الخميس ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٦
د. صاحب ذهب .. كما عرفْناه
بقلم إباء اسماعيل

من صالونه الأدبي إلى أعماق ذاكرته

صالون د. صاحب ذهب الأدبي في ولاية ميشغن الأمريكية، كان البوابة التي دخلنا منها إلى عالم د. صاحب ذهب، لنكتشفَ كنوزه: " هذا الصالون وأمثاله، يساهم في بناء ركنٍ أساسي من الثقافة الانسانية على رأي ول ديورانت المؤرِّخ الأمريكي مؤلف قصة الحضارة . "إنَّ الحضارة نظام اجتماعي يعين الانسان على الزيادة من انتاجه الثقافي." أقولها باعتراف الجميع" قال د. جميل بيضون أحد روّاد الصالون الأدبي: " نحن نتعلم من خلال صالون الدكتور صاحب، ثقافة جديدة، بما نستمع إليه من ابداع شعري، أو أبحاث ثقافية.... ( ص.552 ) .

هذه الكنوز بدأت تتبلوَر وتتفاعَل مع الكتّاب والمبدعين من شعراء وأدباء وأساتذة جامعيين. يكشف أستاذ اللغة العربية تحسين بزّي أحد روّاد الصالون، تجربة د. صاحب ذهب الشعرية ويناقش بعض قصائده التي جاءت كحوار شِعري في صالونه الأدبي في كاليفورنيا من حيث تمَّ تأسيسه عام 1998، ليؤكِّد شعْريته وتفاعله مع الشعراء الآخَرين، كقصيدة " تأتأةٌ بتأتأة" التي ولدتْ بُعيد استلام قصيدة الشاعر الزجّال الفلسطيني سعود الأسدي. كما تناول قصيدة ثانية بعنوان " التحية" يرد فيها على الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة . وثالثة بعنوان " للحبيب الذي في ردائي" كتعقيب على ديوان الشاعرة الفلسطينية سلوى السعيد. وكانتا من روّاد الصالون الأدبي في كاليفورنيا. ووصَفه الأستاذ تحسين بأنّهُ " الشاعر الذي أضاع طريقه، هو الآن، ومنذ مايقارب العشرين سنة، يُكفِّر عن خطيئة هجره الشِّعر وشيطانه وشيطانته" (ص.578 ). وحين سألنا د. صاحب ذهب عما إذا كان يفكِّر بنشر ديوان شعر يجمع قصائده الكثيرة المتفرقة، نفى ذلك بالرد أنه لايجد نفسه شاعراً !!

وها نحن أمام كتابه "من أعماق الذاكرة" بطبعته الثانية الصادرة في بيروت عن دار منتدى المعارف. وكان لي شرف مراجعته في طبعته الأولى والثانية في مراحله النهائية. وأدركتُ أصالة هذا الانسان وتميُّزه في الدِّقة اللامتناهية التي يتعامل فيها مع اللغة العربية ومن حيث دقة التوثيق باستخدام المعاجم والمراجع اللازمة الى أن يصل إلى المعلومة التي يريدها. د. صاحب ذهب هو من الشخصيات النادرة التي عرفتها ، لجَمْعِه بين العلم والأدب، علم الاقتصاد وهو مجال تخصصه في الدكتوراه من جامعة القاهرة بمرتبة الشرف الأولى عام 1969. وهو أيضاً الحاصل على إجازة الحقوق من جامعة بغداد عام 1951، حيث نشرَ عدة مؤلفات في مجال الاقتصاد نذكر منها " البترول العربي الخام في السوق العالمية" و" اتفاقيات وعقود البترول في البلاد العربية. وفي مجال اصداراته الأدبية، نشرَ" تحقيق وتقديم فصول في أصول الفقه" لجدِّه العلّامة الشيخ محمود ذهب، وتحقيق " رباعيات الخيام" لأستاذه الشاعر صالح الجعفري" وهذا التنوُّع، يعكس مسيرة حياته التي رصدها في كتابه الأخير " من أعماق الذاكرة". فهديل ذكرياته وضعتني أمام عالَمٍ ثريّ من البشر والحجر والعلم والأدب والسياسة والاقتصاد والتاريخ والدبلوماسية والصدق والصداقة والغَرابة والمعاناة. مقالات وشهاداتٌ كثيرة كُتبتْ عن هذا الكتاب ونُشرتْ معظمها في الطبعة الثانية منه. د. صاحب ذهب كان حريصاً على توثيق كل المعلومات بشكل علمي ودقيق في الكتاب مايتعلَّق بالشأن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكان ينقلنا من أشد الأحداث خصوصيّة والتصاقاً بحياته إلى أكثرها شموليةً ووطنيَّةً . همُّهُ أن يكون شاهِداً أميناً على عصره. وهذا هو جوهر ذاكرته التي رصدها في كتابة. أمّا كيف نشأت فكرة كتابته للمذكرات، فيخبرنا أنه بدأ بكتابتها قبل خمس سنوات وكانت تأتيه على شكل خواطر من الماضي الذي عاشه لعقود. وتكوَّنتْ كمية كبيرة منها وبدأ بتجميع الوثائق والصور والملاحق. والتقى بصديق عمره الشاعر القدير د. عبد الحسن زلزلة وأطلعَهُ عليها حتى قبل تحويلها إلى كتاب مذكَّرات وقد تحمَّسَ د. زلزلة وشجَّعَهُ على نشرها ككتاب مذكّرات وأطْلقَ شهادتَه الهامَّة والمؤثِّرة على نفسية صديقه د. ذهب: " ...قرأتُ معظم مسوَّدات فصوله، وكان لي الحظ أن أسهِمَ بإعداد مقدِّمته، وأصدقكم القول بأني أكاد أقرأ فيه مسيرة حياتي الشخصية، بمفاصلها، ومراحلها، ومنجزاتها وإحباطاتها. لقد نهلنا سوياً من نفس المنبع، وعشنا في نفس المحيط، وكانت تجربتنا الحياتية متماثلة، في الحل والترحال، في الطموح والعذاب." ( ص.586) ليرى الكتاب النور بطبعته الأولى الصادرة عن دار الانتشار العربي في بيروت عام 2012.
أوّل ما يلفت نظر القارئ فيها هو تجلِّي شخصية صاحب ذهب الأدبية المتميزة . انطباعي الأول أنه أعادني بأسلوبة الأدبي الشيِّق على ما فيه من سرد قصصي ووصف دقيق رغم توثيق الحقائق بأسماء الأسخاص والتواريخ ، أعادني إلى أعمدة الأدب العربي بمصر تحديداً ليعكس مدى تأثره بالأجواء الأدبية في مصر أثناء دراسته للدكتوراه في الاقتصاد وأثناء عمله في الجامعة العربية. . تأكَّد لي هذا على كثرة ماكنتُ أقرأ في مطلع حياتي لنجيب محفوظ وطه حسين والحكيم والعقاد وغيرهم. لم أنسَ روح كتابات هؤلاء التي تغلغلت في فكر ووجدان جيلنا . عدتُ الآن مع هديل ذكريات د. صاحب ذهب إلى نفس الحالة من الأسلوب الأدبي الكلاسيكي المطعَّم بالفكاهة حيناً ، والحنكة اللغوية والأدبية حيناً آخَر ، والألم حيناً آخَر. وواقعية الأحداث وغِناها وثراء تجربته منذ نشأته في النجف الأشرف ومعاناته لتحقيق حلمه في الدراسة رغم صعوبة الظروف التي كان يعيشها ولكنه حققها بإصرارٍ وعزيمة وصبر وإرادة، فصار مثَلاً يُحتذى لكل الأجيال القادمة.. ومن معاناة طفولته يقول: "

وأذكر أنه خلال الصيف - في أوائل الاربعينيات- هبط وباء الملاريا على مدينة النجف، وكان الأهالي يسمونه بحق، "النوبة"، إذ كان ينتاب الضحايا بانتظام، وينتشر انتشار النار في الهشيم، ويفتك فتكا ذريعا بالسكان فيهّبون مستنجدين بالدعوات، ومتذرعين بالصلوات والقراءات، ومبادرين إلى تقديم النذور تخلصا من هذا الوباء الوافد وهم لا حول ولا قوة لهم عليه، ولقد انتشرت مجالس الدعاء والقراءات على قارعة الطرق ومفترق الأزقة.....

كنتE أحد ضحايا هذه الحمى، وأنا ابن الحادية عشرة، فقد قاسيت شدتها، واستشعرت مرارة شراب الكينين، وحين تعود بي الذكرى إليها أتذكر وصف المتنبي للحمى التي انتابته، وكأنه قد وصف الملاريا ذاتها وهي التي تزوره في الظلام، أراد أن يصفها بـ "النوبة"، الصفة التي يطلقها أهلنا عليها في النجف، فقد شخصها تشخيص الطبيب النطاسي، ووصف الآلام التي تلم به وهي تزوره بانتظام، كان يشفق منها ويترقبها على كره، وهي لا تتركه إلا بعد أن تمضه مضاًّ، وتوسعه بألوان من الآلام."

ويتحدث لنا عن دراسته في النجف الأشرف بكل واقعية وبساطة قائلاً:

" لم يكن في طفولتي ما يميزها عن بقية الأطفال، وأذكر حين دخلت المدرسة الإبتدائية تردد مدير المدرسة في قبولي بسبب صغر سني مقارنة ببقية الأطفال، كنت آنذاك أقل حيوية وأكثر خمولا من بقية التلاميذ، ولم أنجح في السنة الأولى، وقررت المدرسة أن أعيد السنة، ولم أكمل الدراسة الإبتدائية إلا في ثماني سنوات بدلا من ست. ثم بعد ذلك بدأت حياتي تتغير، فقد استهواني الشعر والأدب، متأثرا بما كنت أسمعه من أسرتي وبيئتي، حيث لغة الشعر والشعراء تكاد تطغى على كل لسان، وحيث المجالس الأدبية والندوات الشعرية تدخل أغلب البيوتات، وحيث الاستشهادات والحكم الشعرية ينطق بها الأديب المثقف ورجل الأعمال على السواء."

أمّا أهم أساتذة د. صاحب ذهب على الاطلاق والذي ترك أثره البالغ في تجربته الشعرية والانسانية حتى اللحظة فكان أستاذه الشاعر الراحل صالح الجعفري حيث نقرأ تفاصيل شخصية هذا الرجل والعلاقة الفريدة التي تربط التلميذ بأستاذه: " لم يكد يمر يوم من الأيام إلا ولي لقاء مع الجعفري، إما في المدرسة، وإما في منزله، أسأله وأستزيد منه، كان وقته يتسع لي، كما كان يتبسط في كل مسألة أدبية أو لغوية أعرضها عليه، ولا أذكر أنه استعان، وهو يجيب، بكتاب لغة أو بديوان شعر، وإنما كان في ذاته مجمعاً لمفردات اللغة، وديواناً للشعر العربي القديم. كان حلو الحديث، خلاب الأسلوب، يؤثر اللغة الفصحى دون تكلف"

ويدخل صاحب ذهب – التلميذ- جمعية الرابطة الأدبية التي تأسست في النجف عام 1932 ويحصل في سنته الثانوية الأخيرة على الجائزة الأولى في الشِّعر ضمن مسابقةٍ أدبية اشترك فيها طلاب محافظة كربلاء التي كانت تتبعها مدينة النجف آنذاك. وقد أبدى أستاذه الجعفري أيضاً ملاحظاته عليها لصقل موهبته وكان موضوعها ( الجامعة العربية) ..
ثم يدرس الحقوق في دار المعلمين العالية في بغداد ويتحدث عن معاناته وغربته وشظف العيش مما دفعه إلى التفكير بالعمل أثناء دراسته . وتستمر غربته الاختيارية فيتوجه إلى القاهرة . يقول: "

كانت المرة الأولى التي أسافر فيها خارج العراق وكان ذلك في آب (أغسطس) 1953

ويبدع بالوصف الأدبي الجميل للرحلة بالباخرة. يقول: " وظهرت الطيور في السماء، وهي تقترب من الباخرة حيناً، وتحلق فوقها حيناً آخر. عندها قال أحد الركاب، لقد قاربنا الوصول، وسأله آخر كيف ونحن ما زلنا بين السماء والماء، ولا نرى أرضاً. قال: " هذه الطيور قادمة من اليابسة وهي تباشير قربنا من ساحل الاسكندرية". وصدق الرجل، فقد بدأت تلوح معالم المدينة وبلغنا بعدها الشاطئ بأمان.

وصلتُ مدينة الاسكندرية، المطلة على البحر المتوسط، وقد سحرتني بجمال البحر، والكورنيش الذي يحيطها، وبالتماثيل التي تنتصب في ميادينها، وبالعمارات الشاهقة ذات الطراز الأوروبي القديم، ولم يخطئ من وصفها بأنها عروس البحر المتوسط. وبرغم سحرها وروعتها، فإني لم أستطع البقاء فيها إلا ليلة واحدة. فقد كان هاجسي أن أبلغ القاهرة غايتي وأهيء نفسي للدراسة، فاتجهت في الصباح الباكر الى القاهرة."

ويصادف في القاهرة شخصيات مهمة عاصرته في تلك الفترة وأثناء دراسته :

" وأذكر أنه بعد أيام قليلة من إعادته – ويقصد اللواء محمد نجيب - رئيساً للجمهورية، توفي أحد كبار القادة العسكريين، وأُقيم له تشييع رسمي حافل، وسار في مقدمة المشيعين محمد نجيب وعبد الناصر وأعضاء رسميون آخرون. ومرّ موكب الجنازة على شارع سليمان باشا باتجاه ميدان التحرير. كنت أشاهد عن كثب من الغرفة التي أسكنها، وتطل على هذا الشارع، محمد نجيب وعبد الناصر. كان مظهر عبد الناصر مظهر القائد المتّبع في مشيته وتعاليه، ومظهر محمد نجيب وهو يتحدث مع عبد الناصر مظهر التابع. ولم تمضِ بعد ذلك إلا أيام حتى أعلن عن إقصاء محمد نجيب عن كل مسؤولياته وإسدال الستار على ما يتصل به حتى وفاة عبد الناصر."

كان د. ذهب شاهداً على عصره ، وساعدته ظروف الغربة والتنقل وطبيعة عمله برصد العالم من حوله بدقة لامتناهية يقول:
"بيد أن التغير الذي طرأ على شعور الشعب المصري وتحوله الى معاضد ومساند للنظام الجديد لم يحدث إلا في عام 1956، حين أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس. كنت في ذلك اليوم قد عدت من بغداد ووصلت الإسكندرية عن طريق البحر من بيروت، حيث جئت لاستئناف دراستي للدكتوراه...

كان ذلك صباح يوم 26 تموز (يوليو). وشهدت الاستعدادات وإعداد المنصات للاحتفال في المنشية. ولم أحفل بها كثيراً، إذ لم أجد فيها ما يغريني بالبقاء تلك الليلة في الإسكندرية. فقد حسبتها احتفالاً سنوياً بذكرى الثورة شأنها شأن الاحتفالات الدعائية التي تقام هنا وهناك. لكن حين وصلت القاهرة، كان إعلان تأميم القناة قد ذاع وشاع وهزّ العالم بأسره. وأصبح هذا اليوم يوماً تعتز به مصر كل الاعتزاز ويتمسك الشعب الى التمسك بقيادة جمال عبد الناصر والاعتزاز بما أنجز...
ثم يستطرد " كنتُ في القاهرة حين بدأ الاعتداء الثلاثي (البريطاني، الفرنسي، الإسرائيلي) في أعقاب تأميم قناة السويس، وكنا نشهد الجماهير المصرية وهي تتجاوب وتتفاعل مع كل خطوة تخطوها قيادة عبد الناصر، وأذكر أنني ذهبت يوم جمعة الى جامع الأزهر – إثر الاعتداء الثلاثي – وفوجئت قبيل الصلاة بأن جمال عبد الناصر دخل الجامع، وهبّ المصلون وحناجرهم تعلو بالهتاف والتكبير، وما إن ارتقى المنبر وقال "الله أكبر" حتى علا التكبير كل جنبات الجامع الكبير. وبينما كانت الأصوات تتعالى بالدعاء والتكبير كانت الدموع تنهمر مشفوعة بالدعاء بالنصر هناك. قال عبد الناصر "لا بد من الصمود ومقارعة العدو وهزيمته". كان صوته يمتزج مع أصوات المصلين الذين امتلأت بهم أروقة الأزهر. وكان ثمة شيخ طاعن في السن يجلس بإزائي وقد رفع يديه الى السماء، ودموعه تترقرق، ويقول ناظراً لعبد الناصر "الله يحفظك يا ابني". حقاً كان منظراً لا أنساه، حين امتزجت الدموع بأصوات المصلين وهي تدوّي وتتعاطف مع عبد الناصر. وقد وقف هو شامخاً لم يتخاذل ولم تؤثر فيه جيوش ثلاث دول تريد أن تكسر من شوكة مصر وتعطّل عملية التأميم."

ويقرأ إعلاناً في إحدى الصحف المصرية يغير مجرى حياته وهو بصدد إعداد رسالة الدكتوراه . الإعلان يفيد بوجود وظائف دبلوماسية جديدة في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ، ويتقدم للمسابقة ويختار أحد المواضيع المطروحة وهو مشروع الوحدة الاقتصادية . يقول: " كانت إجابتي تقوم على تعذّر إمكانية تحقيق هذا المشروع بسبب تباين اقتصاديات البلاد العربية واختلاف مواردها، وبسبب اتخاذها أنظمة سياسية تختلف اختلافاً كبيراً فيما بينها، وقارنتُ ذلك بمسعى الدول الأوروبية – "دول البنيلوكس" – فبرغم تماثل اقتصادياتها تماثلاً كبيراً، وتقارب أنظمتها الديمقراطية، لكنها مع ذلك، ومع هذا ظلت حتى ذلك الحين (عام 1956) تواجه عقبات جمّة لتحقيق السوق الأوروبية"

وينجح بالمسابقة وترتيبه الأول من بين المتسابقين ليُعتبَر:

" في الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1957 أول عراقي يدخل الأمانة العامة للجامعة العربية من بابها الرئيس، دون توسط من وزير أو سفير كما فعلها غيري ممن سبقوني منذ تأسيس الجامعة، حيث الأساس في التعيين والوساطات الشخصية من مختلف البلاد العربية، بصرف النظر عن الكفاءة والتحصيل العلمي، وقد عرفت فيما بعد أن بعض من عُينوا من العراقيين الأوائل وغيرهم لم يكن يحمل شهادة جامعية، وكان الفضل حقاً لعبد الخالق حسونة حين بادر – لأول مرة – بجعل التعيين عن طريق الامتحان لأغلب وظائف الأمانة العامة."

ويعيّن في بادئ الأمر ملحقاً في دائرة البترول التابعة للإدارة الاقتصادية ويقول: " ومن الحق القول إنني تعلمت كثيراً من عملي في الجامعة العربية، وأفدت من اتصالاتي بكثير من المسؤولين، فقد عملت في دائرة البترول كسكرتير للجنة خبراء البترول، وكان مدير الدائرة محمد سلمان – وهو مهندس وضابط عراقي سابق وأخ للضابط العراقي محمود سلمان أحد القادة العسكريين لثورة رشيد علي الكيلاني عام 1941... "

فمن خلال عمله في الجامعة العربية ، والمؤتمرات التي تُعقَد في دول العالم ، التقى بشخصيات كثيرة مرموقة مثل الرئيس اللبناني شارل الحلو عام 1966 . ويكوِّن علاقات متميزة مع الشبيبي ويتحدث عنه وعن مكانته العلمية والأدبية. وقد عرفه وهو تلميذ في المدرسة :

" كان اسم الشيخ محمد رضا الشبيبي يطرق أسماعنا ونحن في المراحل الأولى من سن الشباب، حيث كان في مقدمة القصائد التي يتعيّن علينا قراءتها وحفظها في المدرسة قصيدته المشهورة في الوحدة العربية .

ويلبي دعوة شيخ الأزهر حينذاك الشيخ محمود شلتوت مرافقاً الشبيبي في زيارته وكان موضوع الدعوة تأليف مجلس إسلامي مؤلف من علماء مختلف الدول الاسلامية . ويلتقي بالشاعر المصري عزيز أباظة في منزل د. عبد الحميد بدوي - الذي كان عضواً في محكمة العدل الدولية-. وتستمر لقاءاته وزياراته مع الشبيبي ويرصد تاريخ السياسة في مصر كما شهدها آنذاك . ويلتقي بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعدة مناسبات ومنها هذه يقول: " جاء فؤاد الركابي الى مكتبي في الجامعة العربية وطلب مني أن أذهب معه لزيارة شيخ جامع الأزهر الشيخ محمود شلتوت لدعوته حضور عقد قرانه قائلا : أنتم النجفيون تجيدون أصول المجاملات الكلامية في مثل هذه المناسبات. وفعلاً ذهبنا الى شيخ الأزهر الذي تلقانا بالترحاب، وجّه الركابي الدعوة له، فلم يتردد في الاستجابة، وأحسست أن له علماً سابقاً بالزيارة، وأن ثمة اقتراحاً قُدم للركابي ليذهب الى شيخ الأزهر يدعوه للحضور وإجراء عقد القران، وربما تمّ ذلك عن طريق مكتب رئاسة الجمهورية بسبب ما لاحظته على شيخ الأزهر من ترحاب وعدم تردد في تلبية الدعوة ودون أن يسأل عن أية تفاصيل.

كان مكان عقد القران في منزل عبد الحميد السراج، نائب رئيس الجمهورية في عهد الوحدة بين مصر وسوريا، وهو بيت كبير، وحين حضرت الى المنزل قبيل الوقت المحدد، لاحظت عدداً من رجال الأمن بملابسهم المدنية خارج المنزل وداخله موزعين على موائد المدعوين مما جعلني أستشعر باحتمال مجيء عبد الناصر، وفعلاً بعد أقل من ساعة حضر عبد الناصر وقام الجميع احتراماً لوصوله، وبدأ يمر على الحاضرين وفيهم القليل من العراقيين والباقون من المصريين وبعض العرب اللاجئين. وصافحنا جميعاً، وكان الركابي يرافقه ويعرفه بالضيوف، ثمّ بعد ذلك تولى شيخ الأزهر عقد القران، ووقّع الرئيس عبد الناصر شاهداً على هذا العقد."

وحضر أم كلثوم في عدد من حفلاتها ورصد شخصيتها وأجواء تلك الأمسيات اللامنسية . وتعَّرف عن قرب أثناء أحد حفلاتها في أواخر الخمسينات على الشاعر أحمد رامي بمسرح الأزبكية .

ويرحل العلاَّمة الشبيبي الشخصية الأدبية والسياسية . ويلقي عضو المجمع اللغوي أحمد حسن الزيات محاضرة قيِّمة عنه مازال يحتفظ بها د. صاحب ذهب في مكتبته الصوتية . ويحصل أخيراً على درجة الدكتوراه في الاقتصاد عام 1956 يقول:

"كانت عودتي الى القاهرة في عام 1956 للحصول على درجة الدكتوراه، ولم يكن في ذهني أن أعمل بجامعة الدول العربية، وكان حصولي على هذه الوظيفة، رغم ما فيها من إغراء مالي واجتماعي، سبباً في تأخر استكمالي لرسالة الدكتوراه في المدة التي كنت أتوقعها. ذلك أن عملي في هذه المنظمة العربية لم يكن عملاً دبلوماسياً بقدر ماكان عملاً علمياً ممثلاً في إعداد الدراسات والتقارير الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في اللجان المتخصصة بتنسيق السياسات الاقتصادية وتسهيل انسيابية السبل والخدمات بين الدول الأعضاء ووضع الأسس الفنية والقانونية التي تكفل تحقيقها. يضاف الى ذلك تأليف كتاب "اتفاقيات وعقود البترول في البلاد العربية" بجزأيه الأول والثاني بالاشتراك مع الدكتور محمد لبيب شقير، ومراجعة ترجمة كتاب "اقتصاديات بترول الشرق الأوسط" لصالح مشروع ترجمة أفضل ألف كتاب في العالم"
كما يشهد عميد الأدب العربي طه حسين أربع مرات أثناء وجوده في القاهرة . ومنها هذه يقول: "

" أُتيح لي أن أشهد عميد الأدب العربي طه حسين أربع مرات، كانت المرة الأولى عام 1954، وهو العام الأول من وجودي في القاهرة. شاهدته يحاضر عدداً محدوداً من طلاب الدراسات العليا في أحد مدرجات كلية الآداب بجامعة القاهرة. لا أدري كيف دفعني الفضول وجرتني قدماي للدخول والجلوس بأحد المقاعد الخلفية الفارغة. ولم أمكث إلا دقائق ثم انتهت ساعة المحاضرة. سمعته يتهدج بصوته، وهو ينذر طلابه بعظائم النتائج الوخيمة، ويسرف عليهم بالتشديد وبالوعيد، إن لم يلتزموا بما طلبه منهم. وشعر الطلاب، وهو ينفذ ببصيرته إليهم، كأنه يبصرهم ويراهم رؤية العين المبصرة، حتى ملك عليهم أمرهم، وملأ قلوبهم بالرهبة والتهيب"

شخصيات تاريخية مرموقة عاصَرَها وتواصَل معها وتأثَّر بها وكتبَ عنها في مذكراته، بحكم دراسته وعمله وإقامته لسنوات طويلة في القاهرة وأسفاره وعمله في السلك الدبلوماسي. التقى أكثر من مرّة بالجواهري وطه حسين وأم كلثوم وجمال عبد الناصر والرئيس اللبناني شارل الحلو وأحمد أمين والشاعر عزيز أباظة والشيخ محمد رضا الشبيبي وغيرهم . هذا الانعكاس الفكري والثقافي يوازي وعيه للزمن الذي عاشَه، فرصده بأمانة وموضوعية وحساسية مرهفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى كادت هذه المذكرات تكون وثيقة للقارئ العربي في الحاضر والمستقبل. سيما وأنه وثَّق الكثير من الاحداث التي عاشَها من تاريخ العراق ومصر على وجه التحديد. يقع الكتاب في(610 )صفحة عدا الوثائق التاريخية والصور.
والتفاتتنا الأخيرة مع د. صاحب ذهب تتعلَّق بالمستقبل. سألناه عن مشروعه القادم فأجاب: " لديَّ مشروعان: الأول كتاب حول الأزمة الاقتصادية العالمية ، الموضوع الذي كتبتُ عنه بشكل مختَصَر في المذكرات. ومشروع كتابي الثاني يتعلَّق باقتصاديات الطاقة، تأثيرها ومستقبل الطاقة في الوطن العربي. ومن العلم إلى الأدب ، سألناه عن طموحاته فيما يتعلَّق بالصالون الأدبي في ميشغن فقال: " أفكِّر في تخصيص جائزة سنوّية لأفضل إبداعات أدباء المهجر الأمريكي وتبنّي طباعة الكتب الفائزة". ومن المعروف أنَّ صالون د. صاحب ذهب الأدبي بدأ منذ عام 1998 في كاليفورنيا ثم انتقل معه إلى ولاية ميشغن قبل حوالي ثماني سنوات. سألناه أيّ منهما حقَّقَ نجاحاً أكبَر برأيك فأجاب: " الجالية العربية في ميشغن حقَّقَتْ شَوطاً كبيراً من حيث النشاطات الأدبية والفعاليات الثقافية وهذا انعكس على نشاط الصالون الأدبي وأعضائه، بينما تميَّز الصالون في كاليفورنيا بالحوارات الشعرية بين الشعراء وهذه لم تكُن موجودة حتى في الرابطة القلمية."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى