الخميس ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٣

الثقافة العربية بين التقديس والإقصاء

بقلم: فاطمة الشيدي

إن ثقافتنا العربية في وضعها الراهن – عكس ما كانته في زمانات الإشراق والتعددية – هي ثقافة متطرفة، ثقافة تعتمد فلسفتي الإقصاء أو التقديس وبينهما برزخ لا يبغيان، ولا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار..

إن ثقافة الاختلاف غير موجودة أصلاً في ثقافتنا العربية، ولا أدب الاختلاف بل إن ركائز حتمية مثل (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) باتت مغيبة في واقع ثقافتنا المزري..

لقد صار زمن الغنائيات بالآخر وجلد الذات ورفع الأثقال والتسلق على الجبال البشرية من المصطلحات الأكثر رواجاً في سوق التثاقف العربي، ففلان أعلم الناس والآخر أجهل الناس، ومن تبع سنتي فهو مني، ومن لم يتبع سنتي فهو لا شيء، سمتين للفكر العربي المثقوب والنظرة الناقصة للآخر إنها فلسفة الشللية ورفع ذويها إلى مراتب النجوم وشطب من دونها من الجمال الفكري والماراثون الثقافي الأعظم تلك الشللية التي أفرزت شللا معرفيا وفكريا عربيا شاملا.

ولعل التوابيت أبداً جاهزة لنضع فيها كل محترف وهاو على خرائط الإبداع والثقافة.. فتوابيت أعلم العلماء وأشعر الشعراء أو تابوت أجهل الجهلاء وأقل الشعراء.. بل أن تلك التوبيت غير مستندة إلى موضوعية أو شرعية فكرية ثقافية وإلى كتب صدرت أو إلى سجال علمي أو فكري، بل إلى مجاملات ثقافية وانتماءات جماعية لفكر ما أو شعور ووساطات تعارفية وانتمائية تقدم الردئ وتقصي الجيد.

إن الثقافة السمعية هي الأكثر تأكيداً للذات العربية بكافة مستوياتها والذاكرة الشفهية هي الأكثر قسوة وامتثالاً بين يدي الحيوات الثقافية العربية ففلان أعظم العظماء لما قد قيل عنه ربما ممن لا يعي معنى ما يقول ذلك العظيم، والآخر أسفل السافلين لأن مغرض، حك جلده بمشرط معتمدا نواياه السيئة أو لغاية في نفس يعقوب قضاها.. لذا لا عجب أن نجد أنفسنا أمام ظاهرة رفع الأثقال الثقافية وإن يمتلئ العالم بهم بشكل لا نستطيع معه حمل الأسماء بدل من حمل الإرث الثقافي والمعرفي والحضاري لصاحبه ولا غرو إن أفرزت تلك الثقافة المتمزقة ظاهرة تسلق الجبال لهواة التسلق من النباتات الطفيلية لتقتات بشهرة بعض القمم والقامات الثقافية..

إن ثقافتنا العربية تحتاج إلى غربال، وتنظير علمي محدد ونقد ثقافي عام لأوضاعها الراهنة للبعد عن تقديس ذوات وشراء كتبها وإفرازاتها المعرفية لأسمائها فقط بغض النظر عما تحمله تلك الأسماء من وهن وضعف في حالاتها الآدمية المتسمة باللاكتمال، والبعد عن ظاهرة الإقصاء التي تستند إلى الجهل بالاسماء، حيث يتم إقصاء الآخر لا لاستحقاقه لذلك الإقصاء المعرفي لوهن في مفاصلة الثقافية وجسدة المعرفي بل لأنه لا يماثل الذوات الثقافية ولا ينتمي للأحزاب المعرفية ولا يسير في ذات الاتجاه..

إن ظاهرتي التقديس والإقصاء أفرزت العديد من الإشكالات الثقافية والمعرفية مثل ظاهرة التماثل في الفعاليات الثقافية وظاهرة الشللية الثقافية وظاهرة اللاتعددية في الفكر العربي، وظواهر التناحر والتباغض التي لا تليق بالثلة المثقفة أو النخبة والصفوة – التي هي كافتراض حتمي معرفي - هي لسان حل الأمة وضميرها الواعي... بل وقضت على أبرز الملامح الثقافية وهي التعددية بالضرورة ولذة التباين المعرفي وبهاء الاختلاف الثقافي، في حين تفقد الثقافة قيمتها وروعتها ووهجها بانطفاء تعدديتها واشتعال اختلافاتها!

لذا فإن استعار حدة الجدل والاختلاف هو دليل حيوية الثقافة والتسليم المطلق وتقديس أو إقصاء الذات أو الآخر هو من أشد الظواهر السلبية للثقافات وهذا هو حال الثقافة العربية آنا.

إن ظاهرتي التقديس أو الإقصاء لم تحكما الثقافة العربية في نظرتها إلى مفرداتها المعرفية ورموزها الثقافية فقط بمعنى لم تحكماها في نظرتها الداخلية فقط بل امتد الحكم ليشمل الآخر في ثقافاته وتعدداته المعرفية فانقسم الحال إلى مقدس لثقافة الآخر باعتبارها نموذجاً أعلى وبين مقصي لها اعتبارها بدعة وضلالة عن الفكر العربي، ومتى كان للفكر وجوه أو سمات أو صفات أو حتى أشكال وأشخاص ومتى كان الفكر ذاتاً..

إن التعامل الواعي مع الثقافة والمعرفة والفكر ينبغي أن ينطلق من لا محدودية المعرفة ولا ثباتها ولا نمطيتها... بل ينطلق من اتساع الثقافة لتشمل كل التيارات والتوجهات والمذاهب والتعدديات المعرفية والإيدلوجية وكلما اشتد سعير حمى الاختلاف ووهج التباين ازداد جسد الثقافة صحة وبهاء وجمالاً.

بقلم: فاطمة الشيدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى