الاثنين ١٦ آذار (مارس) ٢٠٢٠

مغامرة السرد في «رواية قصة عشق كنعانية»

عبد المجيد صديقي

تنزع رواية" قصة عشق كنعانية"إلى أن تستمد من الأسطورة مضامينها الفنية ورموزها التعبيرية، وإلى أن تلقي، تبعا لذلك، الضوء من خلالها على الأصول العرقية والتاريخية والحضارية والثقافية المتقدمة للتآلف الاجتماعي الفلسطيني، وبآليات كتابة سردية تجترح بناءها الروائي الخاص بها الذي يسعف السارد في التعبيرعن واقع تاريخي قديم ومحدد، تعود جذوره إلى سبعة آلاف سنة، كما أنها كتابة سردية،إذ تروم إماطة اللثام عن هذا التاريخ الذي يتعرض للنهب والسطو والتشويه، مثلمايتعرض إنسانه وواقع حاله المعيش، آنيا، للإبادة والنفي والتدمير.فهي تغري القارئ،منذ شروعه في لمس صفحاتها الأولى ونبش سطورها، بمحاولة تصور وفهم هذا التاريخ، من جديد، وتدفعه لمشاركة السارد في كشفه وإنطاقه لهذا التاريخ،ولـ"إعادة زرعه" من جديد على امتداد بلاد كنعان.

وبعبارة أخرى، تعرض رواية" قصة عشق كنعانية" حالة سارد مثقف يسمى عمر، مهووس بالتحف الأثرية وبالنبش في مجاهل التاريخ. قادته قدماه، ذات مرة، إلى مغارة في غزة تسمى" النطوف" حيث تراءت له" عناة" ربة الندى والخصب في الثقافة الكنعانية، وأرشدته إلى مخطوطات مذهلة تدلل على وحدة كينونتيهما معاـ أي عناة والسارد ـ ليأخذ السارد قارئها معه" في( بانوراما ) كنعانية، تعود إلى أيام" بدء المعرفة، وخلق الحضارة الإنسانية، وكأنه يعيش معها في يومنا هذا."() لهذا، فبعدما احتفظ السارد بهذه المخطوطات كثيرا، وقرأها مرارا وتكرارا، كما قام بكتابة تعقيبات على حاشيتها، خاف عليها من التلف، خاصة وأنها كنز لا يقدر بثمن، فقرر إخراجها إلى العلن بأن قام بتسليمها إلى( دائرة الآثار الكنعانية الفينيقية الفلسطينية)التي قامت بطبعها وإصدارها في كتاب بعدما تأكدت من صحتها.
وحيث إن الأسطورة تختزن طاقة معرفية تكمن في ما تسخره من آليات وأدوات تساهم في خلق التفاعل بين مجموعة من الصور والتخيلات والمعتقدات ذات الأثر البالغ في التأثير، ليس على أفكار الناس وخطاباتهم وفقط، بل وحتى في حياتهم الواقعية. فالواقع أن استلهام الكتابة الروائية للأسطورة، يعد" إنجازا نوعيا للخطاب الروائي العربي"() تحقق بفعل تحولات حركة الواقع والثقافة العربيين معا، ومن خلال مكنة الرواية العربية المعاصرة على استثمار هذه التحولات.

والحالة هذه، تقدم رواية" قصة عشق كنعانية" عالمها الروائيبوصفها كتابة سردية روائية تروم إنجاز ما يسميه النقاد" حفريات روائية"،من حيث هي كتابة سرديةتحاول" استعادة مناخات البداءة الأولى، ومنجزات المخيال الشعبي الزاخر بما له أكثر من صلة بما هو أسطوري من مغاور النسيان التي تكاد تعصف به لصالح الأدب المستقر منذ عقود طويلة من الزمن."

فاهتمام السارد بالأسطورة يعزى، في الأرجح، إن لم يكن من الأكيد إلى كون الأسطورة" حفرية حية"ومكون ثقافي خصب،بل ومحل دائب لعمل لا يتوقف، وعادة ما نجد في الأساطير، حسب تعبير أحد الباحثين، حضورا بارزا لـ" مشاعر إنسانية جياشة، وأحاسيس وتصورات، ومواقف، تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود، وعلى محاولاته الفكرية الأولى، والتي تتضمن خلاصة تجاربه وماضيه، وكيف يستخرج من هذه التجارب منطقه ومفاهيمه وتعامله مع واقعه، وفق منطق خاص، ووفق مضامين أخلاقية، تمت صياغتها في قوالب أدبية ذات خصوصية، توارثتها الأجيال وعدلت فيها وأضافت إليها."

وفي سياقنا هذا، نورد تمثيلا لا حصرا، التعريف الذي وضعه" برنس سلوت"Bernice Slote"للأسطورة، فالأخيرة عنده:" صيغة سردية لتلك الرموز النموذجية ـ الأصلية بوجه خاص والتي تشكل معا رؤيا مترابطة عما يعرف الإنسان ويعتقد" . وهو تعريف، يضيف" بول ديكسون"،" يقول ثلاثة أشياء هامة عن الأسطورة: 1ـ أنها قصة، 2ـ أن الموتيفات التي تؤلفها هي نماذج أصلية، 3 ـ أنها تتضمن حقائق أو معتقدات."

وفي ضوء ذلك، إن رواية" قصة عشق كنعانية"تخاطب قارئها وهي تقيم علاقات أدبية بالأسطورةوبمكوناتها الفكريةوالسردية معا،مثلماتخاطبه، أيضا،باعتبارها كتابة سردية تستثمر جوهر مسؤوليتها الفنية في اعتماد الأسطورة شكلا" من أشكال الأدب الرفيع، فهي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها، وفي الثقافات العليا، جرت العادة أن يصاغ النص الأسطوري في قالب شعري يساعد على ترتيله وتداوله شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال، ويزوده بسلطان على العواطف والقلوب." ولأنها كذلك، فهي تروم ابتداع مضمون فريد يقوم على رصد خصائص ثقافية تتعلق" باللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر،"وسواها.وهو مضمون بقدر ما يعكس، في رواية" قصة عشق كنعانية"، الفلسفة الأدبية للثقافة الكنعانية في عصورها المتقدمة التي" تجسدت في الميثولوجيا التاريخية للإنسان" الفلسطيني، بقدر ما يصاغ ـ أي هذا المضمون ـ صياغة تشكل الأسطورة فيه أحد منابع هذه الثقافة العريقة، وهذا الموروث الحكائي لهذا الإنسان ولجذوره القومية.

وبهذا المعنى، نشير، إلى أننزوع السارد إلى استدعاء الأسطورة للتعبير سرديا عن الماضي الأنطولوجي القديم للكنعانيين يجد، كذلك،في"وجود الدولة الصهيونية على التراب الوطني، وما يشكله هذا الوجود من خطر وتهديد مستمرين، وجرح غائر في الكرامة الوطنية"()العربية مسوغا سرديا للإبانة عن تصدي الرواية العربية لهذا الخطر المستمر وإعادة روايته. وهو" انوجاد" لكيان دخيل لا يتنازل عن قضم كل شيء. يقول السارد عنه في بداية النص:" هذه الجهة التي تعمل على أن يكون كل شيء لها، يسمونه اليوم" شريك استراتيجي" يشتريه هذا" الشريك الاستراتيجي" بعشرة دولارات، تماما كما يشتري كل أشيائنا بعشرة دولارات."
وإذا كانت، عبارة" شريك استراتيجي"، في سياقنا هذا،ترتبط بمنطق البيع والشراء والصفقات/ الصفعات، فهي توحي بإعادة تعريف وكتابة جديدين للتاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلا، فضلا عن كونها، عبارة تتضمن، والحالة هذه، خطوطا عامة توحي بتصميم هندسي لمبنى سرديدائري ومتراكب الطبقات، تتحول الأسطورة خلاله إلى شكل روائي حديث، علاوة عن ما يبديه من مظاهر، تتيح لنا أن نلاحظ أسسه القائمة على عملياتالتقابلبين"بعض الثنائيات المفاهيمية(...) الجوهري ضد النسبي، والبدائي ضد الحديث، وغير الواقعي ضد الواقعي."

وأحسب أن هذا التقابل الذي يغدو انقلابا هو ما عبر عنه السارد "عمر" في الفصل الأخير المعنون" تعقيب"، بقوله:" تصور أنني اكتشفت هذه المخطوطة، التي تبدأ أحداثها وتنتهي في غزة، في هذه الأيام التي يشهد فيها أطفال غزة المروعون أبشع هجمة وحشية في التاريخ، تندرج تحت مسلسل إسكات التاريخ الفلسطيني، إذ صار قطاع غزة المسجون في أكبر جيتو في العالم، بلا بوابات للتنفس منذ قرون، تتكالب عليه تقنيات الدول العظمى(...)لتقنع العالم بأن المسكت الفلسطيني المقتول هو القاتل، ولكنهم في كل محاولة ظالمة يبوؤون بالفشل المخزي، فتحيا فلسطين من جديد."

وعليه، فإذا كان السارد قد اختتم عالمه الروائي بهذه النهاية التي لا تكتفي بإيهام القارئ بواقعية اكتشافه، فهي كذلك تعود به ـ أي القارئ ـ إلى بداية النص، ليس لإعادة قراءته وفقط، بل لينفتح مرة أخرى علىالمنابت التاريخية والجذور الميثولوجية لصروح هذه الحضارة الكنعانية.هكذا، يعود بنا السارد، إلى بدايات الخلق والتكوين، كما تستحضر المرحلة التي تمتد من الألف العاشر إلى الألف السادس قبل الميلاد، والتي تعد، حسب الدارسين، مرحلة هامة في تاريخ الإنسانية، كما أن التحولات الجذرية والحاسمة التي تمت خلالها، يقول فراس السواح، قد" نقلت الإنسانية من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والزراعة وتربية المواشي (...) وقد كانت نقطة انطلاق هذه التحولات مجموعة من الصيادين واللاقطين التي بدأت تدريجيا بالخروج من كهوفها والتجمع في وحدات قروية صغيرة شبه مستقرة أخذت شكلها الثابت مع مطلع الألف التاسع قبل الميلاد في منطقة فلسطين وغور الأردن، حيث ظهرت أولى القرى ذات البنية الحضرية المكينة، فيما يدعى بالحضارة النطوفية التي نشأت وتطورت مستوطناتها المستقرة الأولى قبل ظهور أية دلالات واضحة على إنتاج الغذاء."

كما يشيرالدراسون، كذلك، فيمقاربتهم تراث هذه الحضارة إلى أن الملاحم الأسطورية تحتفظ بسجل ثري لحضارات منطقة الهلال الخصيب في كل من بلاد الرافدين وسوريا ولبنان وفلسطين خلال هذه الفترة وما بعدها، ملاحم يعتبرها "سيد القمني"" صدى لواقع حقيقي حدث فعلا." و تساوقا أيضا مع الكنز المذهل للمدونات الكنعانية التي تم العثور عليه والذي يلقي الضوء أيضا" على أصول ميثولوجيا الخلق التوراتية،" وهي ميثولوجيا تقوم على كتاب مقدس BIBLE وضعته جماعة تنتمي إلى ما عرف بالقبائل الآرامية، فقد تعددت أسماؤها"، كما عرفها التاريخ باسم العبريين، وبني إسرائيل، وشعب الله المختار"، نزحت إلى بلاد كنعان حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، ونجحت في التسلل إليها والاستيلاء على تراثها، بل وتهويدهمستثمرة في ذلك خطة محكمة طويلة النفس، خطة تنتهز تضعضع ممالكها المتفرقة، وتقوم على توظيف الدين، بصفته عملة ذات لمعان براق ورنينمغر، بعدما هضمت تراث المنطقة وأديانها وتمثلتهما، فأعادت صياغتهما معا، بما يخدم مصالحها التاريخية آنيا ومستقبلا.
واستنادا إلى ما سبق ذكره، اختارت رواية" قصة عشق كنعانية" أن ترصد لحظتين خالدتين:" هما تشكل الأسطورة كونها قصة تروى، ثم اندراج هذه القصة في ميدان الكتابة" الروائية.

وهكذا، نتابعساردها وهو يعمدإلى بناء سرديمفتتتعكسه عتبات/ عناوين فصوله الخمس والعشرين، والموزعة على مائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط، والتي تحمل أسماء آلهة (الرب بعل، عناة، هيكل الإلهة يم، شمس، موت)، وأماكن طبيعية ومقدسة(غزة تهاجم البحر، أورسالم، جبل الزيتون، صخرة الهيكل، دار الكتاب)، وأسماء أشخاص (الملك الكبير، دانيال في بيت سان، راعويل وناحال)، وأحداث( أهل الكهف، الطوفان العظيم، عودة الأمير بعل)، و ثقافية اجتماعية( خليليات رائعات الجمال، الوصايا الكنعانية السبع، عرس يائيل وحورية)،كما تعكسها تخيلات السارد وتصوراته بصفته درس علوم التاريخ والأحفورات في جامعة حيفا، مثلما أنه يعشق إيصال عمره المعيش بماضيتاريخه العريق.

عبد المجيد صديقي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى