السبت ٩ شباط (فبراير) ٢٠١٩
من كتاب الشعر النسوي العربي

هيام مصطفى قبلان نموذجا

جعفر كمال‎

خصوصية إحكام الذات:

يقول النفري: "لو أبديت لغة العز لخطفت الافهام خطف المناجل. ويتابع: البعد تعرفه بالقرب، والقرب تعرفه بالوجود، وأنا الذي لا يرمّ القرب، ولا ينتهي إليه الوجود*"

أتيت بفلسفة النفري الروحانية للتقريب من تناولي الصعب، لقامة شعرية تُثَبتُ اليقين إلى حيث ما يَردُ في المنظوم كالتجنيس والإكمال الذي ابتنى قدرته على مقبولية الآخر له، ومن أجل هذا أدرتُ مصارفة تحميل بحثي نحو إدراك التخصيص والموازنة والضبط، كما لو أننا نقرُ أن المنطق عند الشاعرة مؤتلف نحو إمالة حرف الألف الصوتي ومن ثم حرف الجيم المكثر في وزنها إلى حرف النون الساكن المقل في نظمها، وإِنْ بدت نصوصها متدانيةً في القليل منها، لكنها غير مختلة بحورها ورَوِيّها، بل مختلفة في ما سوف أكون مواجهاً لشاعرية ذو علم جامع.
يعتبر الشعر النسوي الفلسطيني بجواز القيم المُطَمْئِنَة غير ذي سعة ملحوظة كما هو الحال في البلدان العربية الأخرى، خاصة في العراق والسودان وموريتانيا والمغرب، وهذا ما دعاني إلى أن أبحث بعمق أكثر عن الاختلاف، لربما يكون حاصلا في معاينة المرتكز النقدي الفني له، وهو ما تَخَصصتُ به من وارد الكشف عن مجنسات الصورة الصوتية، بمناقحة الإدهاش الحاصل في مساحة بوح الشاعرة الذي أتاح الرؤية الضابطة لحركية المسار الشعري، وبعض زميلات لها حققن للحركة الشعرية الفلسطينية مكانة مؤثرة، خاصة في موضوعة المكان السياسي الذي كان وما زال سببا مؤثرا في شاعرية النسوة الفلسطينيات، أمّا الشاعرة هيام قبلان فتعتبر واحدة من اللاتي تربعن على منبر الريادة المعاصرة، وهي تمتع خلق الصورة الصوتية المركزة على اختلافها، حيث أنها جعلت من نصها يعلو متاعهُ ببلاغة المجاز الناظر، أو كما اسماه الشاعر الإنكليزي روبرت هيريك ب"المجاز الطريف*".

وعلى امتداد تاريخ الأدب الفلسطيني تلاقت مفاهيم قبلان الشعرية مع مجموعة من الأديبات كن قد تركن أثرا نافعا ومؤثراً في الحركة الشعرية العربية، مع أن البعض منهن لم يقمن أو حتى لم يلدن في فلسطين، وهن: فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي، روضة مرقص، آن ماري جاسر، نعومي شهاب ناي، وثريا ملحس، أمّا ما تبقى فتنصب كتابتهن بهاجس شاعرية الرجل، لذا أصيبت محاولاتهن بالتقليد تارة والارتباك والتنظير العسير في أحايين كثيرة، وإذا ما اعتبرنا مساقات الحركة الأدبية العربية تعيش حالةَ ضمور في نوعيتها، فهذا يؤثر على الحالة البنائية في خصوصية التكوين الخطابي عند المرأة، أي ما نعنيه بالغرق في التهويل والتعظيم المرتبك المشوش في ذاتية الأنا الأهم، أو الأنا النص. بينا نجد الشاعرة قبلان احاطت خامتها الشعرية بالمنْجَزَ المنظم لتطويع تراكيب قصيدتها بالمختلف النوعي، إضافة إلى كونها شاعرة مجيدة، فهي في الوقت ذاته روائية ناجحة اعتمدت أسلوبية المناقلة الوسيطة، فيما يؤاخي بين معنى وآخر بقرينه، كما عبر عن هذا العلوي اليمني.

لا شك أن الشاعرة التي تمتلك الطاقة التخيلية التحولية في شاعريتها، نجدها تجانس ملكة الاحساس المعنوي بطابعها الخاص، وهي تستشرق أنظمة بديلة تحاكي ثقافة الذات الشاعرة، وذا ما يتضح في تقارب تنظيم تواصلها الحيوي، بملقحة السياق اللفظي المعلن بصوته، وفي ذا إبانة تفضى إلى محاسنة اللازمة العفوية المنظومة في صورتها الحسيّة، مما يجعل المتلقي يتفاعل مع إفاضة منتج الشاعرة المقترن بالإيفاء الملبي لمظهرة التقنية الجامعة بين المضمون والشكل بآن، عبر توازن فني يعمق من بنية المنتج الوجداني الممثل للشكل الفريد في النص الشعري، لأن الربط الفني في ملهاة الحس يوحي إلى استنباط يُمتِع وحدة النسق المبتكرة. وهنا يدلنا الياس مرقص إلى: "أن التركيز الأساسي على أداة الفكر المادي التي تنتج الابتكار تجعل المبدع يرتاح على مخدات تجديدية صارمة*" في هذه المواصلة أجد الاستحقاق يدعوني إلى أن أضم الأديبة قبلان التي أثرت مستقبل الشعر الفلسطيني على نحو خاص، لتكون واحدة ممن سينظر إليها التاريخ بإعجاب، فتكون متممة ناجعة في منتدى كتابي "الشعر النسوي العربي"، وبهذا سعيت إلى المفيد أن أبحث مليئا في منتوجها الشعري البصير، بعد أنْ وجدته محلِّ حكم يفاعل الأصل الذي يبعد الكلفانية الموغلة في تقنيات منظومة المصطلحات المغلوب على طابعها بالإبهام، ومن أجل هذا ابتعدتُ عما سميَّ بشاعرات ظاهرة المنهج الشكلي أو التقليدي ذي الحصيلة الأعم من المتبضعات، ولهذا فقد تأخرتُ في تناول قبلان، من حيث السلطنة في شاعرية التدوير الناجز في أعمالها الشعرية على الخصوص، كونها ساقت المفاهيم النوعية إلى جواز فنيتها بواسطة:
أولا: تعدد واختلاف جواز مقبولية الصفة في ثبوت الجناس الأدبي.

ثانيا: نوعية الجناس المختار والمختلف في مقاصدها ومغازيها المتباينة.

ثالثا: الشكل المنعقد على صحة تعليل التصوف اللفظي، المفضي إلى انفتاح النص على ثقافات مستقلة تقارب مداخيل شاعريتها.

لتكون الحالة الشعرية غير معقدة في أعمالها، بل مرحباً بها من حيث القيمة المطروحة في سياقها التنويري الذي يمتع حقلها الفكري المبدئي، حيث وجدناها تحل في عيون الأشياء بِمُوصِفَهَا الوجودي، لتعلي من جماليات الموصوف بالكيفية المحصنة بعناية المنطوق المادي، بدون الميل إلى مفردات العواطف التقليدية "قلبي، روحي، عمري، حياتي، الخ"، فيكون الاختلاف عندها يتمثل اهتمامه بالجدلية المادية التي تعتني بمذهب العرفان الذي يظفر بمنطق مفهوم الوجد، من لدن إحياء رعشة التجلي الممتعة بألق التعابير الموحية، وفي الوقت ذاته تتسم قصيدتها بمعالجة الكونيات الوضعية الروحانية وتنغيمها بالمجاز الواعي لطبيعة الحالة، خاصة في منسوب البنية الفنية التي تهتم بمسار انزياح الصورة الناطقة بمعناها المحسوس من طيوفٍ تراسلُ الفاظاً تعاين ولادة الصوت الناطق في الصورة الجاذبة، لتبوح تشكلها المجازي حيث يشيء النحو تفننه وتصرفه كنفائس متباينة ومألوفة، كما فعل سلطان العاشقين ابن الفارض* في خلواته يناجي الروحانية المعشوق الدائم بمتخيله الرمزي "الرب" وقوله:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسـيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال مني مجهرا

كذلك اعجابي الأزلي بشاعرية كيتس وحساسيته * الميتافيزيقية المعبرة عن أعماله المثالية، المعبرة عن سرعة الاجابة عند الإرادة من غير أن يكون في نظمه خطاب يجري في انسياب الرومانسية.

ولأجل ما تقدم اختلفت الشاعرة الفلسطينية قبلان بتفرد أسلوبها التحويلي المترع بموهبة صافية الذوق، إلاَّ من استنباط شاعريتها المفتوحة على نشاط اختلاف الشعر في قصيدتها، ليكون رهصها الواحي يرشد إلى تشكيل الأنساب الرحمانية، المترجمة في حوارها المُحسن بين طاقة الذات الشاعرة، وبين الاستثناء الفذ الموزع في أداة الأساسيات الوجودية المعبرة عن مغنيها البنيوي. يقول: فرديناند دي سوسير: "إن البنيوية طريقة بحث في العلاقات، ومحاولة لاكتشاف القوانين الشاملة كالسياق والمُرسِل والمستقبِل في لغة تركيب تتحكم في الاستخدام الوظيفي حتى الصيّغ الشعرية*".

التحريض على نزاهة النص:

منذ زمن وأنا اقرأ وأعيد متابعتي في قصيدة قبلان المترعة بالإمتاع، وسردها الروائي شديد الغنى والخصوبة، وجدتها تتحكم بدقة متناهية بخصال فنيتها غير المنقولة، وغير المهذبة من هذا أو ذاك، وهذا يعني أن موصوفات تقنيتها الوجدانية تتطور من خلال وعيَّها المنظور، وهي ترسم حالاتها وبث أريج انتمائها إلى ولادة النص أياً كان جناسه، ولي أن أشير إلى أنَّ قبلان ازدهرت مفاهيمها الإيثارية على مستوى مساحة الأدب العربي، حتى أصبحت تلك الشاعرة والروائية تتمتع بمقعد متقدم أغلبه قبولا من الآخر، بعد أن أبقت على ديمومة اشتقاق أسلوبيتها الثنائية كمرجع معرفي تتعدد وقفاته نحو ملامسة الكلام من أصناف البديع، ولحقيقٌ بينات معيار نصوصها المنظومة بالإحراز والإتقان. وفي مثال هذا يدلنا الجاحظ في علم الكلام قوله: "هو المعيار في كل صناعة، والزِّمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه، والأروق الذي يعرف به صفاء كل شيء وكدره*"

إذن فلبيان الناقد متسع من الاطلاع على جهة الندرة في أدبها الخليق بالفصاحة اللفظية، لأنك إنْ كنت عارفا في جوهر المنظوم الشعري بعينين تجريان بعلم البحث والتدقيق في الفقه اللغوي، يفترض أن يكون التشخيص إيجابيا، خاصة في المنظور بما هو معلوم في علومها اللغوية، ومسراها التوحدي بين منطق الذات المجازي، ومنطق الذات المعنوي. مثل ما تساءل الفيلسوف سورين كير كجارد "من يكن الشاعر"؟ ثم أجاب: "أنه رجل شقي يخبئ في قلبه هموم عميقة، إذ قُدَّت شفتيه بحيث لا تصدران تنهداً وأنيناً، إلاّ على شكل أصوات متناغمة، إنه في ذلك لشبيه بالتعساء الذين يعذبهم السفاح، تجعل استغاثات وصراخ الضحايا تصعد منهم وتصل الجلاد، ليس على شكل نوح مهولاً إنما كنوع من الموسيقى الهادئة*" يبدو للقارئ الاكاديمي قراءة مستهجنة في مفهوم سورين كير تحليله للشعر لما فيه شيء من الغرابة، وقد يتساءل لماذا قدمتُ هذا الدليل لتحليل وجدته نافعاً، هذا لكونه يتسق ويتناص بالدعم لمفاهيمي النقدية، وهنا أعني التشبيه النسبي وليس المطلق، لأن البعض من الشعراء يعيش حالة انفصام قصوى مع شاعريته، حتى مغادرة ملاك الشعر له، ليعود إلى حياته العادية وأنا منهم، ولهذا أظهرتُ موقفي الإيجابي من مستقر وحي الشاعرة الفطون والمتخيل بصورتها المبتكرة، على اعتبار القيمة والنوعية بنظمها المحسوس، وهي تثبت صفتها الشعرية بصفة القارئ المتلقي الذي يفضل خيار التغاير، مع المطروح سواء أكان في مجزؤه أو في مطلقه.
تنتمي الأدبية هيام قبلان إلى التيار الثقافي التوليدي، المندفع نحو تحقيق معتقدات تنوير وإصالة البنية الاجتماعية المتحضرة بالولاء إلى التغيير في مصنفة الخلق، من خلال تركيزها على مفهوم استنباط يأتي بلغةٍ فطنة فيها وجهان:

أحدهما: كليّ الابتكار والاقناع.

وثانيهما – كليّ الخيار التنافسي.

فالأول: مادي مخلوق ذاتيا يتدخل في كل ما حولنا.

والثاني: متغير يقع خلف الإلهام المباح بتحدياته.

وهذا المتبني الفلسفي يستدعي من المبدع في كل تحولاته الانغماس في صيرورة الزمكان المعلوم حتى يكون النص معاصرا لكل حقب التاريخ على امتدادها، والفرق بين الحالتين "المكان" من جهة، و "التاريخ" من جهة أخرى، فالأول أصبح وعاءً للحالة الثانية، والثاني يثبت مكانة الأول على مر العصور، وهذا ما يدعو الكاتب أنْ يتخيّر من خلال قدرات الوعي المأثور المتعلق بأحوال المنظوم في حالة الولادة ببسط الألفاظ وصَوْغها وتنزيلها من الملقي على التلقي، حتى يجعل زمنه يملأ التاريخ مكانة جادة، تمثل الاختلاف في تحولها لتكون ثابتة وأزلية، كما هو الحال عند المتنبي والسياب والجواهري والفرزدق وأبي نؤاس. وآخرين كثر، وبهذا يكون التاريخ ميزانَ الكاتب أيا كان، على اختلاف جناسه الإبداعي، واستنادا إلى ذات المبدأ يجب على المبتكر أن لا يتناقض مع روح النص، بل يفترض أن يجعل منه مألوفا مبصرا لمتاعه، كمكانة النبض من روحه، حتى يرتبط نصه بالتاريخ ارتباطا يقوم على فاعلية أفكاره بواسطة ناتج معرفة لكل الأزمان.

المكانة والنوعية:

هناك مفارق كتابية كثيرة بين الشاعرة هيام قبلان وأخريات في الوطن فلسطين، ونحن في هذه الدراسة نتناول شعرها، وفي دراسة أخرى سوف نتناول روايتها، أمّا الفارق في الشاعرية العالية عند قبلان هي تلك الحساسية الولادة لمزيج له دعته الخاصة، كثيرا ما يمتلك مزية الوضوح الناجزة في علاقاتها مع الجو المحيط، وبالذات تفاعلها مع الحركة الأدبية الفلسطينية بشكلها الخاص من خلال مصاهرتها المعنوية مع العناوين العربية الفاعلة، فهي ومن خلال شخصيتها الأدبية المؤثرة في الوسط الأدبي العربي، لا تستجدي العطف أو الشهرة من قامة مهما توسعت قيَّمها الأدبية على الساحة الإبداعية بكل جناسها، سواء أكان ذلك التملق بواسطة الإغراءات الجسدية، أو بواسطة مدح الآخر بما لا يستحقه، بل هي اعتمدت على ملاذ ثقافتها وحماس وعيَّها وقدراتها الإيحائية، فكان انتاجها يؤكد سلطنة العرفان الأكثر تناغما بما أودعته المعاني في بصيرتها مع المتلقي. وبهذا الاستظهار يتسم التأمل ذوقا وكشفا خالصاً عن شاعرية أدواتها، لأنها جعلت من أسلوبها المعرفي عقيدة متماسكة تقوم على مفهوم دينامي يحاكي الذات، وكأنها تحث غرضها البعيد إلى ما بلغ غايته بما يُدرك تماهيه بكونه مقبولا، وفي هذا التخصيص يشارك الوعي المتحول إلى انفصام زمني معين، قد يطول أو يقصر ضمن زمنية الكتابة، ولا أقصد هنا بالانفصام "المَرَضي"، بل الانفصام الإبداعي الذي يأخذ الشاعرة بعيدا عن محيطها، بتأثير انسجامها مع شاعرية تأتلف مع ما يكون مشاكِلاً لها، بوازع إحراز مختلف يكشف عن متخيّلها الذي أقصاه فطنة، وأسماه كما يبدو التجلي الصوفي، يطابق الغرض المقصود من الجناس التخيلي التعبيري والجمالي الذي أُلِفَت تفاصيله، وحاله يحرر المبدأ النوراني المتألق في العقل المادي الملهم بإشراقات خاصة، ولكوننا نبين توحدها العارف فلنا في تأكيد شاعريتها متبنيان:

المسلك الأول: الخبرة المتراكمة في توليات المنظوم المبتكر من مطابقة حالته الخاصة.
المسلك الثاني: الاستقلالية المتماسكة، أي الوحدانية في حرية تأصل الخلق، ليكون هو الجزء المذاب في الكل.

ولأجل ما تقدم وجدتُ عالم قبلان يستخلص النكهة الشعبية بضربات فنية لغوية إيحائية، على نحو احتدامي ملموس، يحاكي منسوب المعنى في الصورة الصوتية المطلة بإيقاعها على السمع، مبتعدة عن توتر الموصوفات الشخصانية المعادة بلولبيات ركيكة، والعكس هو الصحيح، فجريان شاعرية قبلان مشهود بمنطقها المخصب بالفصاحة المطلة من ساقٍ يروي المتلقي رغبته المطلوبة، كوصل "لا يتمارى فيه منصف *"، ولا يقترب منه مسترذل، لأن تفاعل اصالتها يقين خصوصيتها العلمية، لا سيما في مجموعتها الشعرية الأخيرة: "لا أرى غير ظلي" كذلك يمكن القول أن التطورات المركبة بتحولاتها الطيفية توحي لأعمال تحتدم بالمرايا التي تعكس رشفة الخيال بواقعها المؤثر الوجداني، حيث يعطيك الوجه ما يوحي بالأطياف والاشارات إلى خصوصية قدرتها، خاصة تناصها مع سردية المكان عند سميرة عزّام، ربما يعود هذا التناص للمرجع المكاني. وهو ما يجري بالتشبيه في ملامسة تقنية الأرض "فلسطين"، كونه المحرك الواقعي للعاطفة الإنسانية بتجلياتها المقنعة، على أن وجود الغريب على الأرض الأم يشكل إهانة كبيرة للإنسان العربي عامة، وخاصة بفعل بقاء الناهب على الأرض، وطموحه الدائم بتغيير هوية المكان عبر تصورات كاذبة. وملخص القول فإنَّ أكثر السرديات في تاريخ الأدب العالمي تجعل من المكان هويتها، حيث نجد النص يتحول إلى عامل شد وايثار، يلقح المباعث الروحانية بعصمته الجارية على الزمن. وفي مطلقٍ يقيني فأن قبلان وسعت وأعلت من شأن الحوار المكاني، كونه يثير في نفسها الرفض، سواء أكان هذا الرفض ماثلا في نصوصها، أو في حياتها اليومية الغنية باللقاءات الأدبية التثقيفية، وهو ما جعل الشاعرة تحرر اشكالية النمط السردي والفني بواسطة إرشاد باحة الاحتشاد التقني، آخذة بلغتها من سيرورة طراز شخصيتها المنضبطة بوعيّها، إلى التكوين السلس على اللسان.

التخصيص والاصالة:

لا شك أن الإدهاش المُوَلِدْ لمصافي الذوق الشعري أو القصصي أو السردي له اعتباره الخاص عند المتلقي، حيث أنه ينقي خصائص المعاني، ويجعلها طيبة المجرى على النفوس، عندها تتضح الإبانة أعْدَلُها إنارة في فصاحة لغة وثقافة النظم، فيكون فهم الشاعرة مرتبطا بوعيّها ارتباطا عضوياً يجزل ويرسخ رشاقة المباني، فيكون المُؤَشْر في مراعاة التنزيل هو التناسب في التخصيص أرق، وعلوه في الاصالة أفوقُ، وهو ما يدل على أنّ الصورة الشعرية تستحكم وضعها الإيحائي، وكأنها تحاكي منزلة التقدير الإيجابي المعلن في الهوية الإبداعية، كقيمة أسمى تصاحب التدوير المبثوث في الإنجاز الأدبي الخلاق، الذي يفضي إلى إحكام فاعلية الاستسقاء الذاتي التأملي، وفقا لمعطيات الطبائع الخاصة، وهو ما يراعي تثبيت سلطنة تجليات الكاتب أو الكاتبة على ما يجري من أحداث يترجمها المجازي العقلي من حقيقة محيطه، إلى صور شعرية ذات تأثير مباشر على القارئ المتمعن، الذي سرعان ما يكتشف قدرة الكاتب على توظيف الحالات المجتمعية إلى صور تمثل المنزلة الإنسانية، وبهذا يقول كير كجارد: " ندرك أن هناك مخلوقات تموت لحظة الإخصاب، بالموت كذلك يرافق بكل فرح سورة اللذة*" إذن ففي هذه الخصوصية توضح الاختلاف على أن الشعر لا يموت إذا تخلص من النقصان والثقل الحاصلين في نظم المعاني، فتكون مساحة الشعر تستخرج متسع الصورة الحسيَّة من فضائها الثري بواسطة مخارج رشاقة الصوت المُدَوّر في إصالة المضمون.
من أهم الأسس التي ميزت هيام قبلان عن بقية "شاعرات" فلسطين هو إصالة نصها، ومعتقدها الصادق المثبت في غاياتها المحمولة على الوصل والفصل، الذي تشكل بمعيار أخلاقي يطابق فنية التقسيم، من حيث وعيّها غير المحدود في جوابات فسحة الواقع المعيون بظهور مصداقية النص من جهة، ومن جهة أخرى تلك المجازية التحولية في تأويل ناجز المبغى الماورائي في طبيعة تؤخذ لذاتها، أن تبسط وجدانيات الآخر الرمزي في وعيّها، سواء أكان حاضرا في الواقع، أو استخراجه من متخيلها المجازي المرسل، خاصة وأن قبلان تنوعت في الجناس الأدبي بين الشعر والقصة والرواية، وبهذا وجدنا أسلوبها الخبري يؤتي بما يقابل تلك الأجناس بسياق ينعكس على شخصيتها بالقيمة التحولية في الشكل والنوع، فلا أخال أن شاعرة وصلت المستوى الطارف الذي وصلته قبلان بعد أن طرقت أبواب المثالية في علم البيان، والمادي الخلقي من مصبات كنايته، وفي علم البديع جناسه، وفي علم المعاني جمع المستوحى بفصيحه، فلا غرابة إذا تبوأت الصف الأول بالغنى المعرفي في محتويات نصوصها، وهي محبوكة بوزن خالص تنوعت به موسوعتها المتداخلة المحتضنة شغف قدرتها الممتنعة بجوابات المدهش القيمي، كونها لم تقدم جناس النص كمظهرة للشهرة بين صحابها، بقدر ما وثقت التاريخ على أوسعه فيما انتجته من مآثر نوعية مثيرة للاهتمام ستكون خالدة بتأثير مضامين شعرها ورواياتها، أجدها لا تقل ذكاء عن نازك الملائكة أو عاتكة الخزرجي، أو ناهضة ستار في ملمسها الشعري.

المدخل إلى القصيدة القبلانية:

" لوركا".. ونبيذ الأشقياء
=
خبّأت وجه ( لوركا) في فنجان قهوتي
شربت رائحته حتّى النّخاع ...
في مدينة الضّياع يفتّشون يا رفيقي
عن ورق الصّفصاف
لون القهوة
غربة الوطن لا سطور الشعرية الأوروبية
نبيذ الأشقياء
ويرقصون رقصة الغجر ..

إذن لوركا وقبلان ونبيذ الأشقياء، لوركا الذي وضع بصمته على صفحات الزمان بحروف تقرأ بالإفاضة الملبية لقيم تؤديها المبادئ الخيَّرة، من خلال المرأى الجدلي بوازع حالته الفردية الخاصة اتجاه مجتمعه، وفي سياق هذا العنوان تدلنا الشاعرة على سرٍ بأنها تخبئ وجه لوركا في فنجان قهوتها، وبهذا فهي تعني تشبيه المبصرات بأوجه الاختلاف في صفة تقع تارة في نفسها، وتارة في حقيقة ثقافة جنسها الأدبي، وكأنها تحرك استنطاق التمثيل بمتابعة ما أجملته الرؤية بين النظم الباطنة والمقايسة الشكلية، بمحصول مداخل توظيف الرمز "لوركا" الذي نادته من بطون الزمن الخارجي، إلى المعاصرة الداخلة في الزمن المعيون، فكان هو ابتغاء الحاصلة على جهة الإسناد المجازي، يعني التشبيه في مفهوم المقابلة لأنه أصبح مخصوصاً، وبهذا فتوظيف الاستعارة يعني منظور البحث في المثبت للمشبه الموصوف، بواسطة معرفة ما إذا كان الإسناد محل اعتبار يقارب حقيقة الابتكار الحاصل في الفروق، أو بكونه خاتماً يسبر نظم الايحاء الزمني بين الأمس واليوم، لذا فهذه الإبانة نحصرها بالغاية التي دعت الشاعرة إلى أنْ تستدعي هذه الشخصية الحسية المتجسدة في ذهنية الشعراء العرب، حيث أنَّ النص المعاصر هو الزمن المقروء بحالاته التجريبية، في المكان المتحول في كل الأزمنة بدون التأكيد على مفهوم المطلق، لأن الخصوصية المتجسدة ب "لوركا" امتازت بالنسبية الجارية في أعماله على وجه التقدير، فكان لمظهرة الاستحضار حالة تذيع الإثارة في اِبتغاء دلالة حوار الشاعرة مع الرمز، حتى تصبح المناقلة واضحة بين مفهوم لوركا في الأمس، ومناداته من ماضٍ أصبح حكماً حاضرا في صحة فكرة النص المشار إليه بعلياء الرمز، ولا أخال أن قبلان عندما جسدت الماضي بالمستعار أرادت لأجله تحقيق المعادلة الشعرية بينها وبين لوركا المملوء بالحيوية، لكنها خرجت بصورتها الشعرية من واقع يستقصي طاقتها المعايَّنة في بنيتها التي استدلت إليها الشاعرة من بيان الموازنة الحسية وهي تستفيض في صورة لوركا.
وبخصوص التوليف الاشاري الذي لاقحته الشاعرة بفعل "خبأت" وهو فعل ماضي مبني على السكون تتصل به تاء الفاعل، فيكون الأثبات ظاهراً في دلالته، لأنها أساقت تاء التأنيث للتأكيد على الضمير أنا، بقولها: "خبأتُ وجه لوركا في فنجان قهوتي" في حال فالمفهوم الدلالي المبان في مضمون "أنا" أجاز للمحاسنة اللفظية بأنّ التشبيه أداة لجأت إليه الشاعرة واعدته منهجا استقرائيا، بعد أن وظفت الاستعارة على وجه التخصيص من أجل تحكيم التمثيل بالتأويل المعاين في حقيقة لوركا، وبهذا تكون قد أطلقت حرية المجاز الحيوي دخول المبالغة، وهي تشرب رائحته كرشفة من قهوتها المثبت بدلالته العفوية، ليكون الفنجان بمعيون الخيال هو وعاء القصيدة، وهو ما نسميه بالنص المجازي المتخَيّل، المعني بأنَّ المؤثر النوعي أصبح حاضراً سواء أكان في الإسناد في منظومتها الفنية، أو في التناسب الشكلي، وحتى لا يخترق لوركا مباءة الشاعرية عند قبلان، وجب أن تتبنى هي إنسانيات مضامين المبنى التقني. لكنها أكدت العكس من ذلك بقولها: "شربتُ رائحته حتى النخاع" "حتى النخاع". مَثَلٌ تداوله العرب منذ القدم، لكنه مَثَلٌ ضائم غير فصيح، على اعتبار أن الفصاحة هي من تحكم منطق الأمثال، لأنها استشهاد يحكم حل المشكلات، أو يثبت القصد من مزايا المحاسن فيما يختص بالقول المشهود، وهو ما يؤكد القياس في حالات التشبيه لحدث ينفع أو يؤذي.

إذا تمعنا جيدا في قراءة مهمة "النخاع" علميا نجده عضوا ذات سياق وظيفي واحد، ليس له علاقة بالإحساس العاطفي، باعتباره عضوا إدارياً مُلَقَنَاً، والعكس من هذا فهو يدمر العاطفة أكثر مما ينعشها، كون خصوصيته تنفرد بحركة الهيكلة الجسدية التي لا ترتبط بالميول الخيالية في شيء، وفي حديثنا عن القياس يدلنا على الوردي إلى منطق الكفاءة في النحو أي ملقحة الكلام ببعضه وقوله: "اشتهر أهل البصرة بأنهم قيّاسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأنا كبيرا في وضع قواعدهم، ثم يختارون من الشواهد ما يلائم تلك القواعد، وإذا وجدوا اختلافاً في القرآن لجأوا إلى التأويل والتعليل*" فإذا اعتبرنا أن نشأة قياس النحو في هذه العبارة بالذات خال من الثقافة العلمية وبلاغة الدلِّ، نميل إلى مفهوم الاحتماء بالمثل لتسويق وحدة النص بالرمز "النخاع" مع أنه يضعف المعنى، وتعتل بأثره المجانسة، فيبدو اللفظ يفيء غريباً في عوارض الكلام، وهو ما يدل على أنّ الايحاء الملازم لقبلان هو احِتراز شتت شاعريتها المتفردة بمتخيلها، مع انها لا تحكم ذاتها بالولاء إلى شاعر كبير مخضرم مهما أقترب منها أو أبتعد، ولهذا انعكس اسلوبها الأصيل إلى فطنة جعلت المضاهاة ملموسة في وجدانيات شاعريتها.

أبحث في فنجاني عن ليل لا يتصدّع،
وأصيح :( لوركا) من صادر للغريب أرضي؟
من سلب سرّي وصمتي،
وعلّق ضفيرة عصفورتي
على بيادر الحزن؟

الشاعرة تعرف جيدا لو حضر مستعيرها لكان حضوره أشبه بمزج الذات بالموضع، أي النداء الذي وجهته قبلان إلى لوركا، لأن مفاهيم الفكر عند الغريب الغربي تبحث في التَّوَاصف، وإذا كان لابد من الاجابة على سؤال الشاعرة نقول من باع الأرض. هم أهل الأرض بالتناصف مع المغتصب، بالمفهوم الدارج أعطيك الأرض أعطني الحياة، على اعتبار أنّ سلطة الفكر النموذجي أصبحت مفهوما سطحيا لا قيمة له، أمام الاصرار على التملك بالواسطة المعلنة، وبرأي قبلان فإن إشعاع لوركا يتمدد في زمنها فيشيع الخلاص، وتلك المناشدة يحكمها التمني. أمّا سؤالها المحير "من سلب سري وصمتي"! حتى لا يكون التنافر في عناصر الصوّر يؤثر على العامل النفسي، وجب على الشاعرة أن تضع السؤال خارج نطاق الخذلان، فلو قالت: "حررت سري وصمتي" فيكون اعلانا للثورة، لأن السرقة معلومة ولا تحتاج إلى سؤال سواء أكانت في السر أو في الصمت. في حين نجدها أجادت بعد أن استعارت البيادر لحزنها، تلك صورة استفاض فيها الخير "البيادر" بتوظيف نوعي في مفهوم الحزن المعبر عن "الإنسانية"، ولكي يكون الشعر ينساق بالصورة الحيوية القائمة على التضمين، وجب أن تكون المحسوسات المعنوية تثبت جوهر المعاني ببعضها، ومع هذه الجدية بقيت الشاعرة "تصيح" وكأنها تطالب لوركا بإدانة المحتل، لكن إذا حضر بماذا سيواجه المحتل أليس بالرفض القائم في الشعر؟ إذا كان المطلوب منه فعل هذا، إذن بماذا أفاد درويش أو معين بسيسو، أو سميح القاسم، أو توفيق زياد، أو إبراهيم طوقان، أو تميم البرغوثي، أو عبدالكريم الكرمي، أو الشاعرة نفسها؟ لا شيء، وقبل هؤلاء ماذا فعل كارل ماركس، وأنجلس، ومن ثم لنين، غير نظريات نامت في صناديق الأحزاب الشيوعية للحفظ؟ أمّا إذا كانت الشاعرة تطالبه بالشكوى من لدن مفاهيمه الحادة كونها لم تصالح الافتراض الواقعي كما هو، فهذا مقبول، لأن تأثيره الفني جعل من السلطنة الوجدانية وثيقة الصلة لارتباطها بالغرابة، فكان وما زال القارئ والناقد مطيعا له، لأن غرناطة تغنت به ومن ثم قتلته، ولو كان لأحد من شعراء الأندلس يجري عليه ما جرى للشعراء العرب من سجون وتعذيب واضطهاد وحرمان من الوظيفة، لوجدنا أن لوركا اعتزل الشعر وبقي محبوساً في شهاداته التي تنوعت.

لاشك أن القصيدة التي تتواصل بها قبلان تماهت ضمن وعي البحث عن العدل، في كل ما جرى على الأرض من صروف القضاء الذي يعتبره المحتل عدلاً، وعند العربي هو الحزن الذي يلف المكان بصمت الشاعرة المؤلم، فالأرض المصادرة بالنسبة للشاعرة تأويل لا ينفك عن طرح اسئلتها الباحثة عن دلالات المصير المبهم لشعب تشرد على بساط المعمورة العربية والعالمية، حتى الندب بقي يعبر عن انتهاك الحقيقة انتهاكا فضا، فلا اعتراف بحقوق شعب أصبح بلا هوية ولا مكان، فالاعتداء المستمر على ملكية الإنسان لأرضه ضمن حياة غير مستقرة، يقتضي إدانة من الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، حتى الفلسفة الإحداثية العقلانية التي تميَّزَ بها ديكارت لم تستطع أن تطور التأويل المنطقي القادر على وضع صيغ يطرحها أمام العالم لفك عقدة الاحتلال المستديمة، فبقيت فلسفته مجرد أحلام وتمنيات في قوله: "كلما شككت ازددت تفكيرا فازددت يقيناً بوجودي*" ولهذا فإن الوجود العنصري بمساعدة الدول العظمى يخلق زحفا ينمو ويتطور على حساب أصحاب الأرض الأصليين. ومن أجل هذا وجب على الفكر التنويري الحداثي غير التقليدي عند الشعراء العرب، وخاصة عند أدباء العراق وسوريا ولبنان ومصر وبعض من المغرب العربي، فهؤلاء مثلوا نشاطا وعيوياً، يمكن للإنسان الفلسطيني من خلال وعيه يمكنه استغلال هذا الفكر التنويري التطوري، الذي يتماهون به بتناصر يطرح رفضهم للكيان الغاصب أمام الرأي العام العالمي، لأن الفكر التقليدي اعتبر طرح الحقوق المعقدة كالقضية الفلسطينية تشكل وضعية انتهت بالتقادم، ولهذا فالأنصاف مضاعفة الرفض سواء أكان بواسطة الأدب أو الفن التشكيلي أو التواجد المباشر على الساحة العالمية لتوليد الاحتجاج بشكله الحضاري، لكنه وللأسف خمول المثقف العربي بقي يراوح في مكانه يردد الشعارات ذاتها، إذن لماذا نطالب لوركا بالوقوف معنا ما دمنا نتملق للمحتل عندما نحسد ديمقراطيته الغربية، أليس هذا هو العار بعينه؟

آتيك بفنجان آخر
أرتشف لون الورد
كي تصحو طفلة الرّماد
كي يزهر الّلوز،
وتورق الأرصفة
وفي ليلة الميلاد ينهض الموتى.

تتواصل الشاعرة وهي تختزل لوركا في فنجان قهوتها، لترتشف مضمونه حد الثمالة فتتوه فيه، وتارة تأتيه بفنجان آخر لترتشف اسمه بصورة الواقع الافتراضي، وكلتا الحالتين لا تتعارض لا من حيث الفكر المبني على المبادئ، ولا من حيث تصنيف التفسيرات اللغوية على أنها واضحة ومقنعة، بما يعتني بالطموحات المنجزة في مُساءلة معيار الذات، وكلاهما تجمعهما المواقف والرؤية داخل حومة الذكاء المتقارب بالأفكار المطروحة في ثقافة لوركا، فأصبح التوظيف معبرا عن سجال يحرك الإدراك الذي تجاوز المفاهيم العامة، وخاصة تلاقي النظر في المبنيات على وجه التشبيه أن العقل يمتع الجانب الإبداعي بالرؤية المتخيلة، المعنية باستيعاب المقدارية الحياتية وانعكاسها على الشخصية المستوحاة ، ليكون الطموح كما لو أنه وراد في ثقافة كل منهما بالمختلف الفكري، أمّا الفرق بين الشاعر لوركا والشاعرة قبلان وجدته يصب في حاصل الاشتقاق، وهو أن الأول في نصوصه يتناول الجدية الصارمة التي تعالج الهَمْ الإنساني، ويرى في تعدد الإيديولوجيات عملاً ايجابياً، من خلال فحص الأفكار في مفهوم السوسيولوجيا "علم الاجتماع". ولذا فالنص عنده يخلو من ثوابت الموصوفات العاطفية الجاهزة، مثل ما سرحت بها قبلان بمتخيلاتها الرومانسية في كثرة مستعار التشبيه المعاين مثل: " لون الورد، وزهر اللوز، والشمس تضحك، وضفائر العصافير، والأرصفة تورق.. وغيرها"، ولا ندري بماذا تورق الأرصفة؟ ربما بجثث الأطفال والنساء المطروحة أمام الصحافة الورقية والمرئية دون إثارة الوازع الإنساني الذي لا يحرك الضمير العالمي حتى يحتج. في حين كان لوركا ينخرط في المنظمات الخيرية يكفأ معالم العدل أن تسعى للتغيير في سلوكيات النظم القاهرة، حتى يحرض على اقامة مناهج العقل، واعتدال معالم الخير، بتقدير أن يصبح النظام السيكولوجي دالاً على تجاوز التوتر والعقد والخمول تجاوزا حقيقياً، بينما نجد الشاعرة توصف الحياة في فلسطين وكأنها جنة عاد، ما عدا الإيمان بأن هناك ليلة الميلاد التي وضعت لها تاريخاً مثقلاً بالخونة ونعاج الدين، والجاهل الذي يستعاض عن الحقيقة بقلة معرفة، يروم هوى المحتل على هوى لا يتفق مع الواقع بشيء، لأن المحتل تغلغل ونجح.

وجهك جرح السّفر،
وغرناطة معلّقة فوق أشجار الدّفلى...
قد يرتجف الحلم فوق الدّفاتر،
وحورية المساء تسكن ظلّك،
وأنت من بين أصابع الرّمل
تأتيني برشفة عسل،
... وولادة...!

لم يكن وجه لوركا جرحا حتى في حالة اعدامه، كان في سفرهِ عبق التنوير يسمو بخلوده من حالة في بلد، إلى بلد يبحث فيه عن علو علم أكثر نضجا، يتحول بتعدد بينات المعرفة أن تولد في جناسه الأدبي متعة للآخر، فتستطيب محامده عند الأصدقاء من حوله. فإذا كانت الشاعرة تمتهن الطباق بالسلب بمعنى إيجاد معنى ونفيه بمعنى آخر فهذا فهم غير محمودٍ، مع أنها لا تستخف بشخصية لوركا وهي الجامحة إلى مقامية التناص، تميل به إلى أن تتحد الوجدانيات ببعضها، وإذا كان مراد قولها هو التضاد الايجابي بمعنى ايجاد معنى بعكس ما تضمره في جوانيات معنى آخر، إذن فقبلان تعني الجملة الشعرية الناقدة إذا ما احصينا رؤية التحليل في ذلك، لأنه إذا غلبت الأحكام على عكس هذا التبني يكون النقد قاسيا في حولية التشبيه، أما المفهوم الوارد بالتورية لا يعبر عن الدليل الواضح في شخصية المستعار بالاقتباس، لأن الاستعارة المشبهة بتقدير الطباق معلومة بتاريخ الأدب الأوروبي والعربي عامة على أنها تثبيت المشبه بالتمثيل، وبهذا نجدها تأول في هذا " وحورية المساء تسكن ظلك" يتوقني أن اقرأ فيما ذهبت إليه الشاعرة في هذه المناقلة الحسيَّة من معيون ميزان الكلام ومعياره، وفي جملة أخرى وجدناها تنشد الإسناد المجازي من سبر المعنى بأقل موهبة لا تتفق مع ميزات لوركا بشيء في قولها" "وأنت من بين أصابع الرمل / تأتيني برشفة عسل / وولادة" للأسف في الجملتين الأخيرتين ثمة زحاف يكشف عن ركة في النحو، لا يتفق لا بتوليد الإيماء ولا بطرق النيابة عما يكون للمعنى مكانة للتاريخ في: من بين أصابع الرمل يأتيها برشفة عسل، فهذا لا يلتقي بذاك، وإذا جاء طباقا يكون اطناباً بوصفه خال من البديع في المنظوم الشعري، وحتى لا يكون الشعر "تسفيطا" علينا مراعاة الملقحة اللفظية بفصاحة مجاز معانيها، وفي أخرى تقول: "وولادة" فلو قالت: تأتيني برشفة عسل ولاّدَة" لأصبح الايعاز الآتي من المستعار لها ينبئ بالولادة الشعرية التي وصفتها "برشفة عسل.

قصيدة:

على شفة الورد
=
أفرش شعري سجّادة
لعشق يعود مع العصافير
حين ترسم وجه الصّغار
على ضفاف الفرات
وتفتّش في عينيه اللوزيتين
عن جديلة تنمو ...
تصير وطنا،
وأعلم من أين يأكل الجياع
"الخبز الحافي" ..
حين تلوّن ريشتك رموش الطفولة
ويصحو الصّمت على شفة الورد

إذا قلنا أن مغازي التركيب النثري تحتفي بتصريف القول ومناحيه، باعتماده على ضروب التجوز والكناية، حتى يجعل من البيان يوهب اعتبار النص دخوله إلى تثوير الخيال الناجع بأطوار التي تكسب الأفكار قوة الاستبصار، وتجعل من الذات الشاعرة تحقق متسعها على أمكنة تجري بالصورة الشعرية إلى وجودها المتحد في فريضته على المؤثرات الوجدانية، التي تجعل من المعاني تعزز مكانتها، حتى لا تختلف فيها قوانين النحو. وقد عزز قولنا هذا الكثير من البلغاء كالجاحظ وابن دريد وقدامة الكاتب وعبد القاهر الجرجاني، وغايتهم حماية اللغة من الترهل الذي أصابها اليوم من الكثير من أصحاب الكتابة الرديئة، ولهذا أجدني مطيعا لفاتحة يتنسم القارئ أن شاعرة مثل هيام قبلان تحكمت بالمنقبات الفصيحة التي هذبت نصها.

لو نظرنا في التراكيب الحسيّة المعنية بترتيب أفانين النص مثل: "الورد، العصافير، الفرات، جديلة، الوطن، الجياع، الطفولة، والصمت" وفيها أحاور قيمة المكان الأسطوري وهو نهر الفرات، بالمدى الحاصل في انعكاس خيرات الماء المقدس على الأرض وما حوت، فالأثبات هنا يعود إلى موسوعة وعي الشاعرة بمجانسة حسم التقسيم من منظومة الاقتباس الطبيعي، إلى وازع المفهومية المبسطة لمراعاة النظير في قولها: " أفرش شعري سجادة، لعشق العصافير/ على ضفاف الفرات". إذن الملمس الذي قصدته قبلان هو مزج الذات بالصورة الحسية التي بانت في مستهل النص "أفرش شعري" ليكون اعراب الجمل على منفعة المعنى المبني على المجهول، كذلك النظير المعني بالنواطق الممكنة في تثوير الصورة الشعرية المتحولة بلغتها وفنيتها، فلا عيب هنا في النظم لأن قصيدة النثر تتطلب التحميل المجازي التصويري حتى يستقر البديع في حولها، فينجح في تفرده بعد أن تبلغ خصوصيته الشعورية بسط دلالات صدق الأفكار بمتسع مقبولية الآخر لها، بأثر ما تتركه أدوات الشاعرة من استعادة المزايا المبكرة في صناعة صاحبها "الشاعر".

ولكن في رؤية أخرى تتحول المُشاهدة إلى الوصف المُشبه ب "الفرات" في قولها: "على ضفاف الفرات / وتفتش.." لا أرى ضرورة لواو الفاصلة في موقعها بين الجمل لأنها في هذا المكان يكون مربكاً لفظها، كذلك تصبح مكروه وشديدة على السمع، لذا وجب حذفها لكونها توقف سياق الإيقاع المزود بالمناقحة اللفظية. وتعطيل سيولة انسياب القول، لتكون الصورة تقرأ بسهولتها: " على ضفاف الفرات / تفتش في عينيه اللوزيتين" وفي منحى آخر نقرأ "عن جديلة تنمو / تصير وطنا.." لو نظرنا جليا في هكذا توليف يُفضِي إلى ما لا يؤسس تواصل الكلام المنظوم ببعضه، لوجدنا الخلل في أدلة المعرفة مرتبكا في موضوعة النمو على أن الأشياء تنمو في وحدتها الصغيرة لتصبح كائنا يقوم على تسيير ذاته بنفسه، أي أن يكون النمو على سياق بآن في كل أعضائها، والجديلة كائن متحرك ينمو بالواسطة لحدود معينة في دائرتها، بينما الوطن متعدد الأمكنة والمخلوقات والتبدلات الحياتية والنظمية إلخ، أمّا المؤدى في الفعل الرومانسي الانشائي يمر كمرور ضعيف وكأنه يلوك اللجلجة بالتنافر النفسي ليفسد السبك الذي عملت عليه الشاعرة باعتناء ملحوظ. ومع هذا المربك الفني وجدنا الشاعرة تنقلنا إلى ضرب مختلف عن الصورة السابقة، يحقق منزلة تبلغ فيها الاستعارة قمة إبانة وحيِّهَا، وهو أنَّ المستقبل سوف يشرق من "رموش الطفولة"، إذن فالملقحة شاءت تفننها وتصرفها القيمي المُسَّن بالبديع، خاصة بعد أن شكل تحولَ المبنى البلاغي قيَّم دلالات التصرف، في قولها: " حين تلوّن ريشتك رموش الطفولة / ويصحو الصّمت على شفة الورد" ثانية تقف الواو كحالة ارباك يقيد النقلة في استمرارية القراءة، لكن لا ضرر في البناء لأن المعنى مأخوذ بالإدراك المنتزع من الجزئيات التي تشكل الصورة الصوتية، بواسطة الضمير الغائب "هو" بصيغة "ريشتك"، ونلحق هذا الاطمئنان بنبوءة قولها "حين يغادر الصمت شفة الورد"، لتحقيق قوة ملامسة النحو في المعنى الطارف الذي استحق السبك عناق المعاني ببعضها خارج السياق العاطفي، بعد أن استخدمت الشاعرة واجهة المعطى المجازي بأنّ المجانسة الوجدانية تبدلت بين صورة وأخرى، وهذا ما يجعل معيون المشابهة واردا على الذاتية المتحولة في ملقحتها، على اعتبار أن كل مجاز يستولد حالاته من التالي:

أولا: الأثبات المادي في عملية نفي النفي في مفهوم الوطن الذي يعني المكان، حيث تنمو الإرادة بالإصالة.

ثانيا: مدارك الكشف عن حدود الامكانية واختلافها، ترى هل استمد الأدب فيضه بالميزة العلمية فيضا أو جزءا؟

أفرش شعري سجّادة
لولادة جرح يكبر
يعصى الزّيف والقهر ،
يسرق لعينيك اسما
ولحدا،
وعراقا جريحا ،
وعالما يغرق في النسيان

من "الخبز الحافي" لمحمد شكري إلى الفرات ثم العراق جريحا، الاستدعاء أقيم بسجيته على حالة طباق يأخذ البصيرة إلى رمزية تتوسط رفد الفصل بالوصل، في التقديم والتأخير بأحكام التمثيل سواء أكان المنفى في الخبز الحافي، أو في المكان "العراق" الذي أصبح مسلوبا من قبل الشياطين الذين غزوا أرض ما بين الرافدين في ليلة وضحاها، وكادت عاصمة الرشيد أن تسقط لولا همة الجياع المقيمين على أرض ولادة للإنسانية، إذن فالمحاكاة تصبح مجازا يلازم العمل بموحيات علم العقل، حيث تنفذُ الحواس المحسوسة في النص، فتكون الموهبة إبانة تجعل من فلسفة المكان مقادة بتنظيم دقيق مؤثر بمزاياه، عندما يغادر المنفي مكانه إلى جهات أضاع فيها محمد شكري المقام، وفضل المرام للوحدة والانعزال، يقابل ذلك المكان مرارة المنفي في نفسه، بتأثير الايماء الذي خالط زمانه العريق، حيث أصبح المكان له كأنما يرجو لو أن يتنفس السلام، ثم يعود كالرجاء الذي يستمرأ النفس بالتمني، من كنف عالم يغرق في صناعة القرارات المدمرة للإنسان، ولهذا حين تتلبس الألفاظ مشاعرها من داخل أداة الزمن، نجدها تنتج شمولية معناها بأثر توليدي يساقي بيانها التأويلي فيما تثبته القصيدة الزمانية، بقول الشاعرة: "عالما يغرق في النسيان" حيث نجد النسيان يحل في هذا المكان كنتيجة للمحاكاة بوارد وظيفة تستنطق وحدة جناس الضياع المشار إليه ب "الغرق"، المؤثر في منطوق الشواهد المفوضة إلى المسند المعنوي الذاتي، الفاصل بين الشأن الذي تسنده تجليات الفقر والحرمان، مقابل بلد مستقر بحلاله وأهله، فالحالة الاسطورية التي صورتها الشاعرة على أنها تمتد بجرحها من ماض غير مستقر بذات السلوك العربي المتخلف، ربما لولادة جرح يكبر لن يتغير الزمن بحوله.

أفرش شعري سجّادة
فادخل شعلة نار وموجة
وابصق نفاق القصور
واحذر،
هو الرحيل يغفو بين ليل ...وليل ..!!

نظمت هذه القصيدة على فنية تشذيب محاسنة التقسيم المبني على أساس اللازمة البنائية "أفرش شعري سجادة" ومن خلالها تبدأ الشاعرة تُلبسْ الجمل الشعرية نواتج تأويلاتها الناطقة بحرفية المقابلة بين الماضي "الخبز الحافي" المستمر بحالاته المعكوسة على الحاضر "العراق"، وكل أمر في هذين الزمنين يبطلان مذهب الفعل المسند إليه في المواقف التي تعني ذلك الزمن "محمد شكري" فلا خلل في اللازمة لأنها تهيئ مفاتيح سياق المعاني أن تكون مفتوحةً على دائرة الفكر بالتشابه الدلالي في المحتوى المدور الخالي من التشتت، كما فعل أبي ذؤيب الهذلي بلازمته: "والدهر لا يبقي على حدثانه*"، لأن النتاج المحقق لهذا الطباق يعني سرد المشاعر حسب التسليم بمأثرتها على الإنسان، كون الوظيفة الإبداعية تستفيض جواباتها من الذات الأم، وتعكس تعليلها على المبنى بالمشار إليه، بالكشف عن التقصير والعمى والخذلان عند العرب عامة، بقولها: "أبصق نفاق القصور / وأحذر". المبدأ الواضح في رأيها برز تحميل الفعل المضارع جلالة التحدي بالمعنى الواضح في قولها "أبصق" على القصور وتعني الرئاسات العربية، وهو ما جعلها تحذر من ردة فعل هذه الرئاسات على موقفها، فقد قتلوا الكثير من الأفكار النبيلة، بدءا من عصر البداوة الأولى وحتى يومنا، فالحذر يرد اللزوم إلى غايته المعنوية المصاحبة لأتم المعنى في الفعل "أحذر" فعل مضارع يساق في حالة التنبيه من حالة ما، وفي الوقت ذاته جاء يحقق تخليصاً روحانيا لا يبصره إلاَّ ذوو المبادئ الخيّرة، وبه تتم الشاعرة عنصرين مهمين وهما: الذات الرافضة، وارصاد التأويل. وبهذا يكون الحذر دل على المعنى الواقعي المعبر عن الخوف بدلالة اكساء الإيماء حالته المرة، المقدرَ تأويلها في الناحية الفنية، أي التشبيه الحاصل في بنية التقدير الدال أوله على آخره، الذي حرر سقاء التلقي مقبولية الضابط الدلالي الفائض بصورتها الناطقة وقولها: "الرحيل يغفو بين ليل وليل".

قصيدة:

يا سيدة القصر
=
أنا صوتُ المقهورين
عبثُ السنين
حلمُ الطفولة الباكي
وليالي تشرين
أنا عينُ الزمان
صرخة الأنام
أتحدى السيد القاسي
ولغة الأحزان

هي ذي الرعشة الرافضة في منظور الشاعرة التي تستحق منا الإبصار بما عنت في صوَّرها ومداد رفقها بالوطن، وهي تمثل صوت المقهورين والمهمشين، والأهم من هذا كله ان وعيا لا يؤجل أخذ يتنامى في القصيدة الفلسطينية، يتزامن بجديده مع كبار الشعراء المعنيين بالقصيدة الناجحة، ترى هل يمكننا أن نتصور أن زمن الخريف الشعري في عيون بعض الشاعرات قد أغلق! ربما، ولكننا مع هذا نتلمس في زمن شاعرية قبلان يكثرُ علينا تحدياته المتجددة في المباعث الذكية التي تطرحها في جوابات القصيدة ربما لحلم آت، فنحيا بها، ونتمعن في روح نضالية عالية الدقة، وهي تفاعل وتجاذب تطورات صورتها الدلالية، كما لو أن الطفولة ما زالت تنبعث من خلال نظرتها المادية لولادةٍ لا تنقطع عن مسيرتها نحو صناعة ملقحة الوعي واجرائه على ما لم يوضع له من قبل، والشاعرة تهمز إلى الماضي لكي تتبنى توازنا على أنَّ منتجها الإبداعي يتمدد في الزمن الآتي في قولها: "أنا عين الزمان" يدلنا خوان غويتيسولو " أن تغيير الماضي لا يعني تغيير الحدث، ولكن يلغي إلغاء نتائجه التي تحاول أن تكون لا نهائية*" وعند قبلان يكون الزمن يشكل الدفق الشاعري في المُحَصل القائم في صلاحية النص، والرد عندها واضح ومعيون فعله في: "أنا صوتٌ، أنا عينٌ، أتحدى لغة الأحزان.." هي المشادة إذن بين الأنا الطامعة بحق الوجود، وبين الأحزان المفروضة في الضمير التائه على مساحة الزمن، بواقع نسق بوصلة أعماها "الأخوة الأعداء"، فهذا الشد المعقد يعمق من المتاهة التي تحيطنا بجدل لا ينقطع، جعل منا أنْ نبحث عن قراءةٍ جادةٍ لنصوص أصيلة غير ملوثة تطفئ حرقتنا، وجدناها في عين الإنكار المنبثق من مخيلة قبلان بتجلياته الحسية النابضة، يتنامى في رعشة مادية تتحدى السيد القاسي، من قاموسها المُدَوِنْ للرفض في بنيتها الفكرية، التي تنوعت فأثرت المختلف في مَلَكَتِهَا. بعد أن وجدناها تجعل من لغة الأحزان ولادة أمل لمستقبل يبتسم لحياة تقتضي الوجود الشرعي لأبناء الوطن، وإن تكاسل الآخرين فبقوا مأسورين بواقع المحتل، ولكن إصباح الأمل يشرق في منظور قبلان، لأن شاعريتها بذرة تحاكي التجديد المعنوي الإنساني، وفي نهاية "سيدة القصر" تدلنا الشاعرة إلى أن بوح مشاعرها تتفاعل به خاصيتها عندما تقرع أجراس نكهة صوت ينمو في الشعر وحتى لا يحترق في لغة الأحزان، تقول:

يا سيدة القصر المهجور
يا أجمل عصيان
لماذا الرحيل عن نفسٍ
لك فيها مكان

لم تَكدْ جراحات الشاعرة قبلان تستقر على الرفض وحسب، بل تجاوزت هذا ببعدها المعرفي حتى تجملت بالعصيان، دفاعا عن تطورية العلوم والتقدم البشري، وعليه فقد أعلنت الاحتجاج على كل ما هو مستبد وظالم ومحتل، ومن أجل هذا استهانت بالقوانين الوضعية التي تخدم الحاكم العميل، وتنكس رأس المناضل الحكيم، ولذا نجدها قد طعنت بالمضرات الظلامية التي تعامل بها الحاكم ضد شعبه، فسلامة حقوق الناس لا تمثل شيئا لديهم، ولا تعني الظالم بشيء، لأن المستبد اعتاد على العبث بأرواح وأموال الناس، فكذب وانتحل صفات حميدة وهي بعيدة كل البعد عنه، وبعتاب عذب تتساءل الشاعرة لماذا الرحيل عن نفس لك فيها مكان؟ إذا كان كذلك، ترى عند من ودعت الأرض؟ وغُلاة أرادوا أن يزرعوا للمحتل والحق عند صاحب الأرض الحقيقي، خاصة أولئك المشبهين بالماعز هم أهل الفتنة، وصانعي الشر والطائفية، بعد أن أعلوا ومكنوا العصابات من احتلال الأرض، وارفقوا العلة المستديمة بالشعوب العربية الآمنة، بعد أن حققوا للعملاء موطنا على فراشنا، والنفس العربية تبكي وتولول على الأرض والسلم، وهنا فالشاعرة تمثلت بالجدل التطوري المعاصر، وحال لسان قصيدتها ينادي لمن الأرض؟ بعد أن خاطبت شعبها بالفكر الرافض المتجذر في شعرها وروايتها، فخطاب قبلان ليس خطاباً شخصياً، بل هو خطاب الشعوب العربية أجمعها، وعليه وجب على كل مثقف عربي وخاصة الأدباء الذين ردموا الجهل ورفعوا شعار المعرفة ضد الحكام العرب، أن لا يغضوا النظر عن عروسة الوطن العربي فلسطين، ولا يتبعوا آثار الماضين من مستمتع خلاق بدراهمه، ومستفسد خناق، جاءوا وفضوا بكارة فلسطين.

قصيدة: إلاّكِ
=
تشرنقي حريرا في مساء لولبي
أصعدُ بخطيئتي تاج عرشك
مدد خصبك في جنحي
عربيدة الليل أنا
وأنتَ ليلكي القسمات من عطر اقحوانة
أينعت "أوزيريس" بُصيلة فرحي
امتشقك هالةً
لملمتُ رمان فتنتي
نفحةً من قلادة الرب
فجّ تراب أصيلك عن رمق شهدي
خذني إلى ضفةِ نيلكَ
مَنْ أشتهي
إلاّك نبيذا يلدغ شفتي

منذ القدم أزدهر الشعر العربي النسوي بقرض الغزل الاباحي العفيف، وبقيَّ البعض الآخر منهن لم تتمتع باحترافية شعرية ذات موهبة تميزها في الدقة والخصوصية، وحتى لا اختلف في جواز تعليل الحكم الثبوتي بمقدارية النص، أقول لا أميز شاعرة عن أخرى إلاَّ ما يكون ناضجا من الشعر بصلاحيته، أمَّا الغَزّالات المبدعات فتفنن بإيقاعية شعرية تثور فيها المعاني الشاكية من الوله والشوق للذكورية، فبرزت شاعرات عربيات من العصور القديمة بطرح فتنتهن عبر إغراءات النص الاباحي، وفي هذا المجال اخترتُ العديد ممن امتهن هكذا لونا يهيج العاطفة، ومنهن: ولادة بنت المستكفي، ونزهون الغرناطية، وحفصة بنت الحاج الركونية، وحفصة بنت حمدون، وعائشة التيمورية، وليلى الأخيلية، ومع ليلى الأخيلية لي وقفة لابد من اثارتها لأهميتها، كان قد التقى بها عبدالملك بن مروان فقال لها: "ما أرى منك توبة حتى عشقك" فردت عليه بكلام أشده بلاغة من كلامه: " ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة؟ *" ولذا نقول أن درجة التأثر العاطفي باختيار النص الشعري لا يكون حيادياً بل عنيفا في كثير من الأحيان، وصادقا عند الشاعرة في مجاله العاطفي أقوى مما هو عليه عند الشاعر، على أساس أن المرأة تمتلك الحنين أكثره، بينما الرجل يمتلك القسوة أكثرها، فيكون الشعر أعزه اِثارة، وعند الرجل أكثره كَذباً، فإذا أخذنا مجموعتين شعريتين واحدة للرجل وأخرى للأنثى لتبينا من خلال استخدام تباين عناصره الايثارية وفق التحليل النقدي الدقيق يشترط التالي:
أولاً: يكون الشعر مكملاً لأثارة الملمس الأنثوي باستدعاء الذكورة لإشباع عطش أنوثتها خاصة عندما لا تكون الأنثى تمتلك الحرية الجنسية.

ثانياً: تكون الموجة العاطفية الروحية ملموسة عن قرب في النص النسوي، بأثر ذوق هياج العاطفة المقيدة بالتمني، تلك التي تكشف عن مشاعرها لذاتها الشاعرة قبل محاكاة القارئ.
ثالثا: التجربة العاطفية عند الشاعرة محدودة بأثر طبيعة العلاقات الاجتماعية السالبة لتلك الحرية، فتكون ردة الفعل عند المرأة الشاعرة من اللقاء الأول تحرك كل محسوساتها الجنسية باتجاه تعميق المعنى للوصول إلى صدقية الدال عليه.

من خلال هذا المنطق يتضح أن الصوت المؤثر في شعر المرأة يجعل من النص صادقا ومستدلاً على غاياته الشاكية المتجلية بقناعة تخصيب خاطرها، فلو أخذنا قول قبلان: "أصعدُ بخطيئتي تاج عرشك / مدد خصبك في جنحي" نجد الثورة الجنسية في هذه الصورة الحسية تعترف أنها هي التي تصعد على الذكر وليس العكس، لشدة هياجها والتمني المعنوي هو من يحدد طبيعة الرغبة، مخاطبة إياه أن يمدد خصبه في مبسمها الآخر، لكن الشاعرة قالت في "جنحيها" للتمويه العذري، وهي تحكم بلاغة المستعار "أوزيريس"، ليكون الجنحين مشبه بهما بالوله الذي يثير الشاعرة بالمقايسة والاقتباس العاطفي، وعند الناقد هذا لا يشبه ذاك لأن باستطاعة الشاعرة أن تقول: مدد خصبك في المكلوم أو في المشتاق أو حتى في المحروم، مع أنها استخدمت الخصب وتلك هي الحيوانات المنوية عند الرجل المخصبة لبويضات المرأة، والخصب منذ القدم تناولته الأسطورة لتكون لبنة يصبح فيها الإيمان العاطفي جزءاً من الفضول المقدس، المعبر بحالاته على أنّ الحياة لا تكون حياة بدون العلاقة الروحانية العاطفية. وبهذه المناقلة البلاغية بين الخصوبة والحياة اسماها الناقد الفلسطيني الفيلسوف يوسف سامي اليوسف: " في الخصوبة يتدفق وعياً جديدا، وولادة ثانية*"

حيفا
=
كل القصور الشاهقات
والأنهار الجاريات
لا تعيد بحر حيفا
لا تعيد شرفة خلفية تطل
على وجه الكون
على نورس يحط رحاله ويستريح

الاستثناء الذي نالته قبلان مما يديم نجاحها أنْها تستلهم الشعر من توقد مشاعرها الوطنية، التي تقوم على حذاقة أنماط متميزة سهلة الاستيعاب، وفيها يكون طعم الشعر يتجسد في المعنى الإنساني، فهي تتحدث عن الروح التي تطوف على المواطنة، وحيفا البحرية لا تتبدل مهما غيروا فيها، سواء أكان اسمها أو ناسها أو حتى بحرها، تظل حيفا سيدة المدن المطلة على الدنيا من خلال بحرها وهوائها بطباع شرفتها الخلفية. أمَّا روح الانحراف لا تعنيها، ذلك أن الأصيل يبقى يثبت جذره لينفث في امتداد الزمن، عندها سيأتي ذلك اليوم وتنهل حيفا من تاريخها وعلوها وعمقها العودة إلى الأصل، فالرابط الحقيقي موجود وهو: المكان، والناس، وذا هو التوصيل المعنوي الذي حققته صورة الشاعرة من عنصرين أساسين وهما: الذات المطمئنة، و رصد التاريخ الثقافي المطل على معنى دلالة الحكمة في قولها: "نورس يحط رحاله ويستريح" وهنا نقرأ أن المعنى الذي استقته الشاعرة من سياق حركة التاريخ البديل أنَّ المدينة تستبدل احداثها خلف المحور الإحداثي للرؤية البصرية، بدلالة أن القابلية النسبية المشبهة بحركة الواقع سوف تحقق مستقبلا نسبياً، يأتي به الزمن من واقع وحداته الصغيرة، بواسطة فجرات نوازعه الداخلية التي يتساوى توليفها في وحدة البنية الصوتية للذات القابلة للتغيير، والنورس هو الأصل لأنه الملازم الدائم لحركة البحر، برؤيته التي تتفاعل مع الملموس الدلالي في ثنايا الصورة الناطقة بمتخيلها وظهورها الدلالي على تأكيد المشاعر المؤمنة بالتفاعل الواقعي، وهي تمعن الصورة بالمُثَبَتْ في قولها ليكون واقعا منظورا يكشف عن حرية حيفا.

"لا تسامح"
=
لا تسامح، لا تسامح
كلّ ما في الكون يركع
عند كعبك كي تصالح
كلّ غصن كلّ عطر
كلّ نسر كلّ سارح
كلّ نبع كلّ نهر
صوتك القدسيّ جامح
أيّ عذر أيّ بوح
أيّ بيت من بيوت الشّعر جارح
لا تسامح فالرصاص اليوم صالح
كلّ سلم لا يردّ الحلم
للأطفال كالح
لا تسامح كلّ من شارك
في تقديم طفل للمذابح
أنت للصلب كعيسى
والذي حضر القدّاس
لن يعلم الاّ لغة
تهوى المسارح ..
(جبل الكرمل)

لا تسامح.. نص بمثابة نقد لاذع للمعاصرة السياسية والثقافية العربية، يشتغل مفهومه على تمثيل التناصب المجازي المتنقل من عصر شاعرية الجاهلية، وقصيدة كليَّبْ المعروفة "بالوصايا" المرسل بيانها العجائبي إلى أخيه الزير سالم. ثم يجري الزمن باطراد عبر عصور عديدة ويقف ذات الارسال عند أمل دنقل وقصيدته: " لا تصالح"، وهي قصيدة عاطفية سياسية الثأر، واختيار العنوان أراده دنقل أنْ يجعل من شاعريته تحقق قيمه لتكون موروثة، وخالدة بآثارها التنويرية وطعمها المتميز، كونها تحث الراكع على النهوض، لكن بدون جدوى، فصار العربي يتَشوَّر التنظيمات الإرهابية، ويتخوف عيب العائب، لأنه أصبح أداةً قاسيةً جدا بيد المحتل، ينفذ طلباته على أن يكون طعما للمخادعة والمخاتلة، التي تعني التنازل بدون خجل عن الأرض لصالح العدو ذي الجبروت وكأنه الآمرُ الناهي، حيث تجد السياسي الفلسطيني يوضع في منزلة لا يرى نفسه أهلاً لها، والأقسى من الحيَّل تلكَ أنهم جعلوا من الشاب الفلسطيني ينفذ حاجات الصهيونية، بتفقير وتشتيت والغاء مواطنيته العروبية، وهم يقتلون أبناء العرب بيده بحجة الطائفية، تحت عنوانين مختلفة العدوانية ومثال على ذلك: "جنود الدولة الإسلامية، داعش" و"القاعدة" و "عصبة الإسلام" و "فتح الاسلام" وغيرها من العناوين المخزية. وفي النهاية يدور الزمن العربي بناقصةٍ، تستمر عليها الانتكاسة ذاتها، وهي تعاصر زمن تطور العلوم الإنسانية دون أن يحقق العرب تميزا استثنائيا من مردود هذه المعاصرة العلمية.

وهنا على صفحة زمننا تصل تلك الملحمة الشعرية المتواصلة بتطبيقات معناها على الأحفاد، تذيع تحذيراتها الخيطية بأدلة قاسية، أنكم أيها العرب تواجهون بدويتكم بحضارة لا لكم فيها حيز، حيث يحط النص ذاته متأملا خلقه على عتبة طيف الشاعرة هيام قبلان وقصيدتها: " لا تسامح" ذلك النص المنساق بنسق واحد في مضمونه وإن اختلفت فيه العناوين، واختلفت الكلمات إلاّ أنّ الاسقاط هو ذاته يسري بالهتاف النفساني المحرض لاسترداد

جعفر كمال‎

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى