الخميس ١٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم رندة زريق صباغ

بين عيلبون ورام الله

انه أسبوع فلسطيني بجدارة... فقد استيقظت في أول صبيحة لي هناك /هنا على دغدغة هطول المطر في طيبة رام الله، تلك القرية الجبلية الجميلة التي سمعنا عنها من خلال مهرجان البيرة السنوي المنعقد في ربوعها بترتيب من أصحاب مصنع هذا المشروب اللذيذ والمحبوب.

لكن الحق أقول إنني لم أخطط يوما لزيارتها...كما لم أتصور جمال طبيعتها الساحرة.
فرح كل أفراد المجموعة بالمطر ورائحة الارض الطازجة التي ملأت الحواس كلها...مفتتحين صباحنا الأول في الضفة بإطلاق عبارات الغزل الفرِحة بهذا المطر والبرد اللذين امتزجا مع انقطاع المياه في النزل كما في البلدة كلها...وهو ما استغربه الأصدقاء من حيفا والناصرة...فلم يشهدوا يوما انقطاع مياه تاما في بيوتهم – قضية لست بصددها الآن-.
أما المرشد السويدي أبيض البشرة أزرق العينين فقد أصيب بالذهول لشدة فرحتنا بالبرد والشتاء قائلاً:أنا أشتهي رؤية الشمس والشعور بدفئها وأتمنى أن أجدها في فلسطين،لكن أمنياتي لم تتحقق فباغتني البرد فالمطر.

هكذا بدأ اللقاء معه لندرك جميعا فوارق هائلة بيننا وبينه في البيئة الطبيعية كما المجتمعية والثقافية على حد سواء قد انكشفت خلال الأيام القادمة.

المسرح واللا عنف :ورشة لمدة أسبوع لموجهي المجموعات والعمال الاجتماعيين بتمويل من مؤسسات إنسانية ارتأت مندوبة إحداها وهي كندية الأصل ضرورة أن توضح للمشاركين قائلة:نحن لم نحضر لهنا لنعلمكم اللاعنف من منطلق قناعتنا بأنكم مجتمع عنيف،كلا بل جئنا نتبادل معكم الخبرات والتجارب لما فيه مصلحة الجميع،كما تحدثت عن محبتها وتعاطفها مع الشعب الفلسطيني وما يكابده من عناء جراء الاحتلال.

أما الشاب السويدي وبعد تعريفه عن نفسه وحديثه بإسهاب عن تعاطفه الشديد ومحبته لفلسطين وشعبها رأى من واجبه تقديم اعتذاره وخجله كون بلاده ثاني أكبر دولة في تصنيع الأسلحة التي لولا وجودها لما حدثت الحروب ولما استمر الاحتلال- غير ذاكر أن مخترع الديناميت نوبل سويدي الأصل قرر قبل وفاته أن يقيم مشروع جائزة نوبل تكفيرا للبشرية ومبدعيها عن الإساءة التي قدمها لها باختراعه هذا المدمر.

بهذه الأجواء بدأت الورشة التي ضمت مشاركين من شمالي الضفة وجنوبيها، من القدس-الخليل-حلحول-أريحا-مخيم الجلزون-مخيم عقبة جبر-بيتين-الطيرة- مخيم بلاطة - رام الله،دير جرير،نابلس،بيت لحم،القدس وأيضا من حيفا-الناصرة-المكر وعيلبون.

خيوط فلسطينية يمكنها أن تنسج وشاحٍا جميلا نتدثر به جميعاً لستة أيام انتزعناها من أجندتنا المثقلة بالبرامج والنشاطات والعمل...نجمع فيها ما تفرق على مدى ستين عاما وأكثر
كما هي حال المجموعات في بداية اللقاء يجلس أفرادها المتعارفون من قبل في جهة واحدة كنوع من الحماية والشعور بالأمان... لتنكشف صورة محزنة لتشتت وتقسيم فلسطيني داخلي حتى على الصعيد الشبابي انطلاقا من الانتماء الجغرافي...ولتظهر لي على الأقل مفارقات واختلافات تصل حد الخلافات وبعضا من صراعات قوًى بين الشمال والجنوب،بين ابن المدينة والقرية والمخيم...لا بل بين أبناء المخيم الواحد الذين يقسمون أنفسهم إلى قروي مهجر أو مدني من ذات الوجع.

كان قد أصابني ذلك ببعض ذهول اعتدته مع الوقت لأكتشف أنها حال طبيعية كحال المجتمعات والشعوب جميعا، لا بد وأن يجد الناس أسبابا ومسبباتٍ تفرقهم وتبرر التفضيل بينهم...أوليس الشعب الفلسطيني بمجتمعاته كما بقية البشر!؟ فلماذا الاستهجان إذًا؟!
انتظرت مهارة المرشد ومدى مقدرته على بلورة المجموعة وإيجاد بعضاً من الأمور المشتركة بين المشاركين ليتحول الجميع إلى ما يشبه الجسد الواحد السليم القادر على التفاعل والتواصل والنهوض بالمجموعة إلى الحد الأقصى من الاستفادة...لا أدعي أن قدراته ضعيفة لكن خلفيته الثقافية المختلفة جعلته بعيداً عن المحور لتأخذ هذا الدور المرشدة الفلسطينية التي شاركته الإرشاد والتي ما كان بإمكانها تمرير الورشة دون إحضار أجنبي يشاركها هذا الفخر وهذا العبء أو هذا الفن.

استبعد المشاركون جميعا طرح سؤالا أو تساؤلا ذا علاقة بمن يقف وراء مثل هذه النشاطات وما الهدف بعيد الرؤية من انعقادها؟فكانت فرحة الجميع بهذا اللقاء والتواصل الفلسطيني الفلسطيني أقوى من كل النقاط السوداء والرمادية ليأتي مثال المندوبة الكندية عن معاناة الكنديين من عنف الأمريكان تجاههم ليتركنا كمن على رؤوسهم الطير...إذ يتجرأ الأمريكي وبكل وقاحة ولا مبالاة لمشاعر الكندي بالتفاخر بصناعة السينما الأمريكية التي حسب ادعائه إنها أقوى وأهم من السينما الكندية...ليشعر الكندي بالقهر والمعاناة تجاه هذا العنف الموجّه ضدّه.
نظر كل الفلسطينيين إلى بعضهم بعضا بعد هذا المثال الذي ظنوه للوهلة الأولى مزحة أو دعابة لطيفة...لنكتشف أنه حقيقة مرة تعاني منها كاثي وأبناء شعبها،فما كان منا إلا أن انفجرنا بالضحك المبطّّن غير قاصدين الاستخفاف بها.

بيت الضيافة الذي ننزل فيه تابع لدير كنيسة الطيبة وهو بيت بكل ما للكلمة من دفء وطعام وارتياح... قبالته تماما بيت للمسنين أقامته الكنيسة أيضا قبل سنوات أربع - مررت بنزلائه صبيحة كل يوم لأستمع لبعض ذكريات وتاريخ شفوي مذهل لا يعقل أن يضيع...فان توثيق التاريخ الفلسطيني هو مشروع حياتي ...هنا أيضا سأحاول أن أجمع ما يمكنني منه لأكتبه لاحقا محاولة كبح عواطفي لأتناسى تداعيات قلقي من شيخوخة قادمة لا محالة....منكرة تعاطفا جللا مع العجائز والعجزة المتروكين في هذا البيت حتى أتمكن من الاستمرار في الإصغاء لواقع أغرب من الخيال.

كان جميلا أن تشاركنا معهم نفس الطعام...فالمطبخ مشترك في بنايتهم...يحضرون لنا حصصنا الى غرفة طعام بيت الضيافة في مواعيد الوجبات الثلاث اليومية....نكهة بيتية محببة ذكرتني بنكهات أمي الغالية- طعام على الطريقة الفلسطينية الأصيلة - طعام منواضع تم طبخه وتقديمه لتلبية الحاجة التي وجد لأجله الغذاء ليس إلا...فلا طعام فائض عن الحاجة ولا تبذير بلا سبب، والحق أقول انه أمر لم نعتده كثيرا نحن من دُمغنا بالرقم48 فكما استهجنا انقطاع المياه استهجنا بدايةً تواضع الوجبات دون أن ننفي استمتاعنا بمذاقه البيتي الرائع.

أخذني ذلك إلى مؤتمر ايلات قبل أسبوعين حيث التبذير والضيافة المبالغ بها لدرجة جعلتني أشعر بالتقزز لمجرد رؤية الطعام أو شم رائحته من جهة وبالإحباط لوقاحة المؤتمر الذي تم الإعلان من خلاله بشكل لا مباشر أنك كفلسطيني ليس أكثر من مخلوق هلامي غير ملموس ولا محسوس في الإعلام الإسرائيلي والعبري وأن قضاياك ومعاناتك الاجتماعية والقومية ليست من اهتمامات أحد في هذا الكيان.

تصل إلى هنا/هناك لتُصفع من جديد بأن فلسطينيي الضفة لا يعرفون عنك إلا القليل القليل...يعتقدون أنك نسيت فلسطينيتك وأصبحت صهيونيا/إسرائيليا،تشعر أنك متهم نوعا ما إلى أن تثبت براءتك التي سرعان ما تظهر جليّة للجميع جاعلةًً منك محور المجموعة كلها وعنوانا لأسئلتها كما بلورة أعضائها....فتفرح أنت وتفخر بوجودك كلما شكرك أحدهم عليه.
المطر يهطل هادئا لطيفا في الخارج- كأنه يدعوني للخروج إلى الشرفة والاستمتاع بهذه الحالة التي تغزل بها الجميع ،فإذا بصبية تخرج هي الأخرى تبتسم من فرحتها بالمطر وأدهشها أنني أقف خارجا في هذا الطقس،سأتّصل بأمي أسألها إن كانت تمطر في مخيّمنا،قالت وباشرت بالضغط على هاتفها المحمول ثم ابتعدت من أمامي إلى الداخل...أما أنا فبدأت بوضع السواد على البياض محولةً أفكارا ومشاعر إلى كلمات من لؤلؤ وحجارة.

مقالات في كلمات*

وصلت رام الله...فسقط المطر صبيحة اليوم التالي بعد طول انتظار...

قالوا لي:جئت فأحضرت الخير معك،أهلا بك..

عدت إلى عيلبون بعد أسبوع...فسقط المطر غزيرا بعد طول جفاف...

قالوا لي:عدتِ فأحضرتِ معك الخير،أهلا بعودتك...

لطيفة هي لغتنا العربية...

وطيبون هم أبناء شعبنا....!

صباحكم خير ومطر وطيبة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى