الثلاثاء ٢٢ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم نور الدين علوش

حوار خاص مع الدكتور علي مبروك

بداية من هو الدكتور علي مبروك؟

باحث وأستاذ للفلسفة بكلية الآداب (جامعة القاهرة)، وانخرط الآن في الإعداد لتدشين المعهد الدولي للدراسات القرآنية، الذي سيكون له مقرٌ في إندونيسيا وآخر في الولايات المتحدة. وسوف يتمحور عمل المعهد على إستعادة القرآن كساحة للنقاش والحوار والحضور الإنساني اللافت، وذلك بحسب ما كان عليه الحال مع الجيل الأول من المسلمين الذين تلقوه طازجاً من النبي، وقبل أن يتحول- مع السلطة السياسية التي إنتصرت في الصراع الذي إحتدم آنذاك- إلى سلطة لإخضاع الجمهور والسيطرة عليه. وكلي أملٌ في أن ينفتح العرب، وخصوصاً بعد ثورات ربيعهم، على هذا المشروع الطموح، بدل أن يكون بأيدي غيرهم (سواء من المسلمين غير العرب أو غير المسلمين) من الذين يؤمنون بأن القرآن يملك ما يقدمه للإنسانية بأسرها إذا أمكن تحريره من تصوره كسلطة إخضاع، وتحويله إلى ساحة للتواصل والحضور الخلاَّق للبشر.

لي عدة مؤلفات منها "النبوة...من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ"، و"عن الإمامة والسياسة، والخطاب التاريخي في علم العقائد"، و"لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا"، و"ما وراء تأسيس الأصول...مساهمة في نزع أقنعة التقديس"، و"الخطاب السياسي الأشعري...نحو قراءة مغايرة"، و"السلطة والمقدس...جدل السياسي والثقافي في الإسلام"، وأخيراً "ثورات العرب...خطاب التأسيس"، وذلك فضلاً عن عشرات الدراسات والمقالات؛ منها مقال منتظم في جريدة الأهرام المصرية؛ أسعى فيه إلى نقل مستوى النقاش حول المفاهيم التي تتداولها النخبة والجمهور من بؤس "الإيديولوجي" إلى رحابة "المعرفي".

باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي ,مارايكم في المشاريع الفلسفية المطروحة (مشروع الجابري رحمه الله والحنفي وطه عبد الرحمان..)؟

واجب الأمانة يقتضي الإقرار بمحدودية معرفتي بمشروع الأستاذ عبدالرحمن الذي لا تؤهلني قراءتي لبعض عمله للحديث عن مشروعه الكبير الذي يتميز بالرصانة والجدية. وأما بخصوص الأستاذين الكبيرين الجابري (رحمه الله) وحسن حنفي (أطال الله عمره)، فإني قد إتصلت بمشروعيهما منذ وقت مبكر، وساهمت في الحوار الذي دار بينهما عند أوائل التسعينيات تقريباً، وقيل وقتها أنه بمثابة حوارٍ بين المشرق والمغرب. ولعلي أقول أني قد نشأت- وجيلي كله- في رحاب هذين المشروعين، وعلت قاماتنا جميعاً فوق ساحتهما الرحيبة. ورغم ما ساهما به في الدنو بنا من الإمساك بجوهر الأزمة، وإقتراح السبل للخروج منها، فإن إتصالي النقدي بهما قد أتاح لي إنتاج وعيٍ بما يسكنهما من عوامل القصور والتشوّش التي حالت دون أن تكون إنتاجيتهما كاملة.

فقد بدا لي أن الأستاذ حنفي، وإبتداءاً من منهجيته الفينومينولوجية، قد أحال ذاته إلى مركز إبتلع كل شيئٍ في جوفه، ولم يعد ثمة من معنى أو دلالةلشيئ (في التراث والحداثة معاً) خارج القبضة الصارمة لتلك االذات، وضمن هذا السياق فإنه كان لازماً أن يغيب التاريخ ويتوارى السياق، وتتلاشى البنية ويأفل النظام، ولا يبقى بعد ذلك إلا وجه "الذات" صاحبة السطوة والصولجان، تخلع على مسائل التراث والحداثة ما تشاء من المعنى وما تريد من الدلالة، فالأمر كله لها، ولا معقب عليها. لقد بدا لي أن كل ما جرى مع حنفي أنه تحول بالإيديولوجيا- التي عانى العرب من بؤسها ولا يزالون- من إيديولوجيا ذات قناعٍ موضوعي أو واقعي (بحسب أهل اليسار) إلى إيديولوجيا ذات قناعٍ ذاتي أو شعوري.

وبخصوص الأستاذ الجابري (رحمه الله)، فإنه كان متمركزاً حول ذاته أيضاً؛ وإن على نحو أكثر مراوغة وحنكة. وأعني من حيث ما بدا وكأنها ذاته المغاربية، وليست الفردية. فإذ أشاد الرجل مشروعه على مفعوم "القطيعة المعرفية" بين المشرق والمغرب- الذي إستفاده من فضاء الفلسفة الفرنسية المعاصرة- فإن هذا المفهوم قد إنخلع معه من ردائه المعرفي، ليتزَّود بحمولة إيديولوجية عاتية. فهذه الحمولة الإيديولوجية هي التي جعلت أهل المشرق يصطفون جميعاً- وعبر ممارسة ضروب من الإكراه والإعتساف- تحت راية منظومة البيان والعرفان، بغيبيتها ولا علميتها، وذلك في مقابل أهل المغرب الذين كان لابد من صفهم تحت راية منظومة البرهان، وعبر السكوت والصمت عن كل من لا يمكن إدراجه منهم تحت راية هذه المنظومة بعقلانيتها وعلميتها. وهكذا فإن القطيعة المعرفية لم تكن "نتيجة" إنتهى إليها التحليل، بقدر ما كانت "حكماً مسبقاً" لابد أن ينطق به التحليل. كانت الإيديولوجيا التي توجه عمل الأستاذ الجابري هي إيديولوجيا إثبات المركزية والأصالة للمغرب، بعد أن ظل يعاني من التهميش والتغييب لحساب "مشرقٍ" مسكونٍ بالوهم والإدعاء. وغنيٌّ عن البيان أن مشروعاً يقوم على إيديولوجيا التمركز حول الذات، سواء كانت ذاتاً فردية (كالحال مع حنفي) أو ذاتاً إقليمية (كالحال مع الجابري)، لا يمكن أن يكون أساساً لفعل تجاوزٍ حقيقي...ومن هنا لزم النقد!

هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟

لعل ما يمكن قوله بخصوص الأزمة الراهنة أنها أزمة بالمعنى الشامل، ولا يمكن الإكتفاء بإختزالها في أحد مكوناتها أو تجلياتها. وإذن فإنها تقع فيما وراء كلٍ من المنهج والمشروع معاً. إنها أزمة في طريقة التفكير والنظر (وبما يؤكد على أنها تقع وراء المنهج والمشروع كنتاجين لطريقة في التفكير والنظر). وهي طريقة لا يعرف معها العربي إلا التفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز. وكمثال على بؤس تلك الطريقة في التفكير والنظر، فإنه يمكن القول أن الأصل في إنقسامات النخبة العربية الراهنة، والتي تزايدت حدتها مع ثورات الربيع العربي، إنما يقوم في تحاربها بالنماذج الجاهزة. فالبعض يرى المخرج من المأزق العربي القائم في الإسلام كنموذج جاهز فوق التفكير، وآخرون على الضفة الأخرى يرون المخرج في الحداثة كنموذج جاهزٍ، وفوق التفكير والمساءلة أيضاً. ويقفز الفريقان فوق شروط اللحظة التي يبدو معها أن كلاً من الإسلام والحداثة لابد أن يكونا موضوعين للتفكير والمساءلو والحوار، ليتسنى لهما الإسهام في إخراج الواقع من أزمته، بدل أن يكونا جزءاً من تلك الأزمة بحسب إستدعائهما كنموذجين جاهزين يجري فرضهما قسراً على الواقع.

سدي الكريم بعد الربيع العربي المبارك,ما هو دور الفلسفة اليوم؟

من المعروف عموماً أن الثورات الإنسانية الكبرى قد أنتجتها- أو أرهصت بها على الأقل- فلسفاتٌ وأفكارٌ كبرى. حدث ذلك مع الثورة الفرنسية والروسية والصينية، بل وحتى الثورة الإيرانية التى ربطت نفسها بفكرة كبرى بدأت تتبلور في الفكر الشيعي مع نهايات القرن التاسع عشر؛ وأعني بها فكرة "ولاية الفقيه". ولسوء الحظ، فإن الفلسفة عندنا لم تقدم شيئاً من هذا القبيل لثورات الربيع العربي. ولكن ذلك لا يعني أبداً أنه لن يكون لديها ما تقدمه لهذا الربيع. بل إني لأجد نفسي مُضطراً للتأكيد- في هذا المقام- على أن إزهار هذا الربيع وإثماره إنما يرتبط بنجاح الفلسفة في صوغ وتقديم "خطاب التأسيس" الذي سيجعل هذا الربيع قادراً على إنجاز وعوده.

فإنه إذا كانت دولة القهر والفساد التي يثور عليها العرب الآن تجد ما يؤسس لوجودها الراسخ في قلب ما يُعرِف بخطاب النهضة العربي؛ الذي لم يعرف- خضوعاً لمقتضيات الشرط السياسي الذي تبلور داخله- منذ إبتداء تبلوره مع مطلع القرن التاسع عشر، إلا الإنشغال بالبراني (العملي) مع إهمال الجواني (النظري)؛ وبما يعنيه ذلك من التمركز حول السياسوي (الإجرائي) وتجاهل المعرفي (التأسيسي)؛ وعلى النحو الذي جعل حداثته مجرد قشرة هشة (تختص بمجرد الإجرائي في السياسة والتقنية)، وتطفو على سطح بنية ذهنية تقليدية راكدة.وهكذا فإنه كان خطاب التغيير كفعلٍ من أفعال "القوة"، وليس "العقل". وإذ لم تكن الدولة إلا الآداة المُحققة لفعل "القوة"، فإنه كان محكوماً عليها- وإبتداءاً من روابطها البنيوية مع هذا الخطاب الإكراهي- أن تكون دولة إستبدادٍ وقهر. وبالطبع فإن لن يكون ممكناً الإنفلات من براثن تلك الدولة القامعة إلا عبر تفكيك الخطاب المؤسس لها بنيوياً، ثم التجاوز- بعد ذلك- إلى تدشين خطابٍ بديل يفتح الباب لدولة الحداثة العقلية والسياسية التي يتطلع إليها العرب.
ولسوف ينقل هذا الخطاب مركز الإشتغال من الإجرائي (في السياسة والتقنية) إلى التأسيسي (في المعرفة والنظر). وذلك بالطبع ما لا يمكن أن تنجزه إلا الفلسفة التي لابد من التأكيد على أن تكرار النظر إليها، في اللحظة الفارقة التي يمر بها العرب الآن، على نفس النحو الذي جرى به النظر إليها مع مطلع القرن التاسع عشر على أنها مجرد "حشوات ضلالية" لن يعني إلا أن يظل العرب يحرثون البحر؛ ويا له من فعل عابث!.

بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية.؟

لعلك توافقني، أولاً، على أن الوقت لم يزل مبكراً للحديث عن نجاح الثورات العربية. نعم لقد نجحت هذه الثورات في إسقاط بعض المستبدين، ولكن التحدي الحقيقي يتعلق بالخطاب الذي ينتج هؤلاء المستبدين. وبالطبع فإن القدرة على بناء الدولة الديمقراطية التعددية إنما يرتبط بالنجاح، لا في تفكيك وفضح خطاب الإستبداد والآحادية، بل وفي صوغ الخطاب الذي يجعل الحضور الراسخ لدولة الديمقراطية والتعددية المأمولة أمراً ممكناً.فالأمر فيما يتعلق بتلك الدولة المأمولة يتجاوز مجرد إعلان نوايانا في بنائها، إلى الشروع الجدي في إمتلاك الشروط (المعرفية والثقافية) التي تجعل إنبثاق ورسوخ تلك الدولة ممكناً. فقد إنشغل العرب منذ أواسط القرن التاسع عشر، وإلى الآن، بمجرد إستيفاء الجوانب الإجرائية البرانية والشكلية (من برلمانات ودساتير وتشكيلات حزبية وصناديق إنتخابات وغيرها)، وكان الحصاد في مرارة العلقم، بحسب ما يرى الجميع. ليس مطلوباً منهم الآن أن يهملوا هذه الجوانب البرانية بالطبع، بل إن عليهم أن يلتفتوا إلى الشروط الجوانية (المتعلقة بالأبنية الذهنية والعقلية والشعورية، وحتى اللاشعورية) التي ستظل الجوانب الإجرائية البرانية، من دون إستيفائها، مجرد إكسسوارات وزخارف فارغة.

في الأخير سيدي الكريم هل دخلنا في طور حضاري جديد؟

لعل كل ما يمكن قوله، في هذا السياق، أننا ندخل إلى مرحلة نسعى فيها إلى إمتلاك الشروط التي يمكن أن ينفتح معها الباب لكي نتصالح مع أنفسنا، ومع العالم بالتالي، وعلى النحو الذي يمكن أن تدخل فيه الإنسانية إلى طور حضاري جديد يتشارك فيه الجميع من موقع الأنداد المتفاعلين، وليس من موقع الإنقسام بين تابعين ومتبوعين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى