الأربعاء ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٩
بقلم عبد الجبار الحمدي

الجانب الآخر من الجسر الأحمر...

عالم مختلف كأن الله قد عندما خلقنا نسي أن يقيدنا بعنوان بشر، فبتنا كالقاذورات التي يلقي بها بعد صناعة مشوهة لإنسان ظننته شبه كامل حتى صارعته.. تقول لي أمي أني منذ الصغر وانا احب ما كان يفعله والدي قبل موته حيث كان يعمل في أحد المطابع ينقل منها بقايا الورق والجرائد والكثير من المطبوعات من وإلى عناوين مختلفة... سحقت والدي الأيام بسر لم تعلمه أمي حتى مات لكنها كانت تقول إنه يقرأ ويكتب وألزم عليها ان تلتزم بإكمال تعليمي ولو ماتت جوعا.. وهذا ما جعلها تتمسك بوصيته، تدفع بي لإكمال حلم أبي... كنا نكسب قوتنا من لملة وفصل النفايات كما هو أهل بقية الخربة.. لكني في كل شهر أذهب مع أمي الى صاحب المطبعة التي عمل فيها والدي كي تأخذ ما يعطيها صاحب المطبعة السيد سعيد من مال يكفيها لمصاريف متابعة دراستي... ذلك وعد آخر قد عمل عليه والدي كي يتكفلنا بعد وفاته، كثيرا ما حدثني السيد سعيد عنه ونبوغه في القراءة وحسن الكتابة وصياغتها، يبدو اني عشقت ذلك وسرى في دمي بعد أن مرره لي بعد رحيله فعشقت القص والكتابة..كنت أفعل ذلك بين يوم وآخر عندما أرغب في الإنصات لمن اتخذوا القص حكايات ليلا ما بعد شهرزاد... في تلك الفترة رافقني الحلم ظلا أحببته الى حد أن لا أسمح أن يبوح بغير سوداوية المستقبل الذي كنت أمر به في كل يوم عند ذهابي الى المدرسة والعودة منها حيث تلك البيوت الطينية والكثير منها من الصفيح... يتطلب مني أن أعبر الجسر الاحمر الذي يفصل بين صوبي الخربة التي نعيش وبين المنطقة التي ما ان أعبره كأني في عالم آخر نصفي اعتادته رغم قتامة ما فيه.. إنه يبعد قرابة الخمس كيلو مترات عن خربتنا..

الجسر الأحمر الذي يشمئز من يسمع عن ساكني الجانب الآخر حال معرفتهم بأنني من تلكم البيئة، كأن الجرب والحرمان والامراض والجهل تستوطن بها كي نقتاتها قوتا يوميا ليل نهار... لكني لم أعير اهمية الى كل ذلك فلدي أمر قد عزمت عليه، لذا دأبت على أن أذهب في المغرب الى مقهى عواد شبه القريب من سينما الكرنك في العشار المطلة على ساحة أم البروم التي أخذتُ هذا الأسم بحيرتي اشهر حتى عرفت أصله... يروق لي كثيرا أن استمع الى الاغاني التي يسوقها سماعات السينما خاصة أنها لكوكب الشرق .. طالما عشقت أغنية بعيد عنك كما عشقها أبي.. فما أن احط رحلي بالقرب من مجوعة المثقفين التي اعتدت سماع حديثهم عن القصة والشعر الى جانب حواراتهم في الجديد والقديم تعلو وجهي إبتسامة من يراني يحسب أني قد خلقت هكذا... أما عواد صاحب المقهى المتنوع بالثقافة يعلم جيدا حبي وشغفي الى الاستماع فيشير برأسه ويده الى تلك النخبة القادمة من بغداد العاصمة حيث تعمل في البصرة في دائرة الثقافة والكتب عني وهو يردد هاهو جاء إبن بيوت الطين والصفيح والله سيكون له يوم ما شأن، فأنا أعلم ان حاله لا يسر كذلك شكله لكن له من ذاكرة تحفظ ولا تنسى، الى جانب نفس في الكتابة لم أقرأ مثله، وقد عرض علي مرة قصة قصيرة كتبها لم أتلذذ بمثل كلمات كما هو صاغها وقد لفحته بضربة على قفاه وأنا اضحك قائلا:
أوتظنني أحمق او جاهل حتى لا أميز بين الممتاز والتافه!؟ كيف لك ان تقول انك كاتبها وأنت شبه إنسان؟ أكثركم يسرق ليعيش لكن أن يسرق كتابة غيره لم أرى أو اسمع بذلك!!! كانت ردة فعله عنيفة حيث بكى بنحيب طويل وأبتعد بعدها أخذ يقسم بالله والسبع السموات أنه من كتبها وكل ما أراده مني أن أقرأها قبل ان يريها الى الاستاذ صادق من خلالي، لكني حطمت أشرعة تفاؤله بصدي ونهري له فحزنت.. عنوانها كان هو من جذبني الى قراءتها (الجانب الآخر من الجسر الاحمر) عنوان طويل لقصة كانت تستعرض إنعكاس آلامه وأوجاعه بطريقة التعامل بوجهين ما بين العابر الى هذا الصوب والى الجانب الذي يعيش ... تناقضات وأحاسيس، سياق مفردات لم أتلذذ واستطعم بمرارة الوجع إلا من خلالها.... حقدت على نفسي بعد قرائتها كوني من هذا الجانب، ألم وصراخ العوز والمعاناة يهزم صورتي وجعلها ترتج، أيمكن ان يكون هناك بشر كما وصفهم في ذلك الجانب الذي لم أرتادته رغم أني اعبر في بعض الاحاين الى الطويسة وأماكن ليست ذات صلة أو قريبة من بيوت الطين والصفيح؟ لا زلت اتذكر جزءا منها حيث يقول اسمع أستاذ صادق:

ها هي أقلامنا تتسكع، تستجدي الفرح بعد أن كثر حزنها وصار شمسا لا تغيب إلا بغياب مبصر ضياءها، مؤتفكات أوقاتنا تتلاعب بالأقدار كما يتلاعب الزمن بالعزف على أصابع البيانو السوداء.. السوداء فقط مشوق رصيف النقد عندما توقفت عنده لأستمتع بنوارس الحروف التي تبوح بها من يم تتقافز الاسماك متعة إلا ان جشع النوارس يجعلها تنقض كي تهتك حرمة اليم فتغتال المرح..

يا له من صور ومفردات رائعة لا تصدر إلا من خلال فطحل في التعبير أليس ذلك؟

الاستاذ صادق: نظر إلي بعد ان توقفت اصوات من جلسوا معه يتطلع بي والى حالي وهو يبتسم... أهي معك يا... بسرعة إلتفت الى السيد عواد وهو يسأل ما اسمه؟
قلت إني أسمي حسن كامل الاوصاف...

ضحك الجميع على اسم أبي كامل الاوصاف.. فقلت هو أسم أبي المركب الذي اعشق إنه فعلا بالنسبة لي كامل الاوصاف لأنه أنجب شخصا مميزا مثلي.. أقولها ليس تباهيا لكن ثقة.. أساتذتي الكرام أجمل لحظات حياتي هي أني أتجاذب الحديث معكم والله لو أعطاني الله أمنية ما اخترت غير هذه اللحظة..

وسط ذهول الجميع بعد أن سمعوه يتحدث بعبارات لا تنم هيأته أو حتى شكله من بلاغة وصف كانت النظرات فيما بينهم تتسابق فضولا.. فسارع الاستاذ صادق... حسن هل القصة التي أريتها الى السيد عواد معك؟

حسن: نعم إنها معي

الاستاذ صادق: حسنا دعني أراها

كان العرق يتصبب مني، ابتعدت قليلا خوف ان يشموا رائحتي حيث كنت اعمل مع والدتي قبل مجيئي، لم اتوقع ان يكون هكذا الموقف معي.. فأعتذرت لهم بأدب ثم ابتعدت حيث استمع الى اغنية ام كلثوم وهي تقول.. نسيت النوم وأيامه... نسيت لياليه وأوهامه.. بعيد عنك حياتي عذاب.. يا لجنوني بهذا المقطع الذي لو عشته ألف عمر مركب غير عمري لما أشبعت شغفي بمفرداته

سرعان ما اخرجني عن شغفي صوت الاستاذ صادق وهو يقف ورائي يمسك بي.. يا ولد أصحيح أنت من كتبت هذه القصة أم أنك سرقتها؟! ثم هل أسم والدك الثلاثي كامل الاوصاف حسن النابغة الذبياني كما ذيلت قصتك؟؟

حسن: دون تردد أجبت نعم إنه كذلك، كثيرا ما احرجني طوله وغرابته وتسبب لي بمشاكل أستهزاء مع الطلاب الذين معي في المدرسة,, فلم يعلم حتى جيراننا في الخربة عن اسمي الكامل أرجوك لا تجهر به حتى لا يسمعه احد ويضحك..

لم أعرف الاستاذ صادق من قبل!؟ لكن وجهه قد تغير، امسك بيدي حيث السيد عواد وهو يقول له أين بالضبط يسكن هذا الفتى؟ وهل تعرف والده اقصد رأيته من قبل؟

السيد عواد: حقيقة وجها لوجه لا لكني كنت أراه يدفع بعربته في بعض الاحيان والى جانبه مرات حسن، أما أين يسكن ففي بيوت الطين او الصفيح على حد علمي؟ لم لا تسأله؟!!
الاستاذ صادق: ينظر لي بغرابة اين تسكن يا ولد؟

حسن: لم تسأل استاذ.. فأنا لم افعل شيئا ولم اسرق منك او من الاساتذة اي شيء؟ كل ما اردته ان تقرؤا ما كتبت، كونكم نخبة مثقفين طالما جالستكم بأني مسامرة الحديث والشعر وهذا ما حببني بالمجيء الى هنا رغم خطورة طريق العودة وخوفي من الكلاب والظلمة..
بحنو شديد أمسك الاستاذ صادق بي ثم حضنني بشدة وهو يقبل وجهي بشكل جعل كل من في المقهى يتساءل عن جنون فعله.. خاصة صحبه والسيد عواد.. ثم امسك بيدي بقوة وهو يقول:

الآن خذني الى بيتكم حيث أبوك دعني أراه بعدها ستعرف كل شيء..

حسن: لكن يا استاذ أبي متوفي منذ ستة أشهر وأنا أعيش مع والدتي فقط في خربة بيوت الطين والصفيح هناك على بعد خمس كلومترات بعد عبور الجسر الأحمر..

كانت الصدمة شديدة على الاستاذ صادق حيث أجلسه بعض من صحبه وقد خارت قواه وهوت فرحته بما أسمعته وهو يردد مات... مات كامل الاوصاف.. فقدته الى الأبد
علمت كما الجميع ان الاستاذ صادق هو إبن عم والدي وصديقه الوحيد في عائلة كانت تحقد على والدي كونه إبن من غير أم، فبعد وفاة جدي أدى الى نزاع عائلي، طرد على أثره أبي من حياتهم بل هدد، فهرب خوف سلب حياته من أجل الإرث الذي لم يعرفوا بقية العائلة أنه قد أوصي به الى والدي، إلا بعد فوات الآوان هرب والدي خوف من التهديد... فجاء الى البصرة تاركا واحة عشقه الكتب والمعرفة وسكن الخربة بعد ان ترك وراءه كل متعلقات حياته إلا ما كان يعرفه عنه السيد سعيد ابو المطبعة صديقه الآخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى