الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم محمود حسين عبيد الله العزازمة

الفرج بعد اللعنة..

اشوال دقيق، يا خيك. بيكفى عربان. نستقرظه من الناس ورطل عفيق. وخلنا نطش. ندور لينا حصيدة. الناس بيعلكوا سيرتنا وبيتعربشونا، البارح أبو شعران بيسامع لينا بيقول:
"اشرفت على القوز.. شفت ارجوم خربتكو.
شفت البين فى بيتكو.. متغطى بفردتكو".

وسرت فى صدره رعشة.. يعرف طعمها. رعشة مثل كركرة قطرات المطر فوق بيت الشعر أوائل الخباط شباط. رعشة كهربت الجسد الهزيل. منذ زمن لم يشعر بها. وكأن كلمات أخيه عواد أيقظت تلك الرعشة من منامها فى مكامن جسده. وتذكر السيل ذلك الثور الهائج. كيف دهم الزرع والمحصول بعد أن استوت السنابل. فأحالته إلى بقعة من القفر. وكيف أتى على الشياه وهى تقصع فى جرّاتها. فسحقها وأغرقها فى ثناياه. وهى تصرخ وتخور وتثغو.. كمن يطلب النجاة.. وأطرق. وكأنما يبحث عن سكتة أبدية وسط زحام رياح من القلق. وتذكر أنه وأخاه لم يتزوجا بعد. وكيف أصبحا قصة على كل لسان فى البلد. وتحسس جيبه. وفتح علبة الدخان الفارغة. ثم أعادها ثانية. وحاول أن يبتلع ريقه المتحلب. من سيقبل أن يرحل بيت الشعر فى سيارته. وهو يعرف حالهم. على من يشكو أمره، فى زمان اختلطت فيه الأمور، وغلب على الناس طابع التخلى. شعر بأنه وأخاه وحيدان وغريبان، مثل فطيمين ماتت أمهما. وتذكر أمه بأسى، فى منتصف الربيع الماضى ماتت. تذكرها وهى ترفع يديها تضرع إلى الله أن يرزقهما ويزوجهما. وكادت أن تطفر من عينيه دمعة. لولا انه تمالك نفسه. وأزاحها بطرف شماغه المبلل بالعرق. ماذا يفعل؟؟

تذكر أمه وهى تحاول أن تخطب له "حمدة" البنت التى أحبها وشغلت باله. ذهبت أمه إلى دار حمدة وقالت لأمها:
"يا حبيبتيه.. اعويليه عياد.. له بال عندكو. تقول من يوم ما اتصورتوا له. بيقوطر هويد الليل. ونجمة الصبح تفج. وهو بيساهر فى روحه"

ثم بلعت ريقها وقد دهمها النشاف. ووجه أم حمدة، وجه من الإسمنت، ثابت مستطيل ليس فيه ملامح. وجه يستمع ولا يعطف. ثم قالت وهى تضغط على الكلمات:
"يا شيبيه منه. ما تقولى يا بنت أبوكي. إلا عين لفحته. هالشبيب. قلت اخرفكى عن حمدة. بلكى قصلناها" وأغمضت عينيها. كأنما خرجت روحها مع هذه الكلمات. وسكتت.
ووجه أم حمدة متصلب. صارم القسمات. على حاله. ليس فيه تعابير ولا كلام. رفعت أم حمدة رأسها. بعد برهة من الزمان. وقالت:
"القول مع أبوها.. وإحنا ناس محنا حراس"
بس يجى من سوق الحلال. خير"

لكن الخير لم يجىء. الخير ظل بعيداً مثل نجوم فى السماء. عن عياد ولد فراج. وعن أخيه. منذ زمن لم ير شكل النقود. والبيت ما فيه سوى نصف جرة سمن. وعلبة الدخان فارغة. والناس ينظرون باحتقار لأخوين معدمين. ومع هبة نسمة من الهواء أتت على أطراف صدغه. تذكر عياد مريم.. بقامتها المتغطرسة.. ومشيتها الرشيقة تتمايل.. فيميل قلبه معها وتنظر إليه. كأنما تنظر إلى أفق بعيد وشاحب. وغاب فى التفكر وهو مطرق.
ونبهه أخوه عواد:
"يا خيك وش رايك.. انقوطر نحصد بروسنا، والبيت محنا عايزينه، انخله هنى للموجهة".
وكأنما هذه الفكرة هبطت عليه من السماء.
ففكا أوتاد البيت. وطبقا شقاته بعناية. فهو يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء أما جرة السمن فقررا دفنها بجانب البيت المطبق للعام المقبل.

وحين بدأ عياد الحفر بالوتد الطويل. أحس رنيناً مثل رنين النحاس. ووسع الحفرة قليلاً. فوجد صفيحة مربعة الشكل مثل غطاء الصندوق، فأزال عن وجهها التراب بأصابع مرتعشة. ووسع أكثر.. فأخرج صندوقاً عثمانياً عتيقاً.
وعندما فتحه. ارتجفت يداه برهة.. وغشته رعشة فى حلقه ووقف.
قال عواد:
"علامك يا خيك"
فابتسم من فوره. ثم أغلق الصندوق ببطء شديد. وهو ينظر إلى أفق بعيد وفى عينيه دمعتين كبيرتين..
وقال وهو يعانق أخاه عواد بصوت اختلطت فيه العبرات:
"الله فرجها يا خيك..
الله فرجها"
الله.. فرج.. ها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى