الجمعة ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
مـــــــــــن قصـــــــــــص ملـــــــــــوك الفراعنـــــــــــة للأطفـــــــــــال
بقلم جمال الدين سالم

«حتشبسوت»

الدولة الحديثة- النصف الثاني

من الاسرة 18
(1850ق.م-1350ق.م)

تجري أحداث هذه القصة و في عهد الأسرة الثامنة عشرة ، التي كان عصرها عصر ثروة ورخاء، وخاصة في عهد الملكة (حتشبسوت)بطلة هذه القصة، التي حكمت البلاد ردحا من الزمن مع (تحتمس) الثالث، زوج ابنتها على أحدث الآراء، وقد انفردت دونه بالحكم،واستولت على زمام الأمور مدة ثلاثة عشر عاما، حتى فاضت نفسه بالحقد عليها، مما جعله ينتقم منها بعد وفاتها بمحو اسمها من جميع المعابد، وتحطيم تماثيلها المقامة.وقد كان عهد الملكة (حتشبسوت) عهدا حافلا زاهرا، عم فيه السلام والرخاء في أرجاء البلاد، وشيدت فيه أروع المعابد وأجمل المنشآت، وازدهرت فيه التجارة بين مصر وغيرها من البلاد، بإرسال البعثات للخارج لتبادل معها، ومن أشهرها بعثة بلاد بونت المشهورة، التي سوف يأتي ذكرها خلال هذه القصة:

قصة الملكة حتشبسوت

ثالوث طيبة

الزمان هو اليوم الأول من الشهر الثاني لفصل الفيضان ، من عام 1502 قبل ميلاد السيد المسيح ، أي منذ اكثر من ثلاثة آلاف سنة، والمكان هو مدينة طيبة العظيمة (الأقصر الحالية )، التي راحت تستعد للاحتفال بعيد انتقال ثالوث طيبة الإلهي، من معبد الكرنك اليبير، إلى معبد الأقصر في ضاحية المدينة، كما كانت العادة في تلك الأيام.

وكانت جموع الشعب تتدفق حول معبد "آمون رع" رب الآلهة في ذلك الحين.

*عقيدة القدماء

عرف المصريون القدماء إن الله واحد لا شريك له، كما نزهو الخالق عن طبيعة الأشياء ، واستقر في عقائدهم إن لهذا الكون إلها واحدا، خلق وقدره وقام على تدبير أموره، وان ذلك الإله لا يرى، وانما له قوى مختلفة، فهمها الخاصة منهم، ثم بسطوها للشعب فجسدوها على الأرض على شكل بعض الرموز والأشخاص على الأرض على شكل بعض الرموز والأشخاص أو الحيوان، ليتمثلوا فيها قدرة ذلك الإله القوي ، لأنه لم تكن هناك كتب سماوية قد نزلت عليهم في ذلك الحين، ولم تبعث إليهم أنبياء لهدايتهم في ذلك الوقت، ولذلك تخيلوا في تلك الرموز او الحيوان او الأشخاص قوي خيرية تأمر بالخير وتنهي عن المنكر.
وكان الإله (آمون) أحد تلك الرموز الشهيرة في طيبة، وكان معبده مقصد الزوار مع جميع الجهات، وخاصة في هذا اليوم، يوم الاحتفال بانتقال ثالوث طيبة، فزينت حوائطه وسارياته العالية بالأعلام، وأخذت الجموع المحتشدة في الخارج تتطلع في شوق وفضول إلى الداخل في انتظار خروج موكب الآلهة.

وكان فناء المعبد المكشوف قد ازدحم على سعته بكبار رجال الدولة، والكهنة، وعليه القوم، في انتظار حضور الملك (تحتمس الثاني) ليفتتح بنفسه الحفل، بينما انتشر أفراد البيت المالك في أرجاء بهو الأعمدة بالمعبد، حيث جلست الملكة (حتشبسوت) زوجة الملك، وقد أحاط بها رهط من أعوانها المخلصين. وكان من بينهم (حبوسنب) ذلك الوزير الداهية، وهو (جحوتي) وزير بين المال ، كما كان يجلس بجانبهما (سنموت) ذلك المهندس الشاب البارع، الذي حبته الطبيعة بجمال الخلق والخلق، ورجاحة العقل وقوة البنية وزلاقة اللسان،ما حبب فيه الملكة، فقربته إلى نفسها، وجعلته من اقرب جلسائها ,اخلص مستشاريها.

*تحتمس الصغير

وقد كان يجلس في الركن الشمالي من بهو الأعمدة صبي صغير، لم يتجاوز العقد الثاني من عمره، وقد ارتدى الملابس البيضاء الخاصة بكهنة الإله (آمون)، وجلس هو الآخر وسط بعض أقرانه ورفقائه يضحكون ويمرحون، في انتظار تشريف الملك وبدء الاحتفالات.

وقد استرعى منظر هذا الصبي انتباه الملكة (حتشبسوت)، وظهرت على ملامحها علامات الغيظ والتبرم، والتفتت إلى رجال حاشيتها وأشارت أي الصبي قائلة :

أرأيتم ماذا فعل زوجي الملك بابنه (تحتمس) الصغير ، ليجعل منه شيئا مذكورا؟ لقد جعله كاهنا رغم صغره حتى يقوي من سلطته ، ويرفع من ذكره، لحاجة في نفسه. وإني أكاد أخشى هذا الصبي الغير، بل وأحقد عليه.
فرد عليها سنموت ملاطفا: وما ذا يخيفك منه يا سيدتي، وقد أعددنا لكل أمر عدته. فزوجك الملك (تحتمس الثاني) قد قربت منيته، ونحن من جانبنا قد احتطنا للأمر، وأخذنا نعد الشعب لاستقبال نبأ تعيينك على العرش ، بعد أن أذعنا في أرجاء البلاد قصة تتويجك الرسمي عندما كنت طفلة، أيام والدك العظيم تحتمس الأول، كما أقنعنا الشعب بأن القانون والحق في جانبك، لأنك سليلة الملك (أحمس الأول ) منقذ البلاد، ولن يمضي وقت طويل يا مولاتي حتى تتبوئين مكانك على عرش آبائك وأجدادك، كما فعلت الملكة (خنت كاوس) من ملكات الدولة القديمة.

*مشاكل عائلية

فنظرت إليه شاكرة، وقالت له في سرور بالغ:

يالك من صديق وفي مخلص، قد أعاد إلى نفسي الثقة بعد أن كدت أفقدها، إذ ينتابني بين الحين والآخر شعور دفين بأن آلهة طيبة العظام يتخلون عن مؤازرتي، كما فعلت من قبل مع والدتي، إذ حرمتها من ولد يرثها على العرش ، فكنت أنا طفلتها الوحيدة. وقد حاولت أن تحقق أمنيتها فتوجتني على عرش مصر وأنا طفلة صغيرة، ولكن شعب مصر أبى أن تحكمه أنثى أيا كان قدرها، فاضطرت والدتي مكرهة أن تزوجني من هذا الملك العليل (تحتمس الثاني) ذلك الأخ غير الشقي ابن المحظية (موت نفرت)، وقد قبلت بدوري هذه التضحية ، على أن هذا الزواج لم يكن إلا صورة رسمية مزيفة، اقتضتها القوانين والتقاليد الموروثة، وإني لأراني صاحبة الحق الشرعي في العرش، ثم تتكرر معي نفس المأساة فتحرمني الآلهة أنا الأخرى من وريث لعرشي، إذ لم أرزق إلا طفلتين هما (نفرو رع) و(مريت راع)، بينما يرزق زوجي من زوجته الأخرى وجاريته المدعوة (ازيس) ذلك الطفل (تحتمس)، الذي شب على كراهيتي، بينما أحاطه الملك بعظيم عنايته ورعايته، وأخذ في دأب وإصرار يمهد له السبيل إلى عرش البلاد قبل وفاته، ولكنني بمعونتكم لي أيها الرفاق الأوفياء، قد أفسدت جميع المحاولات السابقة ، وإن كنت أعلم أن الملك لم ييأس بعد. وإني لا استعد أن يكون قد دبر في نفسه أمرا، وأعد لنا مفاجأة جديدة اليوم.

*بدء الاحتفال

ما كادت الملكة (حتشبسوت) تنتهي من حديثها هذا، حتى علا الهتاف والتصفيق معلنا حضور الملك (تحتمس الثاني)، الذي دخل المعبد يحيط به رجال حاشيته وقواد جيشه ن وكان الملك لشدة مرضه يسير في خطى وئيدة متكئا على كتف أحد حراسه الخاص، حتى وصل بعد جهد إلى صدر المكان، ويعد أن استراح قليلا أشار بيده، فنحرت الذبائح ، وقدمت القرابين، وتقدم لتحيته موكب من الكهنة بملابسهم البيضاء الفضفاضة، ورؤوسهم الحليقة ، ثم اجتازوا بهو الأعمدة متجهين صوب قدس الأقداس في نهاية المعبد، حيث فتحوا مقاصيره الثلاث، وحمل كل فريق منهم على أكتافه أحد تماثيل الآلهة. وكانت هذه التماثيل داخل نواويسها المذهبة، موضوعة فوق سفنها المقدسة، وخرجوا بها في صف طويل، في طريقهم إلى مرسى السفن خارج المعبد، وجعلوا مركب الإله (آمون) في المقدمة، يتبعه قارب زوجته الآلهة (موت)، ومن خلفها قارب ابنهما الإله (خونسو).

*موكب الإله آمون

وبينما يجتاز الموكب بهو الأعمدة، إ يقارب الإله (آمون) يتوقف فجأة عن المسير، فأخذ الشعب يبتهل إليه بالدعاء، وأسرع الملك إليه فحرق البخور بين يدي الإله الجالس فوق قاربه المقدس، وقدم إليه قربانا عظيما من الثيران، وعندئذ أخذ قارب (آمون) يتحرك من جديد ، ويطوف به حول القاعة ، ولكنه ما كاد يصل إلى الركن الشمالي منها، حيث يقف الأمير (تحتمس) الصغير ، حتى توقف أمامه تماما، وهنا تملك الصبي الفزع، وسقط مغشيا عليه.

فأسرع الكهنة إلى حمله ، وتبعوا القارب الذي عاد إلى قدس الأقداس فوضع الكهنة القارب في موضعه، كما وضعوا الطفل بجانبه، وتركوهما معا ، وأغلقوا عليهما الأبواب، وعندما عاد الصبي إلى رشده، دعاه والده الملك ، وسأله عما حدث بينه وبين الإله الأعظم (آمون) .

*معجزة آمون

فقال (تحتمس ) الصغير: أنكم بعد أن تركتموني في حضرة الإله إذا بي أفيق ، إذا بي أرى الإله يمد يده إلي، ويأخذني معه إلي قدس الأقداس ، ثم فتح لي أبواب السماء،فطرت إليها بوصفي صقرا الهيا لأطلع على أسرارها.. ورأيت المخلوقات سكان الأفق في طريقهم السري إلى السماء.. وشاهدت الملأ الأعلى في ساحة العرش وجلست على عرش السماء،وزينني الإله (رع) بتيجانه التي كانت على رأسه.

ثم حلاني بكل الفضائل، وأمرني بالمعروف، ونهاني عن المنكر، وبارك مملكتي، ومنحني قوته وشدة بأسه، وجعلني أشرق بوصفي ملكا على الوجهين القبلي والبحري، باسم (منخبر رع)، وبشرني بأنه سيجعل كل الأراضي الأجنبية تحت أقدامي.

ولما انتهي (تحتمس) الصغير من كلامه هذا، قام إليه الملك فضمه إلى صدره في حب وإعزاز، وصاح قائلا:فلتكن إرادة الإله آمون، وسوف تصبح حليفتي على هذه البلاد باسم (منخبر رع).

ثم أمر بإعلان هذه البشرى في أنحاء البلاد، لم تدهل المفاجأة (حتشبسوت ) التي تقبلت هزيمتها بصبر وجلد، وتقدمت مكرهة من الصبي وقبلته في جبينه، ثم أعلنت موافقتها على زواج ابنتها الكبرى (نفرو رع) صاحبة الحق في العرش من (تحتمس) الصغير، وهكذا تمت الخطوبة وأعلنت ولاية العهد.

*انتقال الثالوث إلى الأقصر

أسرع الملك (تحتمس الثاني) بعد هذا إلى مرسى السفن خارج المعبد ، حيث وضعت مراكب الآلهة بأحمالها المقدسة في النيل، وأخذت تشق طريقها في الماء قاصدة إلى معبد الأقصر تتبعها سفينة الملك ، بينما يسير بمحاذاتها على الشاطئ، جموع الشعب التي أخذت تعبر عن فرحها بالتصفيق والتهليل تارة، وبقرع قطع خشبية بعضها ببعض تارة أخرى، تتبعها في سيرها حاملات الشخاشيخ، تحركها يمنة ويسرة، فينساب من رنينها صوت موسيقى رتيب، ثم تتبعها جموع الكهنة يرتلون الأناشيد، ثم عربة الملك المزخرفة ، وحشد عظيم من الجنود بأسلحتهم المختلفة ، وجمع من الموسيقيين بآلاتهم، وراقصات بارعات يوقعن رقصهن بأسلوب خاص، تتثنى فيه أجسامهن بعنف على نغمات الموسيقى، ومغنيات يرفعن أصواتهن بالغناء الشجي.

وكانت هناك طائفة أخرى من الرجال ، تسحب السفن بالحبال، يليها حملة الأعلام والبيارق، وعبيد (سود) يضربون الطبول والصنوج، وما كاد هذا الموكب يصل إلى الأقصر، حتى نحرت الذبائح، ونقلت الآلهة الثلاثة إلى مقاصيرها بمعبدها الصغير بالأقصر، لتستريح فترة من الزمن،تستحم خلالها من عناء العمل، ثم يعاد نقلها بعد ذلك إلى المعبد الكبير بالكرنك بنفس الاحتفال، حيث تستقر هناك معظم شهور السنة.

وفاة تحتمس الثاني

أما الملك فقد عاد إلى قصره متعبا مجهدا، حيث لازم فراشه، ولما اشتدت به العلة استدعى أطباؤه على عجل ، ولكن قبل ان تشرق شمس اليوم التالي عاجلته المنية.

عندئذ لف القصر صمت حزين، وفاض بالنفوس الألم الدفين، ولكن (حتشبسوت) التي كانت تخطط نفسها وصية عليهما، وظلت تدير أمور الدولة وفق هواها ردحا من الزمن، ملأت خلاله جميع وضائف الدولة بأعوانها المخلصين، كما جعلت من (سنموت) ذلك المهندس البارع الذي كان أقرب أتباعها إليها، وزيرا، كما جعلت منه قيما على كبرى بناتها، ومربيا لها، ومديرا لأملاكها..

*بعثة بلاد بونت

وقد كان عهد (حتشبسوت) عهد امن وسلام، فلم يعرف عنها أنها أرسلت حملات حربية إلى أي مكان.
وكان أهم أعمالها تلك المرحلة التي بعثت بها رسولها النوبي (تحسى) إلى بلاد (بونت) (الصومال) في السنة التاسعة من حكمها، إذ أرسلت خمس سفن كبيرة إلى هذه البلاد، وأغلب الظن أنها أبحرت من شواطئ طيبة مخترقة ترعة كانت تصل بين النيل والبحر الأحمر، والدليل على ذلك أن لم يرد ذكر لنقل هذه السفن عبر الصحراء.

ولم يكد الأسطول يصل إلى مقصده في بلاد (بونت) حتى خرج أهلها يتقدمهم سلطان البلاد وزوجته وأولاده وتبادلوا الهدايا، وعاد الأسطول محملا بمنتجات هذه البلاد، وخصوصا البخور، والمر،والذهب، والأبنوس، وسن الفيل، وجلود الفهود، والفهود الحية، ، والقردة ،و الثيران، هذا إلى جانب استصحاب الكثيرين من أهالي هذه المنطقة مع أولادهم، وكذا بعض رؤساء القبائل الذين حضروا ليقدموا بأنفسهم فروض الطاعة والولاء للملكة العظيمة.

وقد ذهب قائد البعثة المدعو (تحسى) وقابل الملكة فور وصوله، فاستقبلته في قاعة العرش استقبالا حافلا، وقد أخذ يصدف لها رحلته وما صادفه خلالها من ظروف وصعاب، ثم كيف تمكن من إحضار تلك الأشياء القيمة، كما أخذ يصف لها بلاد (بونت) قائلا:
أنها بلاد مستوية ، يكثر فيه النخيل وأشجار البخور، كما أن ثروتها الحيوانية كبيرة، ويسكن أهلها في أكواخ مستديرة عالية مرفوعة على أعمدة خشبية يصل إليها الإنسان عن طريق سلم خشبي، لأن الأرض كانت تغمرها المياه في بعض الأوقات، ويحيط بهذا السهل تلال عالية مدرجة هي التي كانت تحوي مناجم الذهب.

وقد سرت (حتشبسوت) سرورا بالغا بنجاح هذه البعثة، وأمرت للقائد (تحسى) ولأفراد بعثته بالكثير من الهدايا.

معبد الدير البحري

ما كادت (حتشبسوت) تستولي على السلطة في البلاد ، حتى أمرت مهندسها (سنموت) ببناء مقبرة عظيمة لها تنحت في الصخر، وأن يشيد لها معبدا جنائزيا كبيرا فريدا في طرازه الهندسي، فقام (سنموت) ببناء المعبد في صخور الدير البحري، وجعله مكونا من طبقات على شكل شرفات تعلو إحداها الأخرى، وجعل من ساحته الخارجية حديقة غناء.

وقد استغل (سنموت) هذا المعبد في الدعاية للملكة (حتشبسوت)، وتبرير اعتلائها للعرش، فاختار أيونا منه ونقش عليه أسطورة تثبت بنوة الملكة للإله (آمون) ، وذلك بأن صور الإله وهو يدخل إلى مخدع أمها ( الأميرة أحموس) ، فتمثل لها في صورة روجها ، ثم قضى معها ليلته فحملت منه بمولودة أنثى ، بشرها بأنها سوف تعتلي عرش البلاد ، وأن اسمها سيكون (حتشبسوت).

وأخذ (سنموت) وأتباعه ينشرون ويذيعون تلك الأسطورة الزائفة، حتى صدقها الشعب وآمن بها.

الملكة حتشبسوت

وانتهزت (حتشبسوت) هذه الفرصة، وكان قد انقضى على وصايتها سبع سنوات، فأقصت عن الحكم الملك الشرعي (تحتمس الثالث)وزوجته الصغيرة الملكة (نفرو رع)وأعلنت نفسها ملكة على العرش، مخالفة بذلك تقاليد البلاد التي خصت الذكور دون الإناث بحق الاعتلاء عليه.
ولما استشعرت بعين بصيرتها شعور العداء لها، أي الملكة، أخذت تظهر في زي الرجال بلحية مستعارة ، وأمرت فنانيها بتصويرها في صورة الرجال، والتعبير عنها بضمير المذكر..

وقد بذلت الملكة (حتشبسوت) خلال حكمها أقصى ما تستطيع امرأة أن تبذله من جهد دائب، وعمل نشيط، في سبيل الإصلاح والتعمير. فرممت المقابر، وجددت المعابد، ونشرت في البلاد الأمن والسلام والرخاء.
ولما أن استتب لها الأمر، أخذت تفكر في التعبير عن شكرها للإله (آمون) الذي ساعدها للوصول إلى العرش، فأمرت وزيرها المهندس (سنموت) أن يقيم لها مسلتين عظيمتين في ساحة (معبد آمون)بالكرنك.
فبادر بالسفر إلى أسوان، حيث قام بقطع مسلتين عظيمتين من حجر الجرانيت الصلب، يبلغ ارتفاع كل منهما حوالي 5.29 مترا، ونقلهما إلى طيبة على مركب ضخم صنع خصيصا لهذا الغرض، وأقامهما بمعبد الكرنك، وقد تم كل ذلك في فترة وجيزة لم تتجاوز السبعة شهور، وكانت تغطى رأس كل مسلة طبقة من الكروم الصقيل اللامع، وقد كتب على قادتيهما وعلى لسان الملكة العبارات الآتية:

(لقد أقيم ذلك أثر لأبي آمون، رب عرش الأرضين الذي يسكن طيبة، أقمت له مسلتين من الجرانيت الصلب من الجنوب، ورأس كل منهما من الكروم، وتتباهى الأرض بخامة هاتين المسلتين.. ويرتفع قرص الشمس من بينهما حينما تشرق.. لقد قمت بذلك العمل من قلب عامر بالحب لأبي آمون.. لقد دخلت إلى الطريق الذي قادني إليه من البدء.. ولم أرد له أمرا.. وأنني لأذكر ذلك للأجيال القادمة.. أما أنتم يا من سوف ترون هاتين المسلتين على مر السنين، وسوف تتحدثون عما فعلت احذروا أن تقولوا : لا نعرف لما أقيمت هذه الأشياء.
والواقع أن المسلتين هما لأبي آمون، حتى يبقى اسمي مخلدا في هذا المعبد إلى الأبد، وهما من حجر واحد من الجرانيت، دون فصله أو انقسامه...

وقد ظلت الملكة (حتشبسوت) تسيطر على الحكم، وتوجه شؤونه بسديد رأيها وقوة إرادتها، حتى عاشت البلاد في رغد وطمأنينة، غير أنها ملأت بأعوانها معظم وظائف الدولة ، مما جعل الكثيرين يحقدون عليها، وعلى الأخص الملك (تحتمس الثالث) وزوجته الملكة (نفرو رع)، بعد أن عزلتهما عن العرش ، وحددت إقامتهما في أحد القصور البعيدة، وحرمت عليهما الخروج، وبثت حولهما العيون يتابعون تحركاتهما، ويتصيدون أنباءهما.

وفاة الأميرة الصغيرة

وكان لهذه الصغيرة، فلازمت فراشها مدة طويلة، وقد أزعج ذلك الملكة الوالدة والوزير (سنموت) ، الذي كان قيما عليها وعلى أملاكها، فأسرعا إلى قصرها، واستدعيا لها أمهر الأطباء ولكن الموت كان أسرع إليها منهما، فحزن الجميع لموتها، وخصوصا الوزير (سنموت)، الذي بدأ نجمه في الأفول بعد أن كان يقوم بالإشراف على شؤونها الخاصة، مستمدا من ذلك قوته وسلطانه.

الإشاعات المغرضة

بعد موت الأميرة أخذت الألسن تلوك سيرة الملكة (حتشبسوت) ، وتحيطها بالكثير من الشائعات، التي كانت تدعى أن سبب موتها هو بتحريض من الوزير (سنموت)، الرأس المدبر لخطة عزلها عن العرش هي وزجها (تحتمس الثالث) الذي انتهز الفرصة وأخذ يذكى بدوره نار الإشاعات، ويشير بأصبع الاتهام إلى الملكة (حتشبسوت)، ومن ورائها وزيرها الداهية.

عندئذ تداركت (حتشبسوت)، بما عهد فيها من الذكاء، المر بحكمتها، فأمرت بإبعاد (سنموت) عن القصر، تهدئة لثائره الشعب، بعد أن بلغ نفوذه وسلطانه حدا خطيرا، وفي الحال تلقفته أيدي أعوان الملك (تحتمس الثالث)، بعد أن فقد حماية القصر له، وتآمروا على التخلص منه بعد أن أيقنوا أنه سر قوة الملكة.

نهاية حتشبسوت

وقد اختفى (سنموت) فعلا إلى الأبد، وكان اختفاؤه من حياة (حتشبسوت) كاختفاء الشمس من الوجود، وقد أخذ الحظ يدبر عنها وكثر المتآمرون حول عرشها المهتز، وضعفت قبضتها على زمام الحكم، حتى انتزع منها في النهاية.

ولم تحتمل الملكة هذه الصدمة ، فماتت من فرط حزنها والمها وأعلن القدر انتصاره، وولى مكانها (تحتمس الثالث) الذي خرج من مخبئه كأسد حبيس، وأخذ يثار لنفسه مما ناله على يديها من الظلم وعنت، فقام بإزالة اسمها من كل المعابد والآثار، وهشم صورها وتماثيلها، وحرمها بذلك حياتها الأبدية الأخرى، أعز أمنية للمصريين القدماء كما كانوا يعتقدون.ثم أخذ يتقرب الى الشعب –تدعيما لعرشه- بالعمل الدائم ، والجهد الشاق، والحرب المتواصلة، حتى انتصر في معاركه في الداخل والخارج، وحقق للبلاد الأمن والرخاء، وأنشأ لمصر أول إمبراطورية شهدها العالم...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى