الأربعاء ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

مصحف أمّ ابراهيم

ولو كانت أكبر منه عمراً يراها صبية..

ولو كانت مليئة القدّ يراها رشيقة..

ولو كانت مقلّة في إطلالاتها على الشرفة يراها مُلفتة لو أطلّت.. بل وجذّابة تجذبه فيسترق النظرات إليها

ولو كان لا يعرف اسمها.. يكفيه اللقب الذي يسمونها به (أمُّ ابراهيم )!..

ولو كان بنوها يتراكضون في الحي ويرمون الكرة على شبّاكه فيخرج إليهم وينهرهم بكياسة فلا يرتعدون.. ويكيل لهم الرّجاء تلو الرجاء فيتضاحكون.. حتى تخرج هي إليهم وتكبح جماح شيطنتهم.. عندها سيعتذر لها ويقول دعي الصغار يلعبون

تدير ظهرها وتبتسم له خِفية ، وتعِدُ البنينَ بعقابٍ لن ينسَوه عندما يعود أبوهم
والأب يغيب أياماً – بحسب ظروف عمله – ولو عاد فسيحلّ الصمت في ذلك البيت.. ولن يلعبَ أحدٌ بالكرة ولن تخرج تلك الجارة إلا لتنشر غسيلاً ويراها من مكمنه وخلف ستائر نافذته..
كان طالباً في كلية الطب ومستأجراً لغرفة في حيِّ المزّة القديمة.. والأحياء الشعبية في دمشق حميمية متداخلةٌ بيوتها وكأنها بيتٌ واحدٌ كبير وعديدُ الغرف.. وكأنّ السكانَ –على بساطتهم - عائلةٌ واحدة يسمعون ما يمكن سماعه من خلف الجدران.. ويشمّون رائحة الطبيخ من مطابخهم المفتوحة.. ويدقّون بابه أحياناً ليذوق شيئاً مما يغرفونه له من لذيذ صنائعهم.. فالشابُّ وحيد ولا شك أنّه مدمنٌ على المعلّبات والوجبات السريعة..وأكياس قمامتك وبقايا طعامك تكشف ما تأكله.. وكلّ شيءٍ مكشوفٌ هناك وحتى ثيابك معروفة من شريط غسيلك

زوجها كان كالوحش يزيده طولاً ووزناً.. ولو..وكان يستصعب أن يتخيّلها بين يديه..

ولو كان الزوج شرطيّاً في حرس الحدود ،ومرهوب الجانب في الحي فلا يدوس له أحدٌ على طرف إلا ذاق الويل.. ولو.. فكيف بك تتلصّص على زوجته يا دخيل الحي؟

ولو.. ولو

ولو تكدّست كل تلك المقدّمات كتوطئةٍ لما سيأتي.. ولو كثُرَت الحيثيات كعراقيل، يشعر بأنّ له نصيباً منها وما ذلك الزوج إلا شريكاً له بها والشراكة يجب فضُّها أو إعادة تقاسمها.. هو هكذا دائماً تحلو في عينه أشياء ليست له كأيِّ حاسدٍ يتشهّى ما للغير فيسعى لمزاحمته
اهتمامُه بها غدا يشغل حيّزاً من تفكيره.. ولا يدري لماذا؟

لماذا يميل للنساء اللواتي يكبرنه سنّاً ويرى فيهنّ ضالّته؟..قد يكون السبب طفولته التي ترعرع فيها كرفيقٍ أوحد لوالدته في زياراتها ،وقد يجلس بحضنها أو تتناقله النسوة بين أحضانهنّ كلعبةٍ محببة.. يسعد بأحاديثهن ويغفو عليها.. وكم عادت به محمولاً إلى البيت تغطيه سترة أمِّ سمير أو شال أمِّ أمير.. وتمسح أمُّه بقايا أحمر الشفاه عن خدوده قبل أن ينام وإن نسيت فيصحو صباحاً وبقايا الحمرة قد صبغت مخدّته.. كلّهن يقبّلنه واعتاد أن يدير خدّه مستقبلاً بَوسَاتهنّ.. يعشق عطر النساء مهما كان رخيصاً.. وما زال يشتريه بعد أن كبر واسترجل ، ويمسح ذقنه به بعد الحلاقة ويمسّد ببقاياه شعيرات شاربه الصغير
وجارته أعادت إليه تلك الذكريات فاهتمَّ بها.. وصارت من أولوياته

صار يتمنّى شيطنات ولديها بجانب نافذته.. عسى أن يراها تقمعهم وتخمد فوران ولدَناتهم ثم تتوعّدهم باللجوء إلى الشرطي الأب إن بالغوا وما ألقوا إليها أذناً.. والولد قد يكون مفتاحاً لأمه، وقطع الحلوى للصغار قد تكون طعماً لصيد السمكة الكبيرة.. وهكذا صار أحد الأولاد صديقاً له.. وصار يلعب في غرفته لا بل وصار تلميذاً يدرس عنده فيكتب له بعض وظائفه والأمُّ الشاكرة تطرق النافذة مطالبة بالصغير الذي حان موعد نومه لا زميلة له في الجامعة تثير اهتمامه ولا صديقة ولا حتى صديق.. والكتب الجامعية جافة.. مملة.. والواجبُ الدراسيُّ ثقيل إلا منها – جارة الرضى - تزور صفحاته فتخفّف وزرها

قال لنفسه مناجياً إياها:

 سيدتي.. أنت النموذج الذي حلُمْتُ به منذ صباي.. لكنني لم ألتقِ بكِ إلا الآن كموعدٍ مؤجّل في غيرِ زمانه.. أنتِ الصورة التي كنت أرسمُها عندما رسمْتُ أوّلَ امرأةٍ في مخيّلتي.. وكلُّ امرأة رسمْتها على أوراقي تشبهكِ.. كأني أعرفكِ منذ نعومة أظفاري.. ولكنّ القدر أخّر ظهورك في دربي وكان ما كان.. فيكِ الكثير من أمي مع إثارةٍ لا تفرضها الأم.. صوتكِ ومشيتك وبُحّة صوتك.. أنَفتكِ وعنفوان الأنثى الكاملة.. أمي عينها ولكنها مثيرة.. جذابة.. وهل يعشق الرجلُ أمَّه؟
هل تقمّصتِ شخصيتها بعد وفاتها (رحمها الله)؟..

وهل دبّت روحُها فيكِ؟..لست أدري.. هل أنت بديلتها؟..

والله يخجل المرء أن يعشق أمّه!

يشعر بأنها تحنو عليه وتبتسم كمن يرقُّ قلبها لمتسوّلٍ خجول.. تريد أن تعطيه شيئاً ولو كسرة خبز.. وتعلم المرأة بحدسها أنه مهتمٌ لأمرها.. فتنظر إليه تلك النظرة على سبيل الزكاة أو الصدقة.. ويريدها أكثر من ذلك مالي ولك يا أمّ ابراهيم؟..هكذا قال لنفسه وماذا تفعلين بين صفحات كتابي في هذا الليل؟..وطاولتي التي وضعتها قبالة شرفتك تنتظر خروجك.. ألم ينم أطفالك بعد؟..وزوجك الوحش أكيدٌ أنه استلقى بعد عشاءٍ ثقيل.. فلتخرجي إذن إليَّ قليلاً وأنت تعرفين أني أنتظر خروجك.. بثياب النوم على الشرفة تتثاءبين وتتمططين وتتأكدين من جفاف غسيلك.. أو لتسقين زرعتك الوحيدة كنبتة خضراء لا اسم لها وتتلفتين بطرف عينك نحو نافذتي المُضاءة.. وتتأكّدين من أنّ ابنكِ الشاب ما زال يدرس وقد يحتاج كأساً من الشاي..

فتأتين إليّ وتطلبين من الله ألا يضيّع لي تعباً.. وتقبّلين رأسي وتقولين:

 ألا تحتاج مني شيئاً قبل أن أنام؟

وأجيب:

 آهٍ...أنا أحتاج إليكِ أنتِ وأحتاج منكِ الكثير

رحم الله أمي وحنانها وليلاتها إذ تسهر معي.. وتصلّي في صباحات امتحاناتي.. وتنتظر عودتي لتضمّني في صدرها.. فتبكي معي إن أخفقت وتنتصر لنصري.. آهٍ..وأمّي – الأمّية - درست معي التشريح والفيزيولوجيا.. وفرحت لأوّلِ عملية جراحية قمت بها إيه يا أمّ ابراهيم.. أريدكِ أن تكوني معي اليوم ولو من بعيد.. محتاجٌ أنا لصدرك أكثر من ذلك الوحش الأكول وأكثر من أولادك النائمين مع غياب الشمس.

في اليوم الثاني.. تأخّر شروق شمسه وتأخّر طالبنا في نومه..وصحا منهكاً من هول أحلامه
لقد تأخر أيضاً عن دوامه وتأخر عن موعدها الصباحي عندما تسقي زرعتها الخضراء.. وبعد أن لملم نفسه وقرر الخروج سمع طرقاتٍ خجولة على باب غرفته.. تنحنح ليقول أنه هنا وأنه سيفتح للطارق (على طريقة ذلك الحي).. وكانت مفاجأته أكبر من كل توقّعاته
كانت أمُّ ابراهيم بعينها في بابه وتعلوها ابتسامتها الخفيّة.. قالت:

 رأيتك تُجهِد نفسك وتسهر وتدرس طوال الليل وكنت أتفقّدك من خلف ستارتي وسهرت معك وذكرتك في صلاتي الصباحية ،والله لن يضيّع لك تعباً.. خذ هذا المصحف هدية مني.. ضعه على مخدتك فيحفظك ويحميك.. واطلب من الله هداية لنفسك فيهديك.

من يومها.. ماعاد ينظر لأمِّ ابراهيم إلا نظرة الأمومة المقدّسة.. وكتب اسمها في أول صفحة من مُصحفِه.. ومازال ذلك المصحف المقدس معه وفي صدر مكتبته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى