الخميس ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٢
قاسم حداد:
بقلم سلام سرحان

الشعر؟ لكي أعرف أنني موجود في الحياة وأستحقها بجدارة

قاسم حداد شاعر يتحرك في قلب المشهد الشعري العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم يتوقف خلالها عن البحث عما هو أعلى، صدر له خلالها ما لا يقل عن خمسة عشر كتاباً شعرياً وعدد كبير من الدراسات والمتابعات والكتب المشتركة. من أبرز الاعترافات الكثيرة بدور قاسم حداد في مشهد الشعر العربي الحديث، حصوله على جائزة العويس، التي كرست منذ تأسيسها حتى اليوم مصداقية عالية بسبب معايير وآلية تحكيمها الصارمة. وهي اليوم أرفع جائزة عرفتها الثقافة العربية .
منح جائزة الشعر لقاسم حداد، كان له أكثر من دلالة في سجل الجائزة، فهي المرة الأولى التي يفوز بها شاعر، لا نقف عند كونه يكتب قصيدة النثر بل كونه شاعراً تجريبياً.

لذلك سألنا قاسم حداد أولاً عما يمثله فوزه بالجائزة بالنسبة للمشهد الشعري؟
 أحب أن أرى في ذلك نوعاً من الإشارة الإضافية الرصينة لحضور التجربة الشعرية العربية الجديدة في صلب الحياة العربية وفي حلمها خصوصاً.

من هذه الشرفة، أعتقد بأن جائزة رصينة من هذا النوع من شأنها أن تسهم في تكريس التجربة الشعرية الجديدة التي ظلت طوال سنوات منعطفاً جوهرياً في المغايرة النوعية لمفهوم الشعرية الحديثة، وهي شكلت أيضاً حقلاً حياً من الحوار والجدل النظري والنقدي المرصود بالنصوص الإبداعية الجادة، التي تستوعب وتتمثل دورها الحضاري في سياق تجربتنا الإنسانية. وأتمنى في السياق نفسه أن تسهم مثل هذه الإشارة الى دفعنا الى الانتقال من التداول المتكرر للعديد من المصطلحات والنقاشات لقضايا باتت قديمة في التجربة الشعرية، الى تأمل القضايا التي تقترحها التجارب الجديدة بمعزل عن استعادة القديم المتجاوز من القضايا الأدبية الكتابة الشعرية الجديدة، وهي قضية من بين أبرز وأهم منحنيات التجربة الشعرية الجديدة ليس في الشعر العربي ولكن في الشعر عموماً في لحظة كونية بالغة الاختلاف والنحول الرؤيوي.

ما الذي تمثله الجائزة لقاسم حداد؟ هل شكلت أو ستشكل أي علامة فارقة على الصعيدين الحياتي والإبداعي؟
 على الصعيد الحياتي فإن ثمة مشكلات هي من طبيعة حياتي أصلاً، ربما ساهمت هذه الجائزة من الناحية المادية في مساعدتي على تخفيفها لكي يتسنى لي التنفس بحرية أكثر، وأواصل حياتي بلا أي تغيير في تفاصيلها الشخصية المستقلة التي هي ما أحب في هذه الحياة، لكي أحافظ على الجلوس في هامشي الحميم، فإنني أشعر فإنني في حرية الهامش أكثر حرية.

أما على الصعيد الإبداعي، فأرجو أن ما ذكرته في القسم الأول من الجواب يتيح لي تحقيق بعض المشاريع المنتظرة في رفوف القلب.

منذ بداية الثمانينيات أي منذ مجموعتي "قلب الحب" و"شظايا" وأنت تمزج بين قصيدة التفعيلة وبين قصيدة النثر على رقعة واسعة من التجارب. في وقت اتسم فيه الوسط الثقافي بالاستقطاب المتشنج والمتحزب بين الأساليب المختلفة، كيف تنظر الى تلك المعارك التي لا تزال قائمة؟
 لم أعتبر في لحظة من اللحظات أنني معني بما يحدث خارج الكتابة، كتابتي خصوصاً، أكثر من هذا ، لم أكن متحيزاً في أي وقت من الأوقات الى شكل تعبيري أو فني محدد دون غيره. ولا أنفي حق الجميع في التعبير بكل ما يحلو ويروق لهم من الأشكال. ما يعنيني دائماً هو النص بوصفه إبداعاً أحبه أو لا أحبه. وحتى عندما لا أحبه فإن هذا لا يعني أنه ليس إبداعاً، لأن ذائقتي الخاصة لا تجرؤ على الزعم بأنها يمكن أن تكون قانوناً أو حداً للآخرين للمبدعين خصوصاً.

من هنا، فإن كتابتي الشعر في الوزن وخارجه لم يكن يصدر من حكم تفضيل هذا على ذاك. إنما ما في هذه الطريق. الشعر كان قنديلي ودليلي الذي لا يخطئ. دون أن يكون هذا حكم قيمة ناجز على نجاح النص الذي أنجزته. لكنني، برغم العديد من الحوارات التي عشتها وعايشتها حول أشكال التعبير، فإنني توصلت سريعاً الى ضرورة عدم صرف الوقت والجهد خارج النص.

وحتى عندما أشارك في تلك الحوارات، كنت أميل وأدعو الى التحلي برحابة الفن والأدب، وتفادي مصادرة حريات الخيار التعبيري. لذلك فإن حالات الاستقطاب والتشنج المتعصب لهذا الشكل أو ذاك لم يكن يتصل بجوهر طبيعتي الأدبية ولا الشخصية. وأظن أن التجربة الشعرية الجديدة، في سنواتها الأخيرة، قد عبرت عن النضج والرصانة التي منحتها لها طول الممارسة، بحيث سيبدو المشهد اليوم أكثر رصانة ورحابة واستعداداً لقبول مبدأ شرط الشعر في المقام الأول.

الشكل المضمون، اللغة، كيف يتوجه الشاعر بين هذه الإحداثيات؟
 سأفترض أن هذه المصطلحات من بين الأدوات التي يمكن مصادفتها يومياً في السجالات الأدبية والنقدية خصوصاً حول قضايا الشعر والتعبير الأدبي.. لكنني بعد ذلك مباشرة سوف لن أكون جازماً بأنها مصطلحات واضحة الملامح المعرفية في مشهد الحوار النقدي العربي. لذلك فإن مثل هذه التعبيرات ستكون عرضة لما لا يقاس من التحول الى درجة أن طبيعتها الجوهرية تظل في مهب موهبة وطاقة كل شاعر ومبدع على منحها الملامح والحدود. ربما لأن كلمة (الشكل) مثلاً، هو في تجربتي الروحية والثقافية حساسيتي الشعرية سوف يختلف بدرجة أو بأخرى عنه في متناول شاعر آخر. مما يجعل الأمر غاية في التعقيد. ويمكننا تخيل الأمر نفسه بالنسبة لمصطلحي المضمون واللغة. ولا أقول هذا في سياق القدح. إنما أحاول توصيف ما أشعر أنه حالة أصادفها ولا أخشى منها. على العكس أعتقد بأن من طبيعة القدرة الإبداعية لدى الشاعر أن يتمكن بالفعل من التعامل مع هذه التجربة المحتدمة بقدر واضح من الموهبة والمعرفة في آن واحد. من هنا، أرجو أن تكون مثل هذه الظواهر مساف مقترحة نتأمل طبيعتها المادية في حياتنا ونحاول أن نمنح أنفسنا قدراً من الحرية في الخروج على الحدود التي كرستها لنا التجارب الشعرية والنقدية السابقة، والتي صدرت عن وهم أن الشكل حدود واللغة حدود، والمضمون حدود. الأمر الذي جعل الشاعر يتحرك في غرفة مظلمة من ألغام نقدية تزعم أنها حديقة المستقبل.

كنت في قلب حركة التجريب طوال ما يزيد على ثلاثة عقود. اتسمت بسرعة هائلة في الانقلاب على الشكل والمضمون، الآن وبعد أن اكتسبت كل الأشكال والأساليب شرعيتها، الى أين ستتجه القصيدة؟
 لا أكاد أدرك (بالضبط) ما تعنيه بتعبير (تجريب). فمصطلح التجريب، مثلاُ، أصبح يشعرني بأننا داخل مختبر مقطوع عن الحياة الإنسانية، كما لو أننا نحاول إعادة الحياة الى جثة ورثناها من أسلاف لم يحسنوا تقسيم التركة على أحفاد لا يفرطون في حريتهم إزاء الموت. ليس من الحكمة قبول مبدأ التجريب كما لو أنه مرحلة عابرة في حياة الشاعر لكي يختبر شكل ما أو أسلوب محدد قدرته على (قياس درجة الحب في القلب). وبعد إنجاز النص يجري قبول التجربة أو إلغاؤها. ترى هل يمكننا تصور مثل هذه العملية في الشعر؟ القصيدة يا سيدي لن تذهب الى مكان آخر غير المكان الذي يأخذها الإنسان إليه.

القصيدة حرة بقدر حرية الشاعر وكلما نحرر الشاعر من ربقة الأوهام المتداولة، والمتمثلة، معظمها، في وهم القطيعة مع التجربة السابقة والانقلاب على المنجز، ليكن معلوماً دائماً خصوصاً للأجيال الجديدة، أننا لم نكن ننفي التجربة السابقة، قديمة كانت أو حديثة، بل أننا كنا نعمل على إقناعها بحيوية حقنا هي الأخذ والرفض والحوار والنقد والنقض والإضافة واقتراح خصوصية تجربتنا الجديدة، وكل هذه الملامح لا تعني بأي شكل من الأشكال نفي أو إلغاء أو القطيعة مع تلك التجارب، فإن طبيعة أشياء الحياة تفرض كوننا جزءاً من سياق تاريخي وإبداعي وحضاري لما سبقنا ، ومن لا يعترف بأساتذته ومعلميه لا يستطيع الزعم بأنه جاء من الهواء. القصيدة هي إذن، تذهب إلينا.

اسمح لي بذلك السؤال الأزلي: لماذا الشعر؟ حياتيا ووجودياً؟
 الشعر، ببساطة العاشق، هو لكي أعرف أنني موجود في الحياة، أنني أستحق ذلك بجدارة، وهذا لا يحدث إلا إذا نجحت في كتابة الشعر الجميل والجديد، وهذا لا يحدث كثيراً.

ما هي مشاريعك الآن؟ ما الذي تعكف عليه؟
 أنجز نصاً بعنوان "لا تكلمهم إلا رمزاً" وثمة مشاريع أخرى أعمل فيها بقدر كبير من المتعة، لا أنتظر شيئاً، لا أخشى شيئاً، لا آمل في شيء، أنا حر، هكذا قال نيكوس كزنتزاكيس ذات مرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى