الخميس ١٨ آب (أغسطس) ٢٠١٦
بقلم مهند النابلسي

مطاردة عبثية جامحة بين الوكالة وعميلها المتمرد «بورن»!

لكل اللذين يستهترون بسينما الأكشن أنصحهم بمشاهدة هذا الشريط المذهل تصويرا واخراجا، وهو لا يترك للمشاهد شاردة ولا واردة الا ويفسرها بشكل منطقي بصري مبتكر وممتع....هنا في هذا الجزء الجديد من هذه السلسلة يبقى العميل بورن بحالة هروب دائم من "السي آي ايه"، محاول كشف خفايا ماضيه الغامضة بعد ان فقد ذاكرته وتحول لقاتل محترف، ويحدث أن تطلع العميلة "نيكي بارسونس" (جوليا ستايلس) على قاعدة البيانات السرية الخاصة ببرنامج الاغتيالات أثناء توظيف بورن، حيث تتعاطف معه وتطلعه على الحقيقة وتتضافر معه بعد أن اطلعت على معلومات سرية حول برنامج الاغتيالات "الغير قانوني" وعلى طريقة توظيف وتأهيل بورن في بدايات عمله...وعندما يبدأ بورن بفهم ماجرى له، يحاول مدير الوكالة روبرت ديوي (الممثل المخضرم تومي لي جونز بدور لافت) بملاحقته وزميلته الهاربة، آمرا مديرة الرصد "السيبري" (الممثلة البارعة أليسيا فيكاندر بدور هيثر لي) بايجادهما فورا بغرض اغتيالهما.

الدهاء والمكر والرصد والملاحقة والمطاردة الجامحة للدراجات النارية والسيارات، ثم العراك الدائم والقنص والقتل هي الطاقة المحركة لهذا الشريط الدرامي الحركي الفريد، فالمديرة الذكية لي تنجح باقناع ديوي بالاتصال ببورن لاسترجاعه لحضن الوكالة، ويبدو وكأن مدير الوكالة الماكر قد وافق علنا، ولكنه يأمر عميله المطيع القناص الجامح بقتل فريق لي وبورن بلا تردد... يبرمج ديوي بمكر شديد لحضور مؤتمر عالمي لادارة نقاش تفاعلي مع المديرالكارزمي "آرون كالور" (رئيس شركة ديب دريم للاعلام الاجتماعي)، والتي سعى سرا لتمويلها لمصلحة الوكالة، وتفاديا لرفض كالور المتوقع لتدخلات الوكالة بعمل شركته، فهو يأمر القاتل المحترف ايضا لاغتيال كالور ولي لانه شك بولائها...ولكن بورن اليقظ دوما ينجح بدهائه وخفة حركته بالوصول لموقع المؤتمر باللحظة الحاسمة ليفشل الخطة، وينجح بورن بقتل حارس ديوي الأسمر الذي يرافقه كظله، ثم تقدم لي على قتل ديوي قبل ان يغدر ببورن...

بعد ذلك تنجح لي باقناع مديرالأمن القومي "أدوين راسل" بأن طرق ديوي الاستخبارية قد عفا عليها الزمن، وتقترح أن تعمل له باخلاص من داخل الوكالة، وتتعهد باعادة بورن المتمرد للعمل ثانية شرط ان تتخلص منه اذا رفض!

ثم تتصل لاحقا ببورن وتتعهد له بأن تصبح الوكالة نموذجية كما عرفها عندما انتسب لها، ولكنه يطلب وقتا لكي يفكر بالعرض، ثم يختفي فجأة تاركا لها دليلا حسيا مؤكدا عدم ثقته بها، ويبدو وكأنه اطلع على تسجيل مكالمتها الخاصة مع راسل، ويتمثل ذكاء السيناريو واضحا بطريقة اختفائه الغامض هذا وكأنه يمهد للجزء القادم من هذه السلسلة الشيقة...
ربما أحسن شريط أكشن للعام 2016:

أبدع كل من مات ديمون وتومي لي جونز باداء ادوارهما باسلوب استحواذي متمكن، كما أن طريقة اخراج وتصوير هذا الفيلم تؤهله لأن يكون ربما أفضل فيلم أكشن للعام 2016، وقد استمتعت كمشاهد ودون ملل بنصف دزينة من المطاردات المتنوعة اللاهثة في مدن كبرى عالمية كأثينا وبرلين ولندن وواشنطن وأخيرا بلاس فيغاس، كما لا يمكن اغفال مشاهد القتال الفردي الضاري الذي بدا واقعيا...أثبت هنا المخرج الفذ "باول جرينجراس" عبقريته السينمائية ذات الدلالة (وهو نفسه صاحب تحفة "كابتن فيليب" لتوم هانكس التي تتحدث بواقعية وتشويق عن القرصنة الصومالية)، كما أثبت مع مدير التصوير مهارة سينمائية خالصة في مجال "الأكشن"، مما يستدعي باعتقادي المتواضع قيام مخرجينا العرب المبتدئين والمخضرمين على حد سواء بمشاهدة هذا الشريط مرتين لكي يتعلموا كيفية انجاز مشاهد الحركة والقتال والمطاردات في المواقع المختلفة داخل المدن الكبرى، ولا يمكن اغفال براعة التصوير المذهل لباري أكرويد، وخاصة وهو يغوص داخل المدن والأزقة والساحات العامة والشوارع المكتظة بالمارة والسيارات...ولقد اندهشت حقا من قدرة أجهزة التصوير والرصد "السيبرية" الاستخبارية على متابعة الأهداف بمثل هذه الدقة، ولقد تطلب الأمر اقفال البوليفارد في لاس فيغاس لعدة ساعات وعلى مدى عشرة ايام، أما مشاهد الساحات العامة بأثينا فقد صورت في حقيقة الأمر في جزر الكناري، كما تم تصوير مشاهد بمحظة بادينغتون في لندن،ومشاهد اخرى في برلين وواشنطن.

الفيلم يفضح أساليب الوكالة الخفية!

لقد فضحت مشاهد الاستهلال بأثينا أساليب وكالة التجسس الأمريكية بطريقة استخدامها المتقن للفضاء "السيبري"، وانبهرنا كمشاهدين من قدرة كاميرات التصوير الموصولة بالأقمار الصناعية والانترنت في غرفة التحكم الرئيسية، وامكانية تكبير وتوضيح الأهداف بغرض تعقب المطلوبين وملاحقتهم لاغتيالهم، وقد كان مشهد اغتيال صديقة بورن الشقراء المتعاونة محزنا بعد استهدافها من فوق الدراجة النارية المسرعة...كما يكشف هذا الشريط الرغبات الأنانية الخفية لقادة الوكالة المتنفذين والمستبدين، ويلقي الضؤ على سعيهم الحثيث لتصفية المناوئن دون هوادة، وخاصة عند انكشاف الحقائق وانحسار التضليل (ولا ادري لما تذكرت قصة سنودن وفضحه لأساليب الوكالة وهروبه المتواصل بين عواصم العالم)، وقد تمثل التضليل هنا باخفاء حقيقة قيام الوكالة بتصفية والد بورن "جريغ هنري" (بدور ريتشارد ويب) والذي كان يعمل سابقا بالوكالة، وهو صانع البرنامج الحاسوبي "تريدستون"، بعد أن عمل لسنوات لمصلحة الوكالة، وقد تم التخلص منه لمعارضته الشديدة لفكرة تحويل ابنه "لقاتل روبوتي"...كما نلاحظ مكر الوكالة التجسسية العالمية، وكيف تسللت لمواقع التواصل الاجتماعي لرصد التفاصيل والتفاعلات الشخصية لجمهور المشاركين الضخم، كما لا بد من التنويه هنا لبراعة الايماءآت التعبيرية التي قدمها الممثل المخضرم تومي لي جونز بوجهه المتغضن الجذاب، وذلك عكس الأداء النمطي المتخشب للفنان المصري عادل امام بمسلسله الرمضاني الأخير مأمون وشركاه، كما برع بالحق الممثل فينسنت كاسيل بدور القاتل القناص الحاقد الجامح الذي لا يقف شيء في طريقه، والذي تم تعذيبه في بيروت من قبل بورن في الجزء السابق للفيلم، وبدا وكأن حقده اللعين هو الذي يحركه للقضاء على بورن، وحتى العميل الأسمر "آتو ايساندو" حارس ديوي المخلص الذي يلزمه كظله فقد ابدع بايماءته الحركية الصامتة.

بدا بورن في هذا الجزء مهزوما ويائسا أكثر من أي وقت مضى، ربما كحالة معظم العملاء اللذين تحولهم الوكالة لشياطين قاتلة محبطة بعد انتهاء ادوارهم، ولكنه بالحق قدم فصل جديد مثير في قصته المتسلسلة، ولابد من التنويه لقدرة هذا الشريط اللافت على كشف خفايا العصر الرقمي وزوال الخصوصية الانسانية، كما بالتطرق للجغرافيا السياسية وتقنية الأقمار الصناعية وعبث التكنولوجيا الرقمية والتحديات البيروقراطية والأجندات الشخصية للقادة المتنفذين...لقد قدم "باول جرينجراس" عملا مبهر لوجستيا، وانغمس بتصوير الفوضى العصرية قي واقع المدن العصرية الكبرى وكأنه يقدم فيلما عن تداخلات العولمة كموجة جارفة لا ترحم، ويبدو أن افلام الأكشن وحتى المميزة منها لا تدخل بازار الجوائز، الذي أصبح مستباحا للكثيرمن الأفلام المتواضعة اخراجيا بحجة فرادة الحبكة والأفكار وتطرقها لمواضيع جدلية تعجب لجان التحكيم ويصفق لها الجمهور المتحمس كما النقاد اللذين يهتمون كثيرا بحضور المهرجانات المتلاحقة وكتابة التقارير "المسلوقة" الهزيلة وقبض الاتعاب المالية والمياومات المجزية عدا عن السياحة المجانية والتفرد بالتكريم الشخصي المتواصل ...لذا فقد رشح هذا الفيلم المميز لثلاثة جوائز سينمائية فقط (تين شويس اوارد) لكل من الفيلم ومات ديمون والممثلة البارعة أليسيا فيكاندر وهو بالتأكيد يستحق هذه الجوائز ان حصل عليها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى