الأحد ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم عاطف أحمد الدرابسة

اعتقالُ عقلٍ..

قرَّروا أن يرفعوا الحصانةَ عن عقلي، وأصدرُوا أوامرَهم باعتقالِ أفكاري، واستدعُوا لها أذكى المُحقِّقينَ لتحليلِها، واكتشافِ ما تُخبِّؤه رموزُها، وما تختزلُه جملُها، من معانٍ ثوريَّةٍ، أو نازيَّةٍ، أو شيوعيَّةٍ، أو أُصوليَّةٍ، أو سَلفيَّةٍ، ليُقدِّموا بها لائحةَ اتِّهامٍ قد تؤدِّي إلى إعدامي.

توقَّفُوا كثيراً عندَ تلكَ الشَّجرةِ التي تتكرَّرُ كثيراً في كتاباتي، حاولوا أن يربِطوا بين أشجاري والعواصفِ من جهةٍ، وبين الشَّعبِ والسُّلطةِ من جهةٍ أُخرى، وقالوا: ما هذه الشَّجرةُ إلَّا صورةٌ عن الشَّعبِ ؛ فأغصانُها يابسةٌ من قلَّةِ الماءِ، وأوراقُها ذابلةٌ صفراءُ، كأنَّها مريضةٌ منذ الأبدِ، وهذه النُّدوبُ المتناثرةُ على الجذعِ كالنُّجومِ، ما هي إلَّا آثارُ السَّجنِ والتَّعذيبِ، وتلك الشُّقوقُ التي تظهرُ في السَّاقِ، لا تبدو علامةً على التَّقدُّمِ في السِّنِّ، لعلَّها آثارُ الفقرِ، والإهمالِ، وهذا السُّوسُ الذي ينخرُ في السَّاقِ، كأنَّه الفسادُ الذي يجتاحُ مفاصلَ البلدِ.

في هذا البلدِ، لا تتمدَّدُ الجذورُ، لا تصلُ إلى الماءِ أو إلى الغذاءِ ؛ فتؤولُ الشَّجرةُ إلى حطبٍ، في مواقدِ الكِبارِ، ومدافئِ القصورِ التي شُيِّدت من حجارةٍ فاسدةٍ، وطُليَت بعرقِ الكادحينَ، والجياعِ.

وتوقَّفوا كثيراً أمامَ البحرِ، فوجدوهُ بلا موجٍ، ولا مدٍّ أو جَزرٍ، كأنَّه جسدُ امرأةٍ بعدَ الاغتصابِ، كلُّ السُّفنِ التي تعبرُ على ظهرِهِ تنتهي في جيوبِ شواطِئهم، وكلُّ رِيحٍ تحملُ عطرَ ثورةٍ، أو تمرُّدٍ، تُذبَحُ بسكِّينٍ مثلومٍ، قبل أن تصلَ إلى أوَّلِ نافذةٍ في شواطِئِهم.

رفعُوا الحصانةَ عن قلبي، وقادُوهُ إلى غرفةِ التَّحقيقِ، مُكبَّلاً، مُكمَّماً كأنَّه مُجرمٌ خطيرٌ، وحينَ ابتدأَ التَّحقيقُ، اكتشفوا مئاتِ النِّساءِ تُقيمُ هناك، واكتشفوا أنَّ لكلِّ امراةٍ قضيَّةً، وأحلاماً بسيطةً ؛ لكنَّها عصيَّةٌ عن التَّحقيقِ، ووجدُوا في قلبِ القلبِ، امرأةً تختلفُ عن كلِّ النِّساءِ: سمراءَ كقمحِ حوران، شعرُها كموجِ البحرِ، كفرحةِ صيَّادٍ فقيرٍ، وجهُها كالمصابيحِ التي سُرِقَت من الأزِّقةِ والقلوبِ، ابتسامتُها كجرحٍ عميقٍ، في خاصرةِ طفلٍ يتيمٍ، جسدُها يتلَّوى كالممرَّاتِ الضَّيقةِ في أحياءِ الفقراءِ، صامتةً كالمقموعينَ، صوتُها مُكبَّلُ القدمينِ، كمُعتقلِي الرَّأي، كلَّما حاولوا أن يستنطِقوا صمتَها، لاذَ صمتُها بالصَّمتِ أكثر.

تفحَّصوا كلَّ تفاصيلِ جسدِها، وجدُوه أصفرَ بلونِ المرضِ، لا بلونِ الذَّهبِ، كأنَّه أرضٌ لا أثرَ فيه لبقايا حصادٍ، أو أثراً لأقدامِ مُزارعٍ مكدودٍ، كأنَّه أرضٌ استسلمت للعذابِ، والظَّمأِ.

بين الجُرحِ والجُرحِ، أزهارٌ مقطوعةُ الرَّأسِ قبل أن يدخلَ العطرُ فيها مرحلةَ المراهقةِ الأولى.

وبين الجُرحِ والجُرحِ، سنابلُ قمحٍ جفَّت قبل أن تصلَ إلى سنِّ البلوغِ.

وبين الجُرحِ والجُرحِ، سكاكينُ، وخناجرُ، ورصاصٌ، تنزِفُ دماً، وماءً، وفقراً، وجوعاً، يرسمُ على الجسدِ صورةً لأطفالٍ يخرجونَ من أعماقِ الجُرحِ، ثمَّ يتسلَّقونَ سُلَّماً من أجسادِ الفقراءِ، واليائسينَ، وأمامَهم جبلانِ كأنَّهما نَهدانِ ثائرانِ، كلُّ نَهدٍ فوقَه عَلَمٌ بثلاثةِ ألوانٍ: أحمرَ بلونِ الدَّمِ، أصفرَ بلونِ المرضِ، وأسودَ بلونِ الموتِ، وبين الألوانِ صورةٌ لشجرةٍ عتيقةٍ، تُنشِدُ: أنا الشَّعبُ، (إذا الشَّعبُ أرادَ الحياةَ).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى