الخميس ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
المثقف والسلطة
بقلم خالد إبراهيم المحجوبي

ثنائية الإقصاء والإخصاء

قبل كل شئ سأقول إني أعني بالمثقف –في هذا المقام-، المفكر أو العالم في أي مجال معرفي كان ، وبهذا المعنى أكاد أوافق محمد عابد الجابري في استعماله لمصطلح المثقف (1) الذي يختزن كثيرا من المصطلحات الاسمية ، كالعالم ، والمجتهد ،والمفسر ، والفقيه ...إلخ.

وأعني بالسلطة: الحكومة الغالبة في أي مكان وزمان.
لقد أثبت التاريخ تلاصقاً تمازجيا بين ثنائية(المثقف –السلطة) ، حتى لكأن بينهما قرابة ، لكنها لسوء الواقع قرابةملعونة –حسب تعبير عبد المنعم المحجوب-(2)الذي اقترح حلاً سيبقى طوباوياً مادام بنوا آدم هم المالئون ساحتي السلطة والثقافة . ذلك الحل هو أن يتم فك ((تحالف السلطة والثقافة))(3)

ليس في السهولة تصور علاقة موضوعية بريئة بين المثقف والسلطة ؛ لأن شواهد التاريخ والحاضر تظافرت على توكيد حقيقة صارت ثابتة ، هي : أن علاقة المثقف والسلطة لم يكتب لها الخروج عن إطار ثنائية (الإقصاء -والإخصاء) هذه الثنائية التي اختصرها معاوية حين قال لأبي بكر بن عثمان بن الحارث((هي الدنيا ، فإما أن ترضع معنا ، وإما أن ترتدع عنا ))(4).

ولاجرم صارت السلطة فيما بعد هي البقرة الحلوب لمؤسستين رئيستين هما: المؤسسة السياسية ، والمؤسسة العلمية بأقسامها الدينية والأدبية .
- مفهوم: الإقصاء ، والإخصاء:

أعني بكلمة الإقصاء : الإبعاد الاضطهادي الذي يسقط على المثقف من طرف السلطةالحاكمة في حال تعذر توظيفه وتدجينه ؛ ليكون بوقاً لها ، أوعلى الأقل ساكتاً عن انحرافها .أي أن يرفض قبول وظيفة (شيطان أخرس).

عادة ما يكون ذلك الإبعاد الاضطهادي في صورتين هما :

1 -جسدياً واقعياً ، بالنفي ، أوالسجن ، أو الإخراج عن ساحةالدنيا بالاغتيال ، أو الإعدام.

2 -معنوياً عن طريق تجريد ذلك المثقف من حقوقه الثقافية والعلمية. كأن يحرم من حق نشر أفكاره في كتب أو مقالات، أو أن يضيق عليه في حياته العلمية الفكرية ، والارتزاقية ، كأن يفصل من الجامعات ، أو يمنع حضور المؤتمرات العلمية والندوات الثقافية ، ويحجر ترشيحه للجوائز الفكرية والعلمية .

أما الإخصاء: فأعني به أن يُنـزع عن المثقف جدواه المعرفية، وقناعاته الفكرية، وكفاءته الإبداعية الأصيلة ، ثم يصير قلمه آلة مستأجرة ، تعمل حيث يوجهها صاحب الأجر ، وتتوقف حين يوقفها وبذلك يتحول -بل يمسخ- إلى مفكر مأجور، فاقد لعذريته الفكرية ، وشرفه العلمي.

مبررات ودوافع الإخصاء والإقصاء:

من المهم والفائد أن ننظر في مبعث نشوء تلك العلاقة بين المثقف والسلطة.
إن المثقف –قبل كل شيء- هو عنصر من مكوّنات الدولة بوصفه مواطنا ضمن نسيجها السكاني(الديموغرافي)، لكن تميّزه عقليا وفكرياً ؛ جعل منه مشروعَ وسيلة تهتم السلطة باستثمارها في مشروعها السياسي الضيق، أو الأيديولوجي الواسع .إن (السلطة )في حاجةإلى التواصل مع الشعب ( العوام )، وإلى دعم جماهيري يقوي سلطتها ، ويدعم هيبتها ، ويرْسخ مكانتها.

أما الشعب فلا يمكن استمالته إلا بإقناعه بجدوى هاته (السلطة- الحكومة )وصلوحيتها لخدمته ، وتحقيق منافعه .إن مهمة الإقناع تلك لا يمكن تحقيقها إلا بإحدى وسيلتين هما:

1-أن تعمل (السلطة- الحكومة) واقعياً وعمليا إلى نفع شعبها ، وتحقيق رغباته وتوفير حقوقه ، وهذا آخر ما يمكن أن يفكر فيه رؤوس السلطة قديماً وحديثاً –مع وجود استثناءات قليلة-.

2-أن تفعل (السلطة-الحكومة) ، ذلك بطريقة غير عملية، وغير واقعية، أي بالاستعانة بالخداع والكذب ، وهذه مهمة لايمكن تحقيقها إلا بواسطة أناس لهم قدرة مميزة على تحقيق الإقناع، وحسن التعبير وطلاوة التنظير ، وإجادة الإيصال، وإتقان الإخبار، وتزيين الوعود ، وتزييف العهود، وتقبيح الحسين، وتحسين القبيح. كل هاته المهام تحتاج شخصاً قادراً وبارعاً في تحقيقها، ولا أحد يمكنه ذلك إلا صاحب عقل مميز ،أو فكر بارع ، أو لسان طليق .يدرك الناس حكمته ، وبراعته ، ويثقون في كلامه وخبرته.

إن كل هذه الصفات وجدت عند (المثقف) ؛ فعملت السلطة على استغلاله ؛ فوظَّفته ليكون وسيطاً بينها وبين الشعب (الرعية)، فمن قبل من المثقفين هذه المهمة، وهذا التكليف فقد أمن ضرر وكلفة الإقصاء . وضمن منافع ومذلة الإخصاء.
إن التاريخ العربي الإسلامي هو من أرحب الساحات التي شهدت تطبيقات تلك الثنائيةالنكدة(الإقصاء- الإخصاء)، بدء ً من المملكة الأموية ،وصولاً إلى الحكومةالعراقيةالصدّامية.
فما بين معاوية وصَدَّام لم ينفك المثقف عن خنوع أو صِدام، لم يبرأ عن ذلة الدجين ، أو نكبة السجين ،ولم يتزيل عن وضاعةالخسيس ، أو رفعة الرسيس.

لقد كان الإقصاء والإخصاء استراتيجية ملازمة لكل الحكومات الإسلامية المطلقة ، بدءً من المملكة الأموية، مروراً بالمملكة العثمانية، وصولاً إلى الدول الحديثة التي تشظّت بعد الحقبة الاستعمارية في كثرة غُثائية، وغزارة غير مجدية.
محاضن المثقفين:

تركزت محاضن المثقفين وسط الساحةالعربية والإسلامية في محضنين رئيسين :

1- المحضن الأول: منظومة الفرق الإسلامية التي لم تبرأ أيٌ منها عن احتضان نماذج ممن لحقهم الإقصاء، أو شملهم الإخصاء . وهذه نتيجة طبيعية ومنطقية ، ناتجةعن طبيعةالتلامس بين السلطة، وبين المثقفين الذين لم تكتب لهم العصمة عن درجات الترغيب، ودركات الترهيب.

2- المحضن الثاني: هو محضن حديث تمثل في الأحزاب السياسيةالمنظمة ، سواء الأحزاب العلمانية ، أو الإسلامية(الإسلاموية). مع التسليم بوجود كثير من المثقفين استقلوا عن التحزب ، لكن ذلك لم يعصم كثيرا منهم عن الوقوع في إحدى ساحتي : الإقصاء ، والإخصاء.

إن تحديد شخوص المثقفين الذين تم إخصاؤهم وتدجينهم ، أعسر من تحديد الذين تم إقصاؤهم ،وترفعوا عن التوظيف؛ لأجل ذلك لن اورط نفسي هنا في ذكر أسماء محددة ممن كانوا وسط الفريق الأول ،وذلك قائم على سببين هما:
1- لأن ذلكم أمر يستتبع التفصيل والاستدلال الدقيق، مما لايحتمله حيز هذه الدراسة الموجزة .
2- لأن كثيرا من أفراد هذا الصنف الموظف قد أدخل دائرة الرموز المقدسة ، والمبجلة من طرف المقلدين، أو والمتحزبين المتأخرين ؛ لذا سأجتنب استجلاب خصومتهم هنا.

كما أن من الخطايا الدراسية والفكرية ترك التريث عندا الحكم على شخصية ما أو الاعتماد على قرائن واهية ، لا ترقى إلى مستوى الأدلة .

من ذلك مثلاً أن يُحكم بأن مثقفاً ما قد احتوته السلطة ، وتم ترويضه لخدمتها ، ثم الاستدلال على هذا الحكم بأنه كتب كتاباً أو أكثر وافق فيه أفكار السلطة، أو لم يعارضها فيه فكريا .

إن الكثيرين يسقطون في نحو هذا الخطأ البحثي . أذكر منهم الباحث المهم محمد عابد الجابري ، حيث وصم الجاحظ بتهمة الانسياق وراء هوى السلطة ، فقال((لقد ألَّف الجاحظ رسائل لا يمكن تبرئتها من الانسياق مع أيديولوجيا الدولة، وخدمتها ، مثل رسالته في العثمانية))(5).

ليس لنا أن نستبعد احتمال حدوث توافق طبيعي بين طروح السلطة وما توصل إليه بعض المثقفين باجتهاد بريء علمياً. إن استبعاد هذا الاحتمال ينطوي على تهور بحثي ،وبعد عن التفكير المنطقي القابل لكل ما لا يستحيل عقلاً.
ومن صور التهور البحثي الحكم على مثقف ما بأنه موظف وممالئ وتابع للسلطة ، لمجرد كتابته إهداء أو دعاء إلى الحاكم مصدرا به بعض كتبه.كما فعل محمد فؤاد عبد الباقي-مثلاً- في بعض كتبه، وكما شاع قديما بين كثير من رموز ومشاهير التراث العربي والإسلامي.

لكن الأمر يكون أسهل عند اشتهار مثقف ما بخلق غير سوي أو سلوك وصولي انتهازي قائم على غير مبادئ قويمة مثلما هو الحال عند أبي حيان التوحيدي،و المتنبي ،وابن خلدون.
وغالبا ما يكون مدح السلطان غير قائم على((خصائص موضوعية في السلطان بل هو اتجاه نحو السلطة بالتملق الزلفى والنفاق))(6).

ولقد برع أكثر المثقفين المخصيين في ممارسة التملق والتزلف والنفاق ، على نحو يعدّ في ذاته إبداعاً ومهارة لافتة للنظر .
الإقصاء والإخصاء بين المبادرةوالإجبار
أعني بالمبادرة هنا أن يقوم المثقف نفسه بمهمة إقصاء ذاته ،ودوره الثقافي، أو أن يقوم بمهمة إخصاء نفسه ، ودوره الثقافي . أما الإجبار فهو أن يُكره على ذلك إكراها ً بلا رضاه.

أولاً : الإقصاء: له حالتان هما:

1-حالة الإقصاء الذاتي :

هي حالة يعمد المثقف فيها إلى الازورار عن كنف السلطة ، والنأي عن ساحتها ، إما بدنياً بالهجرة ، أو الهروب، أو اللجوء السياسي. وإما معنوياً ثقافياً بالكف عن التفكير المعلن ، والامتناع عن نشر أفكاره ،ومقاطعة وسائل الإعلام والإشهار؛ وبهذا يحكم على نفسه بالإعدام الثقافي ، حيث أقصى شخصيته الفكرية والثقافية عن ساحة السلطة والشعب كليهما ، عامداً إلى تطبيق استراتيجية فاشلة اسمها ثقافةالصمت. من أمثلة هذا النوع إعلان (سيد القمني) الكف عن نشر أفكاره ، وترك الساحة الفكرية.

2- الإقصاء الظاهري:

في هذه الحالة يعمل المثقف على مقاطعة السلطة ، والأجواء العلمية ، ولا يُظهرمن علمه عياناً، ولا يجاهر برأيه بياناً. في الوقت نفسه الذي يعمد فيه إلى نشر أفكاره بطرقِ سرية ومآرب غير اعتيادية . من ذلك مثلاً الكتابة بأسماء وهمية ، أو الإسرار بنشرفكره وسط نطاق محدود في كنف السريّة والكتمان، ولعل أشهر مُثُل هذا النوع جماعة إخوان الصفا في القرن الرابع الهجري . وحديثاً ساعد (الانترنت) على نشاط واتساع هذا السلوك .
ثانياً : المبادرة إلى الإخصاء:

هذه المبادرة تكون عادة مبنية على ظاهرة نفسية ذاتية لدى المثقف ، أسمّيها بـ (القابلية للإخصاء) . كثيرا ما يرضى ويقبل المثقف أن يُخصى ثقافياً ،وفكريا ،وشرفياً. ويمكثُ وراء قبوله كل ذلك دافع قوي ورئيس هو الطمع ، الذي يكون عادة في شيئين هما : النقود ، والنفوذ :

1-النقود (المال): أثبت لنا الواقع أن المال هو أقوى المؤثرات في الإنسان وشخصيته ، وإنه أقوى من كل صنوف التأثيرات الأخرى ، إنه قادر على تحويل الإنسان إلى مخلق منحرف ومنحط إلى درجات لا يمكن أن تنحط إليها أسوأ الحيوانات خلقا وأردئها طبعًا ؛ لذلك لم يكن عجيباً أن يقبل كثير من المثقفين أن يفقدوا فحولتهم الفكرية والأدبية ، مقابل صورة من صور المال الكثيرة التي منها : المرتب المجزئ ، والمكافأة المغرية، والسيارة الباذخة ، والمسكن الأنيق ، والرحلات المترفة، ونحو ذلك.

ولنذكر هنا قول الله تعالىوتحبون المال حباً جماً، وقوله...وإنه لحب الخير لشديد والخير هنا ليس بمعناه الأخلاقي القيمي ، بل بمعنى المال والمكاسب الدنيوية. وقولهولتجدنهم أحرص الناس على حياةٍ.

2: النفوذ :

كثيرا ما ينطوي الإنسان على عقد نفسية تؤثر في سلوكه وتفكيره ؛ فلا يرضيه إلا تملكه لنفوذ يفرغ به شحنات عقده ، ويرأب به تصدعات نفسه ؛ لأجل ذلك نجده قابلاً للتضحية بشرف شخصيته الفكرية والعلمية ، مقابل منصب ما يتيح له قدرا من السلطة والاستطالة بين الناس . إن المثقف القابل للإخصاء لا يرتفع قدره عن مستوى عاهرة تبذل جسدها مقابل منفعة مالية أو نحوها .

إذا مابين النقود ، والنفوذ يسقط كثير من أهل العلم والثقافة ، لكن ثمة شيء هو أسوأ من ذلك وأبلغ فظاعة ، أعني القابلية للإخصاء ، أي أن يوجد في شخصية المثقف جاهزية فطرية، وقابلية ذاتية تدفعه بسهولة واضحة نحو أصحاب السلطة والحكومة ؛ ليقدم إمكاناته العقلية والفكرية ، لتكون طوع أهوائهم من غير أن يعرض عليه قبل ذلك نقود ، ولا نفوذ . إن هذا النوع لهو من أخس من أنبتتْ الأرحام ، إنه يذكرني بحوارقصير جرى بين عمر بن عبد العزيز وأحد جُلاَّسه . قال عمر سائلا : من أخسر الناس ؟ قال: من باع آخرته بدنياه . قال عمر : لا بل أخسر الناس من باع آخرته بدنيا غيره.

إن المثقف المخصي يبذل خدماته وولائه بإطلاق للسلطة التي أخصته ، لكن ولاءه القلبي الداخلي يظل أبعد ما يكون عن البذل ، وليس في هذا فضيلة ولا حسنة ؛ لأن ذلك هو نفسه الذي نسميه بالنفاق. هذا النفاق الذي يتيح لهذا الصنف من الناس القدرة على تقديم خدماته في كل وقت وفي أي ظرف . فلو سقطت السلطة التي توظفه ، لم يجد إي صعوبة في الانقلاب عليها ، وتوجيه خدماته إلىالطرف الأقوى الجديد مادام سيبذل له نقوداً، أو نفوذاً . ولاعزاء للثقافة.
إقصاء المثقف =حما قة سلطوية:

من صور حماقةالسلطةالجاهلة ، أن تعمل على استقطاب وتدجين المثقفين ؛ ليكونوا أبواقاً لها في الوقت الذي تعمل فيه على إقصاء واضطهاد المعارضين المتمنّعين عن التدجين الرافضين لسلوك التزلّف والمداهنة . أماوجهُ الحماقة في هذا المسلك السلطوي فهو أن المثقف المعارض هو أفضل وسيلة لكشف عيوب ومناقص ونقاط ضعف السلطة ، التي يمكنها الاستفادة من ذلك الكشف لاجتناب هفواتها ، ودفع عيوبها ،ورأب مناقصها، وستر عوراتها .
إنها برفضها الاستفادة من المثقف الصادق المعارض تصير كالمريض الرافض إجراء فحص أوتحليل كشفيٍ لبدنه ،برغم كونه مثقلاً بالأمراض ؛ إنه بهذا يعمل على تمكين تلك الأمراض من جسده ، ويسهل لها انتهاك صحته ، والإسراع به نحو الهلاك.

إن المثقف المخصيَّ المدجَّن لن يجرؤ على تقديم نقدٍ بنَّاء ، ولا نصيحة مُصلحة ؛ لأنه منشغل بممارسة النفاق ، وما تيسر له من تصفيق وهتاف.
لقد كان أبوحيان التوحيدي صادقاً وحكيماً حين قال((...هكذا يفسُدُ من فَقَدَ المخطّئ له إذا أخطأ ، والمقوِّم له إذا اعوج ، والموبِّخ له إذا أساء . لايسمع إلا صدق سيدنا ، وأصاب مولانا)) (7) .

في هذا المعنى يقول هارولد لاسكي((إن الحكومة تستطيع الاستفادةمن المعارضين أكثر من المؤيدين .وإنها إذ تخنق النقد إنما تمهد السبيل لهدم نفسها)) (8).

تصنيف المثقفين ثلاثياً:

إن نظرةشاملة دقيقة إلى مواقف المثقفين ستدفعنا إلى وضع تقسيم ثلاثي يصنفهم من جهة علاقتهم بالسلطةوالحكومة. هذا التقسيم هو التالي:

1- مثقفو الإقصاء: هم الّذون ثبت إقصاؤهم عن رضاء السلطة، وعجزت عن احتوائهم وتوظيفهم لخدمتها.

2- مثقفو الإخصاء : هم الَّذون نجحت السلطة في تدجينهم ، وتوظيفهم فكرياً، ليكونوا أبواقاً ،وواجهات تحت تصرف أسيادهم.

3- مثقفو الشبهة: هم الَّذون رفضوا أن تحتويهم السلطة، وامتنعوا عن خيانة ضمائرهم ،وأخلصوا لأفكارهم . لكن توافقت تلكم الأفكار –أوكثير منها- مع المنظومةالفكرية والأيديولوجيا التي تتبناها السلطة، وتوافقت مع معلناتها الطرحية ؛ فكان الظاهر يحكم بكونهم مثقفون مخصيُّون تابعون، لكنهم في الواقع غير ذلك ، فكل ما في الأمر أنه قد (وافق شنٌ طبقة).

الحواشي والتعاليق:

(*) في اللغة الإخصاء يعني أن تنتزع خصيتي الدابة أو الإنسان، وذلك يقتضي أن يفقد الإنسان أو الدابة القدرة على الإنجاب فيعجز عن إنتاج ذرية من صلبه. يقول العرب: خَصَى الفحل خصاء : سل خصييه، ورجل خصي ، مخصي . وبعض الشعراء يطلقون الخصاء على الغلبةوالهزيمة قال جرير:

خُصي الفرزدق والخصاء مذلة ** يرجوا مخاطرة القروم البزّل

انظرللوسع : لسان العرب / ابن منظور . طبعة دار المعارف . القاهرة 2/1178-1179.
 أما الإقصاء في اللغة فيعني الإبعاد والتنحية . فيقال : قصا عنه قَصواً ، وقُصُواً أي بعد .وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا ، يقصو قُصُواً فهو قاص ، وقصوت عن القوم أي تباعدت، وأقصى الرجل يقصيه أي باعده. انظر لسان العرب 5/3657. وأساس البلاغة للزمحشري دار الفكر . بيروت .511-512.

1–انظر (المثقفون في الحضارةالعربية: محنة ابن حنبل ،ونكبة ابن رشد) محمد عابد الجابري . مركز دراسات الوحدةالعربية .بيروت . ط1. 1995. ص19.

2)- (بين السلطةوالثقافة : قرابةملعونة) عبد المنعم المحجوب . مجلة فضاءات . المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر. طرابلس . العدد 11. يناير 2004. ص5 .

3- نفسه ص5.

4- الإمتاع والمؤانسة- أبوحيان التوحيدي. 1/15

5- عابد الجابري ص114 محمد (المثقفون في الحضارةالعربية...)

6-(من العقيدة إلى الثورة )حسن حنفي . دار التنوير.بيروت .ط1988.1 - 1/27
لقد انشحنت كتب التراث وطفحت بالتزلف للحكام دعاء وإهداء من ذلك مثلا قول (فخر الدين محمد الرازي )في كتابه (أساس التقديس في علم الكلام) ص3 يصف الحاكم أبابكر أيوب بأنه ((السلطان المعظم.العالم الأعدل .المجاهد سيف الدين ....أفضل سلاطين الحق واليقين )) .

ويقول غيره في كتاب(التلخيص)ص3. يمدح سيده((المولى المعظم ، الصاحب الأعظم، العالم الأعدل ، المنصف الكامل، علاء الحق والدين ، بهاء الإسلام والمسلمين)).

ونجدفي حاشية التفتازاني ص2-3.وصفا للحاكم بأنه((لا مثل له في العلى وله المثل الأعلى الصاحب الأعظم والدستور المعظم، بابه كعبةالحاجات ،يطوى إليه كل فج عميق... وليُّ الأيادي والنعم ...خارج عن طوق البشر بل عن حد الإمكان..الوزير الكبير محمود باشا )).

ويقول صاحب (المطالع )((سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين...إمام المتقين ...أبي المعالي محمد ..مد الله سلطانه على الأمة ظلاً...ومهد لمقامه الشريف بين منازل الكواكب محلاً )).

وفي كتاب شرح المواقف يقول عن سيده ((السلطان الأعظم والخاقان الأعلم والأكرم مالك رقاب الأمم من طوائف العرب والعجم...شمل الورى ألطافه ، وعمهم أعطافه..من التجأ إلى جنابه يجد له مكاناً عليا ومن أعرض عن بابه لم يجدله نصيرا ولا ولياً...مفخر سلاطين بني آدم...بيـير محمد اسكندر، خلّد الله ملكه وسلطانه)) انظر هذه النقول مطولة عند حسن حنفي في (من العقيدة إلى الثورة)1/ 27وما قبلها.

ومن هذا القبيل نجد ابن الأثير يصف سيده بدر الدين الأتابكي فيقول فيه ((مولانا مالك الملك الرحيم ، العالم المؤيد المنصور ... المظفر ، ركن الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين ، خلّد الله دولته )) انظر الكامل في التاريخ .تحقيق : عمر تدمري . دار الكتاب العربي . بيروت . ط2. 1999م. 1/9.

كما يقول ابن خلدون عن أحد أسياده ((مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتحح الماهد...مظهر الآيات الربانية ..أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان المعظم الشهير الشهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السلاطان المقدس أمير المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام...)) انظر مقدمة ابن خلدون .ط دار الجيل .بيروت. دط.ص8-9.
إن أمثال هؤلاء المتزلفين ، لو وجدوا حماراً يحكم وله سلطة لقالوا فيه أكثر مما قال الشعراء في رسول الله. ولأسبغوا على ذلك الحمار-مادام صاحب سلطة- الصفات الإلاهية ، من غير أي حرج . لقد شوهوا صفة العلم ،وأخجلوا اللغة نفسها ،بنفاقهم ورذالتهم.

7- انظر كتاب(مثالب الوزيرين) لأبي حيان التوحيدي . كما أن الماوردي في كتابه (نصيحةالملوك) يرى أن مرجع ضعف وسقوط الحكومات والدول عائد إلى أمرين :الأول:-الحكم الوراثي ، المهمل شرط الكفاءة.الآخر:- غياب المعارضةالتي توجه الحاكم وتبصره بعيوب حكمه.

8- نقلاً عن (المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة) هادي العلوي. دار المدى . دمشق . بيروت. ط2. 2003. ص27 .

**- لعل من أمثلة هذا الصنف : أحمدبن حنبل مع المتوكل العباسي. ، بعد أن كان مقصىً في عهد المأمون والمعتصم والواثق. وكذا فكرالغزالي مع حكومةالموحدين ، بعد أن كان مقصىً في عهد المرابطين. وكذا تروتسكي مع البلاشفةالروس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى