الفلسفة النفعية
مذهب المنفعة، يقول بإختصار أن الأساس الذي يجب أن تبنى عليه القوانين والأخلاق، هو إسعاد أكبر عدد من الناس. أحد مؤسسي هذا المذهب هو الإنجليزي جيريمي بينثام (1748 – 1832م).
ولد بينثام في لندن من عائلة ثرية. تعلم في مدرسة وستمنستر وكليتي كوين وأكسفورد. درس القانون، لكنه لم يمارسه. تفرغ للكتابة عن فلسفة الأخلاق والسياسة.
يعتبر بينثام، من كبار الفلاسفة العمليين المطالبين بالإصلاح القانوني والإجتماعي. كان له تأثير كبير في إصلاح النظام القضائي البريطاني. أعطاه قادة الثورة الفرنسية الجنسية الفخرية عام 1792م. تعتبر أفكاره متطرفة بعض الشئ، بمقاييس عصره.
جاء بينثام بطريقة لحساب السعادة .تتلخص في أن السعادة يمكن قياسها تبعا للبنود الآتية:
- الشدة
- المدة
- اليقين، هل أنت متأكد
- القرب، متى
- الغزارة، كم مرة
- النقاء، هل السعادة مصحوبة بألم
- المدى، كم من الناس سوف تتأثر
وفقا لبنثام، يمكنك تحليل أي سلوك وفقا لهذه البنود. على سبيل المثال، عليك أن تجلس على مكتبك لكي تراجع مادة الكيمياء استعدادا لامتحان الغد. ثم تفاجأ اليوم بقدوم أصدقائك لكي يذهبوا معك للبلاج، طبعا للعب والاستحمام وقضاء وقت ممتع.
سنقوم الآن بحساب السعادة الناتجة من السلوكين حسب طريقة بينثام. حساب الذهاب للبلاج يكون قوي في صالح البنود: 1، 3، 4، 6. لكنه ضعيف في بنود 2، 5. أما الجلوس في البيت للاستذكار، يكون قوي في بنود 2، 5، 7. ولكن ضعيف في باقي البنود. بالطبع الشعور بالذنب المصاحب للذهاب للبلاج سوف يؤخذ في الحساب أيضا.
بالنسبة لبند بنثام السابع، والذي يحسب عدد الناس التي تتأثر بالسلوك. هذا البند هو الذي يجعل الفلسفة النفعية فلسفة إجتماعية، وليست مجرد فلسفة تعتني بسعادة الفرد بمعزل عن الآخرين.
بجانب الناحية الإجتماعية للفلسفة النفعية، لها أيضا جانب ديموقراطي. الأصوات الإنتخابية متساوية الأهمية على المستوى الفردى. كلا منها له نفس أهمية أي صوت آخر. لماذا؟ لأن العبرة بما يضيفه هذا الصوت من سعادة لصاحب الصوت الإنتخابي، لا الفائدة العامة.
مشاهدة كرة القدم أكثر أهمية بالنسبة لبنثام ، من قراءة الشعر أو مشاهدة لوحة فنية، إذا كانت مشاهدة الكرة تضيف بهجة وسعادة للفرد أكثر من سماع الشعر ومشاهدة الفن.
يجب علينا أن نحكم على الأمور الأخلاقية بالنتائج. أي بمقدار ما تسعد من البشر. في هذه الحالة، يكون من واجبنا زيادة السعادة والسرور والتقليل من الحزن والشجن.
بالطبع المذهب النفعي لا يعني النظرة الضيقة التي تقول: أنا وبعدي الطوفان. أي الأنانية وسعادة الفرد بغض النظر عما يحدث للآخرين. لكن يعني أكبر سعادة لأكبر عدد من البشر. هذا، كما يقول بينثام، هو الأساس الذي يجب أن نبني علية قوانينا ومبادئنا الأخلاقية.
كيف نطبق مبدأ بينثام في حالة جان فالجان في قصة البؤساء لفكتور هيجو؟ عندما اضطر جان لسرقة رغيف خبز لكي يطعم اخته وأطفالها. للإجابة على هذا السؤال، تعالى نحسبها بطريقة بينثام.
صحيح سرقة رغيف خبز سوف تسعد جان واخته واطفالها في الأمد القصير، ولكنها سوف تحزن صاحب الفرن وعائلته. عدم سعادة صاحب الفرن وعائلته، يجب أن تؤخذ في الحسبان. ويجب أن نحسب مدة السعادة وحدتها، ومدة الحزن وحدته أيضا.
عندما ظهر مبدأ المنفعة أيام بينثام، وجد الناس أن له عدة خصائص متطرفة صادمة. منها أنه يتجاهل الرب، بالنسبة لتعريف موضوعي الصح والخطأ. كان معروفا ولا يزال أن الأخلاق تنحصر في اتباع قوانين وتعليمات الرب. تأتي إلينا من عل على لوح من الحجر. وما علينا سوى السمع والطاعة. من يتبعها يضمن السعادة في العالم الآخر.
لكن النفعيون يرفضون هذه النظرة الدينية للأخلاق. كل ما يهمهم، هو تحقيق السعادة لأكبر قدر من الناس على سطح هذا الكوكب وفي هذه الحياة الدنيا، لا حياة الآخرة. هذا شئ يغضب بالطبع رجال الدين.
الفلسفة النفعية قادت بينثام ومن تبعه من الفلاسفة النفعيين إلى محاولة إصلاح النظم القانونية والإجتماعية. معظم القوانين والعادات في وقت بينثام، كانت قوانين وعادات ظالمة. سببت الكثير من البؤس والعذاب للناس. لذلك شعر النفعيون أنه من الضروري كواجب أخلاقي، رفع هذا الظلم والعذاب عن الناس.
بينثام من أوائل المفكرين الذين نادوا بحقوق الحيوانات. لم يطالب بينثام بالرفق بالحيوان فقط، ولكن بحقوقهم الطبيعية أيضا. إذا كانت الأخلاق تعرف بمقدار ما تحدثه من سرور وبهجة، وما تخففه من ألم وعذاب. إذن، الحيوانات لها حق أيضا في مشاركتنا هذه القيم الخلقية. لأنها تشعر بالسرور والألم مثلنا تماما.
الكثير من الفلاسفة كانوا يعتبرون أن الحيوانات ليس لها حقوق، لأنها ليس لها تفكير عقلاني مثل الإنسان. منهم ديكارت وكانط. لكن بينثام يخالفهم الرأي ويقول، العبرة بالشعور لا بالتفكير. وكتب يقول: "ليس السؤال هنا، هل تستطيع التفكير والكلام. بقدر ما هو، هل تعاني من الألم والعذاب؟"
يقول بينثام، إذا كان مصدر الأخلاق هو التفكير العقلاني لا الشعوري، إذن يجب أن يستثنى منها الأطفال والمعوقين. لكننا نعطي الأطفال والمعوقين النصيب الأكبر من الإهتمام والعطف ونشملهم بأخلاقياتنا. فلماذا لا نعامل الحيوانات بالمثل؟
كل عام خمسة بليون حيوان يذبح في الولايات المتحدة وحدها. تقتل هذه الحيوانات لإشباع نهم المواطن الأمريكي من اللحوم. الغالبية لا ترى غضاضة أو مانع أخلاقي من معاملة هذه الحيوانات بهذه الطريقة. لكن هل هذا صحيح من الناحية الأخلاقية؟
نحن نعلم أن الحيوانات تتألم. أليس كذلك؟ وهم أيضا يشعرون بالسعادة إلى درجة ما. أنظر إلى الكلب وهو باسط ذراعيه أمام المدفأة يهز ذيله طربا ونشوة. لماذا نحن مسموح لنا معاملة الحيوانات بهذه القسوة، بعكس معاملة بعضنا لبعض.
في كتابه "تحرير الحيوانات" المنشور عام 1975م، أثار الفيلسوف المعاصر بيتر سينجر المولود عام 1946م، هو أيضا من الفلاسفة النفعيين، هذا السؤال. ووصل إلى النتيجة الصادمة للكثيرين منا، وهي: "إن معاملتنا للحيوانات عمل غير أخلاقي". الكثيرون منا مذنبون بتهمة التفرقة بين الإنسان والحيوان في المعاملة.
نحن متهمون بالتعصب النوعي ضد الحيوانات. مثل تعصب اليهود ضد باقي الأديان والفلسطينيين، وتعصب الجنس الأبيض ضد السود، وتعصب الرجل ضد المرأة.
إننا نمنع الأطفال من التصويت في الإنتخابات بسبب عدم نضجهم العلقي. هذه حالة مؤقة تزول عندما يبلغون سن الرشد. لكننا لا نمنع أحدا، رجل أو إمرأة من ممارسة حقه الإنتخابي سواء كان هذا الشخص، على وعي سياسي أو لا. حتى لو كانت تنقصه المعلومات الكافية لاخيار المرشح الأصلح من بين المرشحين. لأن التصويت حق من حقوقهم. وإذا منعناهم بأي حجة، نكون عنصريين.
فيلسوف آخر من النفعيين هو جون ستيوارت ميل (1806 – 1873م). إنجليزي ولد في لندن. كان والده مفكر نفعي من أتباع بينثام. قام الأب بتعليم وتربية ابنه وفقا لمبدأ النفعية. تعلم الأبجدية اليونانية وهو في سن الثالثة. وعندما بلغ سن الرابعة عشر، كان قد قرأ معظم الأدب اليوناني واللاتيني. وعندما كبر، تقلد مثل والده رئاسة شركة الهند الشرقية.
عندما بلغ ميل سن الواحدة والعشرين، أصيب باكتئاب حاد. أرجع سببه لطريقة تعليمه الصارمة في الصغر التي انتهجها والده نحوه. وجد ميل راحة في شعر ويليام ووردزورث، وبعد سنة تقريبا عوفي تماما من مرضه النفسي.
في عام 1851م، تزوج من هاريت تيلور، التي كانت مفكرة من الطراز الأول، لها تأثير كبير على زوجها جون إستيوارت ميل. لكنها توفت لسوء الحظ بعد زواجها من جون بسبع سنوات.
كان "ميل" عضوا مستقلا بالبرلمان البريطاني لمدة دورة واحدة عام 1865م. كان سياسيا بارعا في أيامه، له تأثير عظيم في الفكر السياسي. أول من نادى بحق المرأة في الإنتخاب. أحسن كتاباته كانت عن الحرية والفلسفة النفعية. له كتابات أخرى عن المنطق وفلسفة العلوم والميتافيزيقا والمعرفة.
من أقواله: "من الأفضل أن تكون إنسانا غير راض، على أن تكون خنزيرا راضيا. من الأجدى أن تكون سقراط غير قانع، على أن تكون غبيا قانعا. إذا اختلف الخنزير مع الغبي في الرأي، فلأن كلاهما واثق تماما من القليل الذي يعرفه، ولا يريد أن يعرف شيئا آخر ".
أيضا من أقواله في حرية الرأي: "إذا كان للبشرية كلها رأى واحد، فيما عدا شخص آخر له رأى مخالف، فعذر البشرية فى إخراس هذا الصوت الوحيد، هو نفس عذر هذا الشخص فى إخراس البشرية كلها عندما يتولى سلطة"
جون ستيوارت ميل، فيلسوف نفعي من مدرسة بنثام. يقول أنه كل ما يعنينا من الناحية الأخلاقية، هو نتائج أفعالنا وسلوكنا ودرجة تأثيرها على سعادتنا. هذا عكس ما يقوله الفيلسوف كانط. أي نتائج أفعالنا ليس لها علاقة بالأخلاق.
لكي نعرف الصح من الخطأ، لا نحتاج إلى عون إلهي ومدد من قوى خارقة للطبيعة. كل ما نحتاجه، هو التركيز على طبيعة أفعالنا في هذا العالم ومعرفة نتائج هذه الأفعال وتأثيرها على باقي الناس.
صفة أخرى جذابة للمذهب النفعي، هي النزاهة والموضوعية. سعادة الأفراد متساوية. لا تعتمد على من أنت أو تقرب لمين. "إنت عارف بتكلم مين؟". لذلك النفعيون ينادون بالمساواة المطلقة بين البشر، وأيضا ينادون بالمساواة بين البشر والحيوانات في الحقوق. لأن الحيوانات تشعر بالسعادة والألم أيضا.
مبدأ النفعية عند "ميل" يختلف عن مبدأ النفعية عن بينثام بعض الشئ. ميل يصنف السعادة والمتعة إلى نوعين: عليا وسفلى. بينتام يقول أن السعادة لها كمية ومدة وشدة، البنود السبعة. لكنه لا يفرق بين نوعيتها. بينثام لا يفرق بين السعادة الناجمة عن مشاهدة ماتش كرة قدم، والسعادة الناجمة عن سماع السمفونية الخامسة لبيتهوفن. لكن ميل يعتقد أن المتعة العقلية يجب أن يكون لها وزن أكبر من المتعة الحسية.
يقول ميل، حقيقة الكثير منا يفضلون مشاهدة كرة القدم على مشاهدة مسرحية لشيكسبير، لكن هؤلاء الناس ليسوا أكفاء للحكم على نوعية السعادة. لأنهم لم تتح لهم متعة تذوق مسرح شيكسبير أو سماع موسيقى بيتهوفن.
لكن، هل حقيقة من تتح له الفرصة لتذوق موسيقى بيتهوفن سوف يفضلها على مشاهدة ماتش كرة قدم بين النادي الأهلي والنادي الإسماعيلي مثلا؟
الآن سوف نستعرض بعض الأمثلة التي تتعارض مع مبدأ النفعية:
المثال الأول، نفترض أنك طبيب أمامك ستة من المرضى. الأول مصاب بمرض خفيف سهل شفاؤه. الخمسة الباقون مصابون بفشل أعضاء، ومعرضون للموت المحقق، إذا لم يجدوا أعضاء بديلة بأسرع ما يمكن.
كطبيب، أمامك خياران: أن تعالج المريض الأول وتترك المرضى الخمسة الآخرين للموت المحقق. أو، التضحية بالمريض الأول، وأخذ أعضائه الداخلية لإنقاذ المرضى الخمسة الآخرين.
بحساب النفعيين، علينا أن نضحي بالمريض الأول لإنقاذ المرضى الخمسة. لأن هذا سوف ينتج عنه خمسة أفراد سعداء، وواحد فقط بائس. بعكس الإختيار الآخر، واحد سعيد وخمسة بؤساء. مع هذا، قتل إنسان برئ لإنقاذ خمسة أرواح، يعتبر من الناحية الأخلاقية شئ مريع غير مقبول.
المثال الثاني، هناك احتقان بين المسيحيين الأقباط والمسلمين. قام أحد المجانين المسلمين بوضع عبوة ناسفة أمام كنيسة القديسين. بعد الإنفجار، لم تستطع الشرطة معرفة الفاعل. حتى لا يحدث إنفجار بين المسيحيين والمسلمين تكون عواقبة وخيمة، قررت الشرطة الإمساك بإنسان عبيط برئ وتلفيق التهمة له والتضحية به، لامتصاص غضب المسحيين وتهدئة الأوضاع. بحسابات النفعيين، هذا عمل سليم لأنه سوف يجنب الوطن أخطار وخيمة. لكن، من الناحية الأخلاقية، التضحية ببرئ يعتبر شئ مريع وخاطئ.
لكي يجيب النفعيون على مثل هذه الأسئلة، كان عليهم التفرقة بين النفعية كفعل، والنفعية كقانون وقاعدة. الفعل النفعي ينتج عنه سعادة يمكن قياسها. ولكن القانون النفعي، ينتج عنه سعادة أشمل وأعم.
القانون النفعي هنا يقول أنه لا يجب قتل أو تعذيب برئ. تطبيق مثل هذا القانون، سوف يزيد سعادة الناس عامة. لذلك علينا تطبيق هذه القوانين دائما. هذا هو الفرق بين بينثام وميل. بينثام تبني المنفعة الفعلية، وميل تبني المنفعة القانونية.
مشاركة منتدى
1 آذار (مارس) 2013, 16:26, بقلم المسلمة كوثر
شكرا لك يا استاذنا الفاضل على هذا المقال الغني والممتع حول هذا الاتجاه الفلسفي الرائع, لكن أآخذك على نعتك المسلمين بالمجانين وتعصبك للمسيحية , و هاذا لا يليق بشخص ذو فكر راقي خاصة اذا كان الفكر فلسفيا, والكل يعلم ان لا دين يخلو من مجانين ولا يمكن تعميم الاحكام,ومن العيب والعار استفزاز الاخر بدينه, مرة اخرى شكرا لك على المقال وما احتواه من معلومات ; افكار قيمة.
22 كانون الثاني (يناير) 2015, 23:57, بقلم محمد زكريا توفيق
يا أختي العزيزة، أنا أصف من يضعوا عبوات ناسفة لقتل من يخالفوهم في العقيدة بالمجانين. وهذا وصف أقل حدة من وصفهم بالقتلة المجرمين. فلا أدري كيف فهمتي من ذلك أنني أتعصب للمسيحية ضد المسلمين؟ أنا أتعصب للأبرياء ضد الظلمة والمجرمين. وشكرا على تواصلك ومرورك الكريم.