الاثنين ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

حسوة عصفور

لم نكن مدللين كما ندلل أبناءنا الآن،
ما إن عطلت المدارس حتى ركضنا إلى الدوار نبحث عمن يجلبنا عمالا في البناء؛
ونستمر نعمل في شمس الأهواز اللاسعة بحرارتها طيلة ثلاثة أشهر، وهي العطلة الصيفية التي ينبغي أن نرتاح فيها ونحن أحداث لم نبلغ السادسة عشرة بعد.
أتذكر جيدا أنني كنت صائما وكنا نعمل من الصباح الباكر وحتى الظهر، وفي حرارة الشمس التي يبدو أنها اتفقت مع الأستاذ كي
تعصرنا حتى تجفف آخر قطرة ماء كنا قد شربناها عند السحور.
سامحه الله، كنا نعمل ست ساعات لكنه يعطينا أجرة نصف يوم!
كنت حين نقترب إلى الظهر، أحس حرقة في صدري،
وجفافًا شديدًا كأنه الصحراء اليابسة في حلقى،
وخفقانًا سريعًا لقلبي،
وضبابا مكثفا أمام نظري،
من شدة الظمأ.
وأنقلب إلى جنازة لا تعرف الحراك إذا ما دنا الأصيل.
كنت أستيقظ في السحر وأشرب ما يكفي من الماء، بل أشرب حتى يمتلئ بطني!
ثم أتذكر عطش الأمس فأكثر في الشرب حتى أكاد أختنق من كثرة الماء، وأنا أقول لنفسي:
لن يؤثر العطش فيّ هذا اليوم.
لكنّ الشمس تبخره كله قبل أن يحين الضحى،
ثم تستمر تبخر في شحومي حتى يسودّ وجهي،
ويلصق جلدي على عظمي، ولم تكتف!
ولم أجد جدوى لكوفيتي مهما لففتها على رأسي وتلثمت بها لأحمي وجهي من تلك الأشعة الحامية.
آه من الفقر ما أكفره!
وفي يوم من تلك الأيام العصيبة، رجعت من العمل وكان العطش يكوي قلبي ويحرق جوانحي؛
فركضت دون أن أسلم على أهلي نحو الحمام وفتحت الدش، ولم أكتف بالاستحمام، بل فتحت فمي تحت الدش لأبرد حلقي الذي أحس النار تلتهب فيه.
وكنت منتبها ألا تعبر قطرة من حلقي وتبطل صيامي.
لكن الانتباه لا يستقيم مع الضعف، وجسمي كان ضعيفا، ضعيفا جدا من كثرة العطش وشدته.
كان ماء الدش يغرق وجهي،
يملأ فمي،
يلامس حلقي،
فأحس بالبرودة تلاطف حنجرتي،
ثم حسوة...لا قدرها حسوة طائر،
لا أدري، ربما كانت أقل أو أكثر، وكأنها متعمدة، اقتحمت بلعومي ودخلت إلى جوفي...
اعترتني قشعريرة لم أعرف مثلها من قبل، وكأن قطرات سم تسربت إلى جسمي!
آه يا الله! ماذا فعلت؟!
أنا الذي تحملت جحيم الشمس وحرارتها التي لا تطاق أكثر من ثمان ساعات، تلك الحرارة التي تفوق الخمسين درجة،
أنا الذي تحملت عناء العمل من الصباح وحتى أذان الظهر،
كيف تغلبت عليّ قطرات ماء؟!
الهى، هل تغفر لي أم لا؟
وإن لم تغفر لي فماذا أفعل؟!
وجلست في الحمام مبتعدا عن مائه الذي يرش وكأنه المطر الشديد،
وآثرت البكاء، وانهالت دموعي بغزارة!
بكيت على صيامي الذي ذهب هباء في ذلك اليوم؛
عطش قاتل من الصباح وحتى الظهر، ثم قطرات لا تروي عطش عصفور تذهب بكل ذلك التعب وتبطل صيامي!
بكيت على تعبي، على فقري، على أخي وأبي اللذين يعملان مثلي وهما صائمان، ...
خرجت من الحمام، مشيت بخطى وئيدة صوب الدار، صليت ثم نمت.
وغرقت في نوم عميق أخرجني منه صوت أمي الحنون وهي تندهني:
سعيد، سعيد، استيقظ، (حان وقت الإفطار).
رفعت رأسي لأسمع صوت الأذان،
كانت مخدتي مبللة، لا أدري أتبللت من دموعي أو من عرق وجهي؟
وكيف لم ينشفها هواء المروحة؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى