السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم طارق البكري

القرار الأخير

أسقط سماعة الهاتف على الارض.. قطع السلك الموصل للحرارة، حمل آلة الهاتف.. وضعها في سلة النفايات.. رمى هاتفه النقال من النافذة بعد ان سحب منه بطاقة الهاتف وكسرها.

« لتكن نهاية النهاية.. وختام الخاتمة.. وانقضاء فصول الحياة». قالها بسخرية.

انسحب من العالم بصمت.. شعر انه عاش اكثر مما يستحق، سنوات عمره الاربعون، بدت كافية لتشعل رأسه وقلبه شيبا وشقاوة.. استدرك في النهاية انه يحيا في عالم غرائبي عجيب.. عالم السيد فيه مغرور متملق، والطامع به غبي متسلق.

اكتشف انه يحيا في عالم لا ينتمي اليه.. هو يشبه الناس.. صوته كصوتهم.. لغته كلغتهم.. ثيابه كثيابهم.. مركبه كمركبهم... بيته كبيتهم.. لكنه ليس منهم.. يشبههم ولا يشبههم.

ضيق قدر ما يستطيع مساحة التشارك معهم، بني في داخله مملكة يعيش فيها.. كائن غريب صورته كالبشر، لكنه لا يشعر لحظة انه ينتمي اليهم.

لقد صمم على ذلك.. قرار لا رجوع، ربما هو مخلوق آت من مكان آخر، او نوعية مستنسخة من البشر لكنه بالتأكيد ليس منهم.. تنامت في داخله مشاعر الاغتراب حتى وصل الى قناعة العزلة.. فالعزلة خير من العيش مع مخلوقات لا ينتمي اليها.

قرر ان يشيخ في الظلمة.. قرر ان يسكن العتمة والصمت والسجن.. فلا تلمع بعد الان شيبته.. او بالاحرى صلعته تحت ضوء الشمس ونور القمر «فليكن ما يكون.. وليعلم العالم انني جنس غريب ليس من البشر».

حاول مرات ومرات ان يسقط في عالمهم.. ان يشيد احلاما من خيال، ينسجها خلف الاقنعة المتهاوية مثل المطر.. كان ينصت بسكون لكل الالسنة المتبدلة المتصنعة.. حاول.. لم ينكر انه حاول.. لكنه كان يسقط في كل محاولة.. عند درجاتها الاولى.. فلا ينجح في اثبات ما يريد.. ولا يقوى على تزوير ما لا يريد.. وفي الحالين كانت نصال الخوف والفزع والانكسار تنسل بوحشية ووقاحة.. تنغرز في صدره من دون رحمة..

كان يرى الناس من حوله اقنعة على اقنعة.. على اقنعة..

مسؤوله المباشر في العمل.. كان يزوِّر حتى نفسه وما ايسر عليه ان يغير في كل يوم مبادئه.

صديقه بدل حتى دينه لينال منصبا تافها اعجبه.. توفيق مستعد ليبيع اولاده ليسود ويترقى.. وكان بينهم - وغيرهم - كطابة تتلاطمها الاقدام، او ورقة صفراء في مهب الربح.

هرب منهم.. ومن غيرهم..

لجأ الى اخرين مغايرين معاكسين.. فلفظوه قبل ان يحيا بينهم.. كشفهم على ما هم عليه من عري مستور قبيح.. حاول ان يكذب على نفسه.. قدم لنفسه تبريرات.. زوَّر.. نعم زوَّر.. مثل كثيرين حوله، لكنه مزور فاشل، لا ينطلي تزويره على احد.. فقذفته الامواج على صخور الجراح.

لم ييأس .. حاول.. مرة جديدة.. مرات جديدة..

ومضى يتصيد الالم حيثما تقلب.. ما هكذا تورد الابل.. تراءت له احلام الشباب كلوحات فسيفسائية متحطمة.. شاهدها على جراحه التي تعفنت من كثرة ما أجَّل المداواة.

لجأ الى بيته.. حتى بيته لم يخل من صياحهم ومزاحمتهم له.. قرر قطع كل ما يمت له بصلة الى البشر.. جمع كل ماله الذي حصده في حياته.. مبلغ لا بأس به، سيضيف اليه مبلغ نهاية الخدمة.. واجرى حسبة بسيطة.. مبلغ جيد، يكفيه ربما 30 سنة آتية، هذا لو كتبت له الحياة طوال هذه المدة.. سيعيش بهذا المبلغ ببساطة.. هو يملك المنزل، ورثه عن والده.. يوجد 3 شقق مستأجرة، لكن ايجارها بسيط لا يكفي ليومين.. قرر ان يعفي المستأجرين من هذا الايجار الذي يبدو له رمزا لتواصله مع البشر.. تنازل ببساطة لكي لا يرى واحدا منهم.

سيخرج مرة واحدة في الشهر فقط.. يشتري ما يحتاجه من طعام ويعود الى بيته.. بل الى سجنه الطوعي.. ويكفي كل هذا الزيف والغرور والتملق.

«لو كنت متزوجا لازدادت حياتي سوءا.. لا ادري ان كان اولادي سيكونون سجناء مثلي.. او مثل هؤلاء الاقنعة..».

«حتى أن نفسي كنت قناعا لنفسي».

«سأتفق مع صاحب الدكان المجاور ليأتيني بالطعام والغذاء الذي احتاجه مرة واحدة في الشهر.. ليضعه خلف الباب.. سأعطيه ما يريده من مال من فتحة الباب السفلي.. هكذا أفضل من الخروج.. لا اريد رؤية الاقنعة المزيفة.. حتى صاحب الدكان يصطنع لكل مشتر قناعا..آآخٍ... لو كان لهذه الاقنعة سوق تباع فيه وتشترى لراجت هذه الاسواق واصبحت مصانع الاقنعة اكثر من المخابز والمطاعم.. ولأصبح اصحابها من اثرى الاثرياء..».


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى