الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم بشير خلف

الجمال منبع المحبّة والخير

الجمال من مظاهر الحياة وخصائصها،فكلّ شيء جميل في هذا الوجود لأن الله سبحانه وتعالى خالق هذا الوجود جميل يحبّ الجمال، فتكوين المخلوقات يخضع لمقاييس خاصة دقيقة، وكلّ شيء فيها بمقدار.

الجمال من مكوّنات الحياة

ومن نعم الله على الإنسان أن وهبه الله شعورا فيّاضا، ورهافة حسٍّ تنزع به نحْو الجمال، والسعْي إليه..فأصبح الجمال من مكوّنات حياته، حتّى أصبح الجمال علما، وفنّا، وصناعة ودخل في الإبداع الأدبي بكلّ أجناسه، وارتبط بجميع أنواع الفنون، وصار اللّمسة الإنسانية الراقية في كلّ مرافق الحياة ومتطلّباتها بما في ذلك مقتنيات الحياة العصرية..

فإذا كان الناس أينما وُجدوا وعبْر كلّ العصور التفتوا إلى الجمال وهاموا به وأحبّوه، وسعوْا إليه وحاولوا تمثّله في حياتهم عقيدة، وسلوكا، وتعاملا حتّى وإن اختلفوا في تعريفه، فإنهم لم يعدموا وسيلة أن الجمال والخير والحقّ حقيقة واحدة..

لقد قال قديما الفيلسوف اليوناني أفلاطون:

« إن الجمال والخير والحقّ حقيقة واحدة، فليس بجميل ما يقوم على الباطل..»،ومن ثمّة فالجمال الذي هو دائما الحقّ والخير لا يلتقي أبدا مع القُبْح الذي هو دائما البشاعة في جميع صُورها، وما تُلْحقه من أضرارٍ بالفرد، والجماعة، والشعوب..وكل العصور شاهدة على ما تركه توظيف القبْح من مآسٍ في حقّ الإنسانية، وتدمير لموارد الشعوب، وإلْحاق الضرر الفادح بالبيئة أم الجميع.

الطبيعة أصْل الجمال

إن علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة جدلية، وعلاقة تلازمية، فمن المنطق أن تكون حميمية، وطالما أن الطبيعة في أصلها جمالٌ وحقٌّ وخيرٌ.وكم هو معروفٌ فالإنسان بالفطرة يستجيب للأشكال الطبيعية الموجودة أمام حوّاسه من حيث شكلها وأبعادها ولونها، ممّا يجعله يخلص إلى نتيجة تكامل تلكم العناصر مع بعضها، فيشعر بالإحساس بالرضا، وهو ما يُعبّر عنه العلماء المتخصّصون " بالإحساس بالرضا "، وإذا لم يتحقّق ذلك التناسق تولّد لديه إحساسٌ بالنقيض وهو ما يُطلقون عليه " الإحساس بالقبح ".فأيّ إخْلال بأجزاء مكوّنات الطبيعة معناه المسّ بذاك التناسق المولّد للرضا والراحة، والذي هو الجمال. إن الجمال من خصائص هذا الوجود الرّحْب، ومن عناصره التي تعدّدت وتنوّعت..أوجده الله سبحانه نعمة وحكمة، فهو مسرّة للنفس وموطن الراحة والأمن والرضا، وهو من آياته سبحانه وتعالى التي لا تُحْصى.
الجمال حقٌّ مشاعٌ لكل بني آدم

يقول المرحوم الكاتب الأديب حسن الزيّات(1885ـ 1968) الملقّب بصاحب الرسالة الثقافية:

((الحياة جميلة، وليس جمالها مقصورا على قوم دون قوم، ولا على طبقة دون طبقة..إنما الجمال هو وضاءة الفنّ الإلهي، أشاعه الله في الأرض والسماء، وهيّأ المدارك للاستغراق فيه، والاستمتاع به.))

إن الإنسان العادي السويَّ مثلما يشاهد الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها، ويلحظه في الإبداع الفني.

وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في الطبيعة أفسحُ وأجمل وأكثر جاذبية، حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار والطيور وسفوح الجبال، وجداول الأنهار، وشلالات المياه المنحدرة، وكثبان الرمال الذهبية، ومغيب الشمس، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70)

وقال أيضا:(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)..

أينما كنّا..الجمال فينا وحولنا

نسعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية، وفي النجوم المتلألئة ليلا، والقمر وهو يغمر الكون بضيائه..نتذوّق الجمال في الغيمة، في قوس قزح، في الضباب وهو يدثر ما حولنا بغلالة شفافة منعشة، نتذوقه في نزول الغيث وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة..الجمال نتذوّقه في عيون الضباء، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال، في ألوان الأسماك وشاطئ البحر ورماله الذهبية، وأمواجه..في حقول الزرع المترامية، في السنابل الناضجة وهي متمايلة بما حملت من ثمار الخير..في الخضار بألوانها المختلفة..في الأشجار المثمرة وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها يانعة شهية في عراجين النخلة وهي مدلاّة، مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف..وفي الأزهار بألوانها وأريجها.. وفي ملكها الورد بدون منازع..

عموما، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أو الصخور، أو الجبال، أو البحار، أو السماء، أو حتى السحب وتشكيلاتها، تهاطل الأمطار، تساقط الثلوج، أو التعبير الإنساني خاصة في الفنون المختلفة، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي، أو الحسّي، وقد يكون متعلقا بالجانب العقلي أو المعرفي، أو التأمّلي قد يتمثّل في حالات صامتة، أو حالات متحرّكة، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة، وقد يكون في وجْهٍ جميل، أو جسد جميل، أو مسرحية جميلة، أو مقطوعة موسيقية جميلة، أو فيلم جميل، أو لوحة فنية جميلة، أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيدي البشر، أو حديقة أخرى تولاّها الإنسان بالرعاية والاهتمام

الجمال ما يثير فينا المتعة

اختلافات هائلة بين تكوينات، وحالات الجمال وتنويعاته، فوصفنا العام لها بالجميلة إلاّ لكونها تثيرنا وتبعث المتعة والراحة في نفوسنا ، حيث يوجد الجمال في جميع مظاهر الحياة.. في الطبيعة والمباني والبشر والفنون واللغة... كما يوجد في العلوم، فالفيزيائي ريتشارد فينمان يرى بأن:

«المرْء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها»

ويعلن فيزيائي آخر بقوله:

«إن الجمال في العلوم الدقيقة، وفي الفنون على السواء هو أهمّ مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح.»

كلٌّ تلك موضوعاتٌ تجسّد الجمالَ، بل الطبيعةُ بأسرها لوحةٌ فنيةٌ تفيض بالحسن والجمال. إنّ النفوس السوية تثير لديها الإعجاب، وتتفاعل معها روحيا، إذْ تتحوّل لديها شعرا، أنشودة، عبادة وإجلالا وتسبيحا وتعظيما لمبدع هذه الطبيعة وخالقها.

يمكن أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد الأكثر تحسّسا للشيء الجميل برغم المحن التي يمرّ بها، وخاصة لدى الإنسان المؤمن الذي بحكم إيمانه المتين بخالق الكون والمتصرّف فيه وفي عباده، أوْكل أمره إلى الله الرحمن الرحيم، حينها تطمئن نفسه ويعود الهدوء والأمل إليه، فينعم بما كرّمه به، ويُحسن امتلاكه والتصرّف فيه، وتذوّقه بما في ذلك الجمال.. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتجاوز واقعه، ويسمو بنفسه إلى مراتبَ أعلى وصولا إلى سلوك الخير والفضيلة والحب في أسمى مراتبه.

القرآن الكريم يحثّنا على تأمّل الجمال

إن القرآن الكريم حثّ الإنسان المسلم على تأمّل الكون، والتدبّر فيما أبدعه الله فيه من مظاهر الجمال، وهو وصولٌ إلى محبّة مبدع هذا الجمال، فالجمال سببٌ من أسباب حبّ الخالق..إن المسلم الحقيقي والسوي في رؤيته لنفسه، وإيمانه بخالقه، وبكلّ ما يحيط به يذكّره بالله..وكل ما في الكون يأخذ وجهته نحو الخالق.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه، " إحياء علوم الدين ":

«... والمسلمون يحيطون أنفسهم بكل ما هو من شأنه أن يذكّرهم بالله، فإن كل شيء داخل هذه الأمة يأخذ وجهته نحو الله عزّ وجلّ، والجمال هو الطاقة المحرّكة للنفس الإنسانية من خلال فعْل الحبّ لله من حيث كونه عزّ وجلّ موضوع الجمال، فالله جميلٌ يحبّ الجمال، فالله الواحد الأحد هو منتج الخلْق ومبدع الجمال.»

وبذلك نلاحظ التداخل، أو التكامل بين الخلْق، والإبداع في الذات الإلهية.
الجمال الحقّ منبعه البصيرة

ويضيف الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:«...إن الجمال مرتبط بالمحـبّـة، فالجمال دافعٌ للحبّ، وسببٌ من أسبابه.»، إلاّ أن الحبّ المرتبط بالجمال، لا يُنتظر منه فائدة ولا منفعة، فالإحساس بالجمال عنده كما عند الفيلسوف الألماني المعروف (كانط) منزّهٌ عن الغرض، فالحبّ لذاته وليس لفائدته..

فالغزالي جعل الجمال الظاهر من شأن الحواس، والجمال الباطن من شأن البصيرة ـ القلب ـ وقد اقترن رأي الإمام أبو حامد الغزالي ببناء الاتجاه الأخلاقي الموحّد على أساس وقــيم، ومعالم التخلّق بأخلاق الله (المطلق)، هو بالقدْر ذاته رؤية الجمال الحقّ والتحلّي به..وهي المقدمة التي تحوي في ذاتها وحدة الخير المحض، والجمال في الوجود كلّه.

كما كان للأفكار الصوفية تأثيرٌ على مفهوم الجمال، حيث تقوم الفكرة الأساسية لدى الصوفية، أن الإنسان يستطيع أن يتّحد في ذات الله روحيا عن طريق الوجْدان والحياة المتقشّفة، والتنسّك، والعبادة الخالصة، وتنقية الروح والنفس من جميع الرغبات، والشهوات الدنيوية ، ومتى ما يصبح في حضرة الذات الإلهية يدرك أن الجمال الحقيقي هو فيما يرى من نورٍ، وما جمال العالم إلاّ انعكاسٌ للجمال الإلهي الحائط بجمال صورته الظاهرة، وبين منْ يحبّ نبيا من الأنبياء لجمال صورته الباطنة.

وهناك قولٌ حاسم للغزالي أيضا في موضوع الجمال وهو يقول:

«منْ لم يُحرّكه الربيعُ وأزهارُه، والعودُ وأوتارُه، فهو فاسدُ المزاجِ ليس له علاج ٌ.»

وبالرغم من مآسي الحياة، وقساوة عوادي الأيام، أجمع البشرُ على حبّ الجمال والتعلّق به، والبحث عنه لسطوته على مشاعرهم، وأثره في نفوسهم، ولكنهم تباينوا في تعريفه أو تفسيره.

ويذهب البعض من اللغويين العرب إلى أنّ كلمة "الجمال" يمكن أن تكون واردة من كلمة:"الجمل" الذي تقرن الجِــمالَ بالمنفعة. ويجوز أن تكون التعابير الواردة في الذكر الحكيم مثل (سَراحا جميلا أو صــــــفْحا جميلا)، أو (هجْرا جميلا) ما يرمز للتسامح وروح الإيثار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى