الصدام مع الوثنية، والرفض للآلهة المزيفة، والأوثان المميتة، وأسلحتها الدينية التي تروّج للموت. فالإيمان بالله المحرّر، ذلك الذي يكشف عن سرّه في نضالات الفقراء ضد القهر، هو ما يكتمل بشكل حاسم بنفيِ الآلهة الزائفة... فيغدو الإيمان من هذا الباب نقيضا للوثنية".

سوف تكون هذه الإشكالية موضوع تحليل معمَّق ومستحدَث في الكتاب المشترك والمميز لكل من هوغو آسمان وفرانز هينكيلامار المعنون بـ"وثنية السوق. أبحاث في الاقتصاد واللاهوت" (1989). هذا الطرح الهام هو الأول من نوعه، في تاريخ لاهوت التحرير، المنحاز ضمنيا إلى معركة مناهضة النظام الرأسمالي، المصنَّف في عداد الوثنيات. ذلك أن العقيدة الاجتماعية للكنائس لم تمارس، في مجمل الأوقات، سوى نقد أخلاقي للاقتصاد "الليبرالي"، أي الرأسمالي؛ في وقت يملي أيضا، بحسب تأكيد هوغو آسمان، توفّر نقد لاهوتي صرف، يفضح الرأسمالية باعتبارها دينا زائفا. ولكن في ما تتمثل الروح الوثنية في السوق؟ وفق هوغو آسمان، تبرز في اللاهوت المتلحف بالمعيار الاقتصادي ذاته، وفي الممارسة التقوية الوثنية اليومية أين يتجلى "الدين الاقتصادي" الرأسمالي. كما تبرز في المفاهيم ذات الطابع الديني، التي نصادفها في أدبيات "مسيحية السوق" -مثلا في خطاب رونالد ريغن، وفي كتابات التيارات الدينية للمحافظين الجدد، أو كذلك في مؤلفات "لاهوتيي المؤسسات" -مثل مايكل نوفاك- التي لها وظيفة تكميلية. فلاهوت السوق، منذ مالتيس وحتى آخر وثيقة صادرة عن البنك الدولي، هو لاهوت أضحوي متعسّف: يقتضي من الفقراء أن يضحّوا بحيواتهم على مذبح الأوثان الرأسمالية.

كان لأعمال "قسم الأبحاث المسكونية" التابع لِسان خوسيه بكوستاريكا، تأثير فاعل على المسيحيين الذين يشغلهم الهمّ الاجتماعي، حيث ألهمت جيلا جديدا من لاهوتيي التحرير. مثلا، يعرض رجل اللاهوت الشاب، جونغ مو سونغ، وهو برازيلي من أصل كوري، في كتابه: "وثنية رأس المال وهلاك الفقراء" (1989)، رؤيةً نقدية جذرية من منظور أخلاقي ديني للنظام الرأسمالي العالمي، حيث تجبر مؤسسات -مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- ، بموجب الدَّيْن الخارجي المشطّ، ملايين الفقراء في العالم الثالث للتضحية بحيواتهم على مذبح "السوق العالمية"، الذي بات بمثابة الإله الجديد. وبما لا يتسرب إليه شك، كما يؤكد سونغ في كتابه التالي: "اللاهوت والاقتصاد" (1994)، لا يتعلق الأمر كما هو الشأن في الوثنيات القديمة، بمذبح مرئي، بل بنظام يقتضي تضحيات بشرية باسم الإكراهات "العينية"، و"العلمية"، المدنسة، وعلى ما يبدو غير الدينية.

على مدى السنوات الأخيرة تضافرت الأعمال النقدية لليبرالية الجديدة، في الأوساط الدينية للاهوت التحرير، مع انتقادات المسألة البيئية. كان رجل الدين ليوناردو بوف الرائد في هذا المجال. وكما نعلم، فقد أُنهك الرجل بالموانع التي تَسلّطت عليه من روما، أكان عبر الطرد أو بموجب ما لحقه من حرمان، مما أجبره على مغادرة التنظيم الفرنشيسكاني وهجران الكنيسة، لكن ذلك لم يحل دون متابعة نشاطه كلاهوتي كاثوليكي.

غير أنه مع مطلع العام 1990، ستشهد مسائل البيئة اهتماما متطورا لديه، وسيطرح ذلك ضمن روح صوفية ذات منزع فرانشيسكاني، وضمن سياق نقدي جذري للنظام الرأسمالي. سوف يكون ذلك موضوع مؤلفه: "كرامة الأرض. البيئة بين صرخة الأرض وصراخ الفقراء"، وموضوع العديد من الأبحاث الفلسفية، والأخلاقية، واللاهوتية. وِفق ليوناردو بوف، لقاء لاهوت التحرير مع قضايا البيئة هو نتاج معاينة، تتمثل في أن "نظام الهيمنة الذي يعتمد تكديس الثروة والتنظيم الاجتماعي هو المنطق نفسه الذي يقود إلى استغلال الطبقة العاملة، وإلى نهب الدول أيضا، وبالتالي إلى تدهور الطبيعة". وبهذا يأمل لاهوت التحرير في بلوغ قطيعة مع منطق سير هذا النظام، وهي قطيعة جذرية ترمي "إلى تحرير الفقراء، المضطهَدين والمنبوذين، ضحايا شره تكديس الثروة الموزعة بطريقة غير عادلة؛ وإلى تحرير الأرض، المتضررة الكبرى جراء النهب المنظَّم لثرواتها، وهو ما يهدّد التوازن المادي والكيميائي والبيولوجي للكون بأسره". تنطبق ثنائية الاضطهاد/التحرير على الطبقات الواقعة رهن السيطرة والاستغلال، وعلى الأرض والكائنات الحية في آن واحد.
في مؤلفه "أخلاق الحياة" الصادر سنة (2000)، يرصد ليوناردو بوف توازيا بين كافة أشكال الظلم، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهي جميعا متأتية جراء العنف المسلَّط على العمال وعلى الطبقات المحرومة، وجراء الإجحاف الحاصل في الوسط البيئي، والذي هو عنف ضد الطبيعة، ضد الهواء، ضد الماء، بما يهدّد بإتلاف سائر الكائنات الحية. المصدر المشترك لذلك الحيف وهو البراديغم الرأسمالي الغربي، الذي يجد تعبيره الحالي في الليبرالية الجديدة وفي "دِين رأس المال"، دِين إضفاء الطابع الوثني على البضاعة، مع معابدها (البنوك)، وإكليروسها (الممولون)، وعقائدها ولاهوتها (المتكون من رجالات الاقتصاد). البديل هو عالم بيئي اجتماعي، والذي كان شيكو ماندس –مؤسس تحالف شعوب غابة الأمازون، الذي اغتيل من قبل كبار الملاكين سنة 1987- أحد رواده. فقد أدرك أن العنف الاجتماعي المسلَّط على الأهليين والمزارعين، والعنف البيئي الموجَّه نحو الغابة، يخضع كلاهما إلى الدوافع نفسها، ذلك العائد إلى التطور الرأسمالي المفرط. فالمعيار الجديد للحضارة ينبغي أن يتأسس على أخلاق الحياة وعلى التضامن الكوني.
نجد مقترحات مماثلة في أعمال جونغ مو سونغ أيضا، تذهب إلى أن "النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي ليس فقط ظالما، بل اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا لا يُطاق". فإتلاف أنواع بأسرها وهلاك ملايين من البشر في الدول الفقيرة، هو بالنسبة للإيديولوجيات المهيمنة، "ضريبة إلزامية للتطور الاقتصادي الذي يسمح بتحقيق شره الاستهلاك اللامحدود". وبالتالي، فمهمّة اللاهوت هي في نقد وثنية السوق وفي فضح أسطورة التقدم، التي تفضي في الآن إلى التضحية بالحياة البشرية وإلى تبرير ما يحصل من ضرر بالوسط الطبيعي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى