الأربعاء ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
(نظرات إلى المصطلح العربي في إطار الثقافة واللغة)
بقلم خالد إبراهيم المحجوبي

المصطـلَح غير المصطـلِح

عليّ َ أول الأمر أن أحدد مقصدي بكلمة (المصطلح) . فالمصطلح الذي أعنيه هو اللفظ التعبيري المستعمل للدلالة على مفهوم ما دلالة متجاوزةً للمفهوم الأصلي الوضعي ، الذي كان يحمله ذلك اللفظ التعبيري .

و بعبارة أكثر إيجازاً أقولً: إن المصطلح هو التعبير الحامل لمدلولٍ تواضعيٍ، عوضاً عن مدلوله الوضعي.

وقدسُمي بالمصطلح ؛ لكونه واقعاً تحت سلطة اتفاق واصطلاح أهل التخصص –من أي ساحة معرفية- فاصطلحوا واتفقوا عملياً وإجرائياً على تحميله بمعنى جديد ليس هو ذات المعنى القديم الذي كان يحمله فبل أن يوظّف تحت وظيفة المصطلح.

إذاً الاصطلاح تكليفٌ للّفظ بمهمةٍ معنوية جديدة، والمصطلح هوالقائم بتلك المهمة ، أما المصطلحون فهم المكلِّفون إياه بها.

أما على الصعيد اللغوي الاشتقاقي فيرجع المصطلح في اشتقاقه إلى الجذر (ص ل ح) وهو ضدالفساد ، ويقال أصلح الشيء إذا أقامه وأحسنه . ثم انتقل المدلول إلى معنى السِلم ؛ فيقال تصالح القوم ، إذا حدث فيهم السلم، والتوافق. ومن تصريفات فعله الماضي : اصطلحوا ، وصالحوا ، واصَّلحوا ، واصَّالحوا ، وتصالحوا، والمصدر : الصِّلاح، بكسر الصاد. [1]

إننا لوأردنا تشخيص أوضاع المصطلح العربي،فلن نجد وصفا معينا يمكنه الوفاء بحقيقة واقعه ، لأن ساحات الاستعمال المصطلحي متعددة ، وكل ساحة لها أظرفها ومنا هجها ، من ذلك مثلا : الساحة الفقهية، والساحة النقدية ، والساحة العلمية التطبيقة ، والساحة الفلسفية . فكل من هاته السوح تنطوي على مناهج وظروف خصوصية كما أسلفت ، وعلى كل حال يمكن إطلاق أحكام شاملة وصفية لحال المصطلح في كل منها .

(أولاً) المصطلح الفقهي [2]: أعني هنا بالفقهي ما كان في المجال الديني من العلوم ، وهذا المصطلح يعاني من جمود مريب . وليس هذا عيبا في الفقه ولا في مصادره ، إنما هو نقيصة تسجل في صف الفقهاء المتأخرين خاصة ، الذين آثروا الجمود الاجتهادي واكتفوا –كثيرمنهم- بالاتكاء على مناهج ونتائج الرواد السالفين . ومن كان هذا حاله ، لاجرم أن تتحجر لديه آلات التعبير ، ومنها المصطلح التخصصي. ولعل من دواعي افتقاد التجديد المصطلحي : كثرة المصطلحات الفقهية التراثية وتعدد ساحاتها ، حتى إن كل مذهب تميز بمصطلحات لا توجد في غيره ، بل لقد ظهر عند بعض العلماء مصطلحات خاصة في بعض من مصنفاتهم [3]، مثل اصطلاحات ابن حجر العسقلاني في كتابه : بلوغ المرام ، وكتابه المطالب العالية . وكذا ابن تيمية الجد في : منتقى الأخبار . وصديق حسن القنوجي في : الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة.

فضلا عن الرموز الإحالية كالتي عند السيوطي في (الجامع الكبير )و(الجامع الصغير)، وابن حجر في كتابه (تقريب التهذيب ) وعند الذهبي في (المغني في الضعفاء) .

والناظر تجاه عالم التصوف ، ومكتوباته ؛ لسوف يذهل من واقع المصطلح الصوفي ، لكثرته وغناه ، وغموضه ، وعمقه ، وغرابته؛ وذلك سواء في ساحة التصوف العملي ، والتصوف النظري كليهما. فوسط كل من الكثرة والغنى ، و الغموض ، والعمق ، و الغرابة ، يقبع المصطلح الصوفي بصفته أغنى المصطلحات الناشئة في اللغة العربية. بل إن الساحة الصوفية كادت أن تخلق لها لغة قائمة بذاتها ، لو أن المجال أفسح للحلاج ، وابن سبعين ، والجيلي ، وأمثالهم، لكن كان للفقهاء رأي آخر.

(ثانياً)المصطلح الأدبي النقدي [4]

إن المصطلح في هاته الساحة حيوي متجددبعيد عن الاتكاء الرجوعي ، أعني أنه غير معتمد على مأثور النقد القديم ، ولكن هذا لا يعني أنه متجردعن التبعية ، فهو في حقيقة مآله تابع لجهة أخرىغير الأسلاف الأولين. تلك الجهة هي ما يمثلها المشهد النقدي الغربي الأوربي خاصة .
وهذا القول لا يحمل هدما لخصوصية مصطلحنا النقدي العربي الحديث ، إنما يحمل لمزاً بريئا ً، لائماًلجانبه ، لاسيماللمغرقين في التبعية المصطلحية ، فضلاً عن التبعية المنهجية.

(ثالثاً)الساحة العلمية التطبيقية

أكثر العلوم التطبيقية التجريبية ناشئة في الغرب ، رغم أنها وليدة الشرق ، وهذا ما جعل من سيادة المصطلح الغربي الأعجمي أمراً فارضا وجوده، وليس من سبيل إلى توجيه نقد شديد إلى التبعية المصطلحية في هذا المجال ، مع التسليم بأن التبعية شيء غير محبب ، ولا مشرف في الأصل ، وخاصة إذا كانت تبعية على الطريقة الشرقية.

(رابعاً)الساحة الفلسفية

إن المـصطلح الفلسفي الـــــعربي المعاصر قد أحدث قطيعة جلية عن المصطلح الفلسفي القــــديم [5].الذي لم يكن بدوره أصيلا أصالة تامة . حيث أسبغ عليه المأثور الإغريقي سيلا من المصطلحات ، أفقدتنا الثقة في أصالته ، فضلا عن الفحوى الفكري نفسه الذي لم يسلم من التشكيك والانتقاص القيمي ، بحق وبغير حق .
وتعويضاً أمام القطيعة عن المصطلح القديم ، توجه المصطلح الفلسفي المعاصر إلى الشمال ، أي إلى الغرب ، فاستورد ولم يزل سيلاً من المصطلحات الفلسفية غير العربية ، فاستعملت على صعيد واسع جدا في كلام وتنظيرات المعاصرين، سواء الفلاسفة ، والمتفلسفين، فضلاً عن أدعياء التفلسف.

إن المصطلح العربي يجيء على نوعين من حيث القبول والتلقي ، وذلك أمر يحكمه مدى دقة ولطف ومناسبة المدلول والمفهوم المنطوي وسط الهيكليّة الحروفية، فثمّ مفاهيم تخرج من مصطلحات أريد لها تبنيها ، بيد أنها غير مؤهلة لعملية التبني تلك ، فترى ذلك المفهوم يخرج من ذلك المصطلح خروج الفأر من جحره، قلقا خائفا مضطرباً . في حين نلقى مفاهيم تنساب فوق حروف مصطلحها فتسيل بروية واطمئنان ، حتى تنسكب في القلوب والعقول ، بعد أن تتلقاها الآذان أطيب لقاء قبل ذلك ؛ لأنها استوفت شروط القبول المصطلحي ، وهذه الشروط -عندي- هي:

1- ثبوت الأصالةاللغوية.2-توفر الدقةالمعنوية 3- تحقق السلاسة الصوتية الإيقاعية .

كل هذا لو اجتمع في مصطلح ما ، جاء مثالياً وبليغا ً.
في عصرنا هذا نلحظ أن ثمت مصطلحات شاعت وذاعت برغم كونها فاقدة لأهلية القبول اللغوي ، فهي مصطلحات دعية لقيطة انبنت على تحريف وتشويه لبعض الصيغ الصرفية . من تلكم المصطلحات : قولهم(إسلاموي- حداثوي- علموي – ذاتاني- ذاتوي) .ويتحمل محمد اركون، وغيره كثيرا من المسؤولية، في هذا كما قد يدخل في دائرة المسؤولية شيوخ المجاميع اللغوية العربية.

وفي مضمار المصطلحات اللقيطة استثمرت جملة من الألفاظ الأجنبية ، وأضيف إليها زوائد عربية كياء النسبة -مثلاً-. وهذا الاستراق من الآخر أمر يشي بمدى ضعف الثقة في اللغة ، وضعف العلم بها . ومن تلك الألفاظ قولهم (تيمة- تيمات-تابو- تابوهات- دينامية-استاتيكية- اسكاتالوجي- الإمبريقية) .

ولست أريد أن تتصورني جمودياً متعصبا ً للعربية القديمة ، لكني ابتغي أن تحترم هاته اللغة العظيمة ، وألا ينتهك حماها بغير حق ، وبانعدام المسوغ ، وألّا يستبدل بها غيرها في لحظات ضعف أو جهل من طرف بعض المثقفين ، والمبدعين من مفتقدي الحس اللغوي إلى درجة لم تقف عند خلق أزمة مصطلح إنما تجاوزت ذلك إلى اصطناع أزمة لغوية شاملة ، إن لم أكن مبالغا ، وأنا ممن يرى جواز الاستعانة بالمصطلح الأجنبي ، لكن في نطاق ضيق بحسب الحاجة الصوتية ، أو لأجل الدقة المعنوية. ومن ثم يسوغ عندي تبني استعمال بعض المصطلحات الأجنبية التي لو عربناها ، لوجدنا أنفسنا نتكلف تراكيب عربية ثقيلة تنفر من سياقاتها التركيبية في أي نص ، وهذاكاف للاستعانة ببعض المصطلحات الأجنبية . من ذلك مصطلح ( الميتافيزيقا= ما وراء الطبيعة، والأيديولوجيا=علم الأفكارأو العقائد –ديماغوجية=سياسة تملق عوام الناس).

والأولى من هذا كله ، العمل على استثمار الرصيد اللغوي، وقواعده ؛ لاستحداث مصطلحات حائزة على الشرعية اللغوية ، والخفة الإيقاعية ، والسلاسة الصوتية ، كل ذلك في آن واحد ، وقد استحدث في عصرنا مصطلحات من هذا النوع ، منها : (التشيّؤ - التموضع – التبئير -العولمة – المخيال-التسلّع -التتنميط ). إن أمامنا تقنيات لغوية ؛ فلا مسوّغ لاستعمال مصطلحات لا ضرورة لها عند وجود بدائل عربية مناسبة تغني عنها ، إنها تصير حين ذاك رطانة مستقبحة ، من ذلك-مثلاًَ- استعمال الكثيرين لـ(اثني ، بدلا من عرقي ، ودينامي أو ديناميكي بدلًا من حركي- راديكالي بدلاًمن جذري- يوتوبيا بدلا من الخيال ) .

إن التقنيات التي أشرت إليها قبل قليل تفسح أمامنا المجال للتخليق المصطلحي المبدع الدقيق الأصيل ، ومنها –أي التقنيات- : ما عرفه علماء الصرف باسم النحت ، وكذا التركيب المزجي ، والإسنادي ، ونحو ذلك مما يتحشّد في لغتنا من وسائل تخليقية تشرع أبواب الاستبداع المصطلحي بمعزل عن الاستعجام ، والرطانة ، والتحريف ، والغموض ، وغير هاته من معايب المصطلح العربي المعاصر .

عند هذه النقطة أود الازورار تجاه النص القرآني الطافح بالإشكالات المصطلحية، حيث سأعرض الآن لمثال يوضح واقع الإشكال المصطلحي الذي يغتني به النص المقدس.فهو أرقى النصوص اللغوية، بإطلاق غير مقيد ، وتعميم غير مخصص.

إن العلم لم يحسم المسألة المعقدة القائمة على إشكالية تحديد مصدر التعقل والتفكير والإدراك الإنساني . فالنصوص الدينية في الإسلام يرشح منها وينبط أن ما يسمى( القلب) هو مركزكل ذلك ، هذا ما يسنح لنا عند قراءة أمثال قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالهاسورة محمد24 . كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبارغافر35).إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ق37)ويشهد الله على على ما في قلبه(البقرة204). وختم على سمعه وقلبه ،وجعل على بصره غشاوةالجاثية23). ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه(التغابن11 كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين(الأعراف101). لهم قلوب لا يفقهون بها(الأعراف179).أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (الحج46).ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(الحج46). ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم(البقرة225).والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليماً(الأحزاب51).ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم(الحجرات14).كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم(البقرة118)وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه(الأنعام25).وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (التوبة45).يحذر المنافقون أن تنـزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم(التوبة64). فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم(الصف5).
إننا بإنعام النظر فيما سلف سنلقى وظائف العقل وإعمال التفكير معزوة ، ومتعلقة بما اصطلحت آيات القرآن على تسميته مرة (القلب)ومرة (الفؤاد)، وهي تسمية خالفت المصطلح الذي استعمله علماء البيولوجيا ، والأحياء بعامة، في نعت جزء عضوي مادي يقبع في جسم الإنسان ، وتحديداً وسط صدره، يستقبل الدم ويرسله خلال عملية ضخ للدم عجيبة مبهرة. هذا هوالقلب في المصطلح الطبي ، لا يعدو كونه مضخة دموية ، رتيبة.

أما القلب في المصطلح الديني فهو شيء آخر أكبر وأشمل وأعمق ، على مستوى الوظائف ، والتأثير بعيد المدى ،فالقلب الديني هو محل ثنائيات متغايرة تناقضية ، تنافرية. فهو موئل الهداية أو الضلال، ومستقر الفقه والتعقل ، أو الجهل والتبلّد، وهو مدفع العمل والإصلاح ، ومحفز التثبيط والإفساد ، فيه تُدبَّر الأوامر ويصطنع القرار، وبه يرتقي المخلوق حتي يصير إنسانا مكرماً ، وبه ينحضج حتي يستحيل بشراً محقّراً.

الواقع أن جدلية العقل والقلب شأنها أوسع من أن يحويه هذا المقام الموجز الضيق . والذي يعنيني هنا هو التوكيد على أن المغايرة بين كلا المصطلحين أمر ثابت لا يسمح بتسلل شبح الترادف ، فالتمايز هنا لا يترك للتمازج موضعاً.
كذلك ليس في الصواب نبذ أو اطّراح أي من الاصطلاحين : الديني ، والطبي ؛ فكل منهما حامل لمفهوم في موقعه صحيح ، دقيق المعالم.
وقد كان بالإمكان فك الجدلية وحل الإشكال عن سبيل القول بأن النصوص الدينية أطلقت مصطلح القلب ، مريدة به العقل نفسه. لكن هذا الرأي أو الافتراض، أو التصور سيلقى صدمة مصدرها تصريح النص الديني بأن القلب المذكور يمكث في الصدور وراء الضلوع، لا في الرأس تحت عظمة الجمجمة . قال تعالى ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. إن هاته الآية ونحوها تفتح الباب لتحميل القلب الطبي وظائف وصلاحيات وإمكانيات واسعة ، وكثيرة تهدد المخ بالتهميش ، بل قد تحوله إلى عضو عاطل عن العمل ، كما هو حال الزائدة الدودية.
والأمر يزداد تعقيدا حين نتذكر بأن المصطلح الطبي الشائع يسمي المخ باسم العقل ؛ مما يمنحه بشهادة اللغة فضيلة ومهمة سوق وتوجيه الإنسان وسلوكه في إطار وصاية شاملة محكمة.
وليس من مانع يحول دون القول بأن القلب الطبي يحمل ويؤدي وظائف أخرى غير وظائفة البيولوجية المعلنة ، أعني أن يؤدي وظائف إدراكية أو روحية، متعالية ومستعصية عن مجاهر الأطباء ، ومخابرهم .

هذا أمر غير ممتنع في التصور العقلي ، ولا يكفي لرده عدم وجود دليل مادي قاطع- حتى اليوم- على ذلك ؛ لأن عدم الدليل ليس دليلاً على العدم .

إن الافتراض السالف يحمل مشروعيته من جهتين :

1- عدم ثبوت مانع عقلي ، أو منطقي تصوري .

2- وجود قرائن تقويه من خلال ملاحظات أولية ، وتجارب غير مشتهرة ، أكدت أن القلب البيولوجي الطبي ، حامل لتأثيرات مجاوزة لوظيفته الدموية المعلنة في العرف الطبي ، وليس بإمكاني هنا تفصيل القول في أمر هذه التجارب ، وتلك القرائن ، لكنها موجودة على أي حال ، ولعل من أكفأ من طرقها –بين المسلمين- الشيخ العالم :عبد المجيد الزنداني.

إن من صور تعالي القرآن المجيد على مستوى غيره،ما يحفل به من إشكالات مصطلحية، فضلاً عن الإشكالات المفهومية المعنوية، مما دفع بعض علماء المسلمين إالى تصنيف كتب تعالج هذه الظاهرة القرآنية ، من ذلك ماكتبه ابن قتيبة ، تحت عنوان : (تأويل مشكل القرآن). ونحو ذلك ما سبقه إليه الكسائي في كتابه( متشابه القرآن) إضافة إلى ما انتثر وسط منظومة كتب التفسير القرآنية .

وقد كان من أشهر المصطلحات القرآنية إثارة للأقلام : ثنائية الإسلام والإيمان، وثنائية النفس والروح ، والحجة والبرهان، والقضاء والقدر، وكذا مصطلحات :القلب، والفؤاد ، واللب، والحِجر. [6] كل أولئك حمل صوراً من التمازج المعنوي ، إلى جانب التمايز المفهومي، ذلك كلّه في آن واحد ، قائماً على إضاءات لغوية حيناً، وإنارات اجتهادية حيناً آخر ، وتكلفات وتأملات شخصية ، تأتي طوراً في هيئة إنارات مبدعة ، وطوراً في صورة تكلفات سخيفة. ولقد كانت ساحة التصوف النظري أرحب السوح الحاوية لتلك الصور ، والإنارات ، والتكلفات .

وقد جرت محاولات حديثة إلى فك الإشكالات المفهومية التي تلتحف بها تلك المصطلحات القرآنية خاصةً. وربما كان من أهم وأجرأ هاتيك المحاولات ما كتبه نيازي عز الدين في كتابه (إنذار من السماء) ومحمد شحرور في كتابه (الإسلام والإيمان)وكذا في قراءته المعاصرة للقرآن.

وقمين بالذكر أن كثيراً من المصطلحات القرآنية داخلة ضمن ما اسمّيه (المصطلَح غير المصطلِح) وهذا النوع هو الأكثر ذيوعاً وسط منظومة المصطلحات العربيةفي كل مجال معرفي ، وأعني به تحديداً تلك المصطلحات التي فقدت مزية الإجماع على دلالاتها، وبعبارة أخرى ما تعدد مفهومه واتحد هيكله اللفظي ، وهذا الضرب قريب الشبه جداً بما عرفته اللغة باسم المشترك اللفظي ، بيد أن وجه التمايز بينها هو أن المشترك اللفظي تعبير استعمله الناس بحسب وضعه اللغوي الأصلى أما المصطلَح غير المصطلِح فهو تعبير استعمله الناس بحسب دلالة تواضعية متطرّئة على دلالته الأصلية، كما هو الحال في التواضع على تحميل لفظة الزكاة معنى جديداً يحيل إلى تلك العبادة الإسلامية المعروفة، بدلاً من الدلالة الوضعية الأصلية التي هي النمو والزيادة . وكتحميل لفظة الدنيا معنى الحياة الأولى للإنسان قبل موته ، بدلاً من دلالة القرب و السفول ، حسب الأصل اللغوي الوضعي.

إن المصطلح غير المصطلح ، ظاهرة لغوية متجذرة في اللغة بكل مستوياتها، كما أن افتقاده مزية الإجماع التواضعي ، لا تفقده قيمته ولا تؤثر في أهميته نظراً إلى كون افتقاد ذلك الإجماع أمراً طبيعياً جداً، بل هو فطري إلى أعمق حدود الفطرة ، التي جبل الناس عليها. واستحضار هذا الواقع يوجب إلينا الالتزام باحترام التفاوتات والتباينات المفهومية الدلالية في السياقات الإجرائية ، والأنسق الاستعمالية للمصطلح بعامة . وليس جديداً ما أؤكده هنا من كون كثير من الانشقاقات المذهبية ، والصدامات الفكرية ، والالتباسات المعرفية إنما خلقت في رحم ضيق الأفق المصطلحي ، حين لم تحترم تلكم التباينات المفهومية المترتبة على افتقاد سمة الإجماع على دلالة المصطلح غير المصطلح .

لقد عانت الثقافة العربية الإسلامية كثيراً من خلل في المنهج التفكيري ؛ مما استتبع معايب مؤثرة في المسلك التعبيري ، والتنظيري. وهذا واقع ليس في المكنة غمطه ، لاسيما عند النظر في مكتوبات وجدالات ومناظرات وخلافات صنّاع تراثنا القديم بالذات. [7]

ولا أريد لأحد أن يفهم من كلامي أني ممن ينسف القيمة الكبيرة لذلك التراث ، ولا أني ممن يقصف الأهمية البالغة التي اكتساها. فقيمة تراثنا العربي الإسلامي وأهميته مما لا يكثر الخلاف فيه ؛ لوضوح أمره ، وجلاء حقيقته. لكن أمانة النقد والنصيحة توجب إيضاح المعالم ، سيئة كانت أو حسنة ، جليلة كانت ، أو بئيلة.


[1للتفصيل انظر: لسان العرب –ابن منظور- ط دار المعارف- القاهرة- مادة :ص ل ح – 4/2479، وينظر أساس البلاغة للزمخشري – ط دار الفكر – بيروت 2000 – ص 345

[2من أمثلة المصطلح الفقهي: الرهن، المضاربة، الخلع، التخميس، الغرم، الرغيبة، النوازل، الجوائح، المنطوق، الراجح، الأحوط، الظاهر.

[3انظر للتوسع في هذا كتاب (الفتح المبين في حل رموز مصطلحات الفقهاء والأصوليين). محمد الحفناوي. مكتبة الإشعاع الفنية. الإسكندرية -1999- ط1- الصفحات التالية: ص46-74-113-149-177. ومعلوم وجود كثير من المصطلحات الفقهية المشتركة كالحلال والحرام والمستحب ومن المصطلحات غير المشتركة مصطلح المباراة عند الجعفرية وهو قريب من معنى الخلع المفرق بين الزوجين ووجه الفرق بينهما أن المباراة يكون فيها ا لكره مشتركا بين الزوجين، مع عدم جوازدفعها له أكثر من المهر فدية للتفريق.

[4من أمثلته: الفحولة، الشعر المطبوع، الشعر المصنوع، المنافرة، النحل.

[5من أمثلةالمصطلح القديم: الجوهر، العرض، الهيولى، العلة الأولى، الزمان. و من أمثلة الجديد: الإبستمولوجيا، الأنطولوجيا، الكوزمولوجيا، الميتافيزيقا.

[6عن هذه المصطلحات لنتأمل-أمثلة- الآيات: مثلا (القلب) «ومن يؤمن بالله يهد قلبه» سورة:التغابن .الآية:11.« الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» الحج35. «أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا» النور50. وفي (اللب) يقول «واتقون ياأولي الألباب» البقرة 197. «وما يذكّر إلا أولوا الألباب» البقرة 269. «أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب» الزمر18. «فاتقوا الله يا أولي الألباب» الطلاق 10. «إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب» الزمر 21. «ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب» البقرة 179.
وفي (الحجر) يقول: «هل في ذلك قسم لذي حجر» الفجر 5. ولم يرد في القرآن كلمة الحجر بهذا المعنى إلا في هاته الآية. وفي (الفؤاد) جاء في القرآن، بصيغة: الفؤاد، فؤادك، أفئدتهم، أفئدة، من ذلك «إن السمع والبصر والفؤادكل أولئك كان عنه مسؤولاً» الإسراء 36. «وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً» القصص 10. «ما كذب الفؤاد مال رأى» النجم11. «كذلك لنثبت به فؤادك» الفرقان 32. «ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة» الأنعام 113. «وجعلنا لهم سمعاً وأبصارا ًوأفئدة» الأحقاف 26. «ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم»الأنعام 110.
وفي (النفس ) قال تعالى: «ياأيتها النفس المطمئنةارجعي إلى ربك» الفجر27-28. «ربكم أعلم بما في نفوسكم» الإسراء 25.« الله يتوفى الأنفس حين موتها» الزمر 42. «وفيها ما تشتهيه الأنفس» الزخرف 71. «واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه» البقرة 235. «لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم» المائدة 80. وأكثر ما تستعمل النفس في القرآن بمعنى الذات، مثلا: «ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه» الظلاق 1.« قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً» يونس 49.« الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون»}الأنعام 12- 20.
وفي (الروح) قال تعالى: «ويسألونك عن الروح» الإسراء 85. في القرآن جاءت أغلب استعمالات الروح منسوبة إلى الله تعالى مثلا: «فأرسلنا إليها روحنا» مريم 17. «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي» الحجر 29 - وسورة ص72. وكثيرا ما يأتي هذا المصطلح لنعت جبريل من ذلك: «نزل به الروح الأمين» الشعراء 193. «تعرج الملائكة والروح إليه» المعارج 4. «يلقي الروح من أمره على من يشاء» غافر 15.

[7لقد شاع في التراث الجدلي ما سماه بعض الفقهاء والمناطقة بالخلاف اللفظي ، حيث يكون الاتفاق حالاًّ وواقعا بين الطرفين، في الوقت الذي نجدهما فيه يتصادمان ويتصارمان ويتخاصمان، في غفلة مخجلة، بسبب الغفلة عن الدلالة المفهومية المتعددة لبعض المصطلحات المقام عليها الجدل. وهذا من صور الخلل المنهجي الذي ساد على مساحة ذريعة من التراث، ولا يزال ناصباً خيامه الكريهة بيننا، هذه الأيام، ولا نتوقع أن يزيلها في المستقبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى