الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
ملحمة الكفاح اللّيبي : الحياة ضدّ الموت
بقلم كمال الرياحي

"أبواب الموت السبعة" للروائي عبد الرسول العريبي

يقول جان بول سارتر "العمل الأدبي يدوم ما دامت القراءة , و فيما عدا هذا لا وجود إلاّ لعلامات سود على ورق" ؟
لعلّ هذا التجاهل النقدي هو ما دفع بعض الكتّاب المغاربة إلى اكتفاء ببيضة الديكّ الشهيرة , فكانت ولادة رواية الواحد منهم ولادة قيصرية انتزع معها رحم الإبداع و دخل صدفة صمته الأبدي .بينما فضّل الطرف الآخر تحدّي ذلك الجحود النقدي فتناسلت أعماله مؤكّدة متنا روائيا مغاربيا بدأ يفرض عالمه التخييلي الخصب و يفرض خطابه السردي الخاص .

إنّ المتأمّل في نشأة الرواية المغاربية يلاحظ اقترانها بالمقاومة و ينسحب ذلك الكلام على كل الأقطار المغاربية تقريبا و ما دمنا سنتحدّث اليوم عن الرواية الليبية فيجدر بنا الإشارة إلى أن الرواية الليبية , حسب آخر مراجعة بيبليوغرافية, تعود نشأتها إلى نصّ " مبروكة " لصاحبه حسين ظافر بن موسى الذي نشره على حسابه الخاص بسوريا سنة 1937 قبل أن تصادره السلطات الفرنسية هناك لما وجدت فيه من فضح للممارسات غير الإنسانية التي كان الاستعمار الإيطالي يقدم عليها في حق الشعب الليبي .

و تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية مناضلة ليبية اسمها "مبروكة" تطوّعت في كتائب المجاهدين بعد أن استشهد كل من والدها و أخيها ويروي النصّ نضال هذه المرأة قبل أن تسقط في آخر الرواية شهيدة هي و حبيبها مصطفى برصاص الطليان .

لكن هذا القران بين الرواية المغاربية و المقاومة سرعان ما فكّ بعد استقلال تلك الشعوب و استقرارها فالتفت الروائي المغاربي إلى مناخات أخرى يغمس فيها قلمه و يحبّر بها عوالم نصوصه .
غير أن هذا التنوّع في الإنتاج الروائي لم يكن ليقطع الحبل السرّي الذي ربط السرد المغاربي بالمقاومة فظهرت نصوص مغاربية في التسعينات و في بداية هذه الألفية الجديدة تحفر في عمق التاريخ السياسي و الحضاري لهذه البلدان , فعاد بعض الروائيين إلى التاريخ القديم و عاد آخرون إلى التاريخ الحديث لمقاربته روائيا و لإحياء سير الأبطال و الرموز في محاولة لتأسيس ذاكرة تاريخية من خلال منجز روائي . مؤكّدين بذلك , ربّما , ما قاله الراحل عبد الرحمان منيف من أن الأجيال القادمة ستحتاج إلى قراءة التاريخ عبر الروايات لا من خلال كتب التاريخ الرسمية فالرواية حسب رأيه أصدق إنباء من تلك الكتب التي دوّنت التاريخ في مخافر البوليس .
فعاد الروائي التونسي الهادي ثابت إلى سيرة حنّبعل و عاد الروائي الجزائري واسيني الأعرج إلى سيرة الأمير عبد القادر و هاهو عبد الرسول العريبي في روايته " أبواب الموت السبعة " يعود إلى التاريخ الليبي الحديث و إلى سيرة الشهيد عمر المختار و قصّة نضاله ضدّ الاستعمار الفاشي الإيطالي .

و لكنّ قبل الدخول إلى متن مداخلتنا حول هذه الرواية يحقّ لنا أن ننوّه بقيمة المساهمة الليبية في المكتبة الروائية العربية فقد ساهم الروائي الليبي في اغناء هذه المكتبة بمنجز محترم من الروايات كما ساهم في التعريف بالرواية العربية عند الآخر و لما في تجربة ابراهيم الكوني خير دليل, غير أنّنا لا يمكن أن نختزل التجربة الروائية اللليبية في أعمال الكوني على أهمّية هذه التجربة الرائدة و المتميّزة , فقد زخر المشهد الروائي الليبي على مدى القرن الماضي بوجوه روائية مهمّة منها أحمد ابراهيم الفقيه , الصادق النيهوم ,خليفة حسن خليفة ...الى جانب المساهمة النسائية التي مثّلتها كل من مرضية النعاس و نادرة العويتي و فوزية الشلابي و شريفة القيادي ..و ظهرت في التسعينات أصوات جديدة تبشّر بتواصل العطاء الروائي الليبي مثلها أحمد الفيتوري و محمد الأصفر و عبد الرسول العريبي الذي نتحسّس اليوم رواية من رواياته .
صدر لعبد الرسول العريبي مجموعة من المؤلفات منها رواية بعنوان "تلك الليلة " 1994 و أعمال نقدية أخرى , كما سبق له أن قدّم مجموعة من البرامج الثقافية للاذاعة و التلفزيون .
***
هل يكفي متن الرواية المنشغل بالمقاومة لنصنّف هذه الرواية ضمن "أدب المقاومة "؟
صحيح أنّ " أدب المقاومة " هو أدب كل الأزمنة لأنّ مصطلح مقاومة حمّال أوجه فالمقاومة تكون ضد المستعمر أو ضدّ الحاكم المستبدّ أو ضد فكر ايديولوجي أو تيّار فنّي , و نقصد بذلك تلك الروايات التي تقاوم سائدا روائيا معيّنا .
إنّ هذه الرواية تأتي متأخّرة عن الأحداث التي ترويها بأكثر من نصف قرن , و هذا يسقط عنها طابعها المقاومي , فأدب المقاومة هو الأدب الذي ينجز في زمن المقاومة و الذي تدور رحاه على الأحداث الجارية , و لأنّ هذا النصّ يأتي متأخّرا عن أحداث متنه فهو أدب خارج عن "أدب المقاومة " و لا ينتمي إليه ‘إلاّ من جهة النسب , إنّها رواية تؤرّخ للمقاومة و لا تقاوم .
رواية "أبواب الموت السبعة " رواية ترصد حالة خاصة من حالات المقاومة الشعبية العربية : الحالة الليبية . فليبيا تعرّضت إلى أسوأ صور الاستعمار و ليس هذا من قبيل التهويل انّما هي حقيقة تاريخية لأنّ ليبيا هي الدولة العربية الوحيدة التي استعمرتها ايطاليا الفاشية التي لا يمكن مقارنة جبروتها و عنفها إلا بألمانيا النازية,و هذا ما جعل حجم مأساة الإنسان الليبي مضاعفة مقارنة ببقية الأهالي في الأقطار العربية الأخرى التي تعرّضت إلى الاستعمار الفرنسي أو الاستعمار الإنكليزي .

و لكن هل اشتغال هذه الرواية على فترة تاريخية معيّنة و محدّدة من تاريخ المقاومة الليبية يجعل منها رواية تاريخية ؟
و هل أعاد لنا العريبي التاريخ الليبي كما هو ؟ و ما حاجة قرّاء الجنس الروائي إلى نصّ تاريخي ؟

لقد جعل العريبي من التاريخ ذريعة و أداة في يده ليجترح نصّا روائيا لا يطمح إلاّ لتحقيق حقيقة روائية , لا حقيقة تاريخية , و إن اعتمد الروائي على ما سمّاه الدكتور محمد القاضي بأوتاد التاريخ , التي " تأتي مفصلية من الرواية لتثبت اندراجها في سلّم الأعوام و اتّصالها بالحوادث التاريخية الكبرى "
و المتأمّل في العتبات التي وضعها العريبي لروايته يلاحظ أنّها جاءت من حضارات و ثقافات مختلفة فالأولى آية قرآنية من سورة الحجر و الثانية مقطع من التوراة : سفر التكوين , و الثالثة مقتطفة من نصّ سومري من قصة الطوفان البابلية ...وضع كل ذلك ليقول إنّ الفجيعة واحدة و أزلية , إنّها فجيعة الإنسان المقهور في أخيه الإنسان القاهر عبر الزمن و عبر الحضارات و ما المأساة الليبية غير نموذج لما يمكن أن يفعله الإنسان بالإنسان .

هكذا إذن , يتعالق الخطاب الروائي بالخطاب التاريخي في أكثر من مستوى و في أكثر من موضع دون أن يخرج هذا الخطاب التاريخي النصّ من جنسه الروائي الموسوم بالتخييل , فالشخصيات على ما حملت من أسماء و ملامح و ذاكرة واقعية فإنّها لم تكن شخصيات مرجعية صافية بل هي شخصيات روائية تلوّنت بالتاريخي و بالمرجعي .

تدور أحداث رواية العريبي كما سبق أن ذكرنا زمن الحرب الليبية الايطالية التي شنّها المقاومون بقيادة الشيخ عمر المختار على الفاشيست .

و هذا ما جعل الرواية تلوّن مناخاتها بعوالم الحرب . و لكن مع ذلك لا يمكن أن نزجّ بهذه الرواية في ما يسمّى بأدب الحرب , لأنّ لهذا الأدب خصوصياته التي عرفناها في الغرب مع " الحرب و السلام " لتولستوي و " وداعا للسلاح " لهمنجواي و " دروب الحرية " لسارتر , و أغلب تلك الروايات الحربية جاءت كما لو كانت آتية من خط النار ,قائم سردها على فضاعة المشهد و على تنامي الخوف ...

و الحق أنّنا لم نجد مقابلا لهذه الرواية / رواية الحرب إلاّ عند جيل من الروائيين العراقيين مثل عادل عبد الجبّار في " جبل الثلج /جبل النار " و محمد عبد المجيد في " كثير من العشق و قليل من الغضب" و عند إسماعيل شاكر فلح في " الأرض الحرام " و سليم مطر في " امرأة القارورة " و في كل أعمال الروائي جاسم الرّصيف الذي تخصّص في هذا الأدب منذ روايته الأولى ثلاثية " الفصيل الثالث "

إنّ الروائي الذي يكتب أدب الحرب عليه أن يمتلك قاموسا خاصا هو القاموس الحربي , فيمكن أن نستخرج دون عناء قائمة بأسماء الأسلحة و قائمة بأسماء الخنادق و الرموز و الاشارات العسكرية و الملابس الخاصة و أسماء المركبات و انواع الطائرات و السيارات و الدبابات ّ...و هذا لا يمكن أن ينجح فيه إلاّ المقاتل أو المراسل الحربي الذي اقترب و رأى تلك العوالم و عاشها .
مع ذلك فإنّنا لا يمكن أن ننكر على رواية العريبي أنّها تنفّست هواء تلك العوالم الحربية و كرعت من تلك المياه السردية , ليس بتكرار كلمة حرب التي حضرت في الرواية عشرات المرّات إنّما بنقل بعض الحكايات عن أشكال القتال و الصراع عبر شخصيات شاركت في الجبهة و عانت ضروب التعذيب و الاعتقال .
و الحق ّ أنّه لا يمكننا أن نتحدّث عن حرب لأنّ الحرب التي تتحدّث عنها الرواية حرب مجازية لأنّها غير متكافئة دارت بين عمر المختار و سبعين مقاتلا بذخيرة محدودة في مقابل جيش جرار للايطاليين يستعدّ للتحالف مع المانيا لاحتلال العالم بأسره .
و من ثمّ انعطفت الرواية نحو معالجة تيمة الحرب من زاوية أخرى , لقد حوّلت التجربة الحربية الرواية إلى " أدب الدفاع عن الحياة " كما يسمّيه السيّد نجم .
و هاهي إحدى الشخصيات تصدح قائلة :
" نعم سنحيا ... [...] الحياة لن تكون تحت رحمة الموت , إنّ للحياة عنفوانها أيضا , و إلاّ أكل الموت بوقاحة كل شيء ,إنّ على المرء و هو بمثل ما نحن فيه أن يكون مستعدّا لقهر الموت علنا " ص93
تعيدنا رواية عبد الرسول العريبي " أبواب الموت السبعة " إلى نصوص الملاحم الكبرى , و هل الرواية غير جنس سليل الملحمة ؟
رواية العريبي رواية تصوّر ملحمة الشعب الليبي و هو يصارع أشكال الإبادة الجماعية التي خطّتها القوات الفاشية , ملحمة شعب ضدّ فنون الموت التي وضعها أمامه الاستعمار في هيئة خيارات نوعية : موتا بالرصاص أو قهرا في المعتقلات او جوعا او لدغا في رحلة تيه عبر حدود صحراوية مائعة . فنقرا مثلا :
" وعاد الصمت إلى كل مكان , لا رصاص في مدى السمع ....كل شيء مات لا حياة لشيء ....لا عشب و لا شجر و لا أطفال و لا حيوان و لا طير ....لا شيء سوى الموت .... يمشي عاري الرأس في الطرقات و لا يجرؤ أحد على مجابهته , انّها سنوات العذاب و الجمر .... سكون ليس مثله أي سكون سوى سكون الموت و التراب و أرواح هائمة , عارية بلا أجساد . و أرواح في الهواء لبشر لا أين لهم ..؟
الرجل بلا زوجة ....و الزوجة بلا رجل ....الأم بلا أطفال ....و الأطفال بلا أمهات...و الشباب مهانون مذّلون ...النساء لا كرامة لهنّ ..و التراب مستباح "ص56

و يقول في موضع آخر متحدّثا عن الموت في المعتقل :
" في المقرون و سلوق و البريقة و العقية حيث هناك رأيت كل شيء يموت ....الأرواح قبل الأجساد حتّى الصوت يموت .كل شيء ...أمّي ... و أبي مات ...لا شيئ على قيد الحياة ...الأرواح و الأجساد و الأصوات و الخواطر و حتّى الغناء ... لا شيء سوى الموت ...نعم ... لقد رأيته يمشي عاري الرأس لا يأبه بأحد , و لا يتورّع ان يطلّ عليك و أنت تمشي أو تأكل أو تتحدّث أو تنام ... هو البطل الوحيد الذي لا يقوى أحد على ردّه ..."ص68

و لئن طغى الطابع التسجيلي على هذه الرواية فإنّ ذلك لا يمكن أن يحجب عنّا الجهد الواضح الذي بذله الروائي في رفع معمار روايته من خلال ما رصدناه من شعرية عالية للغتها و من محاولة صائبة في إكساب الرواية طابعها الحواري من خلال تلك المنتقيات و المتناصات الشعرية و الغنائية و القرآنية التي جعلت الرواية تعيش كرنفاليتها المطلوبة و تنعتق من سلطة الصوت الواحد .
رواية العريبي تقدّم صورة البطل و صورة الخائن , صورة المقدام و صورة الجبان و صورة الموت و صورة الحياة .
و تبقى أهمية هذا النصّ , حسب اعتقادنا , واضحة و جليّة في قضايا متنه و رهاناته و في القيم الإنسانية التي تغنّى بها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى