الثلاثاء ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم رشدي خليفة

الســــلام تحــترق مــرتين

وكـأن على متنهـا بشرا حاملين جـوازات الموت والنهاية وكأن هويّـاتهم على اختلاف ألوانها ختمت بخـاتم عزرائيلى أسود . أناس يحملون الأمـل والأمتعـة وآخـرون يودّعون الأهل والأحباب وعمالة فقيرة استنزفت عمرها ركضا وراء الريال وها هى تغيب عن الحياة دون أن تخبر أحدا أين هو الريال ؟ وحجاج برداء أبيض تركـوا أمام أستـار الكعبة ذنوب السنين واتجهوا صوب مصر بقلوب ناصعة بيضاء ليبدأوا من الآن رحلة العمر النظيف وما كانوا يدرون انهم مدعوون لصراع طويل مع موج لايرحم ونيران لاتبقى ولاتذر.. صراع فيه الموت منتصر والانسان مهزوم مهزوم .. ومع كل هؤلاء يبدو فى الكادر أطفال أبرياء زادهم فى الحياة بسمات وضحكات ارتدوا رداءهم الجميل ونظروا بعيونهم لمصر آملين فى رحلة بتقاسيم العيد فبعدت مصر عن عيونهم وغـاب العيد .

هؤلاء هم الأبطال الواقفـون على مينـاء ضبا نقطة البداية واللاعودة وفى المقابل على ميناء سفاجة يقف المنتظرون .أمهات تنتظر الأبـن الغائب فى بلاد الغـربة وزوجات بثغور باسمة يستعجلون عقارب الساعة ويدعونها لمزيد من حراك . وصغـار أيــاديهم ممتدة للهدايا التى جاء بها الحــاج من بلاد الحرمين .

صورة للقاء الاحبة لم تكتمل ومشاعر وأحضان وقبلات لم تصل لمستحقيها بينما استبدلتها الأقدار بنحيب وبكاء ولطمــات وصرخات . هذه هى الحكاية التى امتد ظهر الباخرة ( السلام 98) ليكون بالأمس مسرحها وهؤلاء هم الأبطال الذين تخيرهم الموت لأداء مشهــد الوداع الأخير.

صــافرة الباخرة

فى تمام السابعة والنصف من مساء الخميس أطلقت الباخرة السلام صافرتها لتعلن انطلاقتها من ميناء ضبا وعلى متنها 1416 راكبا تباينت جنسياتهم واختلفت لهجاتهم بل لا أبالغ إذا قلت أن لكل منهم ثقافة مختلفة فى استقبال شبح الموت .. وجوه لم تتلاق أبدا على مسرح الحياة ولكنها اجتمعت اليوم على ظهر باخرة النهاية ليتقاسموا معا رحلة هى الأصعب والأشد قساوة وليمد كل منهم يده للآخر لا ليتصافح بالسلام بل لينقذ أخاه بحب من على ظهر السلام .

سعوديون ومصريون وسودانيون على وجوهم تبدو تقاسيم البشر والفرح والسعادة وهم يحملون حقائبهم ويخطون الى مقاعدهم داخل الباخرة. كلمات الترحاب يتبادلونها والبسمات على الثغور هى بطاقة التعارف واللغة البديلة .حتى الأطعمة التى مدّتها العمالة الفقيرة على سقف الباخرة امتدت لها كل الأيادى لافرق واستطعمتها الأفواه دون أن تسأل من الصانع ومن أى قطر هو ؟

نعم هذه هى الرحلات كما عرفناها مكتوبة فى قاموس السفر تقدم الصديق والحبيب والرفيق ولكن

ياللأسف لم تكن ( السلام )رحلة حاملة كل هذه المفردات الجميلة بل قدمت بديلا عنها الموت والغرق والنهاية

حافظ الذكريات

أجمل مافى الرحلة هى تلك الإطلالة الصادقة على موج البحر حافظ الذكريات وكاتم أسرار البشر ..الكل ينظر ليشاهد على سطح الماء أحداث الأمس وقد ارتسمت بوضوح بل ويرى بعين السعادة فصول المستقبل القادم مرسومة بريشه الأمل الخادع الكذوب .حجـاج عادوا لمنازلهم و قبّلوا صغارهم وناموا فى بيوتهم ولكن على سطح الماء .وصغار لعبوا بالدمى الجميلة وفرحوا بأرض الكنانة ولكن على سطح الماء ومرضى رسم لهم البحر حبة الدواء الشافية ومد لهم مشرط العلاج الحنون وعادوا أصحاء أقوياء فقط على سطح الماء

.هذه الآمـال التى نثرها المسافرون على متن (السلام) كانت طعام البحر فى الليلة المنكوبة . نعم لاتتعجبوا فالبـحر لايشبع من بقايا طعامنا وقتما نلقيها فى جوفه بل يشبع فقط من آمالنا العريضة وأحلامنا التى نقدمها وكأننا الى آخر الزمان نعيش .

هـدوء يسبق العاصفـة

دخان يتسرب ونيران تلتهم أخشاب الباخـرة وحركة غير عادية تبدو فى الجزء السفلى من الناقلة ورغم شعور البعض بهذه الأحداث إلا أن الجميـع رفض الالتفات لها ولم يعبأ أبدا بمقدماتها بل ظل النائمون فى سباتهم العميق ولم يترك الحالمون بالغد مقاعد أحلامهم بل أكملوا حديث الأمل للأمواج حتى اتسعت رقعة النيران وبدأت الباخرة تصرخ صرختها المخيفة حتى صافرتها قاربت شبها نعيـق البوم دليل الشؤم ونذير الخراب .

لحظات و تحولت باخرة الحلم الجميل الى قبر متسع وبدت النظرة الى البحر تختلف فماعاد الموج يرسم البسمات وماعاد البحر يقدم الذكريات بل يستدعى الآن فقط وجه النهايات المخيف

صرخات ما أعلاها تطلقها النسوة وهـرولة الى حيث لا مكان . وأوجاع المرضى عادت للصدور بعد هدوء اللحظات واطفال على أكتاف الآباء يبكون حتى أغرقت دموعهم المكان . الكل يبحث عن القبطان يسترجيه الخلاص والآيادى رفعت للسماء تنتظر عفو الرحمن .. سيناريو مخيف لاتترجمه الأقلام ولاتحكيه الألسنه بل يحتاج فقط للصورة لتكون هى الدليل .

يــارب يـــارب

هذا الدعاء كان القاسم المشترك على كل لسان .. دعاء تعرفـه كل الأوطان ويردده البشر بلاجواز سفر ولارسوم . هذه الكلمات كانت هى الأعلى صوتا ونحسب أن لولاها لكان للرحلة مذاقا اشد مرارة مما تجرّعه المسافرون ..الباخرة تتمايل ناحية اليسار والناقلة تصرخ صراخها الأخير كما الصافرة يرتفع نعيقها ولاجواب أما الركاب فهم بين خيارين لاثالث لهما أما الموت غرقا أو بين ركام الحريق .

ولأننا بشر نحب الحياة بات الركاب يبحثون عن بديل ينقذهم من الموت الآتى وفى يده الف سلاح فمن نجا من الماء لن ينجو من النيران.. الغريب أن القفز من ظهر (السلام) بات آخر أوراق النجاه الكل يريد أن يلقى بنفسه وبزوجته وصغاره من قبل أن يبتلعه البحر الجائع

يارب يارب .. دعاء صادق من قلوب خائفة مرتعشة الى رحيم أنقذ يونس من ظلمات أشد وحال بينه وبين الموت فى ظلمة البحر المخيف . هذا هو طوق النجاه الذى تذكره راكبو السفينة وقتما شعروا باقتراب النهاية وتعلقوا به أملا فى النجاة و الخلاص .

بين ضبـا وسفــاجة

المثير للدهشة أن المسافة وقت اشتعـال الحريق بين الباخـرة وميناء ضبا كانت هى الأقرب بقياس المسافات حتى أن القبطان آثر الالتفاف والعودة حتى يحول بين الركاب والموت ولكن يالها من سخرية غريبة أن ينطفىء الحريق للحظات فيطمئن القبطان لسلامة باخرته ويعود ثانية متجها لسفاجة , لحظتها عاد الحريق مرة أخرى ليكمل مسيرة اشتعاله وليسخر بنيرانه من القبطان البشر الذى أراد بفكره العاجز أن يغير ملامح اليوم الحزين . ..كثيرون قد يحمّلون هذا القبطان المسئولية كاملة ويصفونه بالأقل حرفية ومهارة وآخرون قد يلقون بالتبعة على القائمين على سلامة الناقلة فى مصر وكيف انهم لم يطمئنوا لقدرتها على مواصلة المشوار وفريق قد يلقى بالملامة على رجال الإنقاذ الذين لم يسرعوا لنجدة الغرقى فور وصول الاشارات اليهم ..

هذه الاتهامات التى يتبادلها الواقفون فى أرض الميناء فى انتظار ذويهم والجالسون على مقاعدهم أمام التلفاز يشاهدون بحزن الموت المنقول اليهم على الهواء وكذلك الباحثون عن الأحياء وسط قوائم الأموات تبدو اتهامات منطقية فجميع هؤلاء مسئول ومدان على حادثة أعادها لنا القدر فى سنوات قليلة مرتين وكأنه يريدنا أن نتعلم .

ساعـــات طويلة

الساعات الطويلة التى انقضت حتى تسمع الأجهزة المعنية بالسلامة صوت صافرة الشؤم كانت كفيلة بإغراق الباخرة بمن فيها بل نحسب أن ساعات أخرى كان ستمحو الباخرة من على الوجود . مسرحية إنقاذية بدائية قام بها مسئولو السلامة هذا ما أكده شهود العيان ورواة الصدق .. فالناجون من الموت امتدت لهم يد ملائكية وساقت لهم أدوات معينة أمسكوا بها فكان الخلاص أما البقية فقد أبتعلهم البحر وتذوق حلاوة أمالهم وأمانيهم ثم ألقى بهم جثثا طافية على سطحه .. ولعلنا نسأل المعنيين عن الأنقاذ والكل معنا يسأل الى متى تكون نجدة الأرواح هكذا عملا ثقيلا على الأقدام والى متى نستهين بصافرات الاستغاثة العالية ونسمعها بأذان صمّاء

بكـاء النـاجين

على الرغم من فرحة العودة ولقاء الأحبة الا الصدمة أماتت البسمات من على ثغر العائدين . الكل حزين على غياب الرفيق الذى قاسمه على ظهر الباخرة طعام الصباح ولم يكمل معه فى ليل عشاء المساء . الكل حزين على الصغار الذين فارقوا الدنيا بقلوب بكر وثّابه , حزين على المرضى الذين أغراهم الموج بحبة الدواء فقدمت لهم الباخرة عقار النهاية ... بكاء الناجين ترجم لنا بصدق مشاهد الحادثة حتى شعرنا أن العيون التى نطالعها تتكلم بكل مفردات الحكاية وماعدنا بحاجة كى نقدم السؤال ونتظر الجواب

قصص رواها لنا العائدون وبطولات استعادوها أمامنا منهم من مد يده لينقذ طفلا ومنهم من أمسك بقميص شيخ كبير ومنهم من رفض أن تموت أمامه امرأة مسنّه فقدم نفسه للموج عنها نائبا وبديلا

على ميناء سفــاجه

ميناء سفاجة لم يعد هو الميناء بل بات جسرا يعبره الضحايا . لاوقت للسؤال عن جواز السفر الأخضر والأزرق فماجدوى الألوان اليوم والخطب عظيم . الغريب أن مسئولى الميناء شاركونا باكين فى حمل جثث الضحايا وتقديمها للأسر الواقفة حاملة الورود فى انتظار الزوج والحبيب والأب والرفيق

هذه هى الحكاية التى قدمها لنا السلام 98 ومن قبل قدمها لنا سلام آخر بتاريخ مختلف وكلنا خوف أن يتكرر السيناريو المخيف على متن بواخرنا ونشيّع بالدموع أحباء وخلان . كلنا خوف ان نتأمل أن يشق بنا السلام عباب البحر فيخذلنا السلام والبحر .. مازلنا نحلم بيوم تطلق فيها الصافرة صوتها العالى واستغاثتها المدوية فيهرول لها المعنيون بأقدام الفزع . مازلنا نحلم بيوم نؤمن فيه أن الانسان هو البضاعة الغالية التى لا تكسد تجارتها ولاتبور فاشتروها بالحرص يامسئولين فهذا هو الربح الكبير.

كـلمتـان أخيـرتـان

(حمدا لله على السلامة) كلمة نقدمها الى العائدين سعوديين كانوا أو مصريين ممن كتبت لهم النجاة من على ظهر باخرة الموت وأهدتهم الحيـاة فرصة أخرى ليكونوا ضيوفا على أيامها القادمة (وإلى رحمة الله) دعاء ورجـاء من القلب أن يتغمد الله الراحلين بواسع رحمته وأن يحيل صرخاتهم صغارا وكبارا فى جنات النعيم الى بسمات سمحة وضحكات ..هاتـان هما الكلمتان التى ينطق بهما كل ثغر وقلب وفؤاد هزته المأساة وأوجعته الفاجعة وأبكاه رحيل الأنسان فى رحلة السلام .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى