الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحمد طالب

" الأدب / ومقاربته للواقع "

إن علاقة الفنان بمجتمعه علاقة وطيدة ، و هي في الوقت نفسه أكثر وأدق تحددا لدى القدماء ، و بخاصة لدى الإغريق الذين عدوا الفنان نبي قومه و طفلهم في الوقت نفسه . فهو ليس المعبر عن عقيدتهم فحسب ، بل بالإضافة إلى هذا تتبلور فيه كل تصوراتهم الأولية البسيطة. [i]

فنظريات "أفلاطون" النقدية قد تميزت بطابع فلسفي مستمد من عالم المثل، و قد اتهم الشعراء ، بأنهم لا يستطيعون أكثر من خلق مرآة للطبيعة بتصوير مظهرها دون حقيقتها. فأقصى عن جمهوريته الشعر الغنائي، و شعر الملاحم ، كما منع تداول أشعار " هسيودوس " لأنها تساعد على إفساد الجيل الناشئ ، و لم يبح إلا الفن الذي يمدح الخير و يمجد الآلهة والأبطال [ii]، و بهذا يكون قد نهج منهجا أخلاقيا في الأدب و الفن . أما تلميذه "أرسطو" فقد حاول استنتاج نظريات تتعلق بطبيعة الأدب في كتابيه " فن الشعر " و " فن الخطابة " ورفض فكرة المحاكاة الحرفية مشيرا إلى أن الفن انتقاء من الواقع لا بالطريقة الحرفية ، وإنما من خلال معادل موضوعي حي . لأن الشاعر أو الفنان بصفة عامة لا يقصد بتصويره ما هو كائن فعلا، و إنما يعنى بتصوير ما ينبغي أن يكون. و وظيفة الأدب عنده ، هي التطهير النفسي الناجم عن إثارة عاطفتي الخوف و الشفقة في المأساة . و قد وقف عند الحدود الشكلية للعمل الفني ، ما دام هذا العمل في نظره، هو عمل كامل مستقل بذاته و أن جماله " كجمال أي كائن حي ، يتوقف على حجمه و على تنظيم أجزائه " [iii]. أما الفيلسوف "هوراس" فقد حدد وظيفة الأدب و الفن بصفة عامة ، ب! أنه يهدف إما للفائدة ، أو إلى المتعة ، أو إلى جمع المتعة و الفائدة معا. [iv]

ورثت أوربا التراث اليوناني و الروماني ، من علم و فلسفة ،لتجعل منه أساسا للبعث الحضاري ، و مثلا أعلى تقلده و تسير على منواله. و هكذا سار العصر الكلاسيكي، يدعمه مجتمع أرستقراطي، تملك فيه الطبقة العليا مصادر الإنتاج و تتحكم في جهد المنتجين، ومن الطبيعي أن يتأثر الأدب و النقد و الفن بصفة عامة بروح العصر، فاستنتجت أحكام حول الإنتاج الفني، بأنه لا يزيد عن كونه صورة لجمال ثابت مستقل عن الزمان و المكان. ومماثل لحقيقة لا تتغير من الطبيعة الإنسانية، كما أصبح أبطال الأعمال الأدبية، من الملوك و الأمراء والأشراف.

و في القرن التاسع عشر، اشتد التيار الرومانسي الذي كان ثورة عارمة على الأصول الثابتة والقواعد الصارمة، و قد مهدت لذلك ظروف سياسية و اجتماعية واقتصادية، طبعت تلك الحياة بطابع نفسي متميز، عرف به هذا الاتجاه . إذ " حان الوقت للأديب لكي يصبح ضميرا متأزما في أثناء 1850 وكانت أول حركة صدرت عنه ، هي اتخاذه الالتزام بشكله الحقيقي إما بتحمله عبء موقفه أو برفضه الكتابة عن ماضيه." [v]

و من أهم النظريات الفلسفية التي وضعت في هذا العصر، ( أن مشاكل الإنسان ليست نابعة كلها من طبيعته كإنسان بل من وضعه كفرد في المجتمع ) [vi] و بهذا تعتبر الحركة الرومانسية ، أول حركة وضعت (نواة) الموضوعات الاجتماعية في الأدب. و قد أحدثت تحولا هاما فبي مجال الأدب والنقد بزعزعتها القيم و المفاهيم الأخلاقية و الجمالية الثابتة، التي كانت تخدم المجتمع الأرستقراطي ، لكن جنوح هذه الحركة القوية إلى المثالية و الخيال واللجوء إلى الطبيعة ، مع مساندتها الطبقة التي انتمى إليها كتابها، جعلها تظهر بم! ظهر سلبي، لا يتجاوب أصلا مع روح الالتزام ، التي تمقت الهروب من الواقع والانطواء على الذات.

إن فكرة الالتزام الفني، التي نبتت على أرضية العلم، و صخب المعامل، أثيرت بشكل تلقائي على يد " كولريدج " و " ماثيو آرنولد " حينما أعلنا أن الفن "نقد للحياة" جاءت هذه الدعوة رد فعل لطغيان العلم التجريبي، و فقدان الثقة في النوازع و الاتجاهات التجريدية، حيث دعت الضرورة إلى تحميل الشعر إعادة نشر القيم و المبادئ الإنسانية، في هذا العصر الذي تميز بالمادية المطلقة ، و من تم أصبحت الدعوة إلى العودة إلى الأدب أمرا هاما ، لخلق نوع من التوازن والتعويض ، في عصر هيمنت عليه صلابة العقل بانتشار الآلة و ازدهار الصناعة بصفة مطردة. " و لسوف يكتشف الجنس البشري على المدى الطويل، أنه يتعين علينا أن نلجأ إلى الشعر لكي يفسر لنا الحياة ، و يهدئ من روعنا ، و يشد من أزرنا، و لسوف تبدو علومنا ناقصة بدون الشعر" [vii]. و قد اشترط " ماثيو آرنولد " أن يكون هذا الشعر على قدر وافر من " الصدق الشعري و الجمال الفني " حتى يمكن للبشرية اتخاذه سندا على مدى الدهر . و بذلك تكتسب القيم الإنسانية عن طريقه صفة الخلود و الاستمرار.

و تطورت بعد ذلك فكرة أن الأدب " نقد للحياة " على يد الواقعية الاشتراكية ، التي أخضعتها لمبادئها الإيديولوجية الثورية ، فظهرت عدة مقالات الأدباء و النقاد [viii] .أمثال ف.ا. لينين و ماوتسي تونغ ... إذ اقتصرت فيها آراؤهم على النظرية الماركسية أكثر من اقتصارها على النقد الأدبي المحض، بحكم تخصص هؤلاء في المجال السياسي أكثر من تخصصهم في مجال الأدب و الفن، بالإضافة إلى اهتمامهم الخاص و المتزايد ، برفع المستوى الثقافي للطبقة "البروليتارية" .

و يعتبر معظم النقاد و على رأسهم " توماس مان " أن "جورج لوكاتش " هو أشهر النقاد الماركسيين و أكثرهم أهمية ، و الذي يبدو جليا أن " جورج لوكاتش" اهتم بالتمييز بين الواقعية الاشتراكية و الواقعية النقدية ، و هو يرى أن الواقعية الاشتراكية قادرة على أن تصور من الداخل البشر الذين يكرسون طاقتهم لبناء مستقبل مختلف. [ix]

كما يأخذ على الواقعية النقدية عدم تعرضها لتصوير المشكلات الطبقية من الداخل، فيصفها بالعجز عن سبر غور المجتمع بطرق تنأى عن " الفتوغرافية " للكشف عن نتائجه النفسية و الخلقية، مع فشلها في امتلاك المنظور المستقبلي أو " الوعي الصحيح " للذات الإنسانية و المجتمع. و هو في هذا التقسيم يركز بصفة خاصة على طبيعة الإنسان الاجتماعية و دوره في التاريخ. و قد أمل " لوكاتش " في أن تلتحم الواقعية النقدية مع الواقعية الاشتراكية، إذا تشبتت الأولى بالاستبصارات العقائدية الاشتراكية ، لأنها تمكن الكاتب "من أن يعطي تقريرا أكثر شمولا و عمقا عن الإنسان ككائن اجتماعي أكثر مما تستطيع أية عقائدية تقليدية." [x]

و الواضح من هذا أن نظرته الإيديولوجية للأدب جعلته يفرق بين الأشكال الفنية ، ويرجح بعضها على الآخر ، منطلقا من المنظور نفسه، ." أدرك "لوكاتش" العلاقة "المجردة "ذات الطابع الجدلي . مما جعله يستكمل منهجه النقدي من التحليل الماركسي للمجتمع." [xi]

و لقد فضل " لوكاتش" " توماس مان " في استخدام المونولوج الداخلي على "جيمس جويس" بحجة أن الأول يمثل النظرة الديناميكية المتطورة. بينما "جويس" يمثل النظرة الحسية الجامدة. و "لوكاتش " في كل هذا يخشى أن يتلف الشكل الفني المتسم بالجمود و المبالغة مضمونه الإنساني ، و يفقد الصلة بعملية النشوء و التكوين الاجتماعي . و قد ردد عبارة "تولستوي" بأن الخطر الأعظم، يكمن في انفصال الفن عن مشاكل الحياة الكبرى. و قد اعترض كذلك على فكرة فصل الزمان عن العالم الموضوعي. محملا الفلسفة المثالية الذاتية مسؤولية ظاهرة تجريد الزمان عن التغيير التاريخي و خاصية الواقع، التي انتقلت بعد ذلك إلى الأدب ، و يعتقد في هذا أنه "عندما يعزل الزمان بهذه الطريقة ، فإن عالم الفنان يتحلل إلى عديد من العوالم الجزئية، و هنا تسود النظرة الجامدة إلى العالم." [xii] على خلاف من "رينيه ويلك" الذي يرى أن إلغاء عنصر الزمان و المكان يسهل مهمة النقد الأدبي المقارن، كما يعطي للعمل الإبداعي ، بعدا إنسانيا شاملا لا يخضع للتجزئة الإقليمية الضيقة." [xiii]

كذلك يرفض "لوكاتش" كلية إغراق الأديب في معاناته و تجربته الذاتية مهما كانت صادقة أو أصيلة ، خشية ازدياد تفاقم التمزق في التناسق الفني. و قد اعتبر " لوكاتش" "جيمس جويس" و من حذا حذوه من ممثلي الأدب الطليعي " أنهم أفضوا إلى مجال ضيق يصعب على القارئ فهم ما يجري هناك ، فحرمت جماهير الشعب الغفيرة من استيعاب ذلك الأدب ، و السبب أنه يفرض عليهم فهما ذاتيا ضيقا للحياة." [xiv]

من كل هذا نفهم أن " جورج لوكاتش" لم يكن يهتم بالشكل الفني في حد ذاته ، إذ تحول عنده إلى معادل لمضمون قد يساير التقدم الاجتماعي أو يضمحل مع الانهيار الإيديولوجي ، و لهذا اقتصر تحليله النقدي على أعمال تقليدية محددة تتماشى مع منهجه النقدي ، و قد رأى فيها مشاكل تستدعي الاهتمام السريع ، مصنفا الأعمال الروائية إلى نماذج ، مميزا بين الرواية المثالية ، و السيكولوجية ، و التعليمية ، و ذات الطابع الملحمي ، منطلقا أساسا في هذا التنميط من العلاقة بين نموذج البطل و عالمه الخارجي. [xv]

و قد يؤخذ على "لوكاتش" أنه لم يستطع التفتح على الأعمال الإبداعية الجديدة ، بالإضافة إلى تفضيله أعمالا دون أخرى ، بدوافع إيديولوجية بحتة ، كذلك تركيزه الشديد على المضمون أفقده الاهتمام بالشكل الفني للرواية. و هذا على العكس من نظيره " لوسيان جولدمان" ، الذي أبدى مرونة و مقدرة فائقة في استنتاج " بناء البيئة الاجتماعية " من " الشكل الروائي " على الرغم من تنوع الأعمال ، التي طبق عليها نظريته المتبلورة بشكل ناضج و جدتها المستمدة من أفكار "جورج لوكاتش " و "ريني جيرار" و تحليلاتهما . والأدب في مفهومه الخاص " هو التحول الضمني المباشر للحياة الاقتصادية إلى حياة أدبية ." [xvi]

و نظريته الجديدة مبنية أساسا على العلاقة بين " بناء الرواية " و "بناء قيم التبادل المستمدة من التفسيرات المرتبطة بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية. [xvii] وفيما يرى " آلان روب جرييه " أن هذه الملابسات ، تعتبر في منظور الأدب أشياء ثانوية . " و إذا كانت هناك نظرية معينة عن الوظيفة الاجتماعية لهذه الأشياء ، فإنها إذا كمنت وراء الوصف ، لا يمكن إلا أن تشوه رسم هذه الأشياء وتزوره تماما ، مثلما فعلت النظريات السيكولوجية والخلقية القديمة ." [xviii]

و الحقيقة أن " جولدمان " يعترف شخصيا بأن نظريته النقدية لا تنتمي إطلاقا إلى النقد الأدبي ، إذ تندرج بشكل طبيعي تحت جناح علم الاجتماع الأدبي. [xix] وليس في ذلك أدنى شك ، بأن العامل الاقتصادي ، الذي بنيت عليه النظرية ، لا يمثل إلا الجانب المادي من الحياة العارمة.


[iعز الدين إسماعيل " الشعر العربي المعاصر " دار الفكر العربي، 1978، ص : 380.

[ii" جمهورية أفلاطون " نقلها إلى العربية حنا الخباز-دار العلم-بيروت-1980-ط2-ص66.

[iiiأرسطو " فن الشعر " ترجمة إبراهيم حمادة –مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة-1983-ص31.

[ivمحمود الربيعي " في نقد الشعر " دار المعارف- القاهرة-1975-ص:39.

[vكتاب Roland Barthes «Le degré zéro de l’écriture» éd. du seuil – Paris-1979-p.8

[viمحمد مندور " الأدب و مذاهبه " دار النهضة-القاهرة-د.ت.-ص52.

[viiماثيو أرنولد " مقالات في النقد " ترجمة علي جمال الدين عزت- الدر المصرية-القاهرة-1966-ص:20-21.

[viiiأذكر على سبيل المثال: ف.ا.لينين " في الأدب و الفن " ترجمة يوسف حلاق-منشورات وزارة الثقافة-دمشق-173.

[ixجورج لوكاتش " معنى الواقعية المعاصرة " ترجمة أمين العوطي دار المعارف ، القاهرة ، 1971،ص126.

[xالمرجع نفسه ، ص 154.

[xiكتاب Robert Escarpit «le littéraire et le social» Flammarion , 1970, p.16.

[xiiجورج لوكاتش " معنى الواقعية المعاصرة " ص 47.

[xiiiرينيه ويلك " نظرية الأدب " ترجمة محيي الدين صبحي ، مطبعة خالد الطرابيشي ، 1972 ، ص 45- 55.

[xivجورج لوكاتش " دراسة في الواقعية " ترجمة : نايف بلوز ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق،1972-ط2،ص160.

[xvكتاب Georges Lukacs «La théorie du roman» éd. Conthier,1963p.169-170.

[xviكتاب Robert Escarpit «Le littéraire et le social» p.16

[xviiكتاب Lucien Goldmann «Pour une sociologie du roman» éd. Gallimard, 1964,p.38.

[xviiiألان روب غرييه " نحو رواية جديدة " ترجمة : مصطفى إبراهيم ، دار المعارف، د.ت. ص46.

[xixكتاب Lucien Goldmann «Pour une sociologie du roman» p.13


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى