الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم أسماء النهدي

دموع ساخنة

(1)

أشارت الساعة إلى الثالثة ظهرا، فخرجت أم خالد من المطبخ وجلست في الصالة، رأتها هند في تلك اللحظة وتبسمت لها ثم قالت لها:

  أتنتظرين خالد كعادتك يا أم خالد؟

  نعم، فالساعة تشير للثالثة وموعده الآن..

وما هي إلا دقائق حتى دخل خالد ورأى الاثنتين تبسم لهما ثم ألقى التحية كعادته وقبل رأس والدته ثم قال:
  ما الأمر يا أم خالد الغالية أراك تجلسين هنا.. أتنتظرين أحدا ما؟؟

نظرت إليه هند وضحكت ثم قالت بأسلوب ساخر:

  ألا تعلم أنها العادة اليومية لأم خالد أنها تنتظر ابنها الغالي الباش مهندس خالد، نحن بناتها هند وبسمة لا تنتظرنا بهذا الشكل.. يا حظك يا أخ خالد.

ابتسمت الأم قليلا ثم قالت:

  أنت تعلمين يا هند أن خالد غالي على قلبي جدا وهو بكري وسندي وكل أملي ثم أن أخاك خريج ولا تنسي هذا الشيء، ولابد أن انتظره وأقلق عليه و..و....

انفجرت هند لتوقف أمها عن هذا الكلام والمدح قائلة:

  يا أم خالد احم احم نحن نغار.. ثم ما رأيك أن نضع الغداء لابد أن المهندس شديد الجوع.
أومأ خالد رأسه بالإيجاب ثم أشارت له الأم أن يبدل ملابسه إلى أن يجهز الغداء.

حل المساء فجلس الجميع في الصالة يشاهد التلفاز ويتناقشون في أمورهم و أحداث يومهم، إلى أن أشارت الساعة للحادية عشر ذهب الكل لغرفته لينام، وعندما كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل قام خالد من نومه لشعوره بالعطش وعندما خرج متوجها للمطبخ رأى والدته جالسة في الصالة حزينة وقلقة، دنا منها خالد وجلس بجوارها ثم قال:

 أمي ؟! ما الأمر؟ لماذا أنت هنا؟ لماذا لست نائمة؟؟ هل تشكين من شي؟ تكلمي ولا تخفي علي شي.

رفعت أم خالد عينيها من الأرض ونظرت لخالد ثم قالت:
 لا تقلق يا بني.. إني لا أشكو من شي.. لكنني أنتظر عودة والدك، سأرى متى يعود اليوم.

غضب خالد وقال بصوت منخفض فيه شي من الحدة:

 أنت تتعبين نفسك بهذه الطريقة.. لماذا تنتظرين عودته.. هو كل يوم يعود بوقت مختلف.. هو لا يكترث إن كان له بيت أو عائلة.. لا أعرف كيف هو أب لنا.. إنه شخص لا قيمة له....

وقفت الأم من فورها لتوقف خالد عن متابعة حديثه:

  كفى يا خالد.. لا تنسى أنه والدك مهما حصل.. كفى..

  أي أب هذا الذي تتحدثين عنه؟! ما هو إلا مجرد إنسان حاد عقله عن طريق الصواب وانطلق لدرب الحرام، لا تنسين أنه إنسان سكير درجة أولى والعيشة معه لا تطاق أبدا.. ولا أعلم كيف تتحملينه أنت ولماذا صابرة عليه، لو غيرك من النساء لطلبت الطلاق للتخلص من هذا الإنسان.

  لا أستطيع قلبي يقول لي أنه سيعود لما هو عليه.. سيعود لطريق الرشاد بإذن الله.. سترى يا بني..

ثم انصرفت الأم لغرفتها حتى لا تدخل مع خالد في نقاش حول والده لأنها تدرك أن نهاية المناقشة هي الشجار والخروج عن الطور والبكاء وغيره من الأمور غير المرضية.. عاد خالد لغرفته وهو غاضب من أبيه ومن ردة فعل وصبر والدته.

في اليوم التالي وبعد عودة الفتيات من مدارسهن عادت بسمة وهي تبكي، دخلت للبيت والدموع في عينيها تسيل كالشلال، واتجهت لغرفتها لتستلقي على سريرها وتواصل بكاءها الحاد، ضمتها والدتها لأحضانها سألتها مذعورة:

 ما الأمر يا ابنتي يا حبيبتي؟؟!! لماذا كل هذا البكاء؟؟ ماذا حدث؟ تكلمي..

نظرت بسمة لوالدتها وارتمت في أحضانها ثم واصلت في البكاء وهي تردد "أكره أبي أكره أبي"..

ظل الجميع يحاول أن يعرف ماذا حل ببسمة هكذا فجأة لكنها أصرت على ترديد تلك العبارة، ثم تركوها حتى تهدأ من تلقاء نفسها، بعد حوالي ساعتين خرجت من غرفتها وتوجهت نحو والدتها وهند وخالد وكانت تتنهد والدموع تتساقط دمعة تلو دمعة، أشار خالد أن تجلس بجانب والدتها ثم قال:

  كيف حالك الآن يا بسمة؟؟ هل أنت على ما يرام؟ أتودين أن تخبرينا ماذا حدث لك اليوم؟؟

واصلت هند طرح الأسئلة:

  ما الأمر يا بسمة؟ ما الشيء الذي أزعجك وكدر خاطرك هكذا وجعلك تبكين بشكل فظيع؟ ولماذا كنت ترددين عبارة أكره أبي؟؟

  لأني أكره ذاك الإنسان الذي ندعوه بأبي وهو لا يستحقها..

قالت هذه الجملة وقلبها مليء بالغضب والحقد، توقفت دموعها وبدأت عيناها تشتعلان غضبا ونارا ثم واصلت حديثها:

  اليوم في الفرصة جاءت طالبة في الصف المجاور لنا وهذه الطالبة لا أعرفها كثيرا وليس بيننا سوى السلام فقط، أشارت البنت بأنها تود أن تتحدث معي على انفراد، وعندما كنت معها قالت لي كلاما لا يصدقه عقل وغضبت منها، لقد قالت لي أن .. أن ..أن والدي...

نظر الجميع لها وقالت والدتها : أن والدك ماذا؟؟ أكملي .. لا تخشي شيئا.. ماذا قالت البنت؟؟

أطرقت بسمة برأسها ونظرت للأرض وقالت بحياء:

  أن والدي.. سكير .. صايع.. ضايع .. سيء .. أنه باختصار إنسان سيء.. واقع في الحرام، طبعا لم أصدقها في البداية، عندما قالت سكير قلت في نفسي ليس بالجديد، وطلبت منها الدليل لو كانت تقدر فعرضت علي أن أركب معها السيارة عند عودتنا في الظهر، بعد طول تفكير وافقت، وعندما ركبت معها توجهنا للبحر، وعند الشاطئ رأيت تلك المناظر الخليعة، ثم فتحت النافذة وأخرجت يدها لتشير على رجل متمدد على رمال الشاطئ وحوله النساء العاريات وقالت لي " أليس ذاك هو والدك؟ قد لا أكون أعرفك حق المعرفة لكني أعرف والدك لأني رأيته مرة في المدرسة، أنظري إلى ذاك الرجل وأمعني النظر علني أكون مخطئة.." ، نظرت إليه كثيرا وقد تأكدت أنه هو، لم أصدق عيناي وكرهت حياتي، كنت أتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعني.

ثم واصلت دموعها بالانهمار وارتمت في أحضان والدتها مرة أخرى تواصل بكاءها، ثم توقفت فجأة وقالت موجهة السؤال لخالد:

 أخبرني يا أخي بالحقيقة .. لماذا هو حال والدنا؟ لماذا أصبح بهذا الطريق؟ ألا يعرف الحلال من الحرام؟ أخبرني..

ارتبك خالد بهذا السؤال وأخذ يقلب نظره تارة لوالدته ومرة لأخته هند ثم نظر لأخته الصغرى بسمة:

 اسمعي يا بسومة.. هناك الكثير من الناس الذين حين يفقدون أشياء كثيرة في حياتهم يصيبهم اليأس والاكتئاب والضيق، لكن لا يستخدمون عقولهم في كيفية تدبر أمور حياتهم، فبدلا من إيجاد طريق صحيح مضيء يلجئون لهذا الطريق .. طريق الخمر والمخدرات والقمار والحرام لاعتقادهم أن هذا الطريق يسعدهم ويبعدهم عن الماضي وعن الهم وعن الدنيا بما فيها، وللأسف لا يراعون أي شيء فيصبح هذا الحرام هو شغلهم الشاغل، وللأسف أن من يقال له والدنا لجأ لهذا الطريق بعد تقاعده وفشله في مشروع السوبرماركت الذي كان يحلم به..

ردت بسمة باستغراب:

 فقط لهذا السبب أصبح والدي سيئا؟ وأنت يا والدتي أين كنت؟ لماذا لم يكن لك دور في حياته؟؟

أخذت الأم نفسا عميقا ثم قالت بحزن:

 أنا يا ابنتي حاولت معه وقفت لجانبه، بعت ما لدي من ذهب لأجله، لكنه استخدمه في الحرام بعد أن دله على ذلك مجموعة من الرجال السيئين الذين كان يجتمع معهم في المقهى.

في تلك الليلة وفي الساعة 9.45 مساءا دخل الوالد للمنزل وهو ثمل بدرجة ملحوظة، استقبلته زوجته وقالت:

 أهذا أنت؟ أخيرا تذكرت أن لديك بيتا وزوجة وأبناء لتعود إليهم؟

غضب أبو خالد من هذا الكلام، وأزاحها بقوة عن طريقه وقال:

 لا تنسين أن هذا البيت هو بيتي يا امرأة، أعود وأخرج متى أشاء، هل تفهمين؟ ثم إنني عائد لأن ما لدي من مال قد انتهى وأريد المزيد، أسرعي وأعطني دون أي نقاش وكلام..

 ومن أي لي بالمال، معاش التقاعد تأخذه كله لك وتصرفه في الحرام لا علي وعلى أبنائك.

ضحك أبو خالد بصوت مرتفع ثم جلس على الأرض وقال:

  يا امرأة إني أعلم أن والدك مخصص لك راتب تصرفينه على هؤلاء الأبناء الذين فقط يقولون هات واعطني ولا يقولون خذ وتفضل، بسرعة يا أم خالد أعطني المال اللازم.

  استحي يا رجل.. أتريد أن تأخذ مال أبنائك، يجب أن تعلم أن والدي ليس ملزما بأن يصرف علي وعلى أبنائي ولكن عندما علم بحال ابنته قام بتخصيص مبلغا من الأموال التي يجمعها من رواتب إخواني لأصرفها على بيتي وأبنائي..

  اصمتي يا حمقاء وأعطني المال، مال أخيك أو أبيك أو ابن الجيران المهم مال..

خرج الجميع من غرفتهم بعدما سمعوا هذا الحوار والصراخ الحاد ثم قال خالد بأسلوب غاضب:

 اسمع يا أبي المصون المكان الذي قدمت منه عد إليه فنحن في غنى عنك، والبيت من دونك أهدى من وجودك فأنت لا تحضر إلا من أجل سلب المال من أمي لا للاطمئنان، وعد للشاطئ واجعل أولئك الخاسئات يصرفن عليك يا أبي العزيز..

ما أن قال خالد عبارته هذه إلا والنار تشتعل في عيني والده والغضب يملأ جسده أخذ يتنفس بقوة ثم وجد نفسه يرفع يده وينزلها بكل ما أوتي من قوة ليصفع ابنه خالد بصفعة تجعله يطير من مكانه ويقع من طوله ثم قال:

 أخرج من بيتي يا كلب يا طويل اللسان، أنت الذي لا نفع لك ولا حاجة لنا بك.. أخرج.. أخرج..

أسرعت هند ووالدتها لترى ما حل بخالد وإذ بالدماء تخرج من فمه، وأصابع والده وبصمتها قد طبعت على خد الشاب المسكين، أما بسمة فقد وقفت دهشة من هذا الموقف وعيناها تتساقط منها الدموع بصمت، وقف خالد ونظر لوالده بغضب ثم قال:

 حسنا يا أبي العزيز سأترك لك المنزل وسأحملك مسؤولية أمي وأخواتي، وسيأتي يوم تندم فيه.

وعندما مشى خالد متجها نحو الباب كانت تجري وراءه والدته وهي تبكي وتقول:

 أرجوك يا بني لا تخرج، لا تدعنا لوحدنا يا بني، إنه ثمل لا يعي ما يقول، لا تترك مسؤوليتنا له أرجوك.

لكن خالد كان غاضبا ولم يع كلام والدته ولم يعره أي اهتمام وأصر على ما قرر، وخرج من المنزل وهو غاضب، خرج من المنزل وهو يفكر بالانتقام، وكيف سيجعل والده يبكي ندما..

(2)

ركب خالد سيارته وانطلق بها لا يدري إلى أين ولكنه كان يقودها في الطرقات بشكل عشوائي واليأس يملأ قلبه والدموع تنهمر من عيناه بلا توقف في نفس اللحظة كان الغضب يعمي بصيرته، ثم توقف أمام الكورنيش وبقي هناك يفكر في الماضي البهيج والحاضر الأليم والمستقبل الغامض، وبعد مرور وقت طويل نظر لساعة السيارة فكانت تشير للواحدة بعد منتصف الليل فقال في نفسه:

 والآن يا خالد يا فالح أين ستنام؟؟ أين مقرك؟؟ من قد يستقبلك؟؟

ثم أخذ يقلب في الأرقام المخزنة في هاتفه النقال واتصل بصديقه محمد وقال بصوت متردد:

 محمد.. كيف حالك؟ .. هل أنت في شقتك وحيدا؟

تبسم محمد ثم قال:

 أكيد يا خالد أنا في شقتي ولوحدي من سيؤنسني يا أخي.. تفضل يا خالد سأنتظرك..

سعد خالد وقال:

 لا أحد يفهمني في هذا العالم سواك يا صديقي محمد..

ثم توجه مسرعا إلى شقة صديقه، وعندما وصل إلى الشقة، قبل أن يطرق الجرس تردد خالد وقال في نفسه:

  ترى ماذا ستقول يا خالد لمحمد؟؟ ( بعد طول تفكير ) توكل على الله وانتظر ما سيقوله محمد لك..

قرع خالد الجرس وهرع محمد ليفتح الباب، ثم حيا وسلم على صديقه تحية حميمة قال خالد:

  ما كل هذا الترحيب؟ كأنك لم ترني منذ أيام؟

  لا يا رجل بل اليوم رأيتك بالجامعة صباحا.. لكني سعيد أنك ستنام معي..

تعجب خالد من هذا الكلام وقال:

  أنام معك؟ من قال لك؟

  إن الوقت متأخر.. ولابد أنك حضرت هنا لتنام لأن بعد أسبوع امتحانات النهائي، أليس كذلك؟

  لكن هذه ليس من عوائدي أن أنام خارج المنزل وأنت تعلم بذلك.

  أجل لكن هذه امتحانات التخرج.. امتحانات تحدد مصيرك يا صديقي، عموما لا تخجل وخذ راحتك.. لكن بالمناسبة لماذا لم تحضر حقيبتك؟ أين مستلزماتك؟؟

ارتبك خالد من كلام محمد ثم قال بأسلوب مندفع:
  اسمع يا محمد أنا بصراحة قدمت هنا بدون أي مستلزمات لأني باختصار قد خرجت من المنزل بعد شجار بيني وبين والدي..

  ااهااا.. لذلك أرى تلك العلامات على خدك النحيل؟؟

  نعم.. فلو لم يكن لديك المانع أريد منك أن تتقبلني هنا كضيف لمدة لا يعلمها إلا الله، لكن من حقك أن ترفض وأنا لن أتضايق أو أي شيء يا صديقي، فهذه شقتك وأنت حر فيها..

  اممممم.. حسنا موافق على بقاءك لكن بشرط هو انه لو كنت تعتبرني فعلا صديقك تخبرني ما قصتك يا صديقي، أما إن كنت تمانع فإني سأبقيك في شقتي على أن لا أعيرك ثيابي..هاااا ما رأيك؟؟ موافق؟؟

تبسم خالد ثم قال:

  اسمع يا صديقي.. أنا لم أعد احتمل هذه الحياة في منزلنا، أب سكير والخمر هو شغله الشاغل والمال كله من أجل ذاك السم والمعاصي لا على منزله ولا على زوجته أو أبنائه، وأمي مسكينة جدا قدمت له ما يريد لكنه استغلها، هي إنسانة طيبة جدا ومن عائلة فوق المتوسط مرتاحة يعني، كل أخوالي يعيشون في مستوى جيد جدا، عندما علموا بأمر نسيبهم تخلوا وتبروا منه ومن عائلته، لم يعد يطيقون أحدا منا مادام اسمه مقترن باسم والدنا راشد، لكن جدي لم يمشي بطريق أبنائه، فقد كان يأخذ المال الذي يعطيه أبناؤه وبناته لأمي كي تصرف علينا ونعيش، عندما يعود والدي للمنزل يقلب البيت كله هم ونكد وضرب وصراخ وشجار من أجل المال أو الذهب أو يأخذ أي شي من أثاث المنزل ويبيعه كي يعيش في المعاصي بشكل جيد، لم أتحمل هذا الحال فقررت ترك المنزل، لكني قلق بشأن أمي وأخواتي..

  عفوا خالد.. ألديك أخوات صغيرات أم كبيرات، قد أكون صديقك نعم لكنك لم تخبرني أي شي عنهن، ألديك المانع في التحدث عنهن..

  لا يا صديقي لا بأس إن أخبرتك على الأقل وجدت من أحكي له عن حياتنا التعيسة، أخواتي هم اثنتان، هند تبلغ من العمر 20 في سنة ثالثة من الجامعة تخصص لغة إنجليزية وهي مجتهدة جدا وطيبة ومتعاونة، أما أختي بسمة..آآآآآآآه.. بسمة مسكينة هي البسمة، نسميها بسمة لكن البسمة تفارقها تلك الفتاة الرقيقة الحساسة الظريفة دلوعة البيت، تبلغ من العمر 17سنة في الثانوية العامة بالقسم الأدبي تنوي أن تتخصص علم النفس لأنها تريد أن تعرف كيفية علاج الأمراض النفسية والإدمان بالذات، هذه هي قصتنا يا صديقي محمد... هذا الشيء الذي لا تعرفه عنا.

  أتدري يا خالد أنني سعيد جدا بسماع قصتك، ليست شماتة ولا تطفل لا سمح الله بل لأنك أثبت لي مكانتي عندك ومدى ثقتك بي، وأظن أنك قد ارتحت قليلا لسردك شيئا خبأته في قلبك لفترة طويلة، عموما يا خالد اعتبر الشقة هذه مسكنك، وإياك أن تقول انك ضيف عندي، ولا تحمل هم أي تكاليف أو مصاريف هل فهمت فأنا أخوك الذي يصرف عليك وصديقك الذي تستند إليه..

سر خالد بهذا الكلام وشعر بانشراح وراحة في صدره أثلج قلبه المسكين، قرر حينها أن يبذل قصارى جهده كي يحصل على نتيجة رائعة ويتخرج بدرجة متفوقة تؤهله بمستقبل مبهر يستطيع من بعدها تعويض كل النقص الذي كان لديه ولدى أخواته ووالدته، وقرر أن يجمع مالا كي يعيدها لصديقه محمد لأنه سيعتبر أن كل فلس يحصل عليه من محمد هو دين عليه لن يتراجع عن سداده مهما رفض محمد عن ذلك، فهو يعلم أن محمد إنسان طيب جدا ودائما يحب أن يقدم الخير والمساعدة للغير دون السؤال عن السبب أو النتيجة أو ينتظر المقابل لذلك يعتبره شخصا نادر الوجود فهو الخل الوفي الذي وصف من المستحيلات الثلاث..

مرت الأيام على الصديقين وجاءت أيام الامتحانات جاءت الأيام الموعودة، وبذل كلا الشابين جهدهما للحصول على نتيجة مفرحة مبشرة للكل ولم يتراجع الأول عن مساعدة الآخر إن احتاج له، وبعد انتهاء أيام الامتحانات العويصة وظهور النتائج، عاد خالد الشقة ليخبر محمد عن النتيجة، فقد كان محمد ينتظره في المنزل وبعد قرعة بينهما في الليلة الماضية جاءت على خالد ليذهب إلى الجامعة لإحضار النتيجة بينما يبقى الآخر في المنزل ينتظر ويجهز وجبة الغداء، دخل خالد للشقة واستلقى على الأريكة المقابلة للمكيف وأسرع محمد للجلوس لجانبه ثم أمسكه من أعلى ذراعيه وقال بلهفة:

  هااا.. بشرني يا خالد ما الأخبار؟؟ هل النتائج جيدة؟ هل تستحق أن أتصل بالأهل وأفرحهم؟؟

  قل لي يا محمد ألم تدرس جيدا وبذلت جهدا جيدا؟؟

  بلى.. لماذا؟؟ لا تقلقني وتوقف قلبي يا رجل بسرعة تحدث ورائي اتصالات.. ما النتيجة؟؟

  اممممممم.. يا محمد يا صديقي.. قم واتصل بأهلك وبشر والدك وقل له نجحنا بتقدير جيد جدا..

  حقا ما تقوله يا خالد؟! جيد جدا ؟! الحمد لله.. الحمد لله.. ولو أني كنت أتمنى الامتياز لكن لا بأس بهذه النتيجة.. مبرووووك يا خالد لك النجاح..

شعر خالد بشيء من الحزن وقال:

  قم يا صديقي لا تتأخر على الوالد وأفرحه بالنتيجة هذه، أما أنا فسأغير ملابسي..

رد محمد مواسيا صديقه:

  وأنت يا خالد لابد أن تتصل بعائلتك وتفرحهم، أو تقوم بزيارتهم ، ولا تنسى أن والدي إن علم بنتيجتك فسيفرح بذلك لأن سعادتك ونجاحك من سعادتي ونجاحي يا صديقي فهو يعتبرك ابنه ولا تنسى كيف يحبك الوالد..

ابتسم خالد لكن لازال الحزن في قلبه، وقرر زيارة والدته عند العصر ليفرحها أن ابنها أصبح مهندسا وسيثبت ذلك من خلال عمله، ثم اتصل خالد بوالدته ليرى إن كان والده في المنزل أم لا، وعلم أنه نام خارج المنزل منذ يومين، وأخبر محمد أنه سيزور أهله في العصر، ثم أخبره محمد أن والده وأبناء عمه سعيدين بتخرجه لذلك فقد قرروا أن يقيموا عزيمة تجمع الأهل فقط في المساء، ورغم أن خالد حاول الرفض إلى أن محمد أصر عليه بالقدوم وأنه إن تأخر على العزيمة فيحزن من ذلك، فوافق خالد على طلب محمد.

في العصر عندما دق خالد جرس باب منزلهم فتحت له أخته بسمة واندهشت من رؤية أخيها وسرت عليه ثم رمت نفسها به وتعلقت برقبته وأخذت تبكي بكاء شوق وحنين وحب وافتقاد لأخيها الذي رغم غيابه عنها مجرد أسابيع إلا أنها ترى أن غيابه عنهم كسنين مضت من حياتهم، ثم دخل المنزل وسلم على أخته هند الذي تبعت طريقة بسمة بالترحيب بأخيها، أما والدته لم تقاوم نفسها وحضنت ابنها بقوة ثم أخذت تقبل رأسه ويديه وهي تبكي وقد كانت دموعها ساخنة لحزنها على ولدها، ثم جلس خالد معهن وأخذ يخبرهم بعيشته مع صديقه محمد حتى أنه لم يستطع وصف محمد لشدة شهامته وكرمه، وكيف أن والده يعتبره كابن له أما أبناء أعمامه فقد كان الكل يعتبر خالد أخ له، وأعمامه كانوا بغاية اللطف معه، ووضح كيف اندمج مع عائلة صديقه محمد بشكل اعتبرهم عائلته تماما، ثم سأل والدته عن حياتهم وكيف كانت أيامهم في غيابه، فقالت والدته بحزن:

  حياتنا يا ابني كانت كلها هم وغم ونكد، لقد ترجيتك أن تبقى هنا ولا تحمل مسؤوليتنا لوالدك لكنك لم تستمع لي وأنا أعذرك على تصرفك ذاك لكن كان والدك كلما عاد للبيت يطلب فقط المال أو يضرب أخواتك إن عارضن على أي شيء حتى أنهن أصبحن كلما عاد للمنزل اختبئن في غرفهن مع ذلك يضربهن بحجة أنهن يخفن من والدهن ويكرهنه، يعني لا وهن ساكتات أو متكلمات يتركهن في حالهن، لقد يئسنا من هذه الحياة، لكن لنا يومان مستريحون منه وقد تطول المدة لأنه الآن بالسجن.

قال خالد باستغراب ودهشة:

  السجن؟؟!! لماذا؟ ومتى؟

  لا أعلم يا بني، لكن الشرطة رأته ملقى في الشارع بغير وعيه ولم يدرك أين بيته فأبقته في السجن.

  كيف علمت بذلك يا أمي؟ من أخبرك أنه بالسجن دام أنه غير واع بعنوان بيته؟؟!

  لا تنسى أن خالك علي يعمل في الشرطة وهو الذي أخبرني بذلك.

رد خالد باستهزاء:

  هه.. ونعم الخال.. تذكرنا فقط ليبشرنا بهذا الخبر.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

وبقي خالد مع عائلته إلى أن حل المساء استأذن منهم وأخبرهم أنه لا يستطيع أن يتأخر عن محمد، ثم قالت هند:

  خالد.. هل لك أن تخبرنا شيئا عن محمد صديقك هذا؟

  نعم يا هند وبكل سرور وفخر.. محمد هذا هو الابن الوحيد لوالده، فقد توفيت والدته عندما كان عمره خمس سنوات، رفض الزواج لبضع السنين ثم تزوج من ابنة عمه وقد كانت عقيما لذلك نرى أن محمد هو الابن الوحيد لوالده، لكن محمد شعر بالأم عندما دخل للمدرسة فقد كان كل الطلاب تصاحبهم أمهاتهم إلا هو كانت تأتي معه زوجات أعمامه أو خالاته، لكنه كان مجتهد لأن الجميع كان مهتم به لتعاطفهم معه، وكان يعيش محمد مع والده في منزل يضم ثلاثة من أعمامه الذين هم أكبر من والده إضافة لزوجاتهم وأبناءهم بوصية من جده الذي جمع شملهم ولم يتفرقوا رغم وفاته، لكن تخيلي كل عم كم ولد لديه وبنت، وبما أنهم من عائلة غنية فقد قرر محمد أن يعيش بمفرده منذ أن دخل للجامعة، وفي شقته كان يزوره بعض أبناء عمومته أو أخواله ويبيتون مرات معه، هم أناس طيبين واكتسب كل فرد منهم حب المساعدة من بعضهم البعض، وكل أعمامه يعملون في تجارة الأقمشة والأثاث ذو الثمن الباهظ، أما أبناءهم فيعلمون في مهن مختلفة..

قالت هند:

 رغم أنهم أغنياء إلا أنهم مختلفون تماما عن الصورة التي نرسمها عن الأغنياء كما نشاهدهم في التلفاز أو نسمع بهم، فهم ليسوا أبناء سؤ أو منحرفين أو طائشين، بل متعلمين ومحترمين..

قالت الأم:

  الحمد لله على هذه النعمة، لذلك من حسن حظ خالد أن تعرف عليهم، فحافظ على صداقتك بمعناها ليس من أجل هدف أخر يا بني..

قال خالد متبسم وقد هم بالانصراف:

 لا تقلقي يا أمي، يكفيني الدين الرهيب الذي على رقبتي لخالد وأهله، والآن استأذنكم وأراكم بخير إن شاء الله، وأعدكم لن أقطع عنكم أخباري كما فعلت سابقا سأبقى على اتصال دائم بكم، مع السلامة.

انصرف خالد وانطلق إلى صديقه محمد حيث الوليمة المنتظرة وقد سعد بالترحيب الذي رحب به من قبل أقارب محمد، وبعد انتهاء العزيمة اقترب حسن ابن عم محمد، وهو يبلغ من العمر 40سنة، وجلس بجانب خالد وقال:

  اسمع يا خالد إني مسرور بك جدا وفرح لأجلك وتبعا لظروفك فقد قررت أن أكلم صديقا لي في إحدى شركات النفط بالدولة حتى تتوظف هناك، فليس من العدل أن يكون شخص مثلك بهذا التقدير لا يعمل ويكون ضمن الخريجين الذين يعانون من أزمة الوظائف والبطالة، جهز أوراقك وقابل الرجل الأسبوع المقبل، ولا تخبر أحدا بهذا الحديث.. حسنا..

دهش خالد بهذا الكلام ولم يصدق أذنيه وأخذ يشكر حسن كثير الشكر، وعند العودة للشقة مع محمد أخبره بالحديث رغم أن حسن قد حذره من ذلك، لكن كونه صديقه الحميم فلا يستطيع أن يخفي عليه شيء، فقال محمد:

  جيد ما فعله حسن، بارك الله فيه، فهو إنسان يعرف الكثير من مخالطته للناس بحكم وظيفته كمدير لإحدى المدارس الثانوية منذ زمن، ولا تنسى أنه أكبر أبناء أعمامي وأبن أكبر أعمامي كذلك، عموما مبروك الوظيفة يا خالد، أخيرا ستحقق كل أحلامك..

اقترب خالد من محمد وقال له:

  أنت طلبت منه ذلك أليس كذلك؟؟ لماذا؟

  بصراحة.. لا .. وقد فاجئني بعرضه قبل قدومك ثم فتح الموضوع لك ولم يقبل المناقشة كي لا ترفض، هو يحبك يا خالد كأخ صغير له، ولأنك أعز أصدقائي..

تبسم خالد وسر بهذا الحديث ثم قال:

  أتدري شيئا والحقيقة تقال! .. لم أكن أرفض عرضا حسنا لأني سأكون (وجه فقر) تلك الساعة..

(3)

قدم خالد أوراقه في الشركة التي أخبره بها حسن، وقبل في الوظيفة وتم تعينه، وكان موظفا جيدا، كان حسن السلوك والسيرة والعمل والأداء، ومرت الشهور والسنين وأصبح خالد مهندسا ناجحا وذو اسم لامع في الشركة وخارجها، وقد منح عدة دورات وترقيات، واستطاع من خلال عمله أن يجني مبلغا هائلا من المال، فكما هو معروف أن مهنة المهندس في شركات النفط يحصل على راتب عال وجيدا..

أما بالنسبة لصديقه محمد فقد أصبح رئيس للمهندسين بإحدى الشركات للمقاولات الكبرى في الدولة، وقد تم عقد قرانه على ابنة أحد تجار الأقمشة، وينتظر أن ينتهي البيت الذي بناه حتى يقرر بموعد الزواج، ويدخل في حياة أخرى مختلفة تماما عن حياة العزوبية..

في إحدى الأيام في منزل عائلة خالد دق جرن الباب وقام الأب مترنحا في مشيته كالعادة ليفتح الباب، وإذ بالطارق هم من رجال الشرطة، لم يكن الأب شديد الاستغراب من تواجد الشرطة بتلك الشدة، إلا أنه تعجب من أنهم قرروا بالقبض عليه بالرغم من أنه في منزله، فهو لم يكن ثملا ملقى في الشوارع كعادته أو في أماكن مشبوهة، بل في منزله، لكن الشرطة صممت على أخذه، و نقلوه هذه المرة إلى مصحة خاصة لعلاجه مما يعانيه من مرض الإدمان ، وهنا كانت دهشة الأب فقد رفض بشكل شديد الخضوع للعلاج، لكن المصحة لم تعر لكلامه أي اهتمام وأصرت على العلاج..

بقي الوالد في المستشفى عدة أشهر كي يتلقى العلاج اللازم من الآثار التي تظهر عندما يبدأ المدمن بترك التعاطي لفترة زمنية، فالمدمن يدخل في فترة يصاب بها بالأعراض الانسحابية والاكتئاب والتوتر وبعض التشنجات الجسدية، كذلك يعالج المدمن باستخدام عدة طرق منها العلاج المعرفي لتغير الأفكار التي ترسخت لديه عند تعاطيه وتبديل تلك الأفكار الخاطئة بأفكار واقعية تساعده باستمرار حياته بشكل سليم، وقد قدمت المستشفى كنوع من العلاج قيام المدمنين ببعض النشاطات المهنية كالرسم أو الكتابة، إضافة إلى أنها كانت تخصص يوما في الأسبوع بمحاضرة يلقيها أحد المشايخ أو الدعاة أو شخصا تائب يعمل ذلك على زيادة الإيمان والاهتمام بالعلاج من الناحية الدينية لأنه قد يؤثر بالمدمن بشكل واضح.

بعد مرور وقت طويل على الوالد في المستشفى وتحسن العلاج فيه بشكل كبير وملحوظ، بدأ الحنين في قلبه ينبض بدأ الإحساس بالذنب يراوده ليل نهار، أخذ يتذكر تلك الأيام القاسية التي عاشها، تلك الأيام السوداء التي مضت عليه وأصبحت حياته بشكل مختلف تماما عما كان عليه الماضي السعيد، أخذ يقارن بين أيامه قبل وأثناء الإدمان على ذاك السم الخطير، وقد تأثر بشكل كبير بالمحاضرات الدينية التي كان يلقيها الأناس التائبون أكثر من الدعاة أو المشايخ لأنها قصة وكلمات وعبارات تنبع من قلب شخص مجرب، من شخص عاش تلك الأيام التي كان الوالد يعيشها، بل أنه عندما كان يسمع قصص بعض الأشخاص يحمد ربه على أن مصيبته أهون من غيره، وكما يقال من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصائبه.

كان الوالد يحبس نفسه في غرفته الخاصة باستمرار ويأخذ يفكر بزوجته وأبنائه وبيته، وأخذ يفكر كيفية قدرته واستطاعته على تغيير حياته بشكل إيجابي، كيفية تغيرها بحيث يحسن أوضاعه، كيفية تبديلها حيث يعوض أبناء ما فقدوه وما حرموا منه، وأخذت الأفكار تتعب عقله حتى قرر الاتصال بزوجته كي يقابلها، وافقت المستشفى على إجراء اتصالاته على أن يقف شرطي بجانبه أثناء المكالمة، ثم ذهب الوالد مع الشرطي لغرفة خالية من الأثاث تماما، غرفة صغيرة جدا، لا يوجد بها سوى شباك مساحته متر في متر مغطى بستائر غليظة داكنة الألوان، تطل على فناء صغير خصص لفترات استخدام السجائر لدى بعض المدمنين، وبعد أن طلب الوالد الرقم المطلوب رفعت بسمة السماعة وقالت:
 السلام عليكم.. من المتحدث...

لكن الوالد لم يرد عليها، وأخذت دمعاته تتدفق من عينيه الحمراوات، ثم أقفل السماعة، فقال له الشرطي:

  هل أنهيت المكالمة بهذه السرعة؟

  لا لا.. لكني لم أتحمل عندما سمعت صوت أخر عناقيدي..

  اسمع يا رجل لديك فقط عشر دقائق فقط لإجراء المكالمة لا تضيع الوقت..

هز الوالد رأسه، وأخذ يجمع نفسه وشجاعته، ثم اتصل مرة أخرى بالمنزل وردت عليه زوجته هذه المرة ثم قال بسرعة:
  مرحبا يا أم خالد.. كيف حالك؟ هل الجميع بخير؟

تعجبت أم خالد من هذا الحديث والصوت وقالت باستغراب:
 عفوا من المتحدث؟

رد الوالد بحزن وحسرة:

 من حقك أن لا تعرفي صوتي بالهاتف يا أم خالد.. لكن اسمعي أنا فلان، أنا أبو خالد، أنا متواجد في المستشفى وأريد مقابلتك بأسرع وقت لو سمحت، هل توافقين، أرجوك لا ترفضين وتعالي..

تعجبت أم خالد من هذا الحديث ولم تصدق أذنيها، ثم قالت:
 حسنا.. أعطني العنوان بالكامل.. وسأحضر بإذن الله غدا..

سر الوالد بهذا الرد اللطيف، وبعدما أقفل الخط أخذ يردد عبارة: " متى يأتي موعد المقابلة.. أسرع يا زمن.. أسرع ".

تقدمت هند وبسمة من والدتيهما وقالت هند:
  أمي لقد سمعتك تقولين حسنا يا أبا خالد.. ما الأمر؟ ما القصة؟

  لا أعرف يا ابنتي.. لكن المتصل كان والدك يريدني أن أزوره في المستشفى، إنه أمر غريب..
قالت بسمة:
  وهل ستذهبين يا أمي؟!

أكملت هند حديث أختها:

 لماذا يريدك أن تذهبي؟ لابد أن شيئا حصل وهو يريدك أن تحلي أزمته.. لا تذهبي يا أمي لا تذهبي..

ابتعدت الأم عن بناتها بخطوات وكانت الدهشة واضحة على ملامحها حتى أنها لم تغمض عينيها من بعد المكالمة ثم قالت:
 بل سأهذب وأرى.. لقد كانت نبرته مختلفة تماما هذه المرة، لقد كان حزينا جدا.. يبكي..

قالت الأختان معا: يبكي؟؟!

في الساعة الثامنة والنصف صباحا دق جرس الباب، ولم يكن أحدا مستيقظا سوى الأم لأنها كانت تستعد للذهاب للمستشفى، ما أن فتحت الباب إذ بالطارق ابنها خالد تبسم لها وقال:

  أراك تستعدين للذهاب يا أمي من وقت مبكر جدا.. أليس الموعد الساعة التاسعة؟

  لكن.ا بني.. لكن .. من أخبرك بهذا الشيء؟

توجه نحو الصالة وجلس على الأريكة وقال:
  اتصلت هند بي بالأمس وأخبرتني كل شيء، لكن بصراحة لقد أخذت بخاطري منك لأنك لم تتصلي بي، مع من كنت ستذهبين؟ بسيارات الأجرة وابنك خالد موجود؟

  هه.. خالد ابني موجود؟؟ أين يا حسرة؟

وقف خالد ونظر لأمه بتعجب قائلا:
  أمي ما الأمر؟ ما معنى كلامك هذا؟

ردت بصوت غاضب:

  كنت أعتقد أن زوجي ينفعني كثيرا وسندي لكنه في يوم من الأيام أهملني وأصبح مصدر شقائي، ثم عقدت الأمل على ابني الوحيد لكنه عاش في شقة لوحده ولم يفكر بالرجوع للمنزل..

  لكنك يا أمي تدرين سبب عيشي في تلك الشقة، فلا يوجد شخص يحب أن يعيش بمفرده إلا لظروفه.

  لا يا بني ليست ظروفك فقط هي السبب، بل أنانيتك.. أخذت تبحث عن سعادتك ونجاحك فقط فقررت العيش في تلك الشقة بمفردك وتهمل كل شخص يسبب لك الهموم والمشاكل.. أليس كذلك؟

  لا لا يا أمي .. الأمر ليس كذلك.. هل كنت تتوقعين أنه لو لم أعش بمفردي أن أحصل على تلك الدرجات وذاك التقدير؟ أو أن أصل لهذه المكانة؟ أو أتعرف على أناس طيبين جدا؟ هل كنت تريدين أن أكمل دراستي وأنا في هذا المنزل أعيش أوقاته إما هم أو ضرب أو صراخ أو مشاكل؟؟ هل كنت سأنجح أصلا لو كنت أعيش مع أجواءه؟ حتى أني فكرت لو كنت أمتلك تلك الشقة لأخذت بسمة معي كي تعيش معي وتدرس براحتها كي تحصل على مجموع أكبر من الذي حصلت عليه، فتحت تأثير ظروفها لقد حصلت على نسبة 75%.. هل هذه نسبة بالله عليك؟ بينما كانت من الطالبات المتفوقات في الماضي، ما هذا الكلام الذي تقولينه يا أمي؟ بالرغم من أني كنت أعيش بعيدا عنكم إلا أني لم أنقطع عنكم، كانت اتصالاتي وزياراتي باستمرار، كنت أخذكم لنتمشى ونخرج من البيت سوية، وبعد أن توظفت خصصت لكل منكم مصروفه الشهري وللبيت كذلك، هل تتوقعين يا أمي أني لو لم يكتب لي الله تلك الصفعة أن أصل لهذا المستوى ونعيش أفضل من السابق؟

  آآآه.. نعم يا بني.. سامحني على قسوتي.. لكن بيت لا رجال فيه لا يعد بيت، والكل يترقب أدنى عمل أو فعل كي يؤذينا أو يتحدث عنا، ثم أن هناك الكثير من الأمور التي يتوجب على الرجل القيام بها لا النساء لذلك فإني أشعر أن أخواتك قد حرمن من أشياء كثيرة لم أستطع توفيرها..

في هذه اللحظة خرجت هند من غرفتها وقد سمعت كل الحوار ثم قالت:

  لا يا أمي العزيزة أنت وأخي خالد لم تقصرا معنا أبدا، فهل رأيتنا نشتكي من شيء؟

  لا يا بنيتي.. لكن أدري أن كل فتاة تريد شيئا لم أستطع أن أجعله بين أيديكم، أقلها أنكن لم تستطعن أن تدعين صديقاتكن للمنزل حتى لا تشعرا بالخجل منه، فهو خال من الأثاث تقريبا..

اقتربت هند من والدتها وقبلتها على رأسها، ثم وضعت يديها على كتفيها وقالت متبسمة:

 لا عليك يا والدتي.. هذا الشيء ليس مهما.. المهم أننا نعيش بسعادة ونجاح في حياتنا، واصبري علي سنة وأتخرج بعدها ثم أتوظف بإذن الله، بعد ذلك سأوفر لك كل ما تريدينه، حتى أني سأتعلم القيادة كي أوصلك أي مكان تريدينه أنت وأختي بسمة.. هااا.. ما رأيك يا والدتي العزيزة؟

غرقت عينا الأم بالدموع ثم حضنت ابنتها هند بقوة وقالت:

 فليبارك الله فيك يا ابنتي.. وإن شاء الله بعد التخرج تذهبين لبيت زوجك يا رب..

لم يتحمل خالد هذا الموقف وانهمرت الدموع في عينيه ثم أراد أن يقطع هذا المشهد المؤثر بقوله:

 والآن يا أم خالد.. هل نسيت موعدك مع أبي خالد؟

مسحت دموعها ثم قالت:

  لا يا بني.. بل مصرة على الموعد..

  حسنا يا أمي العزيزة.. هيا بنا حتى لا نتأخر فقد داهمنا الوقت..

  حسنا يا بني.. وأنت يا هند انتبهي للبيت وأعدي الغذاء..

  لا تقلقي يا أمي.. ابنتك هند ما شاء الله عليها ربة بيت وستقوم بالواجب دون الطلب منها..

ركب خالد مع والدته سيارته وانطلق إلى حيث والده ينتظرهم، ثم وصل إليها في الوقت المحدد ثم أوصلهم الأخصائي الاجتماعي إلى غرفة لمقابلة المريض، وبعد خمس دقائق دخل الأب الغرفة وقف عند الباب من الدهشة، وأخذ ينظر لزوجته وابنه طويلا، وهما يبادلانه نفس النظرات ثم قال خالد:

  ما الأمر يا أبي؟ هل ستبقى هناك واقفا كثيرا؟

هز رأسه بالنفي ودخل وجلس بمقعد مقابل لهما، استأذن الأخصائي الاجتماعي وانصرف حتى يترك للعائلة الحرية المطلقة في الحديث، أخذ الوالد يقلب يديه لتوتره ثم قال:

  كيف حالك يا أم خالد؟ كيف البنات والبيت؟ وأنت يا بني كيف حالك؟ كيف هي أمورك؟

ردت أم خالد بهدوء:

  الكل بخير الحمد لله، وخالد أموره جيدة كذلك..

  الحمد لله أن أخباركم كلها جيدة..

سألت أم خالد زوجها:

  أخبرني يا أبا خالد لم رغبت برؤيتي؟ هل لديك كلام تود أن تقوله؟

  بصراحة نعم يا زوجتي.. أنت تعلمين أنني ملقى في هذه المستشفى منذ وقت طويل، وانقطعت أخباركم عني وانقطعت أخباري عنكم، أظنكم ارتحتم مني لوقت طويل ومن مشاكلي وسوء تصرفاتي كذلك، لكن كل من في هذه المستشفى لديه أهل أو أصدقاء يزورونه ويسألون عنه إلا أنا.. فمنذ أن أتيت لهنا ولم يسأل عني أحد، لذلك طلبت رؤيتك..

  ومن أين لي أن أعرف بأخبارك؟ ولماذا لم تتصل بنا؟

  بصراحة لقد نسيت رقم هاتفنا وبصعوبة تذكرته، ثم أنني شعرت بشوق وحنين لكم، أما في البداية فقد كنت أعتقد أنها أيام أو أسابيع وسأخرج ولست بحاجة لمن يسأل عني، لكني يا أم خالد صدقيني وأقسم لك أني نادم وتائب إلى الله ولن أعود لتلك الأيام المزعجة، صدقيني لقد عاهدت الله ونفسي أن أكون رجلا وزوجا وأبا صالحا.. هل تسامحيني يا أم خالد؟ أرجوك؟

ارتبكت أم خالد هنا ثم قال خالد بجفاء:

  ما الذي يضمن لنا أنك تائب؟ كيف تؤكد لنا أنك لن تعود لسابق عهدك المظلم؟

رد الوالد بتفاؤل:

  بلى يا بني.. سترى أني تغيرت.. أرجوك ثق بي.. وأطلب خروجي حتى تتأكد من حسن نيتي..

  أطلب خروجك؟!! أتريد أن أطلب خروجك حتى أرى إن كنت ستعود والدنا بفعل أم لتعود لأيامك تلك وتعود للشراب؟

  لا لا لا.. سترى.بني.. سترى .. وأقسم لك أني سأعود والدكم بالفعل وأعود إنسانا صالحا نافعا تائبا..

بعد نقاش وطول حوار دخل الشرطي وقال:

  عفوا يا سادة لكن موعد الزيارة قد انتهى وقتها..

أشار خالد له بالإيجاب، واخذ والدته لينصرف ثم قال:

  حسنا يا والدي سأتحدث مع الأخصائي النفسي كي يجهز أمر خروجك من هنا لتعود لبيتك..

شكر الوالد ابنه وعاد لغرفته ثم انصرف خالد مع والدته وتوجه إلى الأخصائي النفسي كي يتحدث معه بالأمر، وهناك قال الأخصائي النفسي:

  الحمد لله على سلامة الوالد وتحسن صحته يا خالد، وجيد أنه استمع للنصيحة..

قالت الأم بتعجب:

  عفوا.. أية نصيحة تقصدها يا أستاذ؟

  لقد كان أبو خالد يشغل باله بأفكار الذنب وتأنيب الضمير فقط، فاقترحت عليه أن يجري اتصالا هاتفيا لكم كي يراكم، واقترحت له أن يفكر كيف يستطيع أن يحسن من وضعه ويعوض ما فقده، وجيد أنه فعل، وكما كنت أقول لك يا أخ خالد أن الوالد قد تحسنت صحته منذ أسبوعين إلا أنك ألحت علينا بإبقائه هنا ولم أكن أعرف السبب..

ارتسم على وجه الأم ملامح الدهشة وأخذت تنظر لخالد مطولا وقد شعر خالد بهذا الشعور ثم قال:
  أردت يا أستاذ أن يبقى هنا لأرى مدى تحسنه، عموما أشكرك على تعاونك معي، أتمنى أن تسرع في إنهاء إجراءات خروج الوالد وسأنتظر مكالمتك.. وشكرا لك مجددا..

ودع خالد الأخصائي النفسي وغادر مع والدته المستشفى وفي السيارة عم الصمت إلى أن وصلا للمنزل، دخلا وجلسا ليرتاحا، ثم خرجت هند وبسمة من المطبخ مسرعة قائلة:

  هل رأيت والدي يا أمي؟ ما الذي حدث هناك؟ أخبريني بالتفاصيل..

ردت الأم:

  مهلك علي يا ابنتي.. لكن أريد منك يا خالد أن تشرح لي الأمور وتوضحها..

هز خالد رأسه وقال:

 انتظري يا أمي حتى قدوم الوالد أفضل.. عموما سأذهب لصلاة الظهر الآن، وسأعود للغداء معكم..

وانصرف خالد ليستعد لصلاة الظهر بينما جلست البنتان مع والدتهن يسمعن كل ما جرى في المستشفى، وبعد يومين تلقى خالد مكالمة من الأخصائي النفسي يعلمه أن بإمكانه القدوم لاصطحاب والده، ثم توجه خالد للمستشفى لإخراج والده لكن قبل الذهاب لها ذهب للسوق لشراء بعض الحاجيات والثياب لوالده، وعندما عاد للمنزل دخل الوالد وقد وقف الكل في مكانه وأخذ ينظر إليه ثم قال:

  ما الأمر يا بناتي.. ألم تشتاقون لوالدكم؟ لا تخافوا مني واقتربن..

وأخذ الوالد يذرف دموعا ساخنة ثم قامت بسمة بالركض نحو والدها وارتمت في أحضانه بقوة وتبكي، كذلك فعلت هند، وأخذتا تقبلان والدهما على رأسه تارة وتارة على يديه وتارة على جبينه وخديه، ثم نظر أبو خالد لزوجته ودموعه تتساقط منه ثم اقترب منها وقال:
  هل سامحتني يا أم خالد؟ هل أنت راضية عني؟

أخذت هي الأخرى تذرف دموعا وأمسكت بيديه وقالت:

  لابد أن أسامحك فالله يسامح عباده يا أبا خالد.. يا زوجي العزيز..

ثم قبل جبهة زوجته وأخذ ينظر لعينيها مطولا، لقد كان الموقف عاطفيا ومؤثرا جدا، بعدها اجتمعت البنتان مع والدتهما في أحضان الوالد، لقد كن يشعرن أن والدهن كان مهاجرا لأرض غريبة قد انقطعت أخباره عنهم لفترة طويلة جدا من الزمن وفجأة عاد من ذاك السفر، لهذا السبب كان الشوق والحنين لدى الجميع كبير جدا بشكل لا يتصور، كانت الساعة تشير للثالثة والنصف ظهرا، ثم قامت هند وبسمة بتحضير المائدة وقد كان الطعام قد اشتراه خالد من أحد المطاعم احتفالا بعودة والدهم للبيت، أما الوالد فقد أخذ يتجول مع الوالدة في المنزل ليرى التغيرات التي طرأت عليه.

وبعد تناول وجبة الغداء وبعد عودة الأب وخالد من صلاة العصر اجتمع أفراد الأسرة وأخذوا يتحدثون ويتناقشون عن أمورهم، كان الوالد يستمع إلى أحداث حياة أبناءه أثناء غيابه، كان يشعر أنه إنسان غريب عنهم ولم يصدق ما يسمعه كان يبكي بعد سماع قصة وكلام أبناءه ويقول لهم " سامحوني سامحوني ".. بعدما سمع الأب كلام هند وبسمة قالت الأم:

 أما ابنك خالد فبعد تلك الصفعة وهو يعيش بعيد عنا.. يعيش مع صديقه محمد في شقة خاصة..

تعجب الوالد من هذا الكلام وقال:

  وكيف تترك أخواتك يا خالد، حتى لو كنت قد كرهت البيت بسبب تواجدي فيه، إلا أنني لم أكن متواجدا بشكل مستمر فيه، ثم في فترة تواجدي في المستشفى لم تعد إليهن كذلك لماذا يا بني؟

  لم أعد أطيق هذا البيت يا أبي.. كل شيء فيه يذكرني بقسوتك معنا، ثم أني انشغلت بأعمالي..

قال الأب بشكل هادئ وغاضب:

  انشغلت بأعمالك لدرجة إهمالك لأمك وأخواتك؟ أصبحت أناني يا بني فكرت بسعادتك فقط..

  لا يا والدي.. لست أنانيا.. وسواء كنت معهن أو بعيدا عنهن فقد كنت أصرف على البيت وعليهن، ثم أني بصراحة لم أكن أريد لأحد أن يشعر بي وأنا أخرج أو أدخل أو باتصالاتي..

  ولماذا يا ولدي؟ ما المانع؟

  لأني بصراحة لو بقيت هنا لعرف الجميع أني السبب في دخولك للمستشفى..

قال الجميع في وقت واحد:

  أنت السبب في دخوله المستشفى؟

  أنا. أنا .. بصراحة يا جماعة بعد خروجي من المنزل كنت أفكر كثيرا كيف أستطيع الانتقام من والدي.. كيف أجعله يبكي ندما على ما كان يقوم به، لقد ذرفنا الكثير من الدموع، لقد طعمنا أنواع من المر، لقد عرفنا الشقاء والهموم ونحن بحاجة للسعادة في هذا السن، لذلك قررت أن أبذل جهدي كي أحسن وضعي ويصبح لي مال كي أعالج والدي، وعندما علمت بأمر ذاك المستشفى الخاص لعلاج المدمنين قررت أن أدخل والدي فيها لكن في الوقت المناسب، وقد فكرت مليا بالعودة للمنزل لكني لم أستطع ولا أدري حقيقة لماذا، وقد اتفقت مع كل أعضاء المستشفى ببذل جهودهم على تحسين وضع والدي من الناحية الجسدية والحمد لله الكل كان متعاونا..

تقدم الوالد وجلس بجوار ابنه خالد وحضنه بينما دموعه تذرف ساخنة على خديه ثم قال:

 وأنت يا بني بذلت جهدك ومالك في علاج والدك المريض، لقد صرفت عليه بدلا من أن يصرف عليك.

 لا عليك يا والدي.. فهذا واجبي..

وهكذا عاد شمل العائلة وأصبحت عائلة سعيدة حاول الأب تقديم كل ما يستطيع لإسعاد عائلته وتعويضها ما ينقصها أو ما حرمت منه، لكن ظل خالد يعيش لوحده في تلك الشقة وحيدا بعد زواج محمد واستقراره، وبعد أسابيع تقدم خالد لخطبة ابنة حسن الكبرى، وتحدد حفل الزواج بعد شهر من ذلك.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى