الخميس ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم خالد إبراهيم المحجوبي

الخصومة الفارغة للاستشراق

تبرز المطارحات النقدية بصفتها آلية من آليات الاغتناء الثقافي، والتطوير الفكري، في كل مجالات لتفكير والإبداع، فلا غنية للرقي بالمعارف عن النقد، والنقاش، والتفاعل التبادلي بين الأفكار والطروح. بيد أن آفة النقد الأشهر والأخطر هي حيْدَتُه عن أصوله، وضوابطه، التي تشكل ضماناً من ضمانات تحقيقه لأهدافه المعرفية، المغنية للفكر، والنافعة للمفكرين.

في سياق الممارسة النقدية المعْوجة المنفلتة، لا يكفُّ كثير من الكتاب العرب والمسلمين عن اجتراح معارك جوفاء لا تثمر،وخصومات عمياء لا تبصر. يبنونها على المزايدات، التوهمات،والتخرصات، بعيداً عن الأساس الموضوعي، خالية من العمق المعرفي، وعريةً عن الكساء العلمي.

وقد كانت الظاهرة الاستشراقية، والمستشرقون من أكثر الأهداف التي وجه لها ذاك النوع من الخصومة، الخالية من المنفعة، والفاقدة للخصوبة.

ولقد نعلم أن النقد الذي وجهه أكثر مثقفي الشرق للظاهرة الاستشراقية، كان نقداً فقداً للتوازن، حيث انصبغ بسمات لم تتصل بسلامة المنهج،ولا وضوح الهدف، وجاء من منطلقات، عالت به عن طريق الدقة، وحادت به عن نهج الموضوعية ؛ حيث غلبت عليه العواطف المؤججة غير الموجهة، والتعميمات غير المخصصة، والإطلاقات غير المقيدة، والمسبَقات غير المتبصرة، والمزايدات غير المنصفة، كل ذلك أنتج لنا ركاماً نقدياً أجوف، لم يسهم في تطوير العملية المعرفية، بل أعاقها بما اصطنعه من تشويهات، وتحريضات، تم توجيهها تلقاء الخطاب الاستشراقي والمستشرقين بعامة، بعيدًا عن التدقيق، والتمييز، والتمحيص،والإنصاف.

كلامي التالي هو على ظاهرة عامة وموقف شامل، لكني سأجعل من أحد الكتاب العرب – لسوء حظه - هدفاً لنقدي، فبعد أن قرأت له كلاماً كتبه على الاستشراق لم يحمَّله أية أفكار، أو آراء يمكن مناقشتها، إنما كان كلاماً في كلام، ضمن سياق الخصومات الجوفاء، والرميات العوجاء.والنظرات العوراء.

من المؤسفات أن أكثر من كتب عن الظاهرة الاستشراقية، والمستشرقين، نظر إليها وإليهم، ثم صورها وصورهم في هيئة جيش من الغزاة الحاقدين، جيشٍ يزحف نحونا ونحو تراثنا قاصداً الشر والضر، مريداً للفساد . وقد شاعت هاته الصورة بين المثقفين والمستتثقفين، والطلاب والعوام ، وكثير من الباحثين الأكاديميين على هيئة يكسوها قلة اطلاع محضج، وعمق جهل مخجل.

أما الذي سأركز كلامي عليه هنا بوصفه مثالا لهؤلاء فهو الدكتور( شربل داغر) الذي نشر مقالاً في مجلة (كل العرب. بالعدد 210) سأقف مع فقراته

فيما يلي:

قال السيد( شربل) يصف الحركة الاستشراقية بأنها ((عدوان غربي مستعر على ثقافتنا)) ثم يعلق على نشاط المستشرقين متذمراً بشكل تحس وأنت تقرأ كلامه بأنه يكاد ينفجر،ولعله انفجر بعد ذلك. قال: (( الحالة لم تعد تطاق، لا ينقضي أسبوع أو أسبوعان إلا ويصدر كتاب في باريس يعزز وينشط هذا النوع الكتابي اللعين )) ثم يردف الأستاذ بطلبه التالي: (( ليتركونا في حالنا ليبعدوا عنا هذه المناظير الطويلة التي تفحص كل حركة من حركاتنا )).

أقول: إن كلاماً مثل هذا لا يحمل أي معنى أدبيٍ، أو نقديٍ، أو علميٍ. ولنا أن نصفه في خير أحواله بأنه كلام فارغ بكل معنى الكلمة، وغريب أن يصدر عن رجل معدود في طوابير المثقفين العرب، وهو الذي تلقَّى شهاداته العليا من السوربون التي علمته كيف يتكلم ، ويكتب، ويبحث.

ومما زاد حنق وغضب الدكتور (شربل) ذاك النشاط الأكاديمي للدراسات الاستشراقية. فهو يقول وكأنه يكشف سراً ((لقد أسسوا المعاهد العليا والدنيا المتخصصة بالاستشراق التي تحرج الطلبة الباحثين بشهادات ودبلومات عديدة متنوعة )). ثم هو يتساءل مستنكراً: ((لماذا لا يقفلوا هذه المعاهد ويدعوننا وشأننا، مطمئنين سالمين هانئين في رحاب حضاراتنا المتوقدة أبداً؟)). وبعد هذا الطلب يقترح أن تُؤَسَّس مدرسة استغرابية مقابل المدرسة
الاستشراقية،وهذا اقتراح في ظاهره جيد ونافع، فهذا مظنة لمنافع علمية محققة - لو تحققت - لكن الأستاذ لم يقصد هذه الأهداف والمنافع العلمية، فقد اقترح مباحث ومواضيع تُعدُّ وتُجهز من طرف هذه المدرسة الاستغرابية المرجوة، تكون موضوعاتها لا دراسات علمية تعود بالنفع والجدوى على العالمين إنما أراد لها الأستاذ أن تكون مباحث على صور هجمات من النوع الضمني،والنوع الصُراح على الغرب فهو يقول بعدوانية غير مبررة: ((لو أُغرقت السوق الفرنسية أو الإنجليزية بكتب دورية منتظمة عنهم؛ فلا نتركهم ينعمون بأي راحة. يفيقون مذعورين على كتاب عنوانه: تفكك العائلة في ضاحية باريس الشمالية. ويهضمون بصعوبة بعد الظهر كتاباً عنوانه: بيان القتلى والجرحى في حوادث السير فوق طرق فرنسا)). والأستاذ لا يكتفي بذكر اقتراحه العظيم، فائق العظمة، بل هو يزكيه فيقول: ((الاقتراح جيد ومعقول )). نعم هو معقول عند عقول مثل عقله.

ثم يجعل في ختام كلامه الأجوف بعض الشتائم زين بها كلامه، وزعها على ثلاثة من كبراء وشهراء المستشرقين، ساقهم سوء حظهم إلى ذاكرة الأستاذ (شربل داغر). فهذا المستشرق (ماسينيون ) حاز منه لقب عميل، وهذا ( برناردلويس) حظي بلقب إمبريالي. أما (دو بولس ) فقد حباه لقب صاحب النظرية المهزوزة، دون أن يبين لنا ما هذه النظرية.

من المؤسفات أن نجد هذا النوع من النقد الساذج العدواني المتخلف، والواقع يوكّد أن هذه هي بضاعة كل مفلس من القوة، والثقة، والعلم فهو حين يعجز عن المواجهة يضبأُ إلى الشتم من بعيد،ونكران المعروف. وحين يحس ببآلة حجمه، وضآلة قدره يلجأ نحو الإسقاط.

إن هذه الروح العدائية المهزوزة الناكرة تتوزع على صدور وعقول كثير من كتاب المسلمين والعرب من قواد الخصومات الجوفاء، ولا أعمم هنا،. والمثالات لو سقناها سيطول بنا الموقف. لكن لنا ذكر بعض منها. قال أحدهم ((إن حجم عمل المستشرقين في مجال التراث وتحقيقه لا يكاد يذكر ))(#). أقول هذه كذبة ظاهرة، كان قائلها في غُنية عن إطلاقها ؛ لأن أحدا لن يخدع بها ولن يصدقها. ثم يقول ((إن عنايتهم بالتراث كانت وما زالت وستظل من باب:اعرف عدوك، فهذه الكتب التراثية هي الخرائط والصور لعقولنا وعواطفنا ومشاعرنا واتجاهاتنا فهي المفاتيح التي عرفوا بها كيف يخططون لتدميرنا )) (#)

ويقول آخر: (( إن المستشرقين قد اتجهوا لإصدار مثل هذا التراث وتحقيقه وإرساله إلينا ونشره على العالم أجمع ؛ كي تتشوه صورة الحضارة الإسلامية، وتتشوه صورة المسلمين عند الآخرين )) (#).

أقول: مؤسف جداً أن يفكر مثقفونا بهذا الشكل ؛ لقد صارت عقولهم خاضعة لنظرية المؤامرة، فهم - في ظل عجزهم المعرفي – يتخيلون دائماً أن العالم وسكانه الغربيين لا يعيشون إلا ليكيدوهم، ويضروهم، ولينهبوا ثرواتهم، ويشوهوا حضاراتهم، وأن لا شغل للغرب إلا بنا.

إن استشراء نظرية المؤامرة في أجزاء بنائنا الثقافي هو من أهم مثبطات التطور، ومتْلِفات الإنجاز. بل هو مرض يهدد كيان ذلك البناء من أساساته.

في مقابل هذه العينات الكالحة لا نعدم بين علمائنا ومثقفينا أناساً رزقوا فضيلة العدل ،وسمة الإنصاف، ومزية التدقيق، منهم مثلاً ( محمد كرد علي) القائل ((إنا مدينون لعلماء المشرقيات..بما تفضلوا علينا من نشر أسفارنا)) (#). وقول صلاح الدين المنجد (إن لهم فضل السبق في نشر تراثنا العربي منذ القرن الماضي، وإنهم أول من نبهنا إلى كتبنا، ونوادر مخطوطاتنا )) (#). كما يقول عبد السلام هارون (( فالشكر الصادق لهؤلاء القوم الذين أيقظوا فينا الشعور بالعزة، ووجهونا أن نفتح عيوننا على تلك الكنوز )) (#).

إنني حين أقول ماأقول،وأنقل هذه الشهادات المنصفة، أقول ليس بوسعي ولا بوسع أحد من الناس إنكار أن من بين المستشرقين دخلاء وعملاء، وأن فيهم من هدفه الإضرار بالتراث العربي والإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية. لكن كل هذا لا يسوِّغ لنا أن نهاجم الجميع،وأن نبسط لساناتنا على أعراض كل المستشرقين في تعميم مضل، وإطلاق ظالم، بناء على مطالعات مجتزأة، وقراءات ضحلة.

من هنا أنصح الخصوم المجوَّفين للاستشراق أن يملؤوا فراغهم المعرفي، وأن يجبروا كسرهم العلمي، وأن ينبذوا تصورهم الوهْمي، وأن لا يتخيلوا أن العالم موجود في الدنيا ليكيدنا،وأن لا يقعوا صيداً لمرض( البارانويا) - أي جنون الاضطهاد - حيث يخيل للإنسان أن كل من حوله يكيد له، أو يتجسس عليه.

لايسعنا إنكار إصابة العقل الإسلامي والعربي بمرض ضليع،وداء بليغ، لاسيما في طبقة المثقفين وإن شئت فقل المستثقفين، ممن يرون أنهم على شئ، وما هم بشئ.
إننا في هذه الأمة بحاجة إلى مزيد من أصحاب العقول،لا إلى مزيد من المرضى النفسيين المسكونين بالفوبيا غير المبررة،والرهاب غير المفسر، والنقص ونحوه من بلايا النفس الإنسانية غير السوية.

وفي أذيال كلامي أزجي هنا مثالاً واحداً يوكّد إهمال العرب والمسلمين لتراثهم، واهتمام المستشرقين به. فمنذ قرون ضم الجدار الغربي لجامع الكبير في صنعاء أكواماً من الأوراق القديمة،والطروس الغابرة التي عانت طوال دهرها من الإهمال والإغفال من طرف أهلها، وهي من نفائس المخطوطات الإسلامية التي عثر عليها سنة 1971م. فظلت على ما هي عليه، يكسوها الرُّغام، ويلفها الظلام. إلى أن عاينها المستشرق الألماني (ألبيرنوت) سنة 1977م وجهد في صدد إقناع المسؤولين بجمعها وصونها، لاسيما أن فيها كتابات قرآنية يؤوب تاريخها لأول قرنين من الهجرة،وقد حاول بعض خبراء الألمان إجراء أبحاث عليها والاهتمام بإبرازها وإنقاذها، لكن اعترض على هذا القاضي إسماعيل الأكوع مسؤول الآثار اليمني (#). وليس رفضه هذا إلا ترجمة عملية لركام التخلف، وعدم الثقة في النفس، وليس إلا انعكاساً جلياً لعقدة الانغلاق على الذات التي ساهمت ولا تزال في دفع أمتنا قدما إلى مزيد من التردي والانحضاج، ولمثل هذا أردد مع الرصافي قوله:

ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُّوَّم.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى