الاثنين ٤ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم عز الدين جلاوجي

أنا.. لي - لي.. أنا

دق قلبانا بالحب وكنا جذلانين.. كان للقلبين عبق الزهر وشذا الأقحوان، وكان لهما إيقاع الشحرور والكروان، وكان لهما لون الشفق والمرجان.

عدا قلبانا يوما على زرابي الأم، علوت ربوة، جلت بالبصر، ما أجمل الحياة!!

نظرت قلبه يتدحرج فوق العشب أمامي وقد ارتوى حياة.. انتفخ قلبي.. امتلأ دما فوارا.. عكس كبرياء.. تسللت أنا إلى دهاليزه تسلقت لي بأنيابها على جذوعه وأفنانه، رأيت قلبه يسعى من بعيد يزغرد حبا، ضم قلبي إلى قلبه، دفعته.. هويت فوقه.. سرقت روحه.. جلست قربه وقد توالى عطاسي.. حط بجواري غراب قتل غرابا وألحده.. قتلت الغراب الثاني وألحدته.. وألحدت القلب المحب.. ورحت أعدو وأصيح والأرض جميعا عرشي وفرشي: - أنا.. لي / لي.. أنا.

الحوت

حين توقفت حائرا أرمي بسهام عيني اخترق الظلمة الحالكة تلوى أمامي ثم أنهار، وهو يقول:
 إن الجوع ينهش أمعائي، يجب أن نأكل.

وافقته الرأي، لقد كاد الجوع يغتال كل خلاي مخي، وحين لم يجد الحوت في مزوده صاح كالمفزوع:

 لقد نسينا الحوت فلنرتد على آثارنا قصصا.

حين بلغنا المكان رأيناه قد صار بحيرة.. ورأينا الحوت وقد عادت إليه الحياة يسبح في الماء الصافي.. جلست إلى الأرض ورحت أتابع المشهد حالما أن أسبح معهم.. لكنه راح يهشم زجاج الصمت متمرغا صائحا:

 وما يملأ بطني، ما يذهب جوعي؟

ثم خاض في اللجة وقد تمزق مني القلبن فاصطاد اثنين عاد بهما إلى الشاطئ وقعد يلتهمهما.

رأيت حوتا منها وقد دثره الألق يندفع من البحيرة إلى البحر إلى القاموس.. واندفعت خلفه.. حين كنا نسبح إلى سدرة المنتهى.. كان هو يخلد إلى الأرض وقد انتفخ بطنه سمكا.

الغراب

كنا عقدا.. وكان أخي الأكبر واسطة للحكي..

انفتحت إليه الآذان كما الأشداق.. لم أفتح إلا أذني.. نبهني:

 أيها الطالب ولو بالصين.. دع شدقك مفغورا لتسمع.

ومضى يحكي:....

 ذات يوم خرج من أهلنا رجلان أحدهما لا يقدر على شيء، وآخر باحث عن الحوت.. جمعت بينهما الطريق وفرقت بينهما الوِجهة.. وانتهى بهما المسير إلى قوم ضلوا.. ظلوا أمدا يبحثون عن رأس ويدين.. قالوا بل نحن نختار الأكفأ منكما...

ثم انصرفوا وعادوا ومعهم غراب اتفقوا على أن يزجروه من بعيد ليحط على أحدهما.. فعلى أيهما وقع كان الرأسَ واليدين.. وماكاد حتى وقع على الذي لا يقدر على شيء.. فاندفعوا يرفعونه فوق أكتافهم ويهتفون بحياته.. ومن ذاك وهم يغرفون من رأسه إلى رؤوسهم ومن يديه إلى رقابهم....

سكت واسطة الحكي زمنا.. والأشداق كالمحقن تنتظر بقية الحكاية.. ثم واصل متحسرا:

 ولقد زرته مهنئا فوجدته في أحسن حال.. نما الزرع الذي بذره في الرؤوس والرقاب.. وصار أولئك الأغراب مريدين يقيمون له التماثيل يعكفون عليها آناء الليل وأطراف النهار.. غير أن الباحث عن الحوت حسده فعارضه فتصدى له الذي لا يقدر على شيء فسجنه ثم قتله.
ومذ رجعتُ من سفرتي تلك وأنا أحلم بالغراب يأتيني لأُبعث فيكم أو في غيركم فأنا صاحب الذي لا يقدر على شيء وتربه وصنوه.. وما يحز في نفسي أن يحسدني الطالب ولو بالصين فأسجنه وأحز رأسه...

عجبت حباتُ العقد.. وكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن الغراب.. اكتروه بالغالي والنفيس من قوم الذي لا يقدر على شيء.. وزجروه فحط على واسطة الحكي....

اللقلق

ابتلعت ريقي.. بللت صدأ حلقي.. عدت منكمشا إلى فراشي.. وحدها الحمى تنضج كل جزء من جسدي.. ووحدها عرافة المدينة مازالت تحكي رؤياها:

 سيحكمكم لقلق أفاك.. حلو اللسان.. عذب البيان.. منقاره كالسيف البتار.. وفي عينيه نار ونار.. رأيته في ما يرى النائم يستف أمواج النمل.. والدم يهدر من بين شدقيه.
ضحك الجميع وصاحوا:

 أضغاث أحلام.

قبل الفجر تسللت عيناي إلى ساحة المدينة.. كانت الأرض حمراء تحتضن جثثا بلا رؤوس.. وكان اللقلق يجلس على عرش بناه من رؤوسهم القانية.. وكان يمد يديه يمسح منقاره من دمائهم.

أنا ربكم

دخل المدينة على حين غفلة منا.. كانت الريح عاصف فيها صر.. وكان في الجو برد وقر.. لزمنا جميعا بيوتنا لا نبرح.. وكان صوته يصل قلوبنا كعواء الذئاب أو كشخير الغيلان.. دثرنا الرعب فبتنا نرقب عين الصبح، وما كاد حتى وجدناه يقف في الساحة فيه من كل شيء إلا شيء الإنسان.. حين اكتمل جمعنا أخرج حبالا فإذا هي حيات، ومد قامته فإذا هو أفعوان.. فغرنا جميعا أفواهنا ورحنا نرمي إليه بكل ما نملك.

صاح فسكتنا قال:

 أنا ربكم الأعلى..

لي هذه المدينة..

أنتم نعالي وبغالي..

وهي جبتي وجرتي ...

خرسنا جميعا.. تهادى أفعوانا.. جأرنا:

 أنت ربنا الأعلى.. أنت أنت..

ودون أن تسكت الشفاه اشرأبت الأعناق.. وقامته تمتد كالحبل تصاعد إلى عرش الرب.

الناقصة

أخبرتهم حين جمعتهم إليها أنه قادم إليهم.. وأن الملوك إذا دخلوها أفسدوها وأذلوها.. وأخبرتهم أنها لن تبت الحبل إلا معهم.

مال أحدهم على جاره نجيا وقال:

 نورها في عينيها..

قال جاره وعلى شفتيه لعاب:

 وعلى صدرها تفاح ورمان..

مال أثخنهم حتى لامس رأسه الأرض.. نظر إلى أسفلها وقال:

 لها نخلتان عن يمين وشمال.. بينهما زرع وطلع نضيد.. وماء جديد.

انفجروا جميعا ضاحكين فرفع رابعهم رأسه وقال:

 أما رأسها فناقص.

وتنابحوا حتى جزوه.. ثم اقتسموا ما تبقى بينهم:

فم وساقان.. أنف وفخذان.. صدر وخدان.. بطن وعينان.. وحين استووا على عرش البطن دب في أوصالهم فساد الملك وذله..

الآلهة

قبضنا عليه مجرما متلبسا بتكسير آلهتنا..
ربطناه من رجليه ورحنا نجره في كل شوارع المدينة المتربة حتى حجب الغبارُ عنا كل شيء.
جمعنا حطبا.. أشعلنا نارا.. رميناه فيها وتعالينا مكاء وتصدية.
ذاب جسده.. صار نورا.. اخترق الآفاق واستوى قمرا دريا..
جمدنا مكاننا وقد تحولنا جميعا آلهة.

القلم

لمحته متربا بين ثنايا التراب.. كان قلما مسكينا مكسور الخاطر مقطوع الهامة.. توقفت عنده.. مددت يدي لأحمله.. تفهت تصرفي فاندفعت خطوة. توقفت.. تلفت.. بسطت أصابعي.. مددتها كان القلم يئن وأنفاسه تكاد تلفظ.. عاودت رفع هامتي من جديد.. شمخت بأنفي دون مبالاة.. وابتعدت.. لم أكن أمشي على التراب.. كنت أمشي على قلبي وأدوس على أنات القلم.
من يومها لم أنم.. لم ينقطع عن قلبي أنين القلم.. ولا عن عيني توسلاته.. وهو ممدد على بساط التراب جريحا مكسورا.. وحملت نفسي على أن لا أقطع ذلك الشارع في غدوي ورواحي.

استوى النسيان على قلبي.. اندفعت خطواتي الماكرة تقطعُ الشارع نفسه.. حين اقتربت من المكان تجمدت حيث أنا.. هزتني الرعشة.. تقهقرت.. تشجعت ثم اندفعت خطوات إلى الأمام.. شمخت بعيني أرفض أن أرى القلم.. كانت أناته تتسلق تضاريس قلبي.. كانت توسلاته تتسلل خلسة بين ثنايا جوارحي.. انحنت قامة عيني.. لم أره في مكانه.. قرب المكان كانت قطعة خبز.. حمدت الله أنني لم أجده.. وأني أزحت كابوسه عني.. حملت قطعة الخبز.. مددت يدي إلى أعلى جدار قريب.. وضعت قطعة الخبز.. تحت أصابعي رقص جسم.. تلمسته.. حملته.. لم يكن سوى القلم.. وفي عينيه عتاب.. وعلى شفتيه ابتسامة النصر.

المعراج
تسلقتُ أفنان قلبي..
تسلقَ قلبي أغصان القمر..
تسلقَ القمر شذا المعراج
تسلق المعراج سدرة .....
دغدغ التراب أخمص القدمين..
انبطحتُ أستف التراب...

الهدهد

حين أظلم صباحنا من جوهر السما.. جاءنا هدهد يسعى.. كانت ألوانه ضاحكة.. وكان تاجه ماسة مبتسمة.. وعلى لسانه عسل ورضاب.. أحطنا به جميعا نتطلع إليه في حيرة قال:
 يا أخدان الغراب جئتكم بنبإ عظيم أنتم عنه غافلون.. هذا الغراب زنيم.. وهذه المدينة التي عليها تحيون وعليها تموتون وخلف فرثها تلهثون زور وبهتان.. فاحذروا أيها الأخدان.. احذروا الذل والهــ ...ــ

وزم الغراب بمخالبه فم الهدهد ثم راح يجره ذليلا مهانا وحناجرنا تهتف فرحا وحبورا.
حين صعدت روح الهدهد تنازلت على رؤوسنا أطنان من ريش الغراب ومعه ... ــوان.

الكهف

كل شيء كان ضيقا.. الكون والفضاء.. القلوب والسماء.. الأرض كانت كفا.. والمسافات أشبار.. الشمس ظلام.. البدر زنجي في منجم فحم.

كنا ثلاثة أو أربعة وقيل خمسة أو لعلنا ستة.. أكبر من ذلك ربما أو أقل.. كنا حمرا مستنفرة نخترق الاتجاهات ثم نعود حيث كنا لا شيء يكفينا تحاصرنا قهقهات الجميع من كل حدب وصوب تسد علينا المنافذ تمتص الهواء والضياء.

فجأة وجدنا أنفسنا أمام الكهف كان فمه مبتسما.. وكانت ذراعاه مبسوطتان.. وكان قلبه سمفونية يعزف فرحا.

وقفنا أمامه حيارى وكان الجميع خلفنا يضحكون ويصفقون.. وكانوا يزجروننا أن ندخل.
قال أحدنا:

 لقد خدعنا.

قال الثاني:

 أتستبدلون الضيق بالسعة؟

قال الثالث:

 لا مندوحة من الدخول.

ولجناه متدافعين.. الهامات ساجدة.. المناكب متزاحمة.. ووحدها القلوب تعزف سمفونية الرعب.. تطلعت إلينا العيون ساخرة.. تطلعت منا العيون إلى العيون ونحن نتكوم داخله.
اتسع الكهف أشرقت فيه شمس وقمر ونجوم.. رصعته ورود وأزهار.. زقزقت في جنباته عصافير وأطيار.. حمحمت فيه أفراس وأنهار.. عدونا يملأنا الحبور.. حين نظرنا خارجه كان الكون أضيق من سَم الخياط والجميع يتكومون فيه لاهثين حمرا كلابا مرعوبة.

المنحة

جمع مجلس وزرائه.. قص عليهم رؤياه:

 رأيت أرجلا مقطوعة تدلك ساقيَّ.. رأيت بعدها نفسي أعدو كالغزال
قال كبيرهم:

 أطال الله عمر مولانا.. تعبير الرؤيا أن تقطع بعضا من أرجل الرعية، ثم تدلك بها ساقيك، وستشفى من شللك الذي لازمك عقودا.

هلل المجلس لهذا التفسير العبقري.. ثم ازدردوا ألسنتهم.. انقدح مولاهم شررا وقال:

 بل أعلنوا في الرعية أني خصصت منحة لكل معوق تكفيرا عن أفعالي في قطع أرجل الصعاليك.

حين بزغ الفجر تجمهر أفراد الرعية يتقدمهم كبير الوزراء وقد قطعوا جميعا أرجلهم

الصنم

بذر في قلوبهم تبر المحبة.. طوق عيونهم البريئة بباقة أكمامها..

- أنا.. ابنكم.. الأوفى.. و.. خادمكم.. الأمين..

نمت حوله الأوردة والشرايين أكاليلَ غارٍ.. ثم رفعته على عرش القلب.

حين استوى على العرش غدت شرايينهم وأوردتهم أذرع أخطبوط تمتص منه دفء الطين وتحقنه بإكسير الرب.. صار صنما.. ثم نصف إله.. ثم إلها.. وصار بينه وبينهم برزخ لا يبغيان.. رماهم في الجب وهم يجأرون.. ثم قذف في قلوبهم باقة من سهام نصلاتها:

 أنا.. ربكم.. الأعلى.. و.. إلهكم.. الأكبر..

مسخوا ربهم عجوة.. ثم أكلوه

الجدار

قال صاحبي

 يجب أن نهدم الجدار.

نظرت إليه بعينين زائغتين وتمددت قريبا منه.

لم يسكت.. أعاد ثانية:

- يجب أن نهدم الجدار.

ضغطت على بطني الجائع وانكمشت.

تضعضع الجدار كسن عجوز.. تهاوت بعض حجارته علينا.. سحبني صاحبي بعيدا خوفا علي.. عاد الجدار إلى مكانه.

تحاملت وقمت مبتعدا.. أمسكني صاحبي يعيدني قائلا:

 يجب أن نهدم الجدار

وما يعنيني أنا من أمر الجدار.. فليسقط.. فليتهاو.. فليتشظ.. ماذا يعنيني أنا.. منذ سنوات نبهنا الناس أنا وصاحبي إلى أن الجدار سيتهاوى.. وقلنا لهم أن تحت الجدار كنز الآباء والأجداد وإذا تهاوى الجدار سيفتضح أمره وسيكون عرضة لنهب اللصوص والقراصنة.

لم يبال الناس في أول الأمر وحين أصررنا وألححنا كلفونا بالمهمة.. قالوا:
أنتما أقدر.. ألا تدعيان علم البناء؟

لم ننكر ذلك وقررنا أن نهدم الجدار ثم نعيد بناءه من جديد لكننا طلبنا مؤونة تكفينا طول أيام العمل.. وماذا طلبنا؟ كسرة وماء.. لا يقدر المرء على العمل دون كسرة وماء.. فانقسم الناس إلى طوائف ثلاث.

طائفة وافقتنا على أمرنا
طائفة طالبتنا بالعمل دون شروط
طائفة غلبوا على أمرهم صاحوا في مسمع المدينة

 وما دخل هذين الدجالين؟

ثم تطورت نظريتها إلى أن هدم الجدار وإعادة بنائه تدخل في قضاء الله وقدره، وأشاعت في الناس أننا بفعلتنا هذه سنجلب السخط للمدينة.

ثم تطورت نظريتها إلى وجوب حمل السلاح ضد كل من يخالفها الرأي.
قررنا أن نجمع الناس في ساحة المدينة ليسمعوا منا ونسمع منهم.. وحين تعالى لغطنا سمعنا دوي تهاوي الجدار..
هرع معشر منا.. لم نجد إلا حفرة الكنز وقد أخذه القراصنة.

التجاحش

تجمد الدم في السيقان الملتوية.. تثاءبت الأشداق.. لف السأم العيون.. وحدها كلمات الإمام تطوف بين الصفوف المتراصة كدكتاتور يفرض سطوته على الجميع..

شخر شيخ عميقا.. حك شاب عينيه ناهرا عنهما النعاس.. حوقل كهل خلفهما.. تململ آخر بجواره.. ضغا الميكرفون.. لعنت الثريا اليوم الذي ركبت فيه في هذا المكان..

اتسع فم الإمام وتطاول لسانه.. خرج من أعماق فمه.. خرج من بين شفتيه.. تجاوز الصف الأول والتف حول رقبة شاب في الصف الثاني كانت تظهر على محياه علامات التذمر..
سأل الإمام في منتصف خطبته الطويلة عن طريقة دفع أجرة ذابح الأضحية.. أبالنقود أم باللحم؟ ثم جزم يقينا أنها تحرم باللحم..

وما كادت الميم تنزلق من على شفتيه ساقطة في متاهات الآذان.. حتى أرعد بلعوم قريب كان يحتضن المدفأة جازما أنها تحرم بالنقود..

وتجاحشا..

وانقسم خلق بينهما متجاحشين يكدسون الكتب الصفراء يبحثون بين طياتها عن دليل حتى امتلأ المسجد كتبا وأجسادا وتجاحشا..

وفجأة انطفأت الكهرباء.. فساد الظلام.. وتثعبن البرد القارص.. وارتعدت الفرائص.. واصطكت الأسنان.. والتوت الألسنة.. وجاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى قال:
 إن المدينة تغط في ظلام نتن.. لقد احترق مولد الكهرباء وعلينا أن نبعث أحدنا بتبرعاتنا ليستورد لنا جهازا جديدا من بلاد الإفرنج.

العين

تأملت أنا وجاري الشمس المشرقة.. جلسنا عند عتباتها نغترف من فيضها.. توسطت الشمس السماء فرنونا معا نعانق خصلاتها مُوَلهين.. حين مالت إلى الغروب اكتشفت أنا وجاري أنها تغرب في عين حمئة.

قال صاحبي:

 يجب أن نطلبها

قلت:

 طلابها مغامرة خطيرة

سمعت أمه تحثه على المغامرة صوب العين الحمئة وهي تقول:

 أدركها قبل الأفول.

انهدت جنبات أذني من صيحات أمي وهي تقول:

- بني لا تذهب إلى الأفول.

رحل جاري وقعدت.. بعد زمن استنفدت ما جمعته من الشمس.. حين أفلت أمي وحاصرني القر.. كان جاري يشق في الأرض وفي السماء سواقي من العين الحمئة.. وكانت الشمس تجري تبرا ولجينا تطرز أرض جاري..
وكان هو يقفز في أرضه جذلان.. وكانت أمه تشرق عليه شمسا.

الحافلة

الحافلة تسير ...
وكان لغطها يرتفع أحيانا وينخفض حينا.. وكان الخلاف بيننا شديدا وحيرتنا عميقة.. إلى أين تسير الحافلة؟ ومن يقودها في هذا الاتجاه؟

كان مكان السائق مغطى بحاجز من الزجاج المعتم.. نهض أحدنا من كرسيه المثقوب وقال:
 ياقوم يجب أن نعرف أمرين في هذه الحافلة: من يقودها؟ وإلى أين تسير بنا؟
وكانت الحافلة تسير...

استيقظ ثان من نومه.. طويلا.. بدينا.. جاحظ الخدين.. غائر العينين.. منقلب الشفتين وقال:
 وما يعنينا نحن؟ فلندعها تسير، ألا تدرون أنها تسير بأمر ربها.. بسم الله مجراها ومرساها .
قفز ثالث من كرسيه وسط الحافلة وهي تكاد تميل بنا.. رفع رجلا واتكأ على عصا.. عدل من عمامته ولحيته القلقة، وبدأ في إلقاء محاضرة عن المرجئة والجبرية والمعتزلة وأنهى محاضرته بقوله:

 .... وستنقسمون إلى سبعين فرقة كلكم في النار إلا أنا...

وسقط مغمى عليه وقد تهاوى على خده حذاء أحدهم.
غضب أحدنا فاندفع إلى مقدمة الحافلة وكسر زجاجها فاكتشفنا أنها بلا سائق... تملكنا الفزع والهلع وصحنا جميعا:

 يا للكارثة !!!

ضحك ذو اللحية القلقة حتى بانت أضراسه: لا كارثة ولا هم يحزنون دعوها فإنها مأمورة.
قال ذو الكرسي المثقوب:

 يجب أن نختار لها قائدا ويجب أن نحدد لها اتجاهها.

قفز ذو اللحية القلقة فاستوى على المقود وهو يصيح:

 لا قائد إلا من اختاره الله.

قفز فوقه مبردع الشفتين وقال:

 باسمكم يا أبناء الحافلة سأقودها إلى بر الأمان.

قفز بجوارهما ذو الكرسي المثقوب.. أمسك المقود بكلتا يديه وقال:
 وأمرهم شورى بينهم.

قام جاحظ الخدين من مكانه.. استعرض عضلاته.. لمعت نجومه.. ابتلع الجميع ألسنتهم..
كانت الحافلة تتمايل بعنف من سفح الجبل إلى حافة الوادي.. اندفع جاحظ الخدين وقفز على المقود صائحا:

 التصحيح.. التصحيح..

انهدت الأجسام الثلاثة.. طارت بعض أجزائها.. رأس هنا وكفان.. بطن هناك وعينان.. صدر هنالك وفخذان.. تشظى المقود هباء منثورا.. تكوم كل ركاب الحافلة في مؤخرتها متكدسين.. رأيت عمود المقود يخترق بطن جاحظ الخدين.. وكالوعل نطحت الحافلة صخور السفح.. ثم تهاوت في قعر الوادي.

اِحتِراقُ المَدِينَة

التهمَتْ مَدينَتي حَبيبَتي تُفَّاحةً..
لاَ تَقربي هذهِ الشَّجرة
كَانت التُفّاحةُ حمْراء..
كَنهدِ عَذراء..
تَلذّذتْ مَدينَتي حَبيبتي طعمَ التُفّاحةِ الحَمراء..
تمطَّطتْ..
تثاءَبتْ..
مدّتْ كلَّ عُروقها..
قفزتْ مَزهوَّةً..
غدا الطَّعمُ الحلوُ حامضاً..
سقطتْ أسْنانُ حَبيبتي..
لم تَسقطْ كلُّها..
تَهاوتْ مِن سُفوحها..
بَقيتْ جُذوعُها تَتسربلُ مُلاءة السُّوس..
تَساقطَ شعرُها..
انْفجرَ وجهُها كبالونٍ مُنتفخ..
سالتْ مياهه
انْكمشَ الجِلد..
غَدتْ عجوزاً شمْطاء..
مدينَتي لنْ أنكحَك.. أأستبدلُ الَّذي هو أَدنى بالَّذي هو خَير؟
وانْدلعت النَّارُ في جسمِ حَبيبتي..
يالَهَوْل الفاجِعة !
النَّارُ تنِّينٌ مُتوحّشٌ يَلتهمُ كلَّ شيء..
الجُدرانُ تَتهاوى..
الأَشْجارُ تحترِق..
الدُّخانُ يمدُّ أصابعَهُ المعْروقةَ يخنقُ كلَّ شيْء..
وتَجري وسطَ الشَّوارعِ كالمعْتوه..
تتقطَّعُ أنفاسُك..
يَغسلُكَ العرقُ..
تُوقِف النَّاسَ..
تَسألهم..
تُلحُّ في السُّؤال..
يمضونَ كالقِططِ المُشرّدةِ..
كالنِّعال..
تَدخلُ ساحةَ فَسيحة..
كلُّهم كانوا هُناك..
يَنسجونَ على نَوْل الضحك..
ليلاً أسودَ قاتماً..
يملأهُ الذباب..
وضجيجُ الصفَّاراتِ والبالُونات..
وصياحُ الحواة..
تخضُّ رأسَك..
تفركُ شعرَك..
تفركُ عينَيْك..
تحدّقُ في كلِّ الاتِّجاهات..
لا شيءَ تغيَّر..
تحاصرُك ألسنةُ النِّيرانِ..
يحاصرُك ظَلامُ الدُّخان..
تَعدو..
تبتلعُ المَسافات..
يَبتلعُكَ اليأسُ والقلَقُ..
تلمحُ عيناكَ سِرباً مِن حمائمِ المَدينة..
تَلتقي عَيناكَ بأعيُنِهم..
تَرى فيها الخوفَ غِسليناً وزَقّوما..
تحتَ برنسِ شَيخٍ كانوا يحْتمون..
تأمّلتَ الشَّيخ..
لا شيءَ فيه..
إلاّ عيناهُ في محجَريْهما تَدوران..
إلاّ تحدٍّ وكِبرياء..
تسألُه بحيْرة:
- ما بالُ المدينَة سيِّدي ؟
قالتْ شفتاهُ اليابِسَتان..
وفي بؤبؤيْه دَمعتان:
- مدينتُنا يا وَلدي ضاجعَها هُولاَكُو# على الأرضِ الخَلاء
واغتالَ مِن أُفقها بدراً كان يُبدِّدُ الظَّلماء
واجتثَّ شَرايينَها مِن سِدرةِ المُنتهى
مدينتُنا يا وَلدي أسْلمتْ شمُوسَها للدُّود والفنَاء
فَهَا مدينتُنا يا وَلدي
لا تُنجبُ غيرَ البُلهاء.
وينزفُ جرحُ الحيْرة مِن أحْداقي ! فأَسألُه:
وطريقُ النَّجاء ؟
يُشرْنِقهُ الحُزنُ واليَأْس مِن أخمْص قدمَيه إلى قمَّة الرَّأس..
يَبتَلعُ ريقَهُ بصُعوبة..
يتأمَّل المدينةَ المُلتهبة..
يضمُّ جناحَيه على الحمائمِ البيْضاء..
يتأمَّلني..
يقولُ:
لا تشغلْ بالكَ بالهلْكى..
خذْ أوراقَك الصَّفراء..
وصخرتَك الملْساء..
وجُبَّتك البيْضاء..
وارحلْ..
اِرحلْ..
ما عادَ لكَ بقَاء..
ما عادَ لكَ بقاء.
وحملْتُ أتْعابي..
يشيِّعني الحزْنُ في عيونِ الفِراخ..
وتَبكي فِراقي الأوراقُ الخضراءُ الَّتي مازالتْ تصارعُ اللَّهب والدُّخان..
توسَّطتُ الهضَبة..
نظرتُ إلى قمَّة الجبَل..
لمحتُ المغارةَ تقْبعُ في سُكون..
التفتُّ خَلفي..
رأيتُ المدينَة تشتعِل..
يكادُ الدُّخانُ يحجبُها عنِ الأبْصار..
انحدرتْ مِن عينيَّ دَمعتان..
سقطَتا في الأرْض..
فمادتْ تحتَ رِجليَّ..
وترامتْ إلى أنْفي رائحةُ الشِّيح والزَّعتر.
مِن سحابةٍ راعِدة..
دوَّى في الفضاءِ الفَسيح..
صوتٌ فَصيح:
أبدَ الآبِدينَ كنَّا نَبني بالجَماجم الصُّروح..
نرُدُّ عنِ الأوراقِ الخضْراء..
عنِ البراعمِ السَّمراء..
عنْ أسرابِ الحمائِم البيْضاء..
عنْ جموعِ الفِراخ..
غزوَ العفاريتِ والشَّياطين
زحفَ اللَّيلِ..
همسَ الجنِّ والصُّراخ.
مسحَ دُموعَه..
تأمَّلَ المدِينَة..
كلُّ شيءٍ يختنِقُ في قَبضة الدُّخان..
إلاَّ مِئذنةً يَتيمة..
تُعانقُ بِرأسِها السَّماء..
يغرزُ الدُّخانُ مخالبَه في حِجارتِها..
لكنَّه يَنزلق..
لِيعودَ إلى سَفحها..
وتَتذكّرُ الحمَائمَ البيْضاء..
والأوراقَ الخضْراء..
والفِراخ..
والبراعمَ السَّمراء
وحِضنَ الشَّيخ الرَّؤوم.
رميتَ أوراقَك الصَّفراء..
وصخرتكَ الملْساء..
وجُبّتَك البيْضاء..
وعُدتَ..
ما كنتَ تُبالي بالنَّار ولا بالدُّخان..
ولا بجثثِ الهلْكى والأمْوات..
قصدتَ مجلسَ الشَّيخ الوَقور
وجدتَه مُلقىً على الأرضِ..
يُصارعُ الموتَ بقلبٍ جَسور..
مددْتَ إليهِ اليديْن..
أشرقَتْ على وَجههِ ابْتسامة..
تحرَّكتْ شفتاهُ وَقال:
نمضِي كما مَضوا..
فامْضِ كما مَضَينا..
دَعني أَنام نوْمتي الأخِيرة..
هُنا.. وَسط.. وَسط.. وَسط هذي الـ..المَدينة.
وكشفَ الشَّيخُ بُرنسَه..
عن سِرب الحَمام..
والأوْراق..
والفِراخ..
والبَراعم..
وأومأَ برأسِه، وقد كاد يخونُه الكلام:
- اُنجُ بها قدْ ربحَ البيْعُ أيُّها الهُمام.
حملتَها جميعا..
ضمَمتها إلى صدْرك..
غطَّيتها بيديْك..
غدتِ الشَّوارعُ الواسعةُ أزقَّةً ضيِّقة..
امتلأَتْ بِركاً وأوْحالا..
الأرضُ تتشقَّق فاغرةً فاها..
البِناياتُ تتَهاوى..
وليسَ إلاَّ النَّار تتَثعْبنُ في كلِّ مكان
غَزا الدُّخانُ منخريْك..
انطلقتَ تَعدو..
تبحثُ عن منفذٍ للهروب..
زُقاقٌ يصبُّ في زقاقٍ..
كلُّ الأزقَّة متاهةٌ لا تَنتهي..
الدُّخانُ يسرقُ النُّور مِن عينيْك..
العرقُ يتفجَّر مِن كلِّ أنحاءِ جسَدك..
لا شيءَ حولكَ..
أمامكَ هذا الظَّلامُ تتاراً..
تسربلَ بالفؤوسِ وبالحِراب..
وخلفكَ كلُّ النُّجوم فَقدنَ العُيون..
فقدْنَ الصَّواب..
لاشيْء حولَك..
غيرُ هذا السَّراب..
وهذي النَّار تُعشش..
في أوردةِ الأرضِ اليَباب..
لا شيءَ حولَك..
مذبوحةٌ حناجرُ العنادِل..
مقطوعةٌ ألسنةُ الشَّحارير..
مشنوقةٌ عروقُ هذا التُّراب..
واسعةٌ شقوقُ هذهِ الأرْض..
تبتلعُ الزَّهر والقَوْزَحَ#..
والنَّسائمَ العِذاب..
مرَّت أربَعون
وأربعُون مرَّت..
تمرُّ أربَعون..
بَعدها أربَعون..
ومازالتْ تَعوي الذِّئاب..
تُصفِّر الرِّيح
تُسْفي الرَّمادَ والتُّراب..
تغطِّي جنَّة شدّادَ# ..
وكلَّ رَواب..
وأنْتَ وحْدك..
سَرقوا منْك النَّبض..
سَرقوا منْك الأسْماء..
وكلَّ الألْقاب..
سَرقوا مِنك سَعف النَّخيل..
سَرقوا مِنك نجومَ اللَّيل..
سَرقوا بَلْقِيسَ..
دفءَ الفُؤاد..
يا للخَراب !..
سَرقوا مِن عينيْك زرقاءَ اليَمامة..
ومِن لِسانِك اللُّعاب..
سرِقوا كلَّ شيءٍ..
وأنتَ يانفحةً مِن عيْن النَّبي..
يا زخَّةَ الشَّوْق في قَلب الصِّحاب..
تَمضي وَحدك..
تمارِسُ العِشقَ والاحتِراق..
تعانقُ الاغتِراب..
من الأزرقِ يأتيكَ الجوهَر..
تأتيكَ العيْن..
والسَّنا والكِتاب..
تمْضي نحوَ الصَّلد..
تُضاجع بِكراً..
تُفجِّر عطراً..
تُزيلُ غِشاوةَ الاكتِئاب..
رَفعتُ رَأسي للسَّماء..
رغمَ الإجهادِ والإعْياء..
دفعتُ بالحَمائِم البيْضاء..
إلى قمَّة الفَضاء..
جثوتُ على رُكبتيَّ..
داهمَني الإعْياء..
سقطتُ أرضاً..
فوقَ البَراعمِ السَّمراء
والأوراقِ الخضْراء..
تشكّلتْ سحبٌ كَثيفة..
هطلَ الغيثُ غَزيراً..
أشرقتِ الشَّمسُ على أطلالِ المَدينة..
وأشرقتْ من تضاريس رُفاتِكَ..
براعمٌ سمْراء..
أوراقٌ خضْراء..
زهْراتٌ بيْضاء..
وفي الأفقِ حلَّقتْ أسرابُ الحمائمِ البيْضاء..
طُوبَى لك..
سكتَ الذُّباب..
تعالَتْ تَراتيلُ الرَّباب.
هوامش:
 
الدّيناغول: كلمة نحتها من كلمتي: ديناصُور وغُول.
القوزح: كلمة نحتها من كلمتي: قوس قزح.
وتوتات: الهمس تآمراً، كالوتاوت بمعنى الوسوسة.
قرزير: كلمة نحتها من كلمتي: قرد وخنزير.
 
الأَمِيرُ شَهْرَيَار
 
1
ذَاتَ صَباح..
مِن زَمانٍ مَضى وبَاد ..
رتَّلَ الجدُّ وَصاياهُ على مَسامِعِ الأحفَاد..
قالَ:
هيَ ذي نَخلَتُكم سَامِقة..
تَمدُّ جُذورَها الدَّافِقة..
في أَعماقِ القُلوبِ البَاردَة..
تَهزِمُ الهَجيرَ والقَحطَ في أَرواحِكم..
تَملأُ الشُّقوقَ في نُفوسِكُم..
اِحفظُوها..
تَحفَظوا عَهدَكم..
الدِّفءُ في شَمسِ الشُّروق..
إليها اِفتَحوا كلَّ الأبْوابِ..
وانتظِروها كلَّ صَباح..
على التِّلالِ والرَّوابي..
لا تَفتحوا للغَرْب إلاّ النَّوافِذ..
لا تَزِيدوا عليها..
شمسُ الغَرْب باردَة..
شمسُ الغَرْبِ إلى أُفولٍ واندِثار..
شمسُ الغَرْبِ إلى حَمَإٍ وانكسَار..
شمسُ الغَرْبِ وراءَها خفافيشُ اللَّيل..
وراءَها صراصيرُ الظلام..
وراءَها الثُّبورُ والويْل..
علَّقَ الجدُّ الكَبير..
وَصاياهُ في عرَاجينِ النَّخيل..
فغدَتْ أَحلى مِنَ الرَّطب..
في حَناجرِ الصِّغار..
وماتَ الجدُّ.. مَساءَ ذاك النَّهار..
كفَّنهُ الأحفادُ بالسَّعف الأخضَر..
وفرَّقوهُ في حناجرِ الأطيار..
وأَقسَموا جميعاً.. أنْ يحفَظوا الوصيَّة.. فَلا تَنهار..
 
2
وَكانَ للجدِّ حَفيد..
عاشَ في بلادِ الغُرباء..
لمْ يَرضعْ مِن صَدرِ النَّخلة الحاني..
لم تَضمَّهُ إلى صَدرها الدَّاني..
لم يرتَوِ من شمسِ الشُّروق..
عادَ حينَ غادرَ الشَّيخ وغاب..
فاعْتلى عَرشَ القرية..
دونَ عناءٍ أو عذاب..
وغيَّر سبيلَ الأوّلين..
فأبدَلَ بالقُلوبِ الكِلاب..
وبِدفْء العُيون.. السُّيوفَ والحِراب..
وأشاعَ في الجَميع..
ثائرٍ ومُطيع..
أنَّ قيمةَ الشَّيء من المظْهر..
وأنَّ الظاهِرَ أوْلى من الجَوهر..
فسمَّى نفسَهُ الأميرَ شهريار..
وسمَّى القريةَ إمَارة..
لأنَّ ذاك أوْلى بالتَّعظيم..
والتَّقديرِ والتَّكريم..
في نُفوسِ الأعداءِ والأصْدقاء..
دائماً وأبداً..
 
3
تغيَّرَ وجْهُ السَّماء..
واكْفَهرَّ بالسُّحبِ القاتِمة..
انْتفشَتْ جَدائلُ الشَّمس..
واحْترقَت..
فغدَتْ شمسُ الشُّروق..
عَجوزاً مريضةً شَمطاء..
أعْضاؤُها تَرتَجف..
على عُكّازة صفراء..
فمُها مَغارةٌ سَوداء..
سقطتْ كلُّ دَعائمِها المنخُورة..
لَزِم الجميعُ البُيوت..
خوفاً مِن بطشِ الطَّاغوت..
ولم يبقَ في ساحاتِ القَرية..
إلاَّ الدَّرويش..
يحرُسُ النَّخلة..
خَشيةَ أنْ تَموت..
ضمَّها إلى حِضنِه الدَّافئ.. ناجاها:
أُمَّاه أنا اليتيمُ..
لا أُمَّ لي سِواك..
ما لي أرى ظَفائرَك محلُولة ؟
ما لي أرى أجْفانَك مكسُورة ؟
ما للعراجينِ العَسْجديةِ يبِسَت ؟
ما لأنْوارِ وَجهِك المُتلأْلئةِ انْطفأت ؟
مَن يضمُّني إلى صدرِه أُمَّاه ؟
مَن يُداعبُني ؟
مَن يُهدهِدني ؟
مَن يمسحُ عن جَبيني الحُزن والآه ؟
ما للسَّماء اسْودَّت فوقَ قريتي ؟
إنَّها تُرعِد..
لكِ الله أُمّاه !
ماتَ الَّذي كان يحْمِيك..
مِن شرايينِه كان يُرويك..
مِن فُؤاده كان يَسقيك..
ماتَ أمَّاه..
وضلَّ الجميعُ وتاه..
ذبُلتْ أزهارُ شِفاهِنا..
ماتَت عصافيرُ عُيوننا..
جفَّت ينابيعُ قُلوبِنا..
تكسَّرتْ أصابِعنا..
يا ستَّار.. يا ستَّار..
أمطرَتْ غيومُ السَّماء..
أمطرَتْ جراداً يلتَهم الأنحاء..
جراداً أصْفر..
جراداً أحْمر..
جراداً أشْقر..
جراداً مِن كلِّ الأشْكال..
ما أشْرسَه.. ما أخْطر..
 
4
لم يُجْدِ قهرُ شهريارَ نفعًا..
لم يُكسِبه في قُلوب النَّاس رِفعا..
أحسَّ بالضّيق والاختِناق..
فانْزوَى في قصْره..
يُمارسُ شهوةَ الاحتِراق..
وهو إذْ ذاك..
زفَّ إليهِ القائدُ الأمين..
خبراً أثلَجَ الصَّدر والعَين..
قالَ:
سيِّدي..
يا أُغرودةً في حناجرِ الطُّيور!..
يا شذًى مِن تُويجاتِ الزُّهور!..
يا سَيفَنا في وجْهِ الشُّرور!..
يا أعدَلَ العُمَرين!..
وأشجَع العَنترين!..
وأغْلى الأحْمرين!..
أزفُّ إِلَى قَلبِك المكْلوم..
خبراً يُزيلُ عنْكَ الكَرب..
والغمَّ والهُموم..
حكَّ شهريارُ كَرشَه الكَبير..
بإصْبعِه الصَّغير..
وقالَ بصوْته المبْحوح..
- ماخلْفَكَ.. يا كَلبيَ الأَمين ؟
قالَ القائدُ السَّمين:
جاءكُم من أَقصى الشُّقْرِ..
رسولُهم يَسْعى..
يبغِي رضاكُم.. يبغِي لَديكُم الرِّفعا..
وعجَّلَ بإدخالِ السَّفير..
فأجلسَاهُ على عرشِ الأمير..
وقالَ مِمَّا قال:
أيُّها الأَمير.. أهلُك أمامَك..
والزَّمانُ وراءَك..
وليسَ لك وَاللهِ إلاَّ نحن..
لِتحفظَ التَّاج المرصَّع..
والعرشَ المُريح..
مِن كلِّ كيدٍ وريح..
السرُّ في تعاستِك.. يا شهريار..
زوجتُك منبعُ الأشْرار..
طلٍّقها تَزلُ عنك الظُّلمات..
وتَغز دارَكَ الأنْوار..
هلْ تُدرك لماذا؟ لأنَّها ابْنةَ النَّخيل..
لا تنالُ حُلوها.. إلاَّ بالارْتِقاء..
والارْتقاءُ فيه كَربٌ وبَلاء..
أبدِلها بشَقراوية..
مفروشةٍ كبطِّيخةٍ ناضجةٍ صفْراء..
ثمَّ أقِم لِنفسِك قصراً..
يَليقُ بالكِرام..
مِن المرْمر والرُّخام..
وامْنعْ عن هؤُلاء الهَمج..
شمسَ الشُّروق..
لهيبُها يُهيِّج العُروق..
خيرٌ لهم شمسُ الغُروب..
فُتورُها يُهدٍّئُ الأعصابَ والقُلوب..
 
5
تصرُّفاتُ شهريارَ الجديدَة..
زادتْ مِن غضبِ الرَّعية..
فأرسلَ قائدَه الهُمام..
لِيشرحَ بالتَّفصيلِ والتَّمام..
مَزايا ما أقْدم علَيه أميرُهم الحَكيم..
سارَ القائدُ الكَبير..
وخلفَه أشِدَّاء..
يسيلُ الموتُ مِن سُيوفهم الرَّعناء..
لأنَّ شَهريار..
علَّمهُ حِكمةً مِن ذَهب..
مفادُها: أنَّ الرَّعية تُبطرُها النِّعمةُ واللُّطف..
ولا يُربِّيها إلاَّ التَّجويعُ والسَّيف..
وقالَ مما قال:
أنَّ زواجَ الأَمير..
فيه خيرٌ كَثير..
سَتغزوكُم الخيرَات..
واليُمنُ والبرَكات..
أحمرُ الشِّفاه والخُدود..
وحاضِنات النُّهود..
والدَّخائنُ الفاخِرة..
وربْطاتُ العُنقِ الزَّاهرة..
وأطْنانٌ مِن الموزِ اللَّذيذ..
والنظَّاراتُ الملوَّنة..
والتُبّاناتُ المُزخرفة..
ومجلاَّتُ فنِّ ممارسةِ الجنْس..
والحلْوى مِن كلِّ الأَذْواق..
وقال أيضاً مما قال:
أنَّ حرمَ الأَمير..
علَيها الصَّلاةُ والسَّلام..
حاملٌ في شَهرها الأخِير..
وسيهلُّ إلى الوُجود..
وليُّ العهدِ بعد أيَّام..
والسرُّ في هذا الاختِصار..
يعودُ إلى بَركة الشُّقرِ الأخْيار..
وهدفُ موْلانا شَهريار..
تحسينُ الجنْس في هذي الدِّيار..
غَدا حُكمُ شهريار..
شيخاً طاعِنا..
تَرتجفُ ساقاهُ الصَّفراوان..
تُحاصرهُ سُخرياتُ العُيون..
ووَتْوتاتُ# الشِّفاه..
وقرَّرَ أنْ يضربَ بقبضَةٍ مِن حَديد..
كلَّ سوسٍ يَنخِرُ العرْشَ المجيد..
وكانتْ تَقاريرُ المُخبرينَ الأوْفياء..
تصلُه كلَّ صَباح ومَساء..
عن كلِّ همْسٍ..
عن كلِّ لمْسٍ..
عن كلِّ تنهيدَةٍ وزَفرة..
عن كلِّ أسًى وحسْرة..
قال أحدُ المُخبرين..
ذاتَ يومٍ في تقريرِه الخطير:
طفلٌ سيِّدي..
قَطفَ زهرةً مِن حديقتِكم الفَيحاء..
وقال ثانٍ:
- كلبٌ سيِّدي..
- قطفَ زهرةً مِن حديقتِنا الفَيحاء ؟
- بلْ بالَ على سُورها المنيع
- جريمةٌ لا نغفِرها لهذا الكلبِ الوَضيع
- وغازلَ كلبتَكم العزيزَة سيِّدي
- كلبٌ قَرويٌّ مجعَّد الشَّعر..
يُغازلُ كَلبتي..
وهي مِن أرْقى أَنواعِ الكِلاب..
تقرأُ الكِتاب..
وتأكلُ ما لذَّ وطاب..
وتشرَبُ العسلَ المصفَّى.. والماءَ الرُّضاب..
وتشهدُ كلَّ اجْتماعاتي دونَ غِياب؟
وقال ثالثٌ:
- نملةٌ سيِّدي
- نملةٌ قطفَتْ زهرةً مِن حديقتي ؟
بالتْ على سورِ حديقتي ؟
غازلتْ كَلبتي ؟
ماذا فعَلت؟
قلْ كِدتُ ألفظُ رِئتي..
- سرقَتْ حبَّةَ خَرْدل.. مِن حديقتكُم العصْماء.
ارتجفتْ عينُ الأَمير.. وقال هائجاً كالبَعير:
يا لَلْبلاء !..
يا لَقِلَّة الحياء !..
تَعضُّ هذهِ الحَقيرة..
يداً امتدَّت إليها بالفضلِ والنَّعماء ؟
وحكمَ الأميرُ في الحال..
بعقْله الحَصيف..
أحكاماً أرحمُ مِن الضَّرب بالسَّيف..
اقْطِفوا للطِّفل عَيْنيه..
لينمُوَ حبُّ الجمالِ لدَيه..
واقْطعوا للكلبِ الأسْنان والأضْراس..
ليعرِفَ قيمةَ بناتِ المُلوك..
مِن بَنات النَّاس..
أمَّا النَّملةُ الحَقيرة..
فقودُوها إليَّ ذَليلة..
ستَنالُ شرفَ الشَّنق بخيطٍ مِن صبَّار..
في رحابِ حَديقتي..
لتكونَ عبرةً لكلِّ الأشْرار..
وبعدَ أنْ نظرَ شهريارُ العَظيم..
في شُؤون الرَّعيَّة..
وحكمَ في أمورِهم بالعدلِ والسَّوية..
أحسَّ بالإرهاق والتَّعب..
فَدعا الجَواريَ والقِيان..
مِن مُغنّياتٍ.. وراقِصاتٍ.. وعازفاتِ ألحان..
 
6
حينَ نامَ شهريارُ..
وغطّاهُ أزيزُ الشَّخير..
تسلَّلَ كَابوسٌ مُريع..
إلى مَضجَعه الوَديع..
رأى النَّخلةَ مزهوَّةً إلى عِنان السَّماء..
يانِعةً خضْراء..
عراجينُها عسْجدية..
كأنَّها ذهبٌ مُذاب..
ترْمي برَطْبها فلذاتِ الأكْباد..
سالَ لُعابُه..
مدَّ إليها البَصر..
تحرَّكت رِجلاه..
يَبغي إليها الاقْتراب..
تحرَّكتْ جُذوعُها مِن تحتِ التُّراب..
كأرجلِ أُخطبوطٍ مُدبّبة..
التفّتْ حَوله..
تحرَّكَ ذات اليمين..
وذاتَ الشِّمال..
استغاثَ بالأصْهار..
تصبّبَ منه العَرق..
أحسَّ بالاختِناقِ والانصِهار..
قام مِن الكابوسِ الرَّهيب..
نادى جُنده الأوفِياء..
وسارَ أمامَهم حانِقاً.. إلى النَّخلةِ العصْماء..
كان الكَون ظَلاما..
وكان القَمر.. شيخاً أمْردا..
مُنتفخَ العَينين أَرمدا..
حين وصَلَها غاضِبا..
وجدَ عِندها الدَّرويشَ راهِبا..
فأشهرَ في وجْههِ الحُسام.. وقال:
قدْ جمعَتني بكَ الأيَّام..
لا شيْءَ يُشفي مِنكَ الغَليل..
غيرُ قَطعِ رأسكَ الثَّقيل..
وفرْمِ عِظامِك.. وسحْقِ قَلبكَ العَليل..
اسْتدارَ الدَّرويشُ بِثبات.. وقال:
اسْمعْ يا أنتَ..
يا مَن نَحَتَّ مِن جُمجمَتي عَرشاً وجلسْتَ..
واتَّخذْتَ من ساعديَّ..
واتخذتَّ مِن ساقيَّ..
أقداماً لِعرشكَ وجلسْت..
لَستَ سيِّدي..
عُيونُك لا تُخيفني..
شبيهةٌ هي.. بعيونِ القِطط..
وصوتُك الَّذي تَخاله..
يشكُّ فُؤادي.. كالسَّهم..
يُشبه دَويُّه.. دويَّ الضَرط..
شاربكَ الكثُّ الغليظُ..
يذكّرُني.. بما كنّا نرسمُ.. تحت أُنوفِنا.. بأقلامِ الرّصاص..
وبأصابعِ الفحمِ..
ثمَّ ندوسهُ بالممْحاة.. أو بقطرة ماءٍ..
وكرشُكَ المنتفخةُ..
كبالونٍ يعبثُ به الأطْفال..
ليسَ فيها دمي كما تعتقِد..
ليس فيها كِبْريائي.. كما تعتقِد..
هذه أُبَيرة بيَدي..
دعْني أَغرزها فيك..
في كرشِك المُنتفخة..
لنْ يخرجَ منها سِوى.. ريحٍ منْتنة..
أنتَ.. يــا سيّـ ... ئتي..
يــا سَوأتي..
 
7
وانْدفعَ الأوفِياء..
يُشهِرونَ السُّيوفَ والحِراب..
في وجْه درويشٍ أَعْزل..
لا يَملكُ غيرَ قلبٍ مُولَّه..
وضفيرة مِن شمسِ الشُّروق..
طَرحوه أرْضاً.. وداسوهُ بالأقْدام..
ظلَّ يَصيح.. للنَّخلةِ ربٌّ يحْميها..
للنَّخلةِ ربٌّ يحْميها..
غدتْ حبَّاتُ الرَّطب.. حجارةً مِن سجِّيل..
جمعَتها طُيورٌ أَبابيل..
حلَّقتْ بها في الفضَاء..
ثمَّ رمَتها على رُؤوسِ الأغْبياء..
فجعَلتهم عصفاً مأْكولا..
ومُسِخ شَهريار.. قِرْزِيراً# لهُ خُوار..

5 - قرزير: كلمة نحتها من كلمتي: قرد وخنزير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى