الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم حوا بطواش

بنت من هذا العالم

كانت علياء إنسانة مؤمنة بذاتها الى أبعد حد، واثقة من نفسها ومن قدراتها، تحسّ أن بداخلها نهرا من العطاء الذي لا ينضب. وفي المدرسة كانت طالبة متفوقة ومحط أنظار وإعجاب جميع أساتذتها، زملائها وزميلاتها في الدراسة، وكانت تضمر في داخلها رغبة هائلة في ترجمة قدراتها إلى أمر واقع.

كانت فتاة عذبة كالطفولة، تشدّ النظر من اللحظة الأولى، لها سحر خاص يكمن في حضورها الآسر، وجهها يتّقد حيوية ونشاطا ويشع من عينيها بريق يوحي بالذكاء والطموح المتأجّج في داخلها. ورغم ذلك، كانت متواضعة، ناعمة، ذات روح رهيف الحس، وكان قلبها يخفق للحياة، ونفسها تخطط لمستقبل زاهر وباهر فترفع رأس والديها أمام جميع أقربائهما وأهالي القرية، وكانت ترسم في ذهنها طريقها لتحقيق طموحها وإرواء عطشها للعلم والمعرفة.

كانت والدتها امرأة طيبة وبسيطة، سهرت، تعبت وأخلصت في خدمة زوجها وبناتها الست طوال حياتها. وكانت علياء هي صغرى بناتها، ومنذ كانت طفلة لا تتعدى الثلاثة أشهر لاحظت والدتها كم كانت مختلفة. فقد فعلت كل شيء أسرع وأفضل من كل أخواتها، وكانت الأم سعيدة ومعجبة بها إلى حد الإنبهار، وتحثها وتشجّعها دائما على إكمال طريقها نحو التفوّق والنجاح. وكان كل من يراها يقول لها جازما: "هذه البنت سيكون لها شأن عظيم حين تكبر!" فتغمرها سعادة كبيرة لا تضاهى، وتشعر أن تعبها على بناتها لم يذهب سدًى، وأن ابنتها علياء عوّضتها عن حرمانها من الأبناء الذكور.

أما والدها فقد كان بقالا صغيرا طوال حياته، ورث دكانه الصغيرة عن أبيه، ويمضي معظم ساعات النهار بعيدا عن البيت، وكان مجدا في عمله لكسب لقمة العيش لعائلته، مخلصا وأمينا في عمله، ولم يكن يخفى على أحد ما كان يحمل بداخله من إعجاب وافتخار بابنته الصغرى علياء، حيث كان يقول عنها: "هذه البنت بعشرة أولاد!"

وعندما كبرت بناته وأصبحن في عمر المراهقة، فجأة، تغيّرت معاملته لهن! لا سيما بعد الفضيحة التي لحقت بالعائلة حين هربت بنت من بنات أحد إخوته مع شاب غريب ليس من دينها، فتبرأت العائلة منها ومن فعلتها الشنيعة التي وطّأت رأسهم أمام أهالي قريتهم الصغيرة، الوادعة، القاسية، التي لا تنسى ولا تسامح. وكم فكّر الأب وأراد تركها واللحاق بإخوته الذين رحلوا إلى المدينة، أملا بأن تمسح عنهم بعض العار الذي التصق بوجوههم، والذل الذي غشّى جباههم بعد ذلك الحادث.

ولكنه لم يجد وسيلة لفعل ذلك. فقد كان حاله بسيطا وفقيرا ولم يملك أن يترك دكانه وينتقل إلى مدينة غريبة وبيئة جديدة، وهو المسؤول عن ست بنات وأمهن. فماذا سيعمل في المدينة وقد قضى طوال حياته في الدكان ولم يعرف صنعة أخرى يمكن أن يتقنها؟ فقرّر بعد تفكير وتردد طويلين البقاء في القرية، علّ الزمان يعطف عليه فينفض بعض السواد عن وجهه ووجه زوجته وبناته... علّ وعسى.

وهكذا مرّت سنوات.

كبرت علياء وأصبحت صبية واعية وذكية، وكبرت معها طموحاتها وازدهرت في جسدها أحلامها، واستمرت في طريق التفوّق من نجاح إلى آخر، لا يزعزع ثقتها ولا يهزّ عزة نفسها شيء. واقتربت من إنهاء تعليمها في المدرسة. تزوجت أخواتها الخمس الكبرى، واحدة تلو الأخرى، من أول عريس تقدّم إليهن، دون أن تتم أي منهن دراستها، وهن لم يرغبن بفعل ذلك على أية حال، بل فرحن بالزواج وفتح بيت خاص بهن وتكوين أسرة وبدء حياة جديدة، علها تذهب عنهن عار ابنة عمهن العاشقة الهاربة.

وبدأت الشكوك تخالج صدر الأم، وضعف اعتزازها وإعجابها بقدرات ابنتها علياء، وهي ترى النسوة من حولها ينظرن إلى ابنتها نظرة أخرى مختلفة، نظرة العطف والشفقة، ويهمسن لها: "إنها كبرت وأصبحت جميلة. لماذا لا تزوّجينها مثل أخواتها وتخلصين من همها؟" ثم يعرضن أمامها أسماء كثيرة لرجال ويسهبن في مدح صفاتهم الحسنة الرائعة، ويعرضن لها التوسط بالموضوع! وفي ذات الوقت، بدأت تشعر بقلق زوجها إزاء شغف علياء بالدراسة، وخوفه وتوجسه مما قد تجلب هذه البنت على العائلة إن بقيت دون زواج!

وفي يوم من الأيام، فوجئت علياء بوالدتها تختلي بها وتهمس في أذنها: "حبيبتي، هناك رجل تقدم لخطبتك وأبوك موافق عليه."

"خطبتي؟" صدمت علياء أشد صدمة. "ولكن... أنا ما زلت صغيرة، ولا أفكّر الآن في الخطبة ولا الزواج."

"أنت لم تعودي صغيرة، يا ابنتي. ومهما كنت متفوقة وناجحة في دراستك، تبقين بنتا. هل تعرفين ماذا يعني ذلك؟"

"ماذا تقصدين؟"

"أقصد أن البنت مهما تعلّمت وتفوقت في دراستها نهايتها إلى بيت زوجها. وهذا ما تتمناه كل بنت، أن تصبح زوجة وأما."

"ماذا تعنين بنهايتي؟ أنا لم أبلغ الثامنة عشرة بعد. كيف تحدثينني عن نهايتي وأنا ما أزال في ربيع عمري ولم أحقق شيئا من طموحاتي التي تراودني منذ الصغر؟"

"عمرك سيكون أحلى وأجمل مع زوج يحبك ويعزّك ويتوّجك أميرة في بيته."

حزنت علياء حزنا شديدا، شعرت بمرارة في أعماقها وبالكآبة تملؤها ظلاما وبؤسا، وارتفعت علامات سؤال كثيرة في فضائها الشاسع المغشّى بالحيرة السوداء. كيف يمكنها أن تتخلى عن طموحاتها التي تلازمها كالأنفاس التي تتردد في صدرها؟ كيف تتكسّر أحلامها وتتناثر أمام وجهها بهذه السهولة؟ وماذا بوسعها أن تفعل والكل ينكر رغبتها ووجودها؟ إنها إرادة الجميع من حولها. كلهم يشجّعونها على الموافقة، ويؤكّدون لها أنها محظوظة! وأن عليها أن تشكر ذلك الرجل الطيب الذي قبِل الزواج بها رغم وصمة العار الموشومة على جبين العائلة!!

أين المفر والكل يصرون على اغتيال طموحاتها وخنق قدراتها، ويقفون يدا واحدة صلبة، جبارة وطاغية أمام رغبتها البسيطة في تحقيق ذاتها؟!

بعد مضي أيام قليلة فقط، إختفت علياء من القرية... فتبرّأ منها الجميع!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى