الاثنين ٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم عوض

الدكتور إبراهيم عوض يرد على الصحافة

 الثقافة، كلمة مبهمة، في عصر مبهم، يحمل في أطوائه الكثير من المتناقضات والتيارات، وكل يَدَّعِي وصلا بهذه الكلمة، كأستاذ في النقد الأدبي، كيف ترى العلاقة اليوم بين المثقفين المشهرين إعلاميا، وبين الثقافة؟
 لنقل ببساطة إن الثقافة، فى سياقنا الحالى، تعنى الاستزادة من ألوان المعارف المختلفة، وصقل العقل والتفتح الفكرى. أما الشهرة الإعلامية فقد تقترن باتساع الثقافة وعمقها، وربما لا تقترن. وعلى هذا فقد يكون المشهور إعلاميا أقل فى ثقافته وعلمه ومعارفه وعقله وحكمته وإخلاصه من غير المشهور، وقد يكون العكس. ولكن بوجه عام تسير الشهرة الإعلامية هذه الأيام، فيما يبدو، على نقيض استحقاق المشهورين. ذلك أن أحوال العرب والمسلمين تسير من سيئ إلى أسوأ، وفى هذا الجو الفاسد لا ينتظر أن يتقدم المخلصون الصفوف، وإلا لما كانت حالنا هى هذه الحال التى نعرفها ونعانى منها ونشكو مر الشكوى. وأيا ما يكن الأمر فكل صحيفة أو محطة إذاعية أو قناة تلفازية إنما تعمل على أن تخدم الجهة التى تتبعها وتلمّع، من ثم، من ترى أنهم كفلاء بالمعاونة فى هذا السبيل. ولا ينبغى أن نتوقع من الفضائيات التى تتبع أمريكا مثلا أن تلقى الضوء على الكتاب والمثقفين الذين يقفون ضد مشاريعها للهيمنة على المنطقة والاستيلاء على ثرواتها وإفقار شعوبها ومحاربة دينها وثقافتها. أليس كذلك؟ وقل الشىء ذاته فى سائر الإذاعات والقنوات التلفازية المحلية. إن المسألة ليست لعبا ولهوا، بل هى الجد كل الجد. إنها حرب طاحنة، ولا مكان فى تلك الحرب الطاحنة للعواطف الكريمة والأخلاق النبيلة.

 القلم يُحَرِّر، ويُحَرِّر، يبحث في الدفاتر والضمائر، يبني ويهدم، يعلو ويسفل، وبعض هذه الأقلام اختار اليوم الركون إلى الدَّعَة، والعيش في ظلال المصفقين، والبعض مثلك، ترك هذا الصخب، وتفرغ لميدان يعلم أن لا أضواء فيه، ولا سعة، يعيش على الهامش قسرا، ويمارس الحضور الغائب، بعيدا عن المحافل الإعلامية، والاحتفالات الثقافية. فلماذا اخترت هذه الصحبة الغادرة مع قلم عنيد؟!
 أتصور أننى لم أختر شيئا. وهذا بالطبع إن كان الأمر كما تقول، وكان العبد لله كما صورتَه زاهدا لا يريد من الدنيا سوى كسرة يابسة من الخبز ينصرف معها طول النهار إلى القراءة والكتابة، مع أن الأمر ليس كذلك تماما، وإن لم يختلف عن ذلك اختلافا جذريا أيضا، فالحمد لله أنا فى سعة من العيش، سعة نسبية طبعا، وربما يرجع هذا إلى نشأتى البسيطة التى عودتنى ألا أتطلع إلى المطالب المادية بشراهة. كما أننى لا ألهث وراء الشهرة، وإن لم أكن مغمورا فى ذات الوقت. ولا أظن أن لى فضلا فى هذا، بل هذه طبيعتى التى شكلتها ظروفى وتجاربى، ثم جاء التقدم فى السن فقواها وثبتها. ومع هذا فإنه ليسعدنى أن تأتينى رسالة من قارئ يقول لى كلمة طيبة أو يسألنى فى شىء قرأه لى... ومنها رسالتك هذه، وأسئلتك تلك. وبالمناسبة فمعروف عنى أننى صريح أو فلنقل: كنت صريحا إلى حد بعيد، وإن أصبحت دواعى المجاملة تغلبنى الآن على نفسى فى كثير من الأحيان، لكن دون أن تدفعنى إلى الكذب. وهذه الصراحة تمنعنى من التلذذ بشهرة قائمة على البكش ومسايرة التيار دون اقتناع من جانبى والتخلى عما أعتز به من قيم ومبادئ، وبخاصة أننى أعرف كم تبتذل كرامة كثير من المشتهرين وإنسانيتهم أيضا. فلعل هذا أحد الأسباب التى تعصمنى من العَدْو وراء الشهرة. على أن نفهم الشهرة هنا على أنها الشهرة الرسمية، وإلا فأنا، فيما أتخيل، معروف على نطاق واسع بين قراء المشباك (الإنترنت)، تلك النعمة العظيمة التى قلبت كثيرا من المفاهيم والأوضاع.

 هل أدى المثقفون دورهم في كسر الأصفاد، وتحرير الإنسان، وقد أَنَّتِ الليليات في جنبات العالم المسلم؟!
 أى مثقفين؟ إن هناك ألوانا منهم لا لونا واحدا. فهل تنتظر من مثقفى أمريكا ومثقفى الأنظمة التى تتبع أمريكا تبعية الذيل لصاحب الذيل أن يقفوا وقفة رجولية ويتبنوا قضية فلسطين وأبطال فلسطين مثلا؟ خسئوا ولُعِنُوا! إنهم أجبن وأذل وأقل وأحرص على الحياة وفتاتها من أن يكونوا رجالا ولو للحظة احدة. إنهم على استعداد لبيع كل شىء لقاء أكلة أو سفرة إلى مؤتمر حتى لو كانت مهمتهم فى ذلك المؤتمر هى لعق الأحذية. نعم إنهم لعّاقو أحذية من الطراز السافل الدنئ المنحط الذليل. وهم يعرفون الطريق إلى الشهرة التى تأتيهم بين عشية وضحاها. اترك كرامتك ووطنيتك وانس أمتك ودينك تُضْحِ مشهورا فى لحظات. وكم من فَسْلٍ تافهٍ لا له فى عير الأدب والفكر ولا نفيره صار مشهورا بين يوم وليلة، وصار يدعى إلى المؤتمرات الدولية وتترجم كتبه إلى اللغات الأوربية وتتهافت دور النشر على كتاباته، مع أن العقاد مثلا والمازنى لم يحدث لهما ولا لأمثالهما واحد على الألف مما يحدث لهؤلاء المسوخ! أما النوع المقابل من المثقفين فيصدق عليهم المثل القائل: الغزّالة تغزل برجل حمار. إنهم يكتبون فى المواقع الضوئية التى لا يعرفون غيرها، وهم يؤدون دورهم على قدر استطاعتهم لا يألون جهدا. والمهم أن يتقبل الله منهم وأن يكون عملهم مخلصا مرادا به وجه الله الكريم.

 تتآكل الصورة بين يديك في كل يوم، وأحس بوخز الألم في كلماتك عن غياب العربية عن مفكرة الطالب، وضعف تحصيله، وغياب النماذج المشرقة، إلا قليلا من قليل؟ لمَ كان هذا؟ ولم اكتسبت العربية في كل يوم ابنا جديدا في طابور العقوق؟!
 الحق أن الأمر يبدو لى وكأن المسألة تمت قصدا وبفعل فاعل، إذ إن العلم هو السبيل الأقوم إلى إحراز التقدم والحفاظ على الكرامة: الكرامة الإنسانية والوطنية والدينية، ومع هذا نرى طلاب العرب والمسلمين بوجه عام يكرهون العلم ولا يريدونه، وكل شىء فى حياتهم ينفرهم منه ويبغضهم فيه. وكما قلت لك: أتصور أنه قد تم قصدا وبفعل فاعل. ومن هنا تبوأ لاعبو الكرة والمطربون القبيحو الأصوات الهزيلو الموهبة مكانة عالية عندهم. يقولون مثلا فى تبرير ضعفهم فى اللغة العربية إنها لغة صعبة، فيكون جوابى: وهل أنتم أقوياء فى الإنجليزية أو الفرنسية أو فى الجغرافيا أو فى التاريخ أو فى أى شىء؟ إن الضعف عام وشامل، ولا يتوقع الإنسان إلا الانهيار، اللهم إلا إذا تداركتنا رحمة الله، وإن كنت أرى أن رحمة الرحمن الرحيم لا تدرك إلا من يستحقونها ووقفت الظروف القاسية حائلا بينهم وبينها. فهل نحن من هؤلاء؟ إن العربية لغة عبقرية، وأنا أعشقها عشقا عجيبا منذ وعيت على القراءة والنصوص الأدبية. ولقد تركت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وحولت أوراقى منها بعد ثلاثة أيام ليس إلا إلى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة عام 1966م، ومن يومها وأنا سعيد بلغة القرآن المجيد والنبى الكريم قراءة وكتابة. ويكفى أن أنظر حولى فأجد قامات عالمية سامقة كالجاحظ والعباس بن الأحنف وأبى تمام والتوحيدى وابن الرومى والمتنبى والمعرى وأبى الفرج الأصفهانى والطبرى وابن حزم وابن الجوزى وابن القيم والقرطبى والجرجانى والشريف الرضى وابن زيدون والبهاء زهير والهمدانى والحريرى والسيوطى والشدياق ومى زيادة والعقاد وطه حسين والمازنى والزيات ونعيمة وكرد على وسيد قطب وبنت الشاطئ...، فأشعر بالدفء والبهجة والنشوة والرضا والامتلاء بكل معانى الكلمة. ولهذا أجدنى مستغربا أشد الاستغراب ما أسمعه من اتهام لسان العروبة بالصعوبة. إن الأجيال الجديدة لا تبذل جهدا فى سبيل العلم، وحياتها قائمة على الملخصات التى يكتبها عادة زملاء لهم، فيحفظونها ويؤدونها فى الامتحان كما هى. وكثير منهم لا يقيم إملاء ولا نحوا ولا صرفا، وليس عنده ذوق لغوى. بل تبدو على أسلوبهم فى حالات كثيرة ملامح العته والبلاهة، إذ لا تستطيع أن تفهم ماذا يريد الطالب أن يقول، وكأنه شخص أجنبى يتعلم اللغة لأول مرة. إنها كارثة!

 موسم الهجرة إلى الشمال بما فيه من غوايات، ومراكب ليلية، وامتحانات يومية لبطاقة الهوية، كنت أحد الملتحقين به، مُتَوَجِّهًا إلى عراقة أوكسفورد لتحصيل الدكتوراه، وعُدْتَ تحتفظ بالدفء من صقيع بريطانيا، فأيُّ مبدأ كان يحفظك من التزلُّقِ على جليد بريطانيا الفكري، وارتداءِ قُبَّعَةٍ غربية، يتشارك في لبسها العقل والرأس؟!!
 الحكاية أننى ذهبت وقد نضجتُ، وكنت أكتب مقالات فى بعض المجلات المصرية والعربية فى تلك الأيام التى كنت أهتم فيها بالنشر فى المجلات. كما أننى كنت ولا أزال أفهم دينى الفهم المستقيم، فلا أقف عند الشكليات لا أبارحها متصورا أنها هى الدين، بل أعرف أن الدين يعنى العلم والتبحر فى المعرفة والقوة الاقتصادية والتخطيط السليم والثقة بالنفس والنظافة والنظام والجمال والإتقان، إلى جانب الصلاة والصوم والزكاة والحج والامتناع عن الخمر والزنا والسرقة بطبيعة الحال، فلم أنبهر بما رأيته من ذلك كله هناك، وإن أكبرت هذه القيم عند الغربيين رغم ذلك. لكنى أرى أن الإسلام أفضل من الحضارة الغربية كثيرا. المهم أن يفهم المسلمون هذا: متدينين وعلمانيين وملاحدة. ولعل ما غرسه أبى رحمه الله رحمة واسعة فىّ منذ صغرى من الثقة بالنفس له دخل فى ذلك، فقد كنت لهذا السبب أرى أننى أكبر من المستشرقين وأننى قادر على مناطحتهم، ومن ثم لم أجد هناك ما يجعلنى أتمرد على الدين، إذ قد فهمت الدين من خلال كتابات محمود شلتوت والعقاد ومحمد الغزالى وأمثالهم، فكيف يمكن أن أنجرف وأنسى دينى؟ وكانت زوجتى معى فى كل المواقف. وكنا نقضى أحيانا اليوم كله، وبخاصة فى رمضان، نتجول فى الريف الأوكسفوردى ونثرثر ونتناقش ونستمع إلى محطة الإذاعة المصرية من مذياع نقالى معنا، ونحن ندفع طفلينا أمامنا فى عربتهما ونؤرجحهما كلما مررنا بحديقة عمومية، أو نقرأ ما معنا من كتب، وإذا حضرت الصلاة صلينا جنب سور هذا الحقل أو على شاطئ ذلك النهر. وكان البريطانيون يمرون بنا مشاة أو راكبين الدراجات فى صمت وأدب. إننى أنظر إلى النبى محمد فى انبهار، ولا أعدل به أحدا لا من الأنبياء عليهم جميعا السلام ولا من الناس العاديين، وأرى أن المسلمين ينبغى أن يستحوا على وجوههم (كما يقولون فى السعودية) وهم مرتكسون فى تخلفهم الأليم رغم ادعائهم حب ذلك النبى العبقرى الذى لا يستطيع أحد أن يفرى فريّه أبدا. إنه فى السماء سراجا منيرا، وهم فى الحضيض بل فى حضيض الحضيص. ألا يخجلون؟ أتصورهم يوم القيامة وقد تمعّرت وجوههم واسودت خزيا وذلا لما قدموا من سوء أعمالهم حتى أصبحوا ممسحة لأقدام الأمم. يا له من عار! أَوَأتباع محمد يحدث لهم هذا ويرضون به، بله يستزيدونه وكأنه غاية المنى من الحياة؟ أُفٍّ لهم ألف أُفّ!

 قلم تتوقف عنده، كتاب تجلس بين يديه، عقل تدارسه العلم، وتريق بين يديه وقتك مستمتعًا، عن هؤلاء حدثنا قليلا/ كثيرا؛ لنتعرف، عربيا كان أو أعجميا.
 أنا أُكْبِر العقاد ولا أساوى به كاتبا أو مفكرا عربيا. وقد تعلمت على كتبه هو والمازنى وأحمد أمين والشيخ شلتوت والزيات، وأحب زكى مبارك وأستمتع بأسلوبه وخفة روحه ومعجبانيته. وقد كنت مغرما يوما بتوماس هاردى، وقرأت عددا كبيرا من رواياته بالعربية والإنجليزية. كما قرأت عددا مماثلا من روايات جين أوستن. أما رواية "مرتفعات وذرنج" لإميلى برونتى فهذه حكاية وحدها، إذ قرأتها ما لا يقل عن ست مرات: مترجمة وفى أصلها الإنجليزى، ومختصرة وكاملة، وفى كل مرة كنت أبكى لما تعج به من عواطف برية متوحشة عنيفة. ومن روائيينا أعشق كتابات نجيب محفوظ الأولى والمتوسطة، وعلى رأسها "الثلاثية" وأراه عملاقا كبيرا رغم اختلافى معه فى بعض المواقف والاتجاهات، وأرى من جاؤوا بعده أقزاما صغارا بجواره رغم دعاوى بعضهم السخيفة. وبعض روايات محمد عبد الحليم عبد الله من أروع ما كُتِب فى حقل الفن القصصى، وبالذت "شمس الخريف"، وبخاصة فى نصفها الأول الذى تدور أحداثه فى الريف عند عزبة خورشيد بالقرب من الإسكندرية. ولسيد قطب كتابات نقدية قصصية لا يعلى عليها، وله رواية صغيرة اسمها: "أشواك" تهزنى هزا فى كل مرة أقرؤها فيها، وكم تمنيت لو أنه قد تزوج خطيبته التى تحدثتْ عنها تلك الرواية البديعة واستمتع بحياته، وخدم دينه أيضا وهو متزوج وأب ورب أسرة، بدلا من هذه الدراما الرهيبة التى انعطفت حياته نحوها وانتهت بمأساة، واستنزلت العار على من أعدموه، إذ إننى لا أصدق ما قيل عن تخطيطه لانقلاب دموى بغية الوصول إلى السلطة. وبالمناسبة فأنا ضد الانقلابات ولا أعتقد أبدا أنها حل ناجع، بل أراها سبيلا إلى الاستبداد والعسف والطغيان، وأتخذها دليلا على غفلة الشعوب واستخزائها وبلادتها وعجزها وهوانها وتركها أمور حياتها للآخرين يدبرونها لها وهى نائمة فى المجارى يعلو شخيرها إلى السماء السابعة. والمضحك أن الذين اتهموه بهذا إنما وصلوا إلى السلطة بانقلاب. عجايب!

 بهاء طاهر، يوسف زيدان، من حاملي جائزة البوكر العربية، توقفت عند روايتيهما ناقدا محللا. هل كان ذلك رغبة في التقويم والنقد من أجل النقد ولوجه النقد؟ أم أنه كان بحثا في منهجية هذه الجائزة والقائمين عليها، لاسيما وقد قدح فيها، و، حتى قيل على لسان ناقد مشهور: كيف يقيم روائي درجة ثانية أعمال الأدباء؟ أم أننا مولعون بممارسة الهدم، والتلذذ بإسقاط كل ما هو عربي؟!
 لقد كتبت أولا عن رواية زيدان، ولم يكن فى ذهنى ساعتئذ أنها حاصلة على البوكر العربية، بل لأنها أثارت ضجة مصمة بسبب اعتراض الكنيسة المصرية عليها. وكتبت عنها دراسة نقدية طويلة ممزوجة بالفكاهة بلغت مائة صفحة، وأثنيت فيها على أشياء، وأخذت عليها أشياء، واتصل بى صاحبها وقال إنه يوافقنى على ما أخذته عليها، وبخاصة فى مجال اللغة رغم أن فى لغة الرواية نصيبا من الشاعرية يجعلها تتفوق على كثير من كتابات مجايليه من الروائيين. وحدث أن علق بعض القراء على المقال فى موقع "محيط" واقترح علىّ أن أتناول بالنقد رواية "واحة الغروب" لبهاء طاهر، فبحثت عنها حتى وجدتها، وما إن شرعت أقرؤها حتى صح منى العزم على تنفيذ مقترح القارئ الكريم، فألفيتها رواية متوسطة لا تستحق الصخب الذى أحدثته منذ صدرت قبل ذلك بمدة ليست بالقصيرة. هذه هى الحكاية باختصار. أما إذا أردت أن تعرف رأيى فى جوائز هذه الأيام، وبالذات تلك التى تقف وراءها مؤسسات غربية، فالمقصود منها التربيت على أكتاف تيار بعينه ليس على الحِجْر سواه، وتسويقه وشغل الناس به وإيهامهم أن ممثليه هم وحدهم دون غيرهم الكتاب والأدباء. وهذا من الوضوح بمكان.

 على ذكر د. يوسف زيدان، فقد نشر مؤخرا كتابه (كلمات)، فما تعليقك على هذا الكتاب من الناحية العلمية؟
 للأسف لم أقرا هذا الكتاب ولم يقع لى حتى الآن، ومن ثم لا يمكننى الحكم عليه بشىء. ومن الواضح أنك قرأته، فما رأيك لو اقترحت عليك أن تقوم أنت بهذه المهمة، وأنت بمشيئة الله على ذلك من القادرين؟ ولك عندى وقتها خمسون جنيها مرة أخرى تضاف إلى الخمسين الأولى التى أعطيتكها يوم تلاقينا أول مرة إعجابا بك وبأسلوبك وعلمك. خمسون جنيها بالتمام والكمال. وخمسون جنيها ليست بالشىء القليل. لقد كان أجدادنا يشترون بها فدان أرض. فما رأيك؟ ستكون من أصحاب الطين! ابسط يا عَمّ!

 ولكنك صنفت كتابا نفيت فيه الأستاذية عن مندور عنوانه" د.محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلب"، فلم كان هذا الكتاب؟ وماذا كانت أصداؤه، وكيف ترى مندور كناقد معروف مشهور؟
 أنا لم أتنازل من مندور فى ذلك الكتاب إلا ثلاثة أمور: بعثته إلى فرنسا وعودته منها صفر اليدين من الشهادة تانة طتم فد أُرْسِل من أجل الحصول عليها، وهى شهادة الدكتورية، وسطوه على كتاب لأحد الأساتذة الفرنسين واستخدامه لذلك فى توليف كتابه: "نماذج بشرية"، ثم ترجمته لـ"مدام بوفارى" لجوستاف فلوبير، تلك الترجمة التى تعج بالركاكات والأخطاء والتخليطات، ومع ذلك يحاول بعضهم أن يشيع أنها فتح مبين، مع أنها حاجة تخجل. لكن ماذا تقول فى بجاحة البَجِحين؟ وعلى كل حال فالرجل قليل الإنتاج، وكتاباته بوجه عام تفتقر إلى العمق. وهو يتوخى الموسوعات والمراجع الفرنسية ويلخص ما فيها ويقدمه بأسلوب دافئ سلس فى كثير من الأحيان، وواضح تمام الوضوح. وهذه موهبة مندور، وقد قرأت كل ما خلفه وراءه تقريبا وأفدت منه رغم كل شىء.
 من خلال قراءاتك في الشعر الحديث، كيف ترى واقع الشعر الآن؟ وهل هناك أسماء تحب أن تقرأ لها؟
 لقد انتهيت بعد طول تطواف فى شعرنا العربى القديم والحديث إلى أن كثيرا من شعراء التفعيلة "جعجعة ولا طِحْن"، وأن فى الشعر القديم نماذج لا يستطيعون مساماتها مهما فعلوا، وأن كثيرا منهم ضحلو الموهبة. ولن يُكْتَب الخلود لشىء من هذا الشعر إلا فى الشاذ الذى لا يقاس عليه. لقد أفسد كثير من هؤلاء الناس الذوق العربى والشعر العربى. وكان العقاد يفهمهم جيدا، ولهذا تراهم يكرهونه. وبالمناسبة لم أكن فى مبتدإ أمرى أعادى الشعر التفعيلى، بل كنت منفتحا عليه، ولكنى مع الأيام تبينت ما فيه بوجه عام من ضحالة يحاول ناظموه ونقاده أن يغطوها بالادعاءات المصمّة. بيد أن التاريخ لا يأكل من هذه الادعاءات. ولسوف يعتدل الميزان بمشيئة الله. فإذا أضفنا إلى ذلك ما فى كثير من قصائد التفعيلة الآن من غموض سخيف وجفاف عقيم وحذلقة ثقيلة الظل وقلة أدب مجرمة وتجديف دنس فى حق الله واجتراء وقح على دينه وعلى قيمنا العربية والإسلامية عرفت لماذا أقول لك الآن ما أقول.
 ولم كانت للعقاد هذه المنزلة لديك؟ وهل كان إعجابك به متعلقا بجانبه الفكري، أم شاملا هذا الجانب والجانب الأدبي؟
 لو كان العقاد كاتبا غربيا لنصبوا له التماثيل فى كل مكان وعظموه تعظيما. إنه ناقد أديب شاعر مفكر صحافى سياسى. إنه يكتب المقال النقدى والسياسى والأدبى، ويبدع السيرة الذاتية والشعر والرواية والتراجم والسير، ويغوص فى أعقدالمسائل الفلسفية وأغوطها ببساطة مدهشة ووضوح بلورى عجيب. وله مسرحية بديعة تجدها فى ختام كتابه: "قمبيز فى الميزان" يسخر فيها من شوقى ومن مسرحيته عن ذلك العاهل الفارسى. وروايته: "سارة" رواية نفيسة قلما تجد نظيرا لها سواء فى الأسلوب أو فى البناء الفنى أو فى إدارة الحوار أو فى القضايا الإنسانية والنفسية التى تطرحها من خلال الأحداث والحوار والشخصيات. إنها درة باهرة من درر الأدب. وهناك مؤلفاته الإسلامية ومناطحته لأكابر المفكرين والنقاد الغربيين. ولا تنس موسوعيته فى القراءة. واذهب مثلا إلى كتابه عن أبى نواس وانظر بنفسك فى المراجع التى استند إليها لدن تأليفه ذلك الكتاب، ولسوف تجد مراجع طبية ونفسية عميقة رجع إليها العقاد لكى يضع دراسته عن أبى نواس. وسواء بعد هذا اقتنعت بمنهجه فى دراسة ذلك الشاعر العباسى أو لا، فتلك قضية أخرى. وأنا أسألك: كم واحدا من نقادنا يستطيع أن يفعل هذا؟ ثم عندك الكم الهائل من الكتب التى ألفها العقاد، فضلا عن مئات المقالات، أو ربما آلافها مما ينتظر من يجمعها ويصدرها فى كتب. هذا، ولم أتحدث عن اعتزازه بنفسه وشجاعته فى قول ما يراه دون مبالاة بالقُوَى التى تضر وتنفع. وليس معنى هذا أن الرجل ليست له أخطاء، فهو بشر من البشر يخطئ ويصيب، إلا أن أمثاله بمواهبه هذه قليلون بل نادرون، وإلا فَسَمِّ لى أحدا آخر فى عصرنا اجتمعت له ما اجتمع للعقاد مما ذكرت بعضه الآن؟ وأخيرا وليس آخرا كما يقولون فللعقاد دين كبير فى عنقى لا أظننى أقدر على توفيته. ألا وهو ما ورثته عنه من اعتزاز بالإسلام وحب للنبى وكبار الصحابة. لقد زودتنى تفنيداته لأباطيل المستشرقين والمبشرين عن الإسلام وتاريخه ورجاله العظام بقدر كبير من الحب لهذا الدين واعتزاز به ووعى بقيمه الحضارية الكريمة التى لا يوليها المسلمون الحاليون كبير اهتمام. وأذكر أننى شعرت عند وفاته بأننى أصبحت يتيما مرة ثانية، مع أننى لم أقابله قط. ويوم أحضر لى أخى الأكبر من الإسكندرية كتابه: "أنا"، الذى أصدرته دار الهلال غِبَّ وفاته كدت أطير، وكذلك كانت مشاعرى يوم حصلت على كتاب د. شوقى ضيف: "مع العقاد" وقرأته. وكنت قرأت للعقاد قبلها "هذه الشجرة" و"الحسين أبو الشهداء" على الأقل. وكنت يومذاك أحاول أن أنسج على منواله أسلوبا وفكرا رغم أننى كنت وقتذاك تلميذا صغيرا فى الإعدادية، وذلك من شدة حبى له وانبهارى به.
 تميز الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بأسلوبه الخاص في التصنيف والكتابة، حدثنا عن ذلك، وهل ترى أن الساحة العلمية تفتقد مثل هذه الأقلام في تناول حقائق الإسلام؟ وهل لك مواقف معه؟
 الشيخ الغزالى رحمه الله كان ذا أسلوب جميل يذكرنى بصوت الشيخ عبد الباسط الذى يجمع بين الحلاوة والحدة والحرارة. وكا رحمه الله شجاعا فى قول ما لديه. وتصدى لأوغاد كثيرين، وقد فضح فى كتابه ما وضعه بعض القوم من خطط فى أوائل السبعينات من القرن الماضى مما نرى ثماره السامة الآن. إلا أن المسلمين لا يتعظون ولا يستطيعون اخذ الأمور فى إبانها، بل يأتون دائما متخلفين بعدما يكون الآخرون قد استولوا على كل شىء ولم يبق لهم ولا حتى الفتات. وهو متفتح الأفق، وكثيرا ما نبه المسلمين إلى قيم الإسلام العظيمة التى لا يمكنهم التقدم من دونها وأفهمهم أن التنازع على الشكليات فى الوقت الذى يسن لهم أعداؤهم السكاكين والسواطير هو لون من الانتحار الحضارى، ولكنهم ولا هم هنا. ولقد قرأت تقريبا كل ما ألفه من كتب، بل كتبت عنه مقالا فى مجلة "الثقافة" المصرية فى السبعينات جلوت فيها بعض سمات أسلوبه الجميل. وكنت آنئذ فى بداية عشرينات عمرى.
 وصفت قصيدة طردية لأحمد عبد المعطي حجازي بأنها رديئة لا معنى لها، ثم قلت: إن كثيرا ممن يظنون أنفسهم نقادًا هذه الأيام قد أفسدوا الذوق الأدبي. فمن هؤلاء؟ وما علامات فساد الذوق الأدبي هذه الأيام؟
من علامات فساد الذوق الأدبى هذه الأيام أن تنشر قصيدة سخيفة تافهةكهذه. أما بالنسبة إلى أسماء النقاد المزيفين فليس أحد بحاجة إلى من يشير له بإصبعه إليهم.
 الكتاب الفضيحة: عنوان متوهج صاخب في الرد على لويس عوض، فهل كان العنوان توصيفا حقيقيا لما قام به لويس عوض؟ ولم كان فعله فضيحة، وهو بحث علمي أولا وأخيرا كما يقال؟
لا لم يكن بحثا علميا. وأمثال لويس عوض وسلامة موسى حينما يكتبان عن شىء يتعلق بالعروبة والإسلام فهما لا يكتبان شيئا علميا ولا له صلة بالعلم من فريب أو من بعيد. وكتابه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية" كله جهل وبهلوانية وتدليس وشغل ثلاث ورقات. وقد رددت عليه وبينت حقيقته وحقيقة صاحبه. والرجل لا يعرف شيئا له قيمة فى لغة القرآن المجيد، بل لا يعرف شيئا فى اللغويات بوجه عام. والكتاب متاح لمن يريد التحقق مما أقول. ومن يخالفنى الرأى بشأنه فليقل ما عنده بعدما قلت أنا ما عندى. وقد كان ردى موثقا تماما ومفصلا أشد التفصيل، ولم أدع شيئا من تنطعات لويس عوض فى الكتاب إلا فندتها وسحقتها سحقا وذريتها مع الرياح. لقد كنت أشعر وأنا أقرأ الكتاب أننى بإزاء فلاح قد جلس على المصطبة وأخذ يفتى فى كل موضوع بجهل وحمق وتهور، غير دار أن الناس تضحك عليه فى عبها. والعجيب الشاذ أنه يحاول إيهام القارئ أنه يعرف كل لغات الأرض فى كل العصور وأنه قادر على تتبع رحلة كل كلمة عبر القرون والأحقاب، وهذا جنون مطبق، فضلا عن أنه ليست هناك قاعدة يسير عليها ولا حدود يقف لديها، بل يمضى فيقول كلاما مختلطا مضطربا شائها تائها كل كلمة فيه تنكر جارتها ولا تتواءم أبدا معها. ويكفى أن أذكر لك أنه، ببهلوانيته هذه، قد زعم أن كلمة "الصمد"، الواردة فى سورة "قل هو الله أحد"، وهى سورة التوحيد الخالص النقى، تعنى العدد 3. ولماذا العدد 3 بالذات؟ الحَذِق يفهم. فهذا هو لويس عوض، الذى رددتُ على سخافاته وتنطعاته فى كتاب من عدة مئات من الصفحات معجونة بالتهكم الذى يشوى الجلود. ولكن كما قلت وأقول دائما: نحن الآن نعيش أسوأ لحظات تاريخنا، ومن أصدق الدلائل على ما أقول أن لويس عوض كان يتسنم منصب مستشار "الأهرام" الثقافى. يا لها من وكسة!
 سيد قطب/ العقاد/ طه حسين/ محمود شاكر/الرافعي: عن هؤلاء ورؤيتك لهم، نحب أن تكلمنا مستفيضا.
 فأما العقاد فقد قلت لك رأيى بشأن ذلك العملاق الشاهق. وأما سيد قطب فناقد ومفكر إسلامى كبير، ويكفى أنه هو الذى أعطى نجيب محفوظ شهادة ميلاده كروائى، وروائى عالمى. ولشديد الأسف قد رد محفوظ التحية بالتى هى أسوأ، إذ رسم لسيد قطب صورة قبيحة فى كتابه: "المرايا" باسم عبد الوهاب إسماعيل لا تليق به ولا بسيد قطب رحمه الله. ويكفى أيضا فى البرهنة على رجولة قطب وكرامته أنه، حين أصدر جلاوزة عبد الناصر الحكم عليه بالإعدام، قد استقبل الموت بكبرياء ما بعده كبرياء، وآثره على مناشدة المستبدين العفو عنه ومشى إلى المشنقة راسخ الخطا ثابت الجاش هادئ الجنان بعزة ما بعدها عزة، وشموخ لا يدانيه شموخ، فاستحق بذلك خلود الذكر. قارنه بمثقفى لحس الجزم التافهين المنتشرين كالجرب فى بلاد العرب والمسلمين فى هذه الأيام النحسات. هذا على رغم أننى، حين عرضت لكتابه: "فى ظلال القرآن"، لم أتفق معه فى كل شىء، بل أخذت عليه بعض ما قاله. ومع هذا فإنى أعلنها من هنا مدوية مرة أخرى: لقد كان رجلا! ولا نامت أعين الجبناء الحقراء الجائعين الخانعين!
والآن طه حسين، وهو صاحب أسلوب له حلاوة العسل، كما أنه يجمع بين الثقافة العربية وثقافة الغرب، لكنه قد اختار الميل إلى الغرب بكل كيانه، وأنا أعد هذا خيانة. وهو أحد من يَتَوَلَّوْن كِبْر ما نراه الآن من التحاق صريح بقوى الغرب التى أتت إلى بلادنا فاحتلتها وأخذت تتدخل فى شؤوننا تريد القضاء على قرآننا وإسلامنا. ولقد قال الرجل صراحة إنه يريد لنا أن نأخذ حضارة أوربا بحلوها ومرها وخيرها وشرها. فهل بعد هذا خيانة؟ ولقد كتبت عنه فى أكثر من كتاب لى، لكن هناك كتابا كاملا عن معركته حول الشعر الجاهلى مع المرحوم مصطفى صادق الرافعى، الذى سدد إليه فى تلك المعركة لكمة قاضية. ولولا أن هناك قوى محلية وخارجية تقف لإنقاذ أمثاله ما قامت له قائمة بعدها. وهذا الكتاب بعنوان "معركة الشعر الجاهلبى بين الرافعى وطه حسين"، وقد جلب علىّ وجع الدماغ وتسبب لى فى أذى لم أوذَه فى حياتى من قبل أو من بعد، إلا أننى استقبلت كل هذا بإيمان أرجو أن يتقبله الله منى.
محمود شاكر كاتب جبار على قلة ما ترك من كتب ودراسات، إلا أن كتابه: "أباطيل وأسمار"، الذى يعد كتابى المسمى: "الكتاب االفضيحة" بمعنى من المعانى تكملة له وامتدادا، هذا الكتاب يساوى كتبا كثارا. لقد هوى شاكر فى ذلك الكتاب على رأس لويس عوض بمطرقته الساحقة، ولولا القوى المذكورة آنفا لكان قد انتهى من لحظتها.
 ألم يكن عجيبا على خريج أوكسفورد أن يُعْرَفَ أكثر ما يُعْرَف بِرَدِّهِ على سخافات النصارى، وهجوم المستشرقين على الدين الحنيف، أكثر من معرفته ناقدا أدبيا؟ فرددت على لويس عوض في كتاب هام جدا، ورددت على سخافات يوتا، وترهات غيره الكثير. فهل طغى ذلك على خلايا النقد فيك؟ أم تراها ضرورة المرحلة؟! وكيف نزلت هذا الميدان، ومتى، وماذا أعددتَ للصمود فيه؟
 ما الغريب فى ذلك؟ إننى مسلم أحب دينى قبل الذهاب إلى بريطانيا وأثناء الوجود فيها وبعد العودة منها، فكيف أتخلى عما أومن به؟ لولم أكن مقتنعا بالإسلام لملت إليهم واتبعت سنتهم، ولكننى أرى أن الإسلام هو الطريق الصحيح. وكنت، حتى قبل أن أسافر، أكتب فى الرد على خصوم الإسلام، ولكن من غير هذا التوسع الحاصل الآن، وهوأمر طبيعى، فقد كنت لا أزال وقتئذ فى أول الطريق. أما هل طغا هذا الاهتمام على خلايا النقد فىّ كما يقول سؤالك فلا، إذ تجد أن إنتاجى الفكرى ينقسم إلى نصفين تقريبا: نصف للدراسات الإسلامية، ونصف للدراسات النقدية. ولكن أكثر ما أنشره فى المشباك هو من القسم الأول لأن جمهوره أكبر، ولأن الإسلام يتعرض الآن لحملة عاتية منظمة من جهات عالمية ومحلية بغية القضاء عليه لأنهم يظنون، فى غمرة الانحطاط الذى يرتكس فيه المسلمون، أنها فرصة مؤكدة لبلوغ هذه الغاية الشيطانية، ويساعدهم فى ذلك طائفة من أبناء المسلمين باعوا أنفسهم رخيصة فى سوق النخاسة الفكرية والعقيدية، وتحقق فيهم قول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم: يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، ويبيت الواحد منهم مؤمنا ويصبح كافرا. لقد كتبت فى الشهور الأخيرة مثلا مئات الصفحات فى بعض موضوعات الأدب المقارن، كما أصدرت منذ أشهر قليلة كتابا عن رسالة ابن غرسية، ذلك الأندلسى الشعوبى فى وقت صدرت فيه دراسة لأحد المستشرقين الشبان فى ذات الموضوع.
 ارتحلت عنك اثنتان وستون سنة متعلما عالما، دارسا مدرسا، ونظرت كثيرا إلى حالنا المعاصرة، وكنت شديدا في توصيفها، ألا ترى وقد تراكمت خبرات السنين، أن هنالك طلائع تحرك السكون، وتقطف الظلال من محاجر الهجير، وتزرع الربيع في مخالب الصخور؟! أم أننا سنظل مستهلكين هالكين؟!
 حتى الآن لا يظهر أننا سوف نتغير قريبا. لقد جاء الاستعمار المادى كرة أخرى فاحتل بلادنا، وأصبحت العمالة السياسية والعسكرية والفكرية "عينى عينك"، ولم يعد أحد يخجل أو يستخفى: لا الحكومات والمحكومون. أنا أحمّل المحكومين النصيب الأكبر من المسؤولية، فهم صمام الأمن، وبدون وقفة شجاعة من جانبهم سوف يضيع كل شىء، إذ الحاكم لا يهمه إلا كرسيه حتى لو كان ثمن ذلك هو التحالف مع الشيطان، أما الشعوب فهى صاحبة المصلحة الحقيقية. فإذا فرطت الشعوب فى حقوقها ورضيت الاستسلام والجبن والمذلة، واستعذبت التخلف واستزادت من الهوان ومن تحكم الأعداء فى رقابها، فقل: علينا السلام. وهو ما يحدث الآن. ترى هل هناك من يكابر فى هذا؟
 قلمك الفريد/ المشاغب/ العليم، السيال، الذي يقتحم سدود الصمت، فيعارض محمود شاكر، ويدارس هيكل، ويصطدم بمندور، ويناهض طه حسين، ويُقَرِّع المتعالمين، ذلك القلم الْمُطَعَّم بعبق مصري خاص، في عامية لذيذة تأتي في مكانها، من رجل تعتَّقَتْ في خلاياه الفصحى المتأنقة،كيف هي صحبتك له حين تكتب، ناقدا كاشفا، أو شارحا مبينا، وكيف رست سفينتك على هذا الجودي الذي اخترته لك منهجا؟!
 أنا أكتب وأترك قلمى يمضى حيث قدر الله له أن يمضى، وحين أستخدم الأسلوب الفكاهى أضحك مما أكتب وكأنى أقرأ لأحد غيرى. ودائما ما أراجع المعاجم وكتب النحو والصرف والدواوين الشعرية وكتابات الفطاحل إذا ترددت أمام لفظة أو أردت استعمال عبارة أو تركيب جديد وما إلى ذلك. ولا تنس ما قلته آنفا من أننى أعشق اللغة العربية عشقا بل أهيم بها هياما، وأراها نعمة من نعم الله على تلك الأمة الغافلة المغفلة التى لا تقدر شيئا مما حباها الله به حق قدره، وتعيش فى الدنيا سبهللا لا تبالى بشىء ولا تفكر فى شىء سوى الطعام والشراب والطبل والزمر، وكأن الدنيا قد حيزت لها إلى الأبد. حاجة تكسف!
- أكثر من خمسين كتابا، كأنك تطبعها لنفسك، وتكتبها لمكتبتك، هل هي ضنانة بالعلم، أم واقع مرير لا يقرأ؟!
 هذا الرقم بل أكثر منه هو الكتب الورقية وحدها، وهناك مثلها من الكتب الضوئية التى أنشرها على المشباك. وهناك عدد من الكتب الورقية مصور يمكن نسخه من المواقع المختلفة، وهناك دار نشر ضوئية أخذت نيفا وثلاثين من تلك الكتب ونشرتها فى موقعها التجارى منذ نحو ثلاث سنين، وحتى الآن لم يدفعوا لى مليما واحدا. وكنت أوزع كتبى عند بعض الناشرين، فكان العائد قليلا، والحصول عليه مزعجا، فتوقفت. إن أمتنا لا تقرأ، فماذا نفعل؟ إننا نكتب وننشر ولا ننتظر فى الغالب عائدا ماديا، ومع ذلك فالقراء قليلون، وعدادات القراءة الضوئية (أو فلنقل: "عدادات الزيارة"، لأنه ليس كل من فتح المقال أو الكتاب يقرؤه، بل كثيرا ما يلقى نظرة ثم يولى هاربا) هذه العدادات تفضح المستور وتبين لنا أننا أمة الهلس والبكش والنوم والشخير، مع أن الدنيا تتوثب من حولنا بل تطير فى السماوات العلا طيرانا، ونحن ولا نحن هنا. لا أدرى ماذا تريد هذه الأمة أفظع مما يحدث لها! لو أننا كنا حجارة لتهضنا من رقدة العدم التى نغط فيها وتحركنا وتقدمنا. فنحن إذن أسوأ حالا من الحجارة.
 قالت إحدى الأديبات يوما ما: من فضلك، لا تقابل أديبك المفضل. هذا الفصام المر، بين الكاتب وقلمه في كثير من الصور والرموز، ما سببه في رأيك؟ ومتى يسعى الكاتب على أن يكون على قدر قلمه؟!
 طبعا أنت تعرف المثل العربى القائل: "تسمع بالمُعَيْدِىّ خير من أن تراه". فهذا المثل يلخص الوضع البشرى الذى يتمثل فى أن التنظير سهل، والتطبيق صعب. يصدق هذا على كل البشر فى كل العصور. والمطلوب بقدر الإمكان أن يقرب الإنسان بين ظاهره وباطنه، أو بين كلامه وفعله. أقول: "بقدر الإمكان". أما أن تُطْلَب منه المطابقة التامة بين الأمرين فهذا تكليف له بما لا يطاق. ولكن يزداد البعد بين وجهى العملة البشرية كلما تخلفت الأمة وتردت أحوالها، فعنئذ ينتشر النفاق ويتظاهر كل إنسان تقريبا بما ليس فيه. وأمتنا، كما تعلم وأعلم، أمة متخلفة، وهى تمر بواحد من أسوإ أطوارها الحضارية. إنها فى الحضيض. فماذا تنتظر منها أو من مثقفيها؟ إن المثقفين هم فى الغالب، مثل الحكام، صورة من الأمة. فأنا أرى الوضع عاديا جدا رغم أننى لا أكف عن الصراخ ويحترق دمى كل لحظة، وإن لم أسلم أنا أيضا من هذا العيب، إلا أنه ليس شنيعا فى حالتى حسبما أتصور. فهل تصورى هذا صحيح؟ هذه مسألة أخرى، لأن كل إنسان يتصور نفسه أفضل مما هى عليه فى الواقع. أليس كذلك؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى