الثلاثاء ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم ظافر مقدادي

أزمة الغذاء.. هل سيتجاوز الإنسان حَيْوانيته؟

قبل بضعة أيام تناقلت وسائل الاعلام خبراً مفاده أنّ الأمين العام للأمم المتحدة بصدد توجيه دعوة لعقد قمة أممية تناقش أزمة الغذاء العالمي. والحق يقال أن هذا الموضوع قد تناوله الخبراء، وما زالوا، في تقاريرهم مُحذّرين من أزمة غذاء عالمية قادمة لا محالة. ويستند الخبراء في تحاليلهم على معادلة (العرض) و(الطلب) العالميين على الغذاء، فإذا زاد العرض عن الطلب عاش الناس في وفرة غذائية، وإذا زاد الطلب عن العرض عاش البشر في ظل أزمة غذاء عالمية.

إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى زيادة الطلب عن العرض هي بلا شك ازدياد عدد السكان ونقصان المنتوجات الغذائية. والأسباب المُؤدية لنقصان المنتوجات الغذائية كثيرة، من أهمها استنزاف المصادر الطبيعية (مثل الأراضي والمياه السطحية والجوفية) والزراعة الجائرة ونقصان الطاقة والاعتداء الدائم على التنوّع البيولوجي (الحيواني والنباتي وغيرهما)، هذا مع عدم اسقاط تأثير التغيّرات المناخية من الحسبان، وكذلك استعمال المنتجات الزراعية كوقود حيوي بديل.

في فجر البشرية عاش شخصان على الأرض (آدم وحوّاء) حسب النظرية الدينية، وكان ذلك حسب الكتاب المقدس حوالي 4000 ق.م. أما العلم فلا يعتمد هذه النظرية في تقصي تزايد عدد سكان البشر عبر التاريخ، بل يعتمد العام 10000 ق.م كبداية نظرية للتقدير حيث بلغ العدد وقتها 4 ملايين نسمة. وهذا الرقم احتاج الى 6 آلاف عام (اي حتى عام 4000 ق.م) لكي يتضاعف الى 8 ملايين نسمة. وارتفع العدد الى 170 مليون نسمة عام صفر ميلادي، ولم يتجاوز حاجز المليار (البليون) نسمة إلا في عام 1815، أي أن البشرية احتاجت الى 11815 عاما لتتكاثر الى مليار نسمة. ولكنها سرعان ما أضافت ملياراً آخراً في غضون 112 عاماً فقط (عام 1927)، ثم أضافت مليارا آخرا في غضون 32 عاما (1959)، وانضمّ مليار آخر في فترة 15 عاماً (1974)، وبلغ العدد 5 مليارات في عام 1987 (خلال 13 عاما)، وقبل بزوغ فجر الألفية الثالثة (عام 1999) بلغ العدد 6 مليارات نسمة، واخيرا في عام 2007 وصل العدد الى 6.5 مليار نسمة.

وماذا عن المستقبل؟ الدراسات ترجّح ان العدد سيصل الى 10 مليارات نسمة عام 2050، وسيرتفع الى 15-17 مليار بحلول عام 2100. وهذه الأرقام مخيفة بلا شك، والسبب هو أن الأرض تصل الى حدود عدم المقدرة المُستدامة على تحمّل هذا العدد من البشر، وهذه الخاصية يُسميها العلماء بـ(قدرة او سِعة التحمّل المستدامة)، وهي رقمياً تُعرّف على أنها (العدد الأقصى للبشر الذي تستطيع الأرض تحمّله مع حفاظها على عطائها بشكل دائم). ويختلف العلماء في تحديد هذا العدد بناءً على تقديراتهم لاحتياجات الانسان، فإذا كانت الاحتياجات عالية، كما هو الحال الآن في الولايات المتحدة مثلاً، يكون العدد 2 مليار نسمة فقط. ولكن اذا أخذ العلماء احتياجات الانسان الأساسية للبقاء فقط فيرتفع العدد الى 40 مليار نسمة، وهذه الاحتياجات بلا شك متواضعة جدا: (400 لتر من الماء الصالح للشرب سنوياً للفرد، و300 كيلوغرام من غذاء الحبوب مثل القمح او الأرز سنوياً، ومسكن متواضع يقي الانسان من الحرّ والبرد). وتجدر الإشارة الى أن العالم (سنيل) قدّر هذا العدد بـ 12 مليار نسمة معتمداً على قدرة الأرض على تزويد البشر بالغذاء المتنوع والحياة الكريمة.

هذه الأرقام تصف لنا حالة درامية لتزايد عدد سكان الارض، وتعطينا تصوراً عن مدى الضغط الذي يشكله تزايد عدد السكان على الطلب للغذاء وعلى الموارد الطبيعية من أراضٍ ومياه وما يعيش عليها وفيها من تنوّع بيولوجي، هذا بالاضافة الى الضغط على مصادر الطاقة وما نتج عنها من تلوّث للبيئة. أي الضغط على قدرات الأرض على التحمّل. ولكن على الجانب الآخر يجب علينا أن نعطي الإنسان حقه في صراعه مع البقاء، فقد طوّر الانسان خلال هذه الألوف من السنين قدراته على ترويض الطبيعة اولاً وتسخيرها لاحتياجات البقاء، وامتطاء صهوة العلم ثانياً لاختراع التكنولوجيا التي ساعدته في زيادة الانتاج. فما الذي فعله الانسان خلال رحلة العمر هذه؟ وما الذي يستطيع أن يفعله في المستقبل للإنتصار في معركة صراع البقاء؟

يحلو لي أحياناً أن أصف رحلة الإنسان هذه على أنها نزوع نحو تحرر الإنسان من حيوانيته. فالإنسان مخلوق فوق- بيولوجي، اي أنه يصبو الى تجاوز صفاته الحيوانية باتّجاهِ إنسانيته رغم العثرات الكثيرة التي ارتد فيها الى حيوانيته بين فينة وآخرى (الحروب مثلاً). إذاً، الانسان كان مثقلاً بحيوانيته التي رأى فيها عاراً عليه، فأخذ بالتخلص منها تدريجياً. في البدء ضاهى الانسان الأول الحيوانات في اسلوب حياته، فسكنَ الكهوف وفروع الأشجار عارياً، والتقط ثمار الطبيعة او افترس حيواناتها، وقتلَ أخاه من أجل الطعام الذي تناوله نيّئاً، ولم يعرف قدسية العائلة والزواج. كانت، وما زالت، شهوة الجوع والجنس من أهم القواسم المشتركة بينه وبين الحيوانات. لاحقاً اكتشف الانسان عورته فغطّاها، واتخذ له زوجة وعرف مؤسسة الزواج والعائلة، ثم بنى مسكناً يليق به وعائلته، واكتشف النار التي مدّته بالدفء والطاقة. تأنسن الانسان قليلاً وميّز نفسه عن باقي الحيوانات. ثم وزّع العمل، فعمل البعض في الزراعة والبعض في تربية الحيوانات، فاخترع التبادل البضائعي الذي تطور الى التجارة، وعن طريقها اكتشف أخاه الانسانَ الآخر، فتصاهرت القبائل واختلطت الزيجات، فعرف الانسان دبلوماسية التعامل. وعندما تسنّى له تأمين وافر من الانتاج أخذ ببناء المدن الأولى وبدأ بتدوين لغته وصلواته ومعتقداته. وكان للدين، وضعيّاً كان أم سماويّاً (كما يحلو للبعض تصنيف الدين)، تأثيراً كبيراً على التعجيل بأنسنته، فوضع نظامه الأخلاقي والتشريعي، فخطى بذلك أولى الخطوات باتجاه التمدن. تأنسن الانسان أكثر وأبحر بعيداً عن المملكة الحيوانية رغم أنه بقي عضواً فيها. ولم يبقَ أمامه سوى فهم الطبيعة المحيطة به لكي يسخّرها لصالحه، فراقبها وفحصها واختبرها، فخرج بنتائج علمية أوصلته الى الثورة العلمية والتكنولوجية لاحقاً، ووصل الى الوضع الذي هو عليه الآن من تطور كبير في كافة المجالات، وطموحٍ فريد في المُضيّ الى الّانهايات. فهل سيعجز هذا الانسان عن تدبر أمره في تجاوز أزمة الغذاء؟

عندما يحسب العلماء مقدار القدرة المستدامة للأرض على التحمّل فإنهم يُقدّرون المجموع الكلي لخيرات الأرض وقدراتها على الإنتاج في وقت مُعيّن (عام 2007 مثلاً)، ثم يقسّمون هذا المجموع الكلي على احتياجات البشر للبقاء. ولكن هذه الاحتياجات تختلف من (احتياجات الكفاف او التقشّف) الى (احتياجات البذخ). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يأخذ العلماء آفاق التطور التكنولوجي والبشري بالحسبان. هل سيستطيع الانسان انتاج غذاء أوفر بأقل قدر ممكن من المصادر الطبيعية؟ الاجابة على هذا السؤال تتطلب معرفة مدى التطور التكنولوجي الذي قد يصله الانسان. فنحن نعرف الآن أن هناك مشاريعاً للزراعة العمودية (بدل الأفقية) وذلك لتوفير مساحات أكثر للزراعة من المساحات الطبيعية المُعطاة من الطبيعة. بل إن الإنسان يدرس الآن امكانية الزراعة على الكواكب والأقمار (زراعة الفضاء). قد يبدو هذا ضرباً من الجنون، ولكن علينا أن نتذكر أن اختراعات الانسان كلها قد تمّ اتهامها بالجنون قبل اختراعها. ألم يكن وصول الانسان للقمر ضرباً من مشاريع الجنون؟ ولكنه وصل.

وماذا عن سبر غور الجينات والشيفرات الوراثية التي بلا شك ستزيد من الانتاج الغذائي؟ لا شك أن تحسين السلالات النباتية المعدلة وراثياً سيجعل الانسان قادرا على الزراعة في الظلّ، وبالتالي في القطبين الشمالي والجنوبي، هذا عدا عن امكانية الزراعة على سطح المريخ مثلاً رغم اختلاف الضغط الجوي عن الارض. بل إن هندسة الجينات ستساعد الانسان في تجاوز ازمة المياه للري، حيث سيكون بالامكان ري النباتات المعدلة وراثياً من مياه البحار. وماذا عن زراعة الصحاري القاحلة باستخدام اشعة المايكرويف؟ إنه فتح جديد. وكذلك الزراعة الجينية والزراعة على سطح البحار والمحيطان باستخدام انواع من الصوف العائم بدل التربة، بل والزراعة، زراعة الأرز مثلاً، في قاع البحار والمحيطات حيث تتم المراقبة والتوجيه بأجهزة إلكترونية موجّهة عن بعد.

هذا من ناحية التطور التكنولوجي ومدى أهميته في معالجة أزمة الغذاء العالمية. وهناك جانب آخر للمسألة، وهو الانسان نفسه. هل سيبقى الانسان خلال القرون القادمة مُحمّلاً بنفس الثقافة والحضارة المعاصرة؟ اذا كنتَ عزيزي القاريء ممن يؤمنون بالاشكال (او القوالب) النهائية للأشياء في هذا الكون، فتكون مخطئاً. فالكون، والاشياء التي يتكون منها، نظامٌ ديناميكي، لا يثبت على حال ولا يتقولب في قوالب نهائية. والانسان كذلك، فالذي تراه في المرآة كل يوم ليس الشكل النهائي للإنسان، إذ ستجبره ظروفه التي سيمرّ بها على التأقلم مع حياة جديدة واسلوب عيش جديد، خاصة وأن ثورة التكنولوجيا التي دخلها ستساعده على التأقلم مع اسلوب حياة جديد. ما معنى هذا الكلام الذي يبدو غريباً؟ معناه أن شكل الانسان وبعض بيولوجيته سيتغيران. وهل تتصور أن الانسان المعاصر يشبه انسان النيندرتال او حتى انسان الهومو سابينس الأول؟

كان من الصعب على الانسان قبل قرنين من الزمن تخيّل عبور الاطلسي جوّاً، ولكنه كان حلماً، وسرعان ما تحقق. ومن الصعب الآن علينا تصوّر عبور الانسان الى كوكبٍ آخر او ربما خارج المجموعة الشمسية، ولكنه حلم، وسيتحقق. كم من الزمن سنحتاج للسفر الى كوكب او قمر في المجموعة الشمسية او خارجها؟ الكثير الكثير من السنين. عبرنا حاجز الصوت، ولا شك أن الانسان سيجد الوسيلة للإقتراب من سرعة الضوء. كيف سيعيش الانسان أثناء رحلته الطويلة الى الكواكب الاخرى؟ سيزرع المركبات الفضائية العابرة للكواكب بالنباتات المُحسّنة وراثياً، وسيستخدم فضلاته سماداً لها، حيث تقوم بدورها بتحليل الفضلات للتخلص منها، وستمدّ الانسان المسافر بالاوكسجين الضروري، وسيمدها هو بثاني اوكسيد الكربون. وستبحر المركبات بعيداً، وربما لن يصل الجيل الاول من المسافرين، ولكن الأجيال التالية التي ستولد وتتربى على متن هذه المركبات ستتمكن من الوصول.

وماذا سيأكل انسان المستقبل؟ سيأكل ما يُعطيه حاجته من الطاقة للقيام بوظائفه الحيوية. هل سيأكل اللحم والخضروات؟ سيأخذ تدريجياً بالتخلص من هذه العادة السيئة التي تذكره بحيوانيته. سيكتفي بكبسولة توفر له ما يضمن بقائه ونشاطه. ومن أين سيأتي بالمواد التي ستتكون منها الكبسولة؟ سيهديه تطوره التكنولوجي باتجاه العالم الصغري (مايكرو كوزم) الى هذه المواد. وماذا عن اشباع شهوة الجوع؟ سيفقدها تدريجياً، فالتطور الذي سيطرأ على الانسان تطور بطيء الخطى، ربما سيأخذ قروناً، فنحن لا نتكلم عن عشيةٍ وضحاها، وانما مقياسنا فتراتٌ زمنية طويلة تسمح للانسان بتطوير بيولوجيته وفسيولوجيته عبر الأجيال بما يُحاكي تطوره التكنولوجي وطرائق انتاجه واسلوب حياته. وهل هذا يعني أنه سيتخلّص من شهوة الجنس ايضاً؟ ولمَ لا، فهي صفة حيوانية أيضاً، وأقصد بذلك الجنس وحده وليس المشاعر الرقيقة مثل الحب والحنان والعطف. ربما سيكتفي الزوجان بالوصول الى المختبر لتقديم الحيوان المنوي والبويضة ليتم تلقيحها ورعايتها في المختبر. مَن قال لكم أن المرأة في المستقبل ستقبل بحمل الجنين تسعة أشهر؟ لقد علمتنا تجربة البشرية ان أنماط الانتاج وطرائقه هي التي تحدد وعيه الاجتماعي وخياراته الاخلاقية واسلوب حياته. والانسان الآن على حافة الانتقال الى عالمٍ آخر يختلف جذرياً عمّا سبق. نحن لا نتحدث عن تغيّر كمّي، بل عن تغير كيفي وجذري. البشرية اقتربت من الوصول الى فضّ غشاء سرّ الحياة. العلماء يتحدثون عن الإنسان المُخصّب والمُعدّل تكنولوجياً، اي ذلك الانسان المزروع بجزئيات بيو-إلكترونية.

لن يسمح الانسان لنفسه بتدمير أمّه الأرض التي آوته وأطعمته، فهذا جانب من التزامه الاخلاقي، بل سيخفف العبء عنها بتغيير نوعية طعامه واسلوب حياته وبعض من بيولوجيته. نعم، ستخنق الانسان أزمة غذائية عالمية، وسيكون المتضرر الاكبر منها انسان الدول الفقيرة، وستكون هناك مجاعات وهجرات جماعية وحروب. ولكن البشرية ستجد مخرجاً من الازمة مع التطور التكنولوجي. سيأتي يوم يذهب فيه الانسان الى السوق فلا يجد لحوماً وخضاراً وفاكهة على الرفوف، فهذه ستكون من الماضي المخجل حين كان الانسان متمسكاً بآخر شهواته الحيوانية. وربما وقتها يكون قد تخلّص من شهوة الجنس ايضاً، ويبقى التكاثر عملية اجرائية للحفاظ على النوع ليس أكثر. وقتها يحق للانسان القول أنه أصبح إنساناً، فكل مآسي البشرية جاءت من هاتين الشهوتين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى